"الأسد
الذهبي" لمهرجان فينيسيا يذهب إلى "الجوكر" الأميركي
أمير العمري
لجنة التحكيم تمنح جائزتها الكبرى لفيلم بولانسكي "إني أتهم" للمخرج رومان
بولانسكي.
أسدل الستار مساء السبت على الدورة الـ76 من مهرجان فينيسيا السينمائي أقدم
مهرجان من نوعه مخصص للاحتفاء بإبداعات الفن السابع في العالم، بإعلان
جوائز المهرجان التي ينتظرها الجميع بعد 11 يوما من المنافسة الشديدة بين
عدد من أفضل الأفلام لهذا العام.
لا
شك أن الدورة الـ76 رسخت مكانة مهرجان فينيسيا باعتباره المهرجان الأول
حاليا من حيث القدرة على جلب الأفلام المهمة الجديدة لأصحاب الأسماء
الكبيرة في مجال الإخراج السينمائي، كما أن المهرجان تحت قيادة مديره الفني
ألبرتو باربيرا رسخ فكرة الولاء للفيلم الجيد أولا، بغض النظر عن أي عوامل
أخرى، وهو موقف انعكس في اختيارات باربيرا لأفلام المسابقة الرسمية
والأقسام الرسمية الأخرى، فلم يخضع للابتزاز الذي تمارسه جماعات ضغط نسوية
تريد فرض مقاطعة العشرات من الأسماء الكبيرة في الإبداع السينمائي
لاعتبارات تقع خارج مجال فن السينما، كما تريد فرض نسبة النصف لأفلام
المخرجات بغض النظر عن مستواها، وهو ما رفضه مدير مهرجان فينيسيا ولم يدرج
في المسابقة سوى فيلم واحد من إخراج سيدة.
الأمر الآخر الذي أثار الكثير من الضجيج هذا العام هو ضم فيلم “إني أتهم”
(أو
“ضابط وجاسوس”
An Officer and a Spy)
للمخرج الكبير رومان بولانسكي إلى أفلام المسابقة، رغم الضجة المثارة مجددا
حول قضية بولانسكي القديمة التي تعود إلى أكثر من 40 عاما والتي تتعلق
بموضوع الاعتداء الجنسي على فتاة قاصر والمشكلات القضائية المعلقة بينه
وبين القضاء الأميركي حتى يومنا هذا بعد أن تجاوز الرجل السادسة والثمانين
من عمره.
وقد
كان مدهشا أن تعلن المخرجة الأرجنتينية لوكريسيا مارتل، رئيسة لجنة التحكيم
الدولية، خلال المؤتمر الصحافي للجنة التحكيم في بداية المهرجان، أنها غير
سعيدة بوجود فيلم بولانسكي في المسابقة، وأنها لا تستطيع أن تفرق بين
الفنان وعمله، أي بين ما يفعله في حياته الخاصة وأفلامه، كما رفضت حضور حفل
العشاء الذي أعقب العرض الرسمي للفيلم بالمهرجان. وكلها إشارات كانت تدل
على أن مارتل ستقاوم بكل قوتها منح فيلم بولانسكي إحدى الجوائز الرئيسية.
"إني
أتهم" يعيد بولانسكي فيه رواية قصة تتعلق بالقضية الشهيرة التي أقامت
الدنيا ولم تقعدها في فرنسا عند نهاية القرن التاسع عشر أي القضية المعروفة
بقضية "دريفوس"
إلا
أن فيلم “إني أتهم” يعيد بولانسكي فيه رواية قصة تتعلق بالقضية الشهيرة
التي أقامت الدنيا ولم تقعد في فرنسا عند نهاية القرن التاسع عشر أي القضية
المعروفة بقضية “دريفوس” الضابط الذي اتهم ظلما بالتجسس لحساب الألمان فقط
لكونه يهوديا رغم علم من اتهموه في قيادة الجيش بأنه بريء. وقد حكم عليه
بالنفي والسجن ثم أطلق سراحه بعد سنوات وبعد أن تمكن ضابط فرنسي من إثبات
براءته. وهذا الضابط تحديدا الذي يقوم بدوره ببراعة كبيرة في الفيلم،
الممثل الفرنسي جان ديجاردان (بطل فيلم “الفنان”)، هو الشخصية الرئيسية في
فيلم بولانسكي الذي أعتبره شخصيا أفضل أفلام مخرجه في تاريخه كله وأكثرها
كمالا رغم كلاسيكيته أو ربما بفضل كلاسيكيته تحديدا، أي أسلوبه الكلاسيكي
الذي لا يترك شذرة صغيرة دون أن يوليها الاهتمام سواء في تفاصيل السيناريو
وبناء الشخصيات أو في ثنايا الصورة وشريط الصوت.
كان
فيلم بولانسكي الذي ستكون لنا معه وقفة خاصة في مقال مستقل، المرشح الأول
لنيل جائزة المهرجان الكبرى أي “الأسد الذهبي”، ولكن التنافس كان شديدا
بينه وبين عدد آخر من أفلام المسابقة، تتميز بالقوة والرونق والمستوى الفني
الممتاز منها الفيلم الأميركي “قصة زواج” لنواه بومباك، والفيلم الإيطالي
“مارتن إيدن”، و”الجوكر” الأميركي لتود فيليبس، و”الطائر المدهون” التشيكي
لفاكلاف مارهول.
وثانيا كان الموقف العدائي المعلن مسبقا من جانب رئيسة لجنة التحكيم يجعلنا
نستبعد حصول الفيلم على “الأسد الذهبي”، ولكن الواضح أن الصراع داخل اللجنة
وانقسامها أديا إلى التوصل في نهاية المطاف إلى تسوية منحت بموجبها اللجنة
“الأسد الذهبي” لفيلم “الجوكر”
Joker
والجائزة الكبرى للجنة التحكيم (التالية في أهميتها للأسد) لفيلم بولانسكي
الكبير (ضابط وجاسوس-إني أتهم). وهي نتيجة جيدة ومتوازنة فكلا الفيلمين من
أفضل ما عرض رغم بعض الملاحظات على فيلم “الجوكر” ستأتي عندما نقدم عرضا
تفصيليا له في مقال لاحق.
أداء الممثل
لعل
من أبرز الجوانب الفنية في فيلم “الجوكر” الأداء البارز للممثل الأميركي
الكبير جواكين فينيكس في دور الجوكر الذي يعتبر تنويعة جديدة على شخصية
الجوكر في أفلام “باتمان”. وقد بلغ فينيكس في أدائه للدور قمة من قمم
التمثيل. والحقيقة أن مستوى التمثيل الرجالي في أفلام المسابقة عموما كان
بارزا بدرجة ملفتة في عدد كبير من الأفلام التي تعتمد على التمثيل ضمن
عناصر فنية أخرى بالطبع، لكن لم يكن ممكنا أن يجمع فيلم “الجوكر” بين
جائزتي الأسد الذهبي لأفضل فيلم وجائزة أفضل ممثل.
بالتالي منحت لجنة التحكيم جائزة أفضل ممثل إلى الإيطالي لوكا مارينيللي
بطل فيلم “مارتن إيدن” وهي جائزة في محلها تماما، ولا شك أن مارينيللي تمكن
من فهم أبعاد الشخصية المعقدة وعبّر بشكل دقيق وصادق عن تناقضاتها ومواقفها
الملتبسة وفلسفتها الخاصة. والفيلم عموما واحد من أفضل أفلام المسابقة كما
أشرت، ويتميز بتصويره البديع وجمال العالم الذي يصوره، نقلا عن رواية جاك
لندن الشهيرة، مع بعض التعديلات الجوهرية.
في
رأيي الشخصي أن الممثلة الأميركية سكارليت جوانسون كانت تستحق عن جدارة
جائزة أفضل ممثلة عن دورها في فيلم “قصة زواج” وهو نوع من الدراما شديدة
القوة والتأثير، تعتمد على مباراة هائلة في التمثيل بين أدم درايفر
وجوانسون. وربما كان الفيلم يستحق أيضا جائزة أفضل سيناريو، إلا أن لجنة
التحكيم منحت جائزة أفضل ممثلة إلى الفرنسية أريان اسكاريد عن دورها في
فيلم “غلوريا موندي”
Gloria Mundi
لروبير غيدغيان، وهو فيلم لم يتوقع له أحد فوزا بسبب موضوعه الاعتيادي الذي
يصور ميلودراما عائلية.
أما
جائزة أفضل سيناريو فذهبت إلى فيلم “رقم 7، شيري لين” وهو الفيلم الوحيد في
المسابقة الذي فاتتني مشاهدته وبالتالي لا يمكنني الحكم عليه، لكنه لم يكن
ضمن الأفلام المرشحة أو ضمن توقعات النقاد طوال أيام المهرجان.
أفضل إخراج
جائزة “الأسد الفضي” لأفضل إخراج وهي جائزة رئيسية كان المتوقع أن يحصل
عليها الفيلم الإيطالي “عمدة ريوني سانيتا” أو “المغسلة” لستيفن سودربرغ،
إلا أنها منحت للمخرج السويدي روي أندرسون عن فيلمه الجديد “عن اللانهاية”
About Endlessness
الذي لم نجد فيه جديدا فهو يصور مجددا نفس الأنماط البشرية التي تعيش في
عزلة باردة في السويد، من خلال مواقف طريفة لكنها أقل طرافة وإثارة مما سبق
أن قدمه روي أندرسون بأسلوبه المميز، أسلوب المواقف المنفصلة التي تصنع
صورة لعالم خاص، في ثلاثيته الشهيرة التي اختتمها بفيلم “الحمامة التي وقفت
على غصن تتأمل الوجود” الحاصل على “الأسد الذهبي” في مهرجان فينيسيا قبل
خمس سنوات (سبق أن قدمت له عرضا نقديا تفصيليا على هذه الصفحة من “العرب”).
ولم
يكن استقبال معظم النقاد لهذا الفيلم حماسيا كما كان الأمر في السابق. وكان
المتوقع أن يبحث أندرسون عن موضوع يعبر فيه عن رؤيته العبثية وموقفه من
العالم بشكل مختلف في سياقه وصياغته أي يختلف بعض الشيء عن أفلامه السابقة
فقد بدا كما لو أن الفيلم الجديد (الذي مُنح جائزة الإخراج) استمرار يمكن
أن يمتد إلى الأبد، لفيلمه السابق مع المزيد من المواقف الكمية التي لا
تضيف جديدا إلى الفكرة، ولكن هذه أحد مشكلات لجان التحكيم التي لا تكون
ملمة بكل أفلام مخرج ما مشارك في المسابقة!
الممثل الأسترالي الشاب توبي والاس منحته اللجنة جائزة أفضل ممثل شاب عن
دوره في الفيلم الأسترالي “أسنان الطفل”
Babyteeth
للمخرجة شانون ميرفي وهي المخرجة الوحيدة التي شاركت في المسابقة. وفي رأيي
الخاص أن جائزة الموهبة التمثيلية الشابة كان الأجدر أن تحصل عليها الممثلة
الأسترالية ميليا سكانلين عن دورها في الفيلم نفسه، فقد كانت هي الأقوى
والأكثر بروزا في الأداء والتعبير عن الشخصية المعقدة التي قامت بتمثيلها.
تبقى جائزة صغيرة تسمى “الجائزة الخاصة للجنة التحكيم” ذهبت دون وجه حق
للفيلم الإيطالي التسجيلي الطويل “المافيا لم تعد كما كانت”
The Mafia Is No Longer What It Used to Be
للمخرج فرانكو ماريسكو، وهو أضعف أفلام المسابقة إضافة إلى كونه خارج
السياق أي أنه ينتمي لنوع سينمائي هو التسجيلي في مسابقة للأفلام الروائية.
وموضوع الخلط بين الأنواع السينمائية سبق أن أشرت إلى أنني أجده أمرا عسيرا
على الفهم والاستيعاب، كما أجده أيضا مربكا تماما لأي لجنة للتحكيم،
فالتقييم يكون عادة بين أعمال تنتمي للنوع نفسه.
لكن
بعض المهرجانات ابتدعت فكرة الخلط بين الأنواع في مسابقة واحدة، فأضافت
التسجيلي والرسوم المتحركة (التحريك) مع الأفلام الروائية. وفيلم “المافيا”
عمل شديد المحلية، لا يثير سوى اهتمام الجمهور الإيطالي الذي يعرف تلك
الشخصيات التي تظهر في الفيلم بطريقة ساخرة وتفجر الضحكات، بينما يجد من لا
يعرف تاريخ تلك الشخصيات ودورها في مدينة باليرمو، صعوبة في التفاعل مع
الفيلم.
وكان قد اغتيل قاضيان في باليرمو في حادث شهير على يدي المافيا عام 1992،
وقد صور الفيلم في مناسبة إحياء ذكرى اغتيال القاضيين اللذين كانا من أكبر
المناهضين لنشاطات المنظمة الإجرامية وقد قضيا بأحكام قاسية على بعض زعماء
المافيا. ويختبر الفيلم موقف الكثير من الشخصيات من أهالي باليرمو من
الحفل، ومن المافيا اليوم، ويصور كيف يرتعد الجميع من مجرد ذكر اسمها
ويرفضون إعلان أي موقف ضدها، وذلك في سياق كوميدي خفيف، مع كثير من
الحوارات والثرثرة الكلامية التي لا تنتهي (على الطريقة الإيطالية) ويصعب
كثيرا متابعتها لمن لا يعرف الإيطالية عبر شريط الترجمة المطبوعة.
جوائز للأفلام العربية
في
ما يتعلق بقسم «آفاق» (أوريزونتي) الموازي للمسابقة والذي يهدف الى تشجيع
المواهب الجديدة في الإخراج فقد حصل على جائزة أفضل فيلم الفيلم الأوكراني
«أطلانتيس»، وفاز ثيو كورت مخرج الفيلم الشيلي «أبيض على أبيض» بجائزة أحسن
اخراج، وفاز الممثل التونسي سامي بوعجيلة بجائزة أفضل ممثل عن دوره في
الفيلم التونسي «بيك نعيش» (سبق أن عرضنا له هنا). وحصلت الممثلة الإسبانية
مارتا نينتو على جائزة أفضل ممثلة عن دورها في فيلم «الأم».
ومنحت لجنة التحكيم الخاصة التي شكلت لتقدير أفلام هذا القسم والتي شارك
فيها المخرج الجزائري الفرنسي رشيد بوشارب، جائزتها الخاصة للفيلم الفلبيني
«حكم»
Verdict
للمخرج ريموند ريباس غوتيريز الذي يروي قصة امرأة رفعت قضية ضد زوجها بسبب
إدمانه الخمر وفظاظته واعتدائه عليها.
جائزة «أسد المستقبل» التي تمنحها لجنة تحكيم خاصة شاركت فيها الممثلة
التونسية هندي صبري، ذهبت للفيلم السوداني الروائي الطويل «ستموت في
العشرين» وهو من إخراج أمجد أبوالعلاء وقد أنتج بمشاركة مصرية (لم أتمكن من
مشاهدته بسبب تضارب مواعيد عرضه مع أفلام المسابقة الرسمية).
وفاز فيلم «جدار الصوت» اللبناني للمخرج أحمد الغصين بجائزة أفضل فيلم في
مسابقة «أسبوع النقاد» كما نال جائزة الجمهور وجائزة لأفضل تقنية سينمائية
لشريط الصوت تحديدا. وفاز الفيلم السعودي «سيدة البحر» بجائزة اتحاد نوادي
السينما في فيرونا.
ومنح المهرجان جائزة أفضل فيلم كلاسيكي تمت استعادته وإحياؤه في نسخة جديدة
للفيلم التشيكي «نشوة» الذي أخرجه غوستاف ماشاتي عام 1934 والذي عرض في
اليوم السابق للافتتاح كنوع من التحية لفيلم قديم كان قد عرض في الدورة
الثانية من مهرجان فينيسيا في ذلك العام وأحدث ضجة كبيرة بسبب جرأته قياسا
على الفترة التي عرض خلالها. وقد كتبت عنه في مقال سابق نشر على هذه الصفحة.
وهكذا يسدل الستار على دورة حفلت بالأعمال السينمائية الرفيعة، سيبقى
الكثير منها في الذاكرة، وسنبقى معها طويلا، نستعيدها ونتعلم منها.
كاتب وناقد سينمائي مصري |