مشاهدات في مهرجان فينيسيا السينمائي الـ76
أمير العمري
الطابع التجريبي يغلب على فيلمي "إيما" و"عمدة ريوني
سانيتا" لكن أكثر ما يميزهما التمثيل والتلاعب بالحبكة.
حتى الآن شاهدنا من أفلام المسابقة الرسمية 10 أفلام (من 21
فيلما). أهم هذه الأفلام الفيلم الأميركي الأول “أد أسترا”
Ad Astra
والفيلم الفرنسي “ضابط وجاسوس” (أو إني أتهم) أحدث أفلام المخرج الكبير
رومان بولانسكي، والفيلم الأميركي الثاني “جوكر” لتود فيليبس. يلي هذه
الأفلام الثلاثة الفيلم الإيطالي “عمدة بلدة ريوني سانيتا” للمخرج ماريو
مارتوني، ثم “قصة زواج” الأميركي لنواه بومباك. وأقل أفلام المسابقة حتى
الآن شأنا في رأي كاتب هذه السطور وأكثرها إرهاقا للعين وللذهن بسبب تشتته،
هو الفيلم “إيما” أقل أفلام مخرجه الكبير بابلو لارين شأنا.
سنترك الأفلام المهمة ومنها تحفتان على الأقل هما “أد
استرا” و”إني أتهم” والثاني تحديدا أعتبره الأفضل حتى الآن رغم كلاسيكيته
بل بسبب كلاسيكيته، ونتوقف في هذا المقال أولا أمام “إيما” ثم الفيلم
التونسي “نعيش بيك” الذي شاهدناه في تظاهرة “أوريزونتي” التي تنظم مسابقة
وتمنح بعض الجوائز أيضا.
يعود بابلو لارين إلى بلده شيلي الذي لم يخرج فيه فيلما منذ
أن أخرج فيلم “نيرودا” (2016) الذي سبق أن تناولناه بالنقد على هذه الصفحة،
ويصور فيلمه الجديد “إيما”
Ema
في بلدة “فالباريسو”
Valparaíso
التي لجأ إليها شاعر شيلي الكبير بابلو نيرودا لتفادي الوقوع في قبضة أعوان
السلطة الفاشية. وفي هذا القسم من الفيلم تحديدا أي بعد انتقال نيرودا إلى
فالباريسو، أبدع لارين في تصويرها في فيلمه “نيرودا”.
وتتميز المدينة بأجوائها البوهيمية ومناظرها الطبيعية
وجبالها المطلة على البحر وطالما ألهمت الكثير من الشعراء والفنانين، لكن
بطلة فيلم لارين هذه المرة امرأة شابة شديدة التمرد، غاضبة تعبر عن غضبها
بطريقتين: الرقص العنيف المعروف في أميركا اللاتينية باسم
Reggaeton
الريغاتون (الذي ظهر في أوائل التسعينات) والاستمتاع بإشعال النار في
السيارات وإشارات الطرق وألعاب الأطفال في الملاهي والكثير من الممتلكات
العامة والخاصة، وهي تستخدم في ذلك جهازا مملوءا بالبنزين توجهه ناحية
الهدف فتشتعل النار وتقف تراقبها دون وجل، كأنها تتعبد في النار. لا أحد
يوقفها ولا أحد ينتبه لها.
وإيما
راقصة محترفة في أوقات الفراغ، لكنها لا تكتفي بالرقص بل تعمل أيضا في مهن
وأعمال أخرى لا تكاد تستقر في أحدها إلا لتتركها أو يتم الاستغناء عنها،
بسبب جموحها وجنونها وسلوكها المعادي للمجتمع لكنها لا تحمل ضغينة على
المجتمع (كما في حالة بطل فيلم “جوكر”).
في عدد من الأفلام يشد المتفرج فن الأداء وفن تحقيق
الانسجام في إدارة الممثلين الذي يبرز بشكل عبقري
وإيما متزوجة من غاستون (غايل غارسيا بيرنال) وهو مدرب فرقة
الرقص التي ترقص فيها لكنه يميل إلى نوع من الرقص التعبيري ويستهجن رقص
الريغاتون، أما مشكلته مع إيما فهي أنه عقيم لا ينجب لذا تبنى الاثنان طفلا
من كولومبيا هو بولو لكن إيما علمت بولو كيف يحرق الأشياء، فاقتفى أثرها
وحرق غرفة في المنزل مما أدى إلى احتراق نصف وجه شقيقي إيما.
تهجر إيما غاستون الذي تكن له كل الاحتقار.. وتعيد الطفل
المتبني بولو إلى مركز رعاية الأطفال اليتامى. وتتبناه أسرة أخرى، لكن إيما
غير سعيدة بذلك فهي تريد الحصول مجددا على بولو. وهي تقيم علاقة جنسية مع
أحد رجال الإطفاء الذي جاء بسيارة الإطفاء لإطفاء الحريق الذي أشعلته ووقفت
من بعيد تراقبه، ثم تنتقل إلى علاقات جنسية مثلية متعددة مع عدد من النساء
ومنهن امرأة سنكتشف في النهاية أنها الأم الجديدة التي يعيش في كنفها بولو
كما سنعرف أن رجل الإطفاء هو زوجها نفسه، وأن إيما رسمت خطتها بإحكام
واستغلت الاثنين للحصول على الطفل أو أن تفرض عليهما القبول بالاشتراك في
تربيته وتبنيه، ولكن ما مغزى هذا كله؟
لا شيء سوى التمرد والرفض والجنون، والرغبة في تدمير العالم
والرقص حتى النهاية الدموية ولو على أشلاء الأشياء المحترقة. الطابع
التجريبي واضح في الفيلم. وهناك مناظر كثيرة تقترب من الإعلانات التجارية
التلفزيونية ذات الإيقاع السريع أو تشبه شرائط الفيديو ميوزيك، مع مونتاج
يقوم على التداعيات والمزج مع الخيال والهواجس المجنونة، والوحدة في المشهد
هي اللقطة المنفردة المستقلة عن غيرها.. ولكن الواضح أن لارين يهتم بهذه
الحالة الخاصة جدا لهذه الشخصية المجنونة التي قصت شعرها فبدت مثل صبي
وصبغته باللون الأشقر الفاتح، وألصقت في أذنيها قرطا خاصا، وركبت رموشا
صناعية جعلت عينيها الواسعتين مغريتين من دون صدق، تقتحمان الأشخاص بجرأة
أو حتى وقاحة، أما تمردها وغضبها فهما غير محدودين وغير محددي الهدف
والدافع.
إنها تريد الحصول على ما تريد ولو باستخدام الجميع، لا تقيم
اعتبارا للرجال والنساء والنظام والمؤسسة: باستثناء صحبتها من الفتيات
زميلاتها في فرقة الرقص.
الطابع التجريبي يغلب أيضا على الفيلم الإيطالي “عمدة بلدة
ريوني سانيتا” للمخرج ماريو مارتوني.. تجريب في سياق العبث، ولكن من خلال
شكل أكثر وضوحا وتحديدا بل ويمكن القول أيضا إن التحدي في الشكل في هذا
الفيلم تحديدا يكمن في قدرته على شد المتفرج لأكثر من ساعتين من خلال مشاهد
تتعاقب معظم الوقت (باستثناء الدقائق
العشر
الأخيرة) داخل غرف وصالات وحدائق منزل عمدة البلدة توني الذي يقوم بدور
“الأب الروحي”، ولكنه الأب القاسي الذي لا يتورع عن القتل ولكن من أجل هدف
يعتبره نبيلا، يستولي على الأرض ويبني منزلا بمثابة قصر منيف، ولكنه يبرر
ذلك بأنه يقدم خدمة جليلة للمجتمع. وهو يقيم العدل، وينزل العقاب بمن يستحق
بكل قسوة. يهدد بالقتل والتصفية الجسدية الدموية كل من يتجرأ على الوقوف في
وجهه بما في ذلك طبيبه الخاص الذي ظل في خدمته لأكثر من 25 عاما.
هذا الرجل الدموي القاسي يمتلك في الوقت نفسه قلبا رحيما
طيبا، فهو على استعداد للمضي قدما حتى نهاية الشوط لنصرة شاب لجأ إليه يطلب
حمايته من والده الشرير صاحب المخبز الذي لفظه.
وسوف يتورط الأب الروحي في مشكلة تبدو بسيطة أكثر بساطة من
كل ما سبق أن واجهه في حياته، لكنها ستجعله يدفع ثمنا باهظا. هنا لا تستقر
الحبكة كما نتوقع بل تسير عكس ما هو متوقع طوال الوقت وهو أحد المفاصل
الرئيسية التي يشتغل عليها السيناريو، كما أن الحبكة تلتوي وتتخذ مسارا آخر
مدهشا قرب النهاية بل ومع النهاية.
ولعل أكثر ما يميز الفيلمين “إيما” و”عمدة ريوني سانيتا”،
هو عنصر التمثيل. ولن يكون من المفاجئ حصول بطلة الفيلم الأول وبطل الفيلم
الثاني على جائزتي أفضل ممثلة وأفضل ممثل في المسابقة، ولكن مازال من
المبكر التكهن بالجوائز. فبطلة “إيما”، الممثلة ماريانا دي جيارولامو هي
الاكتشاف الحقيقي هنا، بحيويتها وقدرتها المدهشة على الاستعراض والأداء
التمثيلي والصمود في جميع المشاهد الصعبة، تماما مثلما يحمل فرنشيسكو دي
ليفا فيلم المخرج ماريو مارتوني على كتفيه، ورغم أنه مأخوذ عن مسرحية وأن
الحوار فيه يمتد دون توقف لأكثر من ساعتين، إلا أنه يشد المتفرج ويجعلنا لا
نستطيع أن نبعد عيوننا لحظة واحدة عن الشاشة.
هنا
يبرز بشكل عبقري، فن الأداء وفن تحقيق الانسجام في إدارة الممثلين: التحكم
في الميزونسين، والزوايا التي تكشف لنا عن نظرات العينين بينهم خاصة وأن
معظم المشاهد تتضمن وجود عدد من الشخصيات في الكادر الواحد، ثم تقاطع
الخطوط وتداخل عبارات الحوار أحيانا، وتحريك الكاميرا بحرص وحذر والتصوير
في مواقع داخلية محدودة تتم الاستفادة من كل عنصر من عناصر الأكسسوار. إنه
متعة للعين.
كاتب
وناقد سينمائي مصري |