تجربة سعودية مدهشة وفيلم لبناني محبط في تظاهرة "أسبوع
النقاد" بفينيسيا.
بعد عرض فيلم “المرشحة المثالية” للمخرجة السعودية هيفاء
المنصور في المسابقة الرسمية بـ مهرجان
فينيسيا الـ76،
جاءت مفاجأة ثانية تمثلت في عرض فيلم “سيدة البحر” أول الأفلام الروائية
الطويلة للمخرجة السعودية الشابة شهد أمين ضمن تظاهرة “أسبوع النقاد”، كما
عرض ضمن التظاهرة نفسها فيلم “جدار الصوت” للمخرج اللبناني أحمد الغصين
الذي جاء مُحبطا.
فينيسيا
(إيطاليا)
– ينتمي
فيلم “سيدة البحر” للمخرجة السعودية الشابة شهد أمين (31 سنة) الذي عرض ضمن
تظاهرة “أسبوع النقاد” بمهرجان فينيسيا الـ76، إلى سينما الشعر، التي قد
تروي قصة، كما في حالة فيلمنا هذا، وهي قصة رمزية تدور على مستوى الخيال مع
ميل مقصود للتجريد عن طريق عدم تحديد المكان مع جعل الزمان هو الماضي
القريب، قبل تطوّر سفن الصيد، لكنها تصوّر مفردات هذه القصة باستخدام وسائل
السينما: الصورة والتكوين وحركة الكاميرا والضوء والظل والمونتاج
والموسيقى، في سياق غير تقليدي بل يجنح للتجريب والتحرّر من “الحبكة”
والاعتماد على ما ينتج عن الصورة من تداعيات في ذهن المشاهد عمّا يشاهده.
المرأة والعار
تستمد المخرجة شهد أمين الفكرة من الواقع، لكنها تظهرها في
سلسلة من المشاهد واللقطات التي تجسّد من خلالها رؤيتها الخاصة لمعاناة
الأنثى/الفتاة/المرأة في المجتمع العربي التقليدي، وهو كما تراه مجتمعا
بطريركيا، يقمع ويستبعد ويغفل وجود المرأة، بل ويحرمها من حقها في الحياة،
يراها باعتبارها كائنا أدنى من الذكر/ الولد/ الرجل، فهي رمز الضعف، لا
يسمح لها الصيادون كما في حالة بطلتنا الصغيرة حياة التي يرمز اسمها
للعطاء، بالخروج معهم للصيد، ويتم حرمانها بقسوة من ممارسة الحياة كما ترغب
بدعوى أنها “الأدنى” والأضعف، ولن تقدر بطبيعة تكوينها الجسماني على مشاق
الرحلات البحرية التي يخرج فيها رجال القبيلة للصيد.
والصيد يرتبط بتوفّر السمك في البحر. ويرتبط توفّر السمك
بدوره برضاء البحر عن الصيادين، ففي أعماق البحر تكمن “سيدة البحر” أو
الحورية الشريرة التي يجب استرضاؤها باستمرار عن طريق تقديم الأضاحي
والقرابين لها، والأضحية يجب أن تكون فتاة صغيرة شابة عذراء، ومن دون هذه
التضحيات التي يتعيّن أن تقدّمها كل عائلة، والتي أصبحت سمة مقدسة وتقليدا
متوارثا عبر الأجيال، لا يكشف البحر أسراره للصيادين، ولا يجدون فيه ما
يبحثون عنه، بل يمكن أن تهب العواصف القاسية، لتفتك بالسفن وأصحابها.
وتدور أحداث الفيلم في جزيرة معزولة للصيادين تقع وسط
البحر. تضع امرأة مولودة يطلقون عليها حياة يتعيّن تقديمها قربانا للبحر
الهائج وشياطينه أو حورياته المتعطشات لالتهام القرابين، لكن والد حياة
ينقذها من الغرق. إنها ابنته الوحيدة. وهي تنشأ باعتبارها الحلقة الأضعف
ويعتبرها مجتمع الصيادين وصمة عار ويعتقدون أن إفلاتها من الغرق قد جلب لهم
سوء الحظ.
شهد أمين في فيلمها الروائي الطويل الأول خلقت بناء شعريا
يشبه بناء القصيدة بألغازه ورموزه ولقطاته المأخوذة من زوايا غير تقليدية،
علاوة على اهتمامها بالتكوين في الصورة السينمائية
ولكنها تحاول أن تثبت لهم طوال الوقت أنها تتفوّق على
الذكور بجرأتها وشجاعتها وإقدامها على الصيد وعلى النزول إلى البحر الهائج
والعودة بما يعجز عن الإتيان به الرجال، ولكن بعد أن تضع والدة حياة مولودا
ذكرا يصبح أمر تقديم حياة قربانا لسيدة البحر مفروغا منه.
إنها تقفز وتختفي في البحر وتظل لأيام غائبة ويتصوّر
الصيادون أنها قضت وانتهى الأمر، لكنها تعود وتظل صامتة.. وتدريجيا يتحوّل
جسدها إلى جسد حورية البحر. لقد اكتسبت شكل الحورية الأسطورية التي يخشاها
الجميع.
والفيلم تجربة شديدة الجرأة على صعيد “التجريب” في السينما
العربية. وهو من حيث ما يوجهه من نقد شديد مغلف بالشعر، لهيمنة الرجل في
المجتمع القبلي، لا يشبه عملا آخر على صعيد الشكل، وحيث شعرية الصورة
والبيئة الخاصة التي يصوّرها، ولكنه ربما يكون أقرب ما يكون إلى عالم فيلم
“بس يا بحر” (1972) للمخرج الكويتي خالد الصديق، فكلاهما ينتمي إلى نوع خاص
من “الواقعية السحرية”. وبينما كان الصيادون في فيلم “بس يا بحر” يلقون
بقطة إلى البحر الهائج لكبح جماحه، يستبدل الصيادون في “سيدة البحر” القطة
بفتاة.
أهم ملامح تجربة شهد أمين في فيلمها الروائي الطويل الأول
الذي يعتبر تطويرا لفيلمها القصير “نافذة ليلى” (2013)، اهتمامها الكبير،
لا برواية قصة محكمة مترابطة الأطراف، بل بخلق بناء شعري يشبه بناء القصيدة
بألغازه ورموزه ولقطاته المأخوذة من زوايا غير تقليدية، والأهم أيضا، ذلك
الاهتمام الكبير بالتكوين في الصورة السينمائية، مستفيدة من الخبرة الكبيرة
التي يتمتع بها مدير التصوير خواو ريبرو، لإبراز قوة حياة وسط غرابة
الطبيعة، وضآلة الإنسان أمام الطبيعة، صبغ الصور بمسحة من الضباب الذي
يساهم في تعميق الإحساس بالطابع الخيالي الأسطوري للقصة دون إغفال مغزاها
المعاصر، والتصوير بالأبيض والأسود الذي يحيلنا إلى الماضي، مع القدرة على
خلق علاقة بديعة بين شريطي الصوت والصورة، باستخدام الأغاني الفولكلورية
والموسيقى، والإيقاع الهادئ الممتد الذي يوحي بعمق الأسطورة في الزمن،
وطريقة كتابة الحوار ونطقه التي تساهم في “تغريب” الموضوع والشخصيات، لا
لكي تبعدها، بل لتقريبنا منها والإيحاء بأنها شخصيات شديدة المعاصرة، ولكن
دون السقوط في المباشرة الفجة.
منتج الفيلم هو العراقي محمد الدراجي، وقد أنتج الفيلم
بالتعاون بين شركة “إيماجنيشن” في أبوظبي وشركة “إيماجيناريوم” البريطانية.
وقام بالأدوار الرئيسية بتميز وحرفية عالية الممثل الفلسطيني أشرف برهوم
والممثلة السعودية الشابة بسيمة حجار، وهي نفسها التي قامت من قبل ببطولة
فيلم شهد أمين القصير “نافذة ليلى”، إلى جانب يعقوب الفرحان وفاطمة التاي
وهيفا الأغا وحفصة فيصل.
جدار الخوف
“جدار
الصوت” هو الفيلم اللبناني للمخرج أحمد الغصين المشارك في تظاهرة “أسبوع
النقاد” بمهرجان فينيسيا السينمائي. ويمكنني القول إن هذا الفيلم نموذج
عملي على صحة مقولة أرسطو الشهيرة “المستحيل الممكن، في الدراما، خير من
الممكن المستحيل”. فالفيلم كما نعرف من المعلومات التي تظهر في بدايته على
الشاشة، قائم على قصة حقيقية. والأحداث تقع خلال الغزو الإسرائيلي للأراضي
اللبنانية في أغسطس 2006. إلاّ أن كون القصة حقيقية لا يجعل لها بالضرورة
مصداقية عند المشاهد. والعبرة بطريقة البناء والقص والتجسيد السينمائي.
ويفترض أن تدور الأحداث في إحدى قرى الجنوب اللبناني، أي في
مناطق الشيعة، ولكننا لا نرى الكثير من المناظر الخارجية سوى لقطات عامة
للمساحات الخالية أو لمنازل القرية المدمرة بفعل القصف الإسرائيلي المكثّف.
أما التركيز فيتمّ في الداخل، أي داخل منزل مهدّم حيث يتحصّن خمسة أشخاص
خشية من الموت الوشيك بفعل القنابل التي تتساقط وطلقات الرصاص التي لا
يتوقّف هديرها.
ولا يجمع بين هؤلاء جميعا سوى هذا الموقف الحالي، إنهم لا
يعرفون بعضهم البعض من قبل. أولهم هو “مروان” وهو شاب جاء للبحث عن أبيه في
منزله هذا، لكن الأب اختفى، وهناك رجلان مسننان كانا صديقين لوالده، يخبره
أحدهما أن أباه قد توفي، ثم يأتي رجل ثالث بصحبة زوجته المرتعدة للاحتماء
بالبيت. وفي الخارج بقرة مسكينة تنتظر مصيرها الدامي كما لو كانت رمزا
للحالة اللبنانية نفسها.
هناك شخصية سادسة، هي زوجة مروان الشابة الموجودة في بيروت،
تحاول الاتصال به عبر الهاتف المحمول، ولكن دون جدوى فهو في منطقة “خارج
التغطية”. وهي تظهر في لقطات عابرة بين حين وآخر يستدعيها في ذاكرته في
حنين، ونفهم أنها قد سئمت الوضع بأسره وتريد الرحيل عن لبنان إلى الخارج.
كيف يمكنها ذلك وإلى أين ستذهب؟
الطابع العام لفيلم “جدار الصوت” مسرحي تماما. هناك حدث
واحد يتداعى بين أربعة جدران، يتم التعبير عنه من خلال الأصوات والحوار.
شخصيات تندب حظها المأساوي وتستعد لملاقاة مصائرها.. وعندما يأتي ذكر
“الحزب” منسوبا إلى والد مروان المختفي، وهي إشارة واضحة إلى “حزب الله”
اللبناني، يستنكر مروان أن يكون والده مرتبطا بالحزب ويصرّ أنه تركه قبل
فترة.
ومع ذلك فهناك أحاديث كثيرة حول القوة المسلحة الخاصة (من
شباب البلدة أو الحزب) التي ينتظر الأشخاص الخمسة وصولها لتخليصهم من
المأزق الحالي، خاصة وأن القوات الإسرائيلية تقترب. ثم تأتي بالفعل قوة
إسرائيلية وتحتل الطابق العلوي من المبنى الصغير.
لا يشعر الإسرائيليون بوجود أناس في الطابق السفلي، وهو ما
نقول إنه يعتبر هنا في هذا السياق بمثابة “الممكن المستحيل”، أي رغم أنها
حقيقة وقعت بالفعل، فأول ما يفعله الجنود الإسرائيليون عادة هو تأمين
المكان وليس معقولا أن يصعدوا إلى الطابق العلوي دون الاهتمام بتفتيش ما
يوجد تحتهم.
الأحداث تستمر (إن جاز أن هناك أحداثا) ويتصاعد التوتر بين
أفراد المجموعة التي يُقصد من أحاديثها التعليق على “المأزق اللبناني” وكيف
أصبح هؤلاء المدنيين اللبنانيين ضحايا صراع لا ناقة لهم فيه ولا جمل،
ورّطهم فيه أصحاب الهدف السياسي، أي من حزب الله، وعجز ممثل الدولة الرسمية
في بيروت عن حمايتهم منه: في بداية الفيلم نستمع إلى خطاب الرئيس اللبناني
فؤاد السنيورة وهو ينفجر في البكاء على ما يتعرّض له لبنان، ويقول عن بلاده
“رفعت شكوى للأمم المتحدة”، بينما يأتي تعليق أحد الرجال بأن الرئيس يجب أن
يكون أكثر تماسكا ولا يبكي.
طابع مسرحي لفيلم أحمد الغصين
وفي ما بعد مع ارتفاع وتيرة التوتّر يندفع أحد هؤلاء الشيوخ
إلى الخارج لكي يلقى مصرعه على الفور برصاص الإسرائيليين الموجودين في
الطابق الأعلى، ثم لا يهبط أحد منهم للتفتيش عن المكان في الأسفل. لذلك
يصبح خلق التشويق في انتظار المواجهة القادمة بين ما يشبه “قطيع” من
المدنيين العاجزين، مع الجنود الإسرائيليين، أمرا عبثيا. ولا ينجلي الموقف
سوى بعد أن تأتي مروحية تلتقط الإسرائيليين ومعهم جثة زميلهم الذي عرفنا
أنه قتل في الاشتباكات، وكانوا يؤدون الصلوات اليهودية عليه.
فكرة الجدار
هل يعكس فيلم “جدار الصوت” فكرة رمزية حول الجدار القائم
بين “جارين” هما اللبناني والإسرائيلي وعزلتهما عن بعضهما البعض، رغم
قربهما الجغرافي؟ ولكن ما سبب هذه العزلة؟ هل يعود إلى الأقدار العاتية،
وهل “العقاب” الإسرائيلي العسكري للمدنيين وبيوتهم ورزقهم (قتل البقرة
بالرصاص) وحرق أراضيهم، هو الذي يمكن أن يقرّب الجارين من بعضهما البعض؟
وهل يريد الفيلم أن يقول لنا إن الحديث عن “المقاومة” في الجنوب مجرد عبث،
وأن لا قيمة لها، وأنها تختفي وقت الاحتياج إليها بدليل أن المجموعة
المعزولة المحاصرة، تنتظر دون جدوى وصول الفرقة المسلحة من “الشباب”؟
الذين يهتمون بمضمون من هذا النوع في فيلم سينمائي مسرحي
شديد الرتابة والتكرار يعجز مخرجه عن تطوير الفكرة، قد يجدونه عملا يثير
الاهتمام نظرا لرسالته السياسية، لكن هذه الرسالة وتصوير العجز اللبناني
على هذا النحو (كنقيض لأفلام المقاومة التقليدية القديمة التي كانت تصوّر
الجنوب اللبناني كما في أفلام جون شمعون ورفيق حجار، مثلا) ليس جديدا أولا،
وثانيا هو لا يرتفع بالفيلم إلى مستوى عمل سينمائي جاد يمتلك جمالياته
الخاصة، ففيلم “جدار الصوت”
(أو
“كل هذا النصر”
All This Victory
حسب عنوانه الساخر باللغة الإنكليزية)
عمل فقير في كل عناصره باستثناء عنصر واحد فقط هو شريط الصوت.
لكن الأفلام لا تعتمد على الأصوات وحدها، بل أساسا، على
الصور حتى من دون صوت. الرؤية البصرية غائبة أو غائمة، والاستفادة من
المكان محدودة باستثناء مشهد وحيد عندما ينفجر أنبوب مياه في الحمام فيهرع
الجميع يشربون ويملأ أحدهم زجاجة بالماء وترشّ المرأة جسدها بالماء لكي
تهدئ من توتّرها ومن حرارة الطقس.
المشكلة أن المشاهد ينتظر أن ينجلي الموقف الجامد عن تطوّر
ما.. في اتجاه حدث أكبر.. ليس بالضرورة المواجهة، بل ربما كشف التناقضات
الكامنة بين البشر أنفسهم ورؤاهم المختلفة للنزاع، لكن الانتظار لا يسفر
بكل أسف، سوى عن الشعور بالإحباط!
كاتب وناقد سينمائي مصري |