قراءة لفيلمي {فينيسيا} الفائزين وخلفياتهما
{جوكر}
حاضر للأذى ودريفوس بريء... ولكن
لندن: محمد رُضـا
على نحو أو آخر نفذت رئيسة لجنة التحكيم لوكريثيا مارتل
معاداتها لفيلم رومان بولانسكي الجديد «ضابط وجاسوس» بتجنيبه الجائزة
الأولى في ختام الدورة الجديدة من مهرجان فينيسيا الذي انتهت أعماله مساء
يوم السبت الماضي.
كانت قالت إنها لا تستطيع التفريق بين المخرج وشخصيته وبذلك
قصدت بكلمة «شخصيته»، أفعاله كونه مطلوباً من القضاء الأميركي بتهمة تخدير
واغتصاب فتاة قاصر. التهمة التي حملها على كاهليه لأكثر من 40 سنة وانتهت
به لاجئاً «فنياً» في فرنسا. الموقف النسوي من رئيسة لجنة التحكيم لا يمكن
إهماله لكنها ليست وحدها من يتخذ القرار بل هناك ستة محلفين آخرين.
الأميركيون فرحوا. الأوروبيون امتعضوا. بولانسكي عليه الآن
أن يتكل على نجاح تجاري كبير لإيصال المقارنة التي ربطها بين نفسه وبين حال
الشخصية - موضوع الفيلم الجاسوس ألفريد دريفوس.
إذ قال مصرحاً أن فيلمه «ضابط وجاسوس» يواكب سيرته الخاصة
من حيث إن كليهما (بولانسكي ودريفوس) متهمان بريئان. لكن الواقع هو أن
دريفوس ربما كان بريئاً وربما لم يكن، لكن بولانسكي ليس كذلك. ليس بالنظر
إلى قرار المحكمة الأميركية التي وجدته مذنباً وهي ليست جهة لها مصلحة أو
تعمل حسب جدول عنصري من أي نوع.
بولانسكي يضع في المقدمة، بمثل هذا التصريح، أنه ودريفورس،
كونهما يهوديين، عوملا بتعصب ديني. هذا ممكن مع دريفوس (والفيلم يطرق هذا
الباب مرّات قليلة) لكنه ليس ممكناً مع بولانسكي، فهوليوود مليئة بالمخرجين
اليهود والقضايا القضائية التي تخصهم ولم يشكُ أحدٌ منهم من تعصب ما.
---
الغائب والحاضر
في رسالتي السابقة من «فينيسيا» كتبت هنا مشيداً بالدقة في
التصاميم الفنية والإنتاجية، لكن النجاح ليس على المستوى ذاته بالنسبة
للمساحات النفسية والعاطفية حيال المادة أو القصة المعروضة.
في أفلام بولانسكي الأفضل، مثل «أوليفر تويست» و«ماكبث»
و«ذا بيانيست»، جال خارج الحدث المتوالي للحكاية التي استعرضها. سمح للفيلم
باستنشاق رحيق الفترة ممتزجة بمواقف الشخصيات المختلفة وتعاطيها مع المضمون
العاطفي والاجتماعي الذي عايشته.
أما هنا فالفيلم هو بيوغرافي الشبه قائم على معلومات
ومستندات يوفرها الفيلم في كل لحظة كما لو أن الغاية بحد ذاتها هو استعراض
تراكمي لقصة ألفريد دريفوس من دون ألفريد دريفوس (في غالبية المشاهد) لأن
محور الفيلم هو الكابتن جورج بيكارد (جان دوجاردان) الذي آمن، بعد ممانعة
قصيرة، ببراءة ضابطه ألفريد دريفوس (لوي غارَل) وأمضى معظم الفيلم محاولاً
إثباتها. في أكثر من فصل يتحوّل المعروض إلى فيلم محاكمات تقع في قاعة
صاخبة واستجوابات بغياب دريفوس نفسه (الذي كان آنذاك يمضي عقوبته في جزيرة
الشيطان كما هو اسم تلك البقعة من الأرض في جنوب المحيط الأطلسي.
لا يريد الفيلم، سيناريو وإخراج، أن يزج بدريفوس بمشاهد
كثيرة. يبدأ به وينصرف عنه كتشخيص ويبقي قضيته ماثلة. المحور بين الشخصيات
هو للكابتن بيكارد وهو مسيحي يقول لدريفوس في مطلع الفيلم «إذا سألتني إذا
ما كنت أحب اليهود فجوابي لا. لكن كضابط في السلك العسكري فإني لا أتطلع
مطلقاً لمعتقدك الديني».
---
فيلمان متناقضان
حين اعترض بعض الإعلام على النتائج، إذ حل «ضابط وجاسوس»
ثانياً، وصف النتائج بأنها تعتبر تغليباً للسينما الأميركية وإجحافاً
لسينما المؤلف التي كان الأجدر بالمهرجان استكمال دوره فيها.
لكن فيلم بولانسكي أبعد عن أن يكون سينما مؤلف كذلك غالبية
أعماله. ما هو، وغالبية أعمال المخرج، عليه هو أنه ينتمي إلى أسلوب وفن
صانعه في العمل لأن المفهوم بين ما يحققه، وكثير من المخرجين الأوروبيين،
وبين سينما المؤلف مختلف كلياً.
في المقابل، لا يدّعي أحد أن فيلم «جوكر» ليس سوى فيلم
جماهيري في شكل مباشر، لكنه فيلم أجود صنعة - على صعيد الابتكار والإبداع
كما على صعيد الكتابة والإخراج - من فيلم بولانسكي.
لقبول هذه الحجة علينا أن نعرف ما فيه الكفاية عما تتألف
منه عناصر العمل السينمائي أمام وخلف ما نشاهده على الشاشة. العناية بصنع
مادة فيلمية جيدة وفي الوقت ذاته شعبية تبلغ ذروتها في فيلم تود فيليبس
«جوكر» ولو أن هذا لن يحيل فيلم بولانسكي إلى التقاعد على صعيد أهمية «ضابط
وجاسوس» كعمل.
في سينما شخصيات الكوميكس والسوبر هيرو، وهو العصر
السينمائي الذي نعايشه منذ عقدين على الأقل، لا شيء تجاوز - حتى الآن -
إبداعات المخرج كريستوفر نولان في ثلاثية باتمان («باتمان يبدأ»، «فارس
الظلام» و«فارس الظلام يرتفع») خصوصاً في فيلمه الثاني من السلسلة «فارس
الظلام» (2008). بالنسبة إليه لم تكن الغاية مجرد تقديم بطل من صفحات
الثقافة الشعبية المتوّجة بمجلات وشخصيات الكوميكس الأميركية بل فيلم يحمل
مواصفات فنية عديدة حول بطل من صفحات الكوميكس الشعبية.
النتيجة كانت مبهرة كذلك الحال مع فيلم تود فيليبس الذي خصّ
نتاجه بالانتقال إلى نشأة عدو باتمان الأول «جوكر» وتقديمه منفصلاً تمهيداً
للجمع بينهما في فيلم لاحق يقوم فيه روبرت باتنسون بدور باتمان ويواكين
فينكس بدور جوكر وهو الدور الذي لعبه هنا في هذا الفيلم.
لا يصل «جوكر» إلى مكانة أفلام نولان، لكنه يرتفع عن معظم
أفلام المسلسلات الشبيهة بفارق ملحوظ. وبعض أسباب هذا الارتفاع يعود إلى أن
يمضي أكثر في توفير قراءة شخصية لبطله. قراءة تحتوي لا على الخلفيات
الفردية بل على الواقع الاجتماعي ككل.
نيويورك 1981. آرثر فلَك يعيش مع والدته العجوز في أحد أفقر
أحياء المدينة. محبط ومصاب بنوع من مرض «توريت» الذي، حسب مراجعة موقع طبي،
يؤدي إلى قيام المصاب به إلى حركات مفاجئة وأصوات تصدر عنه بلا تمهيد أو
سبب. هذا ما يجعل آرثر (الذي سنعرفه لاحقاً بـ«جوكر») محط سخرية محيطه
فيقوم بعضهم بضربه وهو غير القادر على حماية نفسه. كذلك ليس قادراً على
تحقيق حلمه بالتحول إلى مضحك يطل على المسرح أو في برنامج تلفزيوني. هذا
يوحي بأن رغبته كانت الوصول إلى العالم الشاسع الذي يحيط به ولا يستطيع.
يشي بأن ما في داخله قد يختلف عن مظهره.
الضحكة التي يطلقها جوكر مع تعابير وجهه أو من دونها ليست
من النوع الذي يستطيع أي ممثل جيد أن يطلقها على النحو الذي قام به يواكين
فينكس. إنها ضحكة ألم تخرج من العمق تصاحبها نظرة يأس حزينة. هذا ضاحك يطلب
الموت (خفية) بسبب حالته النفسية والعاطفية في البداية لكنه لاحقاً سيتحوّل
إلى الوحش الذي سوف لن يرأف بالناس. سيتحوّل إلى «جوكر» يضحك عندما يؤذي.
شرير حتى النخاع.
خلال ذلك يتماوج الفيلم مع عدة مشاكل سياسية في البنية
الاجتماعية الأميركية. آرثر - جوكر هو نتيجة انتشار عنف غير منضبط وفقر
شديد ونظام صحي يتقاعس في تأمين الدواء لمرضه. لاحقاً، عندما يقبض بيده على
أداة قتل (بشكل مسدس) هو أيضاً عن خطورة السلاح في أيدي المعانين وذوي
التطرف الذهني.
ليس الفيلم الكامل بدوره لأن المخرج يهرب أكثر من مرّة من
حلول أخرى كان يمكن اعتمادها عوض تلك الواردة في العمل. لكنه الفيلم الذي
يبلور أول شخصية شريرة ستكون الند الصعب للشخصية التي ستعود بباتمان إلى
الشاشة الكبيرة. |