فاز "الجوكر" للمخرج الأميركي تود فيليبس بجائزة "الأسد
الذهب" من لجنة تحكيم ترأستها المخرجة الأرجنتينية لوكرسيا مارتل، مساء
السبت في ختام مهرجان البندقية السينمائي (٢٨ آب - ٧ أيلول). فوز فيلم
أنتجه استوديو كبير ("وارنر") وينتمي نوعاً ما إلى صنف الكوميكس وشخصيته
الجوكر المشهورة (عدوّ باتمان)، سابقة في دنيا المهرجانات. فبعد اسناد
"الأسد" إلى "روما" لألفونسو كوارون العام الماضي المدعوم من "نتفليكس"
(ظلت إنتاجاتها خارج حسابات اللجنة هذا العام)، سابقة جديدة شهدها المهرجان
تحت قيادة ألبرتو باربيرا، مع التذكير بأن "الجوكر" كان من بين الأفلام
المفضّلة للنقّاد، ضمن مسابقة لم تنطوِ على الكثير من الأفلام الكبيرة
والمفاجآت السارة.
غالب الظن ان فوزاً كهذا سيسيّل الكثير من الحبر في الأيام
المقبلة، احتفالاً أو استنكاراً. بين مَن سيدافع عن هذا الخيار ومَن
سيناهضه، بدافع تسرب فيلم ذي طابع "جماهيري" إلى أعرق المهرجانات
السينمائية في العالم، والمفترض انه يشكّل منبراً لسينما المؤلف. العلة ان
"الجوكر" عمل جيد شديد الخصوصية، من دون أن يرتقي إلى مستوى التحفة
الخالدة، ويصعب الوقوف لامبالياً تجاهه. مارتل اعتبرت ان "إنجاز فيلم كهذا
ضمن منظومة الولايات المتحدة الإنتاجية أمر يتّسم بالشجاعة، وهو تأمل في
موضوع البطولة والبطولة المضادة".
أياً يكن، يُحسَب للجنة التحكيم انها وزّعت الجوائز لأفلام
أحدها مختلف جداً عن الآخر، وبذا أعادت الاعتبار إلى التنوع المقيم في قلب
المسابقة والاتجاهات المختلفة للسينما المعاصرة، وإن كانت الخيارات لا تخلو
من نزعة توافقية في إرضاء أكبر عدد ممكن. فعموماً، لا شيء يجمع بين
"الجوكر" لتود فيليبس و"عن الأبدية" لروي أندرسون، سوى السينما الخالصة
التي بدت المنتصرة الكبرى في هذه الدورة، بعيداً من التدليس السياسي. لا
يكاد يوجد فيلم واحد بلغ لائحة الجوائز لأسباب غير سينمائية، أعني بسبب
موضوعه أو القضية التي يطرحها، على الرغم من المخاوف الدائمة من أن تتكرر
هذه الفعلة التي بدأت تثير التململ والقلق في الأوساط المهنية. فلا
"غسّالة" سادربرغ المسيّس (قضية أوراق بنما) ولا "المرشّحة المثالية"
للمنصور (قضية المرأة في السعودية)، أغويا لجنة التحكيم طمعاً بتسجيل موقف
ازاء القضايا المطروحة.
اذاً، "الأسد" خطفت "الجوكر"، وهذا يعني ما يعنيه بالنسبة
إلى النظرة إلى أفلام الـ"سوبر أبطال" في السنوات المقبلة، ودخولها المريح
ربما حيز المهرجانات، معقل سينما المؤلف. الحكاية هي الآتية: آرثر (واكين
فينيكس) يعمل مهرّجاً. هو شاب يعيش مع أمه المريضة ويعاني من اضطرابات
نفسية تجعله يطلق ضحكة مجلجلة من دون قدرة على إيقافها. هو نوع من نورمان
بايتس المدن الكبرى. يحلم بتقديم استعراضات ضاحكة، ما يسمّونه بـ"ستاند آب
كوميدي". يحلو له إلهاء الناس، ولكن غالباً هو الذي يغدو ملهاة. المجتمع
الذي يعيش في داخله، يمارس عليه أقسى الضغوط. انه المريض، المنبوذ، العبء.
الفيلم يروي كيف يتحول آرثر إلى الجوكر، ويصبح لاحقاً عدوّ باتمان، عائداً
إلى أصله وفصله، وسط الاحتجاجات التي تشهدها مدينة غوتهام الخيالية. ما
الذي عانى منه آرثر كي يصبح على ما هو عليه لاحقاً؟ "الإنسان يولد طيّباً،
المجتمع يفسده". نظرية جان جاك روسو تعبر كلّ الفيلم، من أوله إلى آخره، في
موازاة أشياء أخرى. قوة "الجوكر" كامنة في المساحة المعطاة للشخصية كي
تعبّر عن نفسها بحرية. استعار فيليبس الكثير من هنا وهناك، وخصوصاً من
مارتن سكورسيزي، ولكن خلافاً لغيره، صاغ التأثيرات في قوالب فنية جميلة.
التوافق بين آراء النقّاد ولجنة التحكيم شمل أيضاً فيلم
المخرج الغائب عن الليدو رومان بولانسكي البديع، "إني أتّهم"، فأعطي جائزة
لجنة التحكيم الكبرى ("أسد فضّة")، وهي الجائزة التي من المفترض انها الأعز
على قلب لجنة التحكيم، تسلمتها زوجة بولانسكي الممثّلة إيمانويل سينييه.
مشاركة بولانسكي كادت تتحوّل إلى أزمة في بداية المهرجان، بعدما عبّرت
مارتل عن انزعاجها من وجوده في المسابقة، وقالت انها لن تحضر الحفل المخصص
للفيلم بعد عرضه الأول، ثم أوضحت كلامها في بيان قائلة إنها فُهمت خطأ
وإنها ليست ضد بولانسكي. هذا كله، كما كُثُرٌ منكم يعلم، بسبب قضية ممارسة
الجنس مع قاصر في أميركا عام ١٩٧٧، التي لا تزال تلاحق المخرج الفرنكو
بولوني الكبير إلى اليوم.
الفيلم يعالج قضية الضابط الفرنسي اليهودي ألفرد درايفوس
الذي يُتَّهم زوراً في العام ١٨٩٤ بالتجسس لمصلحة الألمان وبيع أسرار
عسكرية لهم ليُحاكَم على اثره بالخيانة العظمى. هذه الفضيحة التي كتب عنها
اميل زولا مستنكراً أشد استنكار، الظلم الذي تعرض له، في رسالته الشهيرة
"إني أتّهم"، تُعتبر تاريخياً أولى إشارات صعود معاداة السامية في أوروبا
وفرنسا تحديداً. لكن الفيلم يغيّب شخصية الضابط، ويطرَح القضية من وجهة نظر
الكولونيل جورج بيكار، الشاهد على عملية إذلال درايفوس واستبعاده من الجيش.
يسعى بيكار إلى كشف الظلم الذي تعرّض له درايفوس، انحيازاً للعدالة وصوناً
لـ"قيم" الجيش، على الرغم من كرهه لليهود. الفيلم يُعتبر مرافعة ضد العسكر
وضد الدولة الفرنسية آنذاك، بولانسكي يتناول قضية إنصاف وضمير، ويعيد
الاعتبار إلى البطولة في كشف ملابسات القضية، لا إلى التضحية.
"أسد
الفضّة" لأفضل إخراج، ذهبت إلى المخرج الأسوجي الكبير روي أندرسون عن فيلمه
الباهت "عن الأبدية"، الذي كان مخيباً إلى درجة لا تُحتمل بالنسبة إلى
كثيرين. من خلال متتاليات بصرية جامدة، يصوّر الفيلم بديهيات من الحياة
اليومية تحت عنوان الأبدية. الفيلم لا يفاجئ ولا يصنع طرافة. يقارب أندرسون
الوجود بأسلوبه المعتاد القائم على مشاهد ثابتة وطويلة ومتكررة ومتشابهة،
ولكن من دون السحر والابتكار اللذين ميّزا أعماله السابقة، وآخرها "حمامة
تحطّ على غصن وتتأمل الوجود" الذي فاز بـ"أسد" البندقية قبل خمس سنوات.
جائزة السيناريو تلقّفها "الرقم ٧ شاري لاين" للمخرج يونفان
من هونغ كونغ، الذي لم نشاهده. الفيلم من نوع التحريك، يحملنا إلى ستينات
القرن الماضي ليروي أخطار المجتمع المادي في هونغ كونغ. أما جائزة لجنة
التحكيم الخاصة، فالتقطها الفيلم الإيطالي، "المافيا لم تعد ما كانته"،
لفرنكو ماريسكو، وهو من النوع الوثائقي الساخر الذي ينتمي إلى الكوميديا
السوداء الأنتروبولوجية. في العام ٢٠١٧، وفي مناسبة مرور ربع قرن على
اغتيال القاضي فالكوني المناهض للمافيا، يحقق ماريسكو في إرثه، متسائلاً
ماذا بقي من نضاله في صقلية المعاصرة.
جائزة "فولبي" لأفضل ممثّلة استحقتها بجدارة الفرنسية أريان
أسكاريد عن دورها في "غلوريا موندي" لزوجها روبير غيديغيان، حيث جسّدت دور
أمّ تعمل في التنظيفات وتحاول تدبير أمور عائلتها الصعبة وحلّ الخلافات
التي بين أفرادها. وأخيراً، تم الاعتراف بممثّلة كبيرة وإنسانة مجاهدة! في
المقابل، صنعت لجنة التحكيم مفاجأة كبرى عبر اعطاء جائزة "فولبي" لأفضل
ممثّل إلى الإيطالي لوكا مارتينيللي عن دوره في "مارتن ادن" لبييترو
مارتشيللو، بدلاً من إسنادها إلى واكين فينيكس في دور الجوكر، كما كان
متوقعاً. كلا الممثلان، أسكاريد ومارتينيللي، أهديا الجائزة إلى المهاجرين
وإلى مَن يساعدهم خلال عبورهم البحر المتوسط، وقالت أسكاريد انها تتحدّر من
عائلة إيطالية هاجرت إلى فرنسا هرباً من البؤس. أما جائزة الموهبة
التمثيلية الصاعدة (جائزة مارتشيللو ماستروياني) فذهبت إلى الممثّل توبي
والاس عن دوره في "ضرس طفل" للمخرجة الأوسترالية شانون مرفي.
أخيراً، وليس آخراً، فاز الفيلم السوداني "ستموت في
العشرين" للمخرج أمجد أبو العلاء بجائزة "أسد المستقبل" للفيلم الأول (١٠٠
ألف دولار يتقاسمها المخرج والمنتج) من يد المخرج الصربي امير كوستوريتسا.
الفيلم انشودة سينمائية تؤكد مولد مخرج يافع بأفكاره وأطروحته ورؤيته
لبلده. أبو العلاء ليس العربي الوحيد الذي نال جائزة في هذه الدورة من
مهرجان البندقية. فمن أصل مجموعة أفلام عربية جيدة المستوى عُرضت في الليدو
في أقسام مختلفة، نال عدد منها جوائز مهمة، منها "جدار الصوت" للبناني أحمد
غصين (ثلاث جوائز في قسم "أسبوع النقّاد") و"سيدة البحر" للسعودية شهد أمين
(جائزة في قسم "أسبوع النقّاد"). كما ذهبت جائزة التمثيل في قسم
"أوريزّونتي" للممثّل التونسي الفرنسي سامي بو عجيلة عن دوره في "بيك نعيش"
لمهدي البرصاوي، فيما أُعطيت جائزة الجمهور
BNL
لفيلم "أريكة في تونس" لمنال العبادي.
كلام الصورة:
تود فيليبس وواكين فينيكس بعد فوز "الجوكر" بـ"الأسد الذهب"
مساء السبت في البندقية. |