الهاجس السياسي في فيلمين من أفلام مهرجان فينيسيا
أمير العمري
فيلم "بالغون في الغرفة" يعتمد على كتاب بالعنوان نفسه،
أصدره يانيس فاروفاكيس وزير المالية السابق في حكومة تسيبراس.
انعكست الأحداث السياسية على عدد كبير من أفلام الدورة
الـ76 لـ مهرجان
فينيسيا السينمائي الذي
يختتم في السابع من الشهر الجاري. من هذه الأفلام فيلم “بالغون في الغرفة”
للمخرج الفرنسي- اليوناني كوستا غافراس (صاحب فيلم “زد” الشهير) الذي عرض
خارج المسابقة، وفيلم “المغسلة” للمخرج الأميركي ستيفن سودربرغ الذي عرض في
المسابقة الرسمية.
فينيسيا (إيطاليا)
– “بالغون
في الغرفة”
(Adults in the Room)،
هو الفيلم الجديد للمخرج الفرنسي- اليوناني كوستا غافراس، الذي عرض في
الدورة الـ76 لمهرجان فينيسيا السينمائي خارج المسابقة، أتى محوره حول
اليونان وما تعرضت له من كارثة اقتصادية أدت إلى اتساع دائرة الديون
الخارجية وكادت تؤدي إلى إفلاس الدولة وإغلاق بنوكها، وهو لا صلة له بفيلم
“زد” (1969) الذي يظل أفضل أعمال مخرجه حتى الآن، بل ربما يكون ذا صلة أكثر
بفيلمه السابق “رأس المال”
(The Capital).
ورغم ذلك، هناك في الفيلم الجديد ما يشي بطبيعة توجه غافراس
السياسي (اليساري) المتعاطف بوضوح من البداية مع حزب سيريزا اليساري الذي
وصل إلى السلطة في الانتخابات المفاجئة التي أدهشت نتائجها الأوروبيين عام
2015 وشكل الحزب الحكومة بزعامة ألكسيس تسيبراس بالتحالف مع أحد أحزاب
اليمين الشعبوي في مفارقة لا شك فيها.
هيكل الفيلم
يعتمد فيلم “بالغون في الغرفة” على كتاب بالعنوان نفسه،
أصدره يانيس فاروفاكيس وزير المالية السابق في حكومة تسيبراس الذي قضى بضعة
أشهر في منصبه (من يناير حتى يوليو) في أصعب فترة عاشتها اليونان منذ نهاية
الحرب العالمية الثانية.
وكانت الحكومة الجديدة قد ورثت وضعا اقتصاديا شديد التعقيد
بعد تراكم الديون والخضوع لتوجيهات وشروط الاتحاد الأوروبي وصندوق النقد
الدولي من قبل الحكومة السابقة، التي اعتمدت حزمة قاسية من الإجراءات
التقشفية أدت إلى انتشار البطالة وتوقف دفع رواتب موظفي الدولة، وهدّدت
بانفجار اجتماعي واسع النطاق.
وكان فاروفاكيس يسعى إلى للتوصل مع ممثلي المجموعة
الاقتصادية الأوروبية وصندوق النقد الدولي إلى تسوية أو حل وسط يكفل تسديد
الديون من خلال خطة واقعية، على أن يتم دعم الاقتصاد اليوناني على الفور،
مع الأخذ في الاعتبار مصالح الشعب أولا. والمشكلة الأساسية في سيناريو
الفيلم تكمن في صعوبة تحويل موضوع كهذا إلى دراما سينمائية. هناك الكثير من
الممثلين الذين يجسّدون شخصيات حقيقية لعبت دورا في ذلك “الصراع” الضاري
الذي دار وراء الأبواب المغلقة، ولكنها شخصيات متشابهة، لا تتمتّع بجاذبية
أو تنوّع خاص يكفل تحقيق حبكة جيدة متعدّدة الأطراف.
في لحظة ما يبدو الصراع وقد أصبح متجسّدا في العلاقة
المتوتّرة بين وزير المالية الألماني السابق في حكومة أنجيلا ميركل،
فولفغانغ شوابل، (أصبح حاليا رئيس البرلمان الألماني) وبين وزير المالية
اليوناني.
ولكن الأخير يحاول أن يكسب فولفغانغ إلى صفه بالصبر
والمناقشة ثم الاختلاء به لمحاولة إقناعه.. وفي لحظة المواجهة بين الرجلين:
يركع فاروفاكيس أمام فولفغانغ المُقعد الذي يجلس على كرسي متحرك، ويسأله
مباشرة “ماذا كنت ستفعل لو كنت في مكاني؟”. فيجيبه الرجل بكل صدق أنه كان
سيرفض الشروط المطروحة لأنها ليست في صالح اليونان. لكنه يحذّره بأن
اليونان ليس أمامها مجال للمناورة رغم ذلك، فإما أن تقبل الشروط القاسية
للمجموعة الأوروبية وتستمرّ في برنامج التقشّف، وإما تخرج من نظام العملة
الأوروبية الموّحدة.
هناك شخصيات أخرى في الفيلم مثل زوجة فاروفاكيس الجذّابة
(تقوم بالدور الإيطالية فاليريا غولينو) التي تدعمه وتقف إلى جانبه وترعى
حفلات العشاء التي ينظمها في منزله لرفاقه في الحكومة، علما بأنه لم يكن قط
عضوا في حزب سيريزا اليساري بل إنه وضع من البداية استقالته في جيبه لكي
يقدّمها في أي وقت إلى رئيس الحكومة.
وهناك أيضا شخصية رئيس الوزراء اليوناني الذي يرتبط بعلاقة
صداقة وثقة مع فاروفاكيس، ولكنه يجد نفسه مضطرا إلى قبول الحلول الوسط بسبب
الضغوط التي يواجهها من داخل حزبه الذي لا يريد أن يفقد السلطة. وفي
المحصلة النهائية يصبح الفيلم بيانا سينمائيا حول المصلحة الحزبية
والمبادئ: أيهما ينتصر بل ومع أيّهما يجب أن يقف السياسي الحريص على مصلحة
شعبه؟
فاروفاكيس هو الذي يروي لنا فصول الفيلم بالتواريخ والأماكن
التي تظهر على الشاشة، ونحن نتابعه في انتقالاته وأسفاره للاجتماع مع أعضاء
المجموعة الاقتصادية من أثينا إلى هامبورغ وبروكسل وباريس ولندن وبرلين
وريغا.
ونشهد المناقشات الصاخبة التي تصل إلى أعلى درجات الحدّة
ومعظمها في قاعات اجتماعات مغلقة، ومع تصاعد الاشتباكات اللفظية الحادة،
تهمس رئيسة صندوق النقد الدولي كريستين أوديت لنفسها قائلة “نحتاج وجود
أشخاص بالغين في هذه الغرفة”، إشارة إلى أن ما يجري “لعب أطفال” غير
ناضجين. ورغم أن كريستين تبدو الأكثر فهما وتعاطفا مع الوزير اليوناني
والأكثر ميلا لقبول تسوية ما يتم بالفعل التوصل إليها عبر التصويت، إلّا أن
وجهة نظر فولفغانغ هي التي تنتصر في نهاية المطاف، ممّا يدفع الحكومة
اليونانية إلى إجراء استفتاء عام على الشروط الأوروبية.
ورغم أن الاستفتاء ينتهي برفض الشروط، إلّا أن الحكومة
تقبلها لتستمر الدراما ويستمر المأزق الذي يصوّره غافراس على مستوى رمزي في
المشهد النهائي من الفيلم حيث نرى رئيس الوزراء اليوناني ألكسيس تسيبراس،
يحاول أن يشقّ طريقه للخروج من مبنى الاتحاد الأوروبي بينما يحاصره قادة
المجموعة الاقتصادية، ويرقص الجميع وهم يحيطون به ويمنعونه من الخروج رقصة
عبثية.
يعاب على الفيلم أنه يتخذ شكل المحاضرة الطويلة المجهدة
تماما التي تعتمد على التعليق الصوتي على لسان الوزير اليوناني الذي يروي
القصة من وجهة نظره، كما يعتمد على المزج بين اللقطات التسجيلية وشخصيات
الفيلم الرئيسية، كما نرى في بداية الفيلم في مشاهد مظاهرات الفرح التي
اجتاحت جماهير اليسار في أثينا مع إعلان انتصار الحزب، وتتكرّر مشاهد
مماثلة في ما بعد لمظاهرات الغضب في الشوارع، ثم لاستقبال رئيس الوزراء
اليوناني في ألمانيا.. وغير ذلك.
لكن هذا الدعم لا يقوّي من العمود الفقري للفيلم الذي يظل
يعاني من غياب الدراما الحقيقية والحبكة والخضوع الحرفي لما جاء في الكتاب.
ويبقى أبرز ما في الفيلم ذلك الأداء الواثق المتمكن من قبل الممثل اليوناني
كريستوس لوليس في الدور الرئيسي. لكن الأفلام تعتمد على قدر كبير من الخيال.
طريف وعميق
على مستوى آخر مختلف يأتي فيلم “المِغسلة”
(The Laundromat)
للأميركي ستيفن سودربرغ، والمشارك في المسابقة الرسمية ضمن الدورة الـ76
لمهرجان فينيسيا السينمائي، ويعتمد الفيلم على ما جاء في كتاب بالعنوان
نفسه لجاك برنشتين، من معلومات وشخصيات حقيقية كشفت عنها “وثائق بنما” عام
2016، وكيف تورّط عدد من كبار الشخصيات في العالم في التهرب الضريبي وغسيل
الأموال عن طريق استثمار أموالهم في شركات وبنوك تعمل بنظام “الأوف شور” في
جزر الكاريبي أو غيرها، وهي مناطق لا تصل إليها المحاسبة الضرائبية، ولا
يعلم أحد عن مصادر الأموال التي تستثمر فيها.
وكانت هذه الفضيحة المدوية قد أحدثت ضجة كبرى في العواصم
العالمية وأدت إلى استجوابات أمام البرلمان في عدد من الدول. لكن الفيلم
يقول لنا في نهايته إنها لم تؤد إلى القضاء على تلك الظاهرة بسبب مصالح
النظام الرأسمالي النيوليبرالي في الولايات المتحدة.
وعلى العكس من الجفاف الواضح في فيلم كوستا غافراس “بالغون
في الغرفة”، يستخدم سودربرغ بذكاء مدخلا إنسانيا قويا إلى الموضوع يتجسّد
في شخصية السيدة الأميركية إيلين مارتن التي تقوم بدورها ميريل ستريب،
ونراها في البداية تفقد زوجها في حادثة غرق عبارة صغيرة حيث كان الاثنان
يقضيان عطلة، ثم كيف تكتشف أن الشركة المالكة للعبارة تقاعست عن التأمين
عليها كما ينبغي أو سحبت الغطاء التأميني، وأنها بيعت لشركة أخرى من تلك
الشركات الوهمية التي تنشأ بالآلاف ويطلق عليها الفيلم “صدفة”
(shell).
وتظل غيلين تطارد هذه الشركة الوهمية فتعثر في طريقها على الكثير من
التفاصيل المذهلة. أما تفاصيل الاحتيال “القانوني” فتأتي على لسان موزاك
وفونسكا (يقوم بالدورين ببراعة وجاذبية غاري أولدمان وأنطونيو بانديراس)
وهما شخصيتان حقيقيتان، يظهران يعلقان ويشرحان ويبسطان المعلومات، ولكن في
صورة كوميدية ساخرة تبدو ظاهريا تبريرا لقوة الأمر الواقع وتبريرا للذات
لكونهما من أصحاب المصالح والشركات الوهمية، كما تعكس ازدراء للواهمين
الذين يبحثون عن قيمة العدالة في عالم لم يعد يعرف سوى قيمة المال.
ميريل ستريب قدمت في "المغسلة" أداء بسيطا وسلسا، لتجيد
أداء دور سيدة من شخصيات الطبقة الوسطى الأميركية، يمكن أن يتماهى معها
جمهور الفيلم الأميركي
يتوقّف الفيلم أمام عدة قصص تحت عناوين مختلفة في شكل نصائح
لمن يرغب في دخول هذا العالم بحيث تكشف هذه النصائح عن الآلية التي تعمل من
خلالها تلك “المِغسلة” التي تتولّى غسل الأموال.
والسياق كوميدي، والتعليق سياسي ساخر، والإيقاع متدفق سريع،
والأداء كاريكاتيري عبثي، فما نراه يبدو جامحا في الخيال رغم أنه حقيقي
تماما، لكن براعة مخرج الفيلم تكمن في قدرته على صياغة كل ما نراه من صور
في قالب يبدو خياليا أو أحيانا أيضا “سورياليا” أي “خارج الواقع”، بينما هو
شديد الواقعية.
وتتمتّع قصة الرجل الأفريقي الذي يمتلك العشرات من الشركات
بجاذبية خاصة، فالرجل يخون زوجته مع صديقة ابنته، ثم يعرض على ابنته بعد أن
اكتشفت خيانته لأمها، رشوة عبارة عن أصول شركة قيمتها 25 مليون دولار مقابل
ألّا تخبر أمها بالأمر، ورغم أن الفتاة تتمسّك كثيرا بالمبادئ والأخلاق
والمثل العليا والقيم، إلّا أنها تخضع في نهاية المطاف أمام إغراء المال،
لكن الأمر ينكشف رغم ذلك أمام الأم والصديقة والأب، ومع ذلك تكتشف أن الأم
كانت تعرف ولا تمانع مقابل الاحتفاظ بالثروة الكبيرة التي تمتلكها من
شراكتها مع زوجها!
هذه الخلطة التي نجح في ابتكارها سودربرغ بالتعاون مع كاتب
السيناريو الذي اشترك معه، سكوت بيرنز، قد تغرق أحيانا في التفاصيل وتفاصيل
التفاصيل، وقد يبدو أنها يمكن أن تمتد إلى ما لا نهاية له، لكن مهارة
المونتاج تجعل الفيلم يتمتّع بالحيوية في السرد، والجاذبيّة في عرض
الشخصيات، دون أن يتوه منه الخيط الأساسي أبدا، والذي يتمثل في ما تقوم به
إلين مارتن من أجل كشف الحقيقة، مع كل ما تتمتّع به ميريل ستريب من جاذبية
بأدائها البسيط السلس الذي يعبّر عن سيدة من شخصيات الطبقة الوسطى
الأميركية، يمكن أن يتماهى معها جمهور الفيلم الأميركي.
قد يعاني الفيلم من بعض الإسهاب في سرد المعلومات، ومن كثرة
التعليق الصوتي وتدفّق البيانات والمعلومات التي تظهر على الشاشة، وقد يبدو
الفيلم كما لو كان “تعليميا” على غرار السينما اليسارية المناهضة
للاحتكارات التي عرفناها منذ الستينات، ولكن بعد أن تخلّص من جفاف السينما
اليسارية المباشرة، وأصبح يتمتّع بسياق ترفيهي بسيط وخفيف وممتع. ولا يجب
أن ننسى أن الفيلم مصنوع أساسا للعرض عبر شبكة نتفليكس.
كاتب وناقد سينمائي مصري |