معظم الأفلام العربية المعروضة في مهرجان البندقية
السينمائي في الدورة الحالية (٢٨ آب - ٧ أيلول)، خطوات إخراجية أولى
لأصحابها لتحقيق عمل روائي طويل. "بيك نعيش" للمخرج التونسي مهدي البرصاوي
المعروض في قسم "أوريزّونتي"، و"ستموت في العشرين" للمخرج السوداني أمجد
أبو العلاء الذي شاهدناه في قسم "أيام فينيسيا"، و"جدار الصوت" للمخرج
اللبناني أحمد غصين المشارك في "أسبوع النقّاد". في الآتي، مقاربات نقدية
مختصرة عن هذه الأفلام الثلاثة التي ستثير نقاشات في الأشهر المقبلة.
تقع أحداث "بيك نعيش" في تونس عام ٢٠١١، بعد أشهر قليلة من
اندلاع الثورة. رياح تغيير مرتقب تهبّ على الشخصيات. فارس وميريام (سامي
بوعجيلة ونجلاء بن عبدالله) زوجان سعيدان، ولديهما ابن في الحادية عشرة من
عمره. لكنّ حادثة إرهابية تتعرض لها العائلة في طريق العودة من رحلة في
الطبيعة، ستغيّر كلّ شيء في واقعها، وتكشف أسراراً لم يعد ممكناً طمسها.
سيكون هذا فاتحة سلسلة تساؤلات، لعلّ أبرزها: هل نعرف جيداً الشريك الذي
نعيش معه؟ أبهذه السرعة نقع من القمّة إلى الأسفل؟
ثمة هواجس أكثر تعقيداً تعبر الفيلم من دون أن يكون له
القدرة على التعمّق فيها: هل ينبغي الركون إلى العلاقة الزمنية أو رابط
الدمّ في تحديد الأبوّة؟ الأكيد أن هناك ما قبل الحادثة وما بعدها في حياة
الشخصيات، مثلما هناك ما قبل الثورة وما بعدها في تاريخ تونس المعاصر.
التوقيت الذي تجري فيه الحوادث ليس مصادفة، إنما يقول الكثير عن التحوّلات
المنتظرة.
معظم فصول الفيلم يدور في مستشفى حيث يرقد الطفل بعد
الحادثة، في انتظار علاج لا يستطيع الحصول عليه بسبب القوانين البالية،
وبسبب خلل في العائلة نترك لكم اكتشافه. سرعان ما يتحوّل هذا الابن ذريعة
للأهل وللفيلم برمته لمناقشة منظومة كاملة، من العلاقات الأسرية إلى أحوال
تونس، السياسية والاجتماعية والأخلاقية، فالقوانين التي تستمد شرعيتها من
الإسلام.
بإيقاع هادئ ومشدود، وتصوير يحشر الشخصيات في سلسلة كادرات
حميمة، يلتقط الفيلم الروابط بين رجل وإمرأة، عشيّة التقلّبات الكبرى في
العالم العربي. سامي بوعجيلة كما عهدناه في معظم أدواره، أرضٌ خصبة تنبت
فيها أشكالٌ من الأحاسيس المتنوعة. يجيد كيف يدوزن كلّ هذه الأحاسيس التي
تحرقه على نار خفيفة. لكن الممثّل يجسّد رجلاً شرقياً مغايراً، لا يتصرّف
كما نتوقّع عادةً من رجل شرقي. يعرف كيف يدير الأزمة بعيداً من أي زجّ
بالشرف الذكوري في الموضوع.
تحدّي التغيير الأهمّ يرفعه الفرد. هذا ما يقوله الفيلم في
رأيي. إذ لا يكفي التباهي بالشعارات وإعطاء الآخرين الدروس. من هنا يأتي
الاصلاح، (مع التذكير بأن القضيّة المطروحة قد تفضي إلى نتيجة مأسوية حتى
في عائلات علمانية في الغرب). هل ينجح الزوجان في تجاوز قوانين المجتمع
البطريركي التي يعيشان تحتها، أم يبقيان ضحيتيه الأبديتين؟ هنا المسألة
الكبرى.
■ ■ ■
يحمل "ستموت في العشرين" براءة الفيلم الأول وصفاءه وشقاوته
(وبعض ارتباكاته؟) وإيمانه بأن السينما تستطيع الكثير. من أجمل ما فيه،
المسافة التي ينظر منها إلى الأشياء، فهو داخلها وخارجها في آن واحد.
"ستموت
في العشرين" أفلمة لرواية "النوم عند قدمي الجبل" لحمور زيادة. كتب
السيناريو كلّ من المخرج ويوسف إبرهيم، وقد استغرق التصوير شهرين في منطقة
الجزيرة، جنوب السودان.
خلال مراسم حفل مولده، يتنبأ شيخ صوفي بأن الطفل مزمل
(معتصم رشيد/ أسجد محمد) لن يعيش سوى عشرين عاماً. القرية التي ولد فيها
بطلنا السلبي في سلوكه وتصرفاته، تعتنق الأفكار الصوفية. الكلّ مقتنع بهذه
النبوءة حدّ إطلاق اسم "ابن الموت" على مزمل. مزمل نفسه يمضي أيامه منتظراً
تلك الآخرة. لا يفعل شيئاً يُذكر، عدا إدخال الفيلم في متاهة الانتظار
المرّ، وإقحامه في حكايات وتفاصيل جانبية عن الأب الغائب وحبّه الأفلطوني
لفتاة جميلة وتعرضّه للاضطهاد.
لا أحد يناقش المعتقدات التي ترزح القرية تحتها، سوى العمّ
سليمان (محمود السراج)، صديق والد مزمل العاشق للسينما، الرجل المختلف عن
كلّ مَن عرفهم الشاب الموعود بالموت في حياته، وسيكون نقطة ضوء له (وللفيلم
أيضاً)، يساعده في القفز فوق المسلّمات ومناقشة الأشياء التي يفترض أنها لا
تُناقَش. الرجل سيغدو معلّماً تنويرياً لمزمل، يرشده إلى الطريق الآخر،
ويضربه على قفاه عند الحاجة. معه سيتعلّم أيضاً ماذا تعني الأفلام.
محبّ السينما أبو العلاء أنجز فيلماً متصالحاً مع أفكاره،
لا مرجعية سينمائية له رغم أن العديد من المَشاهد تذكّر بهذا أو ذاك من دون
أي إحساس بـ"ديجا فو"، أصيل في رغبته في صناعة سينما، بل أصيل وساحر كذلك
في مقاربته لهذا الوجود الذي يتسرّب من بين الأصابع.
هكذا يروي أبو العلاء ولادة المشروع لــ"النهار": "توفيت
جدتي التي ربّتني في السودان، فركبتُ الطائرة من دبي لحضور العزاء. كانت
لديّ أربع ساعات خلال الرحلة استغللتها لقراءة مجموعة حمور زيادة القصصية
"الموت عند قدمي الجبل". لفتتني القصة صاحبة عنوان الكتاب، فقد كنت مشحوناً
بهاجس الموت وعلاقة الإنسان به، فأنا لا أتحمّل فكرة الموت، لا أفهمه ولا
أستوعبه: كانت جدتي شخصاً مرحاً مليئاً بالحياة والضحك، لماذا تموت؟ ولأن
القصّة عن هاجس الموت فتنتني وكان وقتها مؤاتياً. كانت شخصية مزمل رمزية
إلى حدّ بعيد، تمثّل كلّ مَن كنت أناكفهم وأستفزهم بكلامي حتى يخرجوا من
صناديقهم الضيقة وملاحقة شغفهم في الحياة. عدتُ إلى دبي، والتقيتُ صديقي
السيناريست الإماراتي يوسف إبرهيم، الذي عملتُ معه سابقاً في فيلم "تينا"،
إضافة إلى مسلسل كتبناه معاً. أعطيته القصّة، وبدأت الجلسات حتى خرجت
النسخة الأولى من النصّ".
■ ■ ■
"جدار
الصوت" يصوّر الحرب التي شنّتها إسرائيل على لبنان في صيف ٢٠٠٦، وانتهت
بمقتل نحو ١٢٠٠ لبناني وخلّفت دماراً كبيراً. تلك الحرب التي لا إجماع إلى
اليوم على ضرورتها، يقاربها الفيلم بمنطق محض سينمائي، بعيداً من أي تسييس
(السياسة في معناها المباشر)، بمعنى انه مهتم بالإنسان ومصيره في زمن
الضائقة، أكثر من اهتمامه بأي شعار أو قضية أو صراع. الصراع محسوم لمصلحة
الفرد.
فَهِم أحمد غصين شيئاً أساسياً عن الحرب، هو أنها صوتٌ أكثر
منها صورة. الفيلم يحشر مجموعة من الناس داخل بيت في قرية جنوبية (مسقط
المخرج)، تتعرض للقصف الإسرائيلي. لا حول ولا قوة لهؤلاء. لا يملكون سوى
التريث، علاقتهم اليتيمة بالخارج هي الأصوات التي تهدد بلا رحمة. محاولة
الصمود في وجه القنابل الإسرائيلية تلغي فكرة البطولة والانتصار، ويحوّلها
سعياً للبقاء حياً، الغريزة الأبسط عند الإنسان. في حين يحتل الجنود
الإسرائيليون الطبقة الأولى من المنزل، ليفعلوا ما يفعلوه، يختبئ
"أصدقاؤنا" في الطبقة الأرضية. الفيلم يكتفي بالحد الأدنى. ويبني عليه "لا
خطاب".
يحاول المخرج إشاعة جو كلوستروفوبي وعينه على تماهي
المُشاهد مع الحالات النفسية التي تعيشها الشخصيات تحت القلق والخوف
والتهديد الصوتي. لا فيلم حربياً بلا تماهٍ. على غرار الفيلمين
الإسرائيليين، "بوفور" لجوزف سيدار و"ليفانون" لسامويل معوز، يزيح الفيلم
العدو من الكادر، ويكتفي بحضوره عبر الصوت. في الفيلمين المذكورين،
اللبناني غائب، وفي "جدار الصوت"، الإسرائيلي المتسبب بالخراب في الجنوب
وغيره، مغيّب هو أيضاً. هل السبب مبدئي أو سينمائي محض؟ سؤال لا بد من
طرحه، على هامش الفيلم. والحقّ أن تغييب شخص يشكّل تهديداً واضحاً يزيده
حضوراً وسطوة. أفلام الرعب أدركت هذا مبكراً. لا يطرح أحمد غصين نفسه
مؤرخاً ولا خطيب منابر، لا يحاسب أحداً ولا يدين شيئاً ولا يبيع موقفاً،
ولا يعيد كتابة فصل من تاريخنا. فيلمه محاولة لفهم لحظة خاطفة، والأرجح انه
لن يساعده ويساعدنا في فهمها. |