·
محاكاة يابانية للثرثرة الأوروبية والسحر الأسود ينتصر على
العلم.
جاء الافتتاح الرسمي، مساء الأربعاء، للدورة الـ76 من مهرجان
فينيسيا السينمائي أعرق
مهرجانات السينما في العالم، بالفيلم الفرنسي “الحقيقة” وهو من إخراج
المخرج الياباني هيروكازو كوريدا الذي نال “السعفة الذهبية” العام الماضي
في مهرجان كان عن فيلم “سارقو المتاجر”. وافتتح قسم “أوريزونتي” (أو آفاق)
التالي في أهميته بعد المسابقة الرسمية، بالفيلم الألماني “دم البجعة”
للمخرجة كاترين جيب.
فينيسيا (إيطاليا)
– يعتمد
فيلم “الحقيقة”
The Truth
للمخرج الياباني هيروكازو كوريدا الذي افتتح مساء الأربعاء الدورة الـ76
من مهرجان
فينيسيا السينمائي،
على سيناريو كتبه كوريدا غير أنه من الواضح بقوة دور شريكته في الكتابة
اليابانية-الفرنسية ليا لو ديمنا التي عملت له من قبل كمترجمة من اليابانية
إلى الفرنسية، خاصة وأنها تقيم في فرنسا وعلى معرفة بالثقافة الفرنسية
وطبيعة السينما الفرنسية وولع الفرنسيين بالحديث والثرثرة خلال تناول
الطعام، كما أنها لعبت دورا أساسيا في نقل روح كوريدا وتعليماته إلى الطاقم
التمثيلي كونها تجيد اللغتين الفرنسية والإنكليزية وهما اللغتان الأساسيتان
اللتان تنتقل بينهما الشخصيات الرئيسية في الفيلم ولا يتحدثهما كوريدا نفسه.
هذا “التأثير” جعل فيلم “الحقيقة” يبدو كما لو كان من تلك
الأفلام الفرنسية التقليدية العتيقة التي تدور في أوساط أسرة بورجوازية
وتعكس همومها ومشكلاتها النفسية مع تركيز خاص على معضلة التفاهم بين
الأجيال: الجدة والأم والحفيدة.
وعلى الرغم من وجود بعض اللمسات الكوميدية إلاّ أن الفيلم
لا يرقى إلى ما كان يقدمه سينمائيون فرنسيون عرفوا بسخريتهم اللاذعة من
التقاليد البورجوازية الفرنسية مثل كلود شابرول. والحقيقة أن هيروكازو
كوريدا مهتم هنا أكثر بفكرة العائلة، وبوجه خاص بفكرة الولاء: هل يكون
للعائلة على حساب الفن أم للفن على حساب العائلة؟
مهرجان فينيسيا السينمائي، هو أعرق مهرجانات السينما في
العالم، فعمره اليوم أزيد من سبعة عقود
دور الزمن
كاترين دينيف تقوم بدور نجمة تمثيل في السينما الفرنسية
حقّقت نجاحا كبيرا ولكنها تشعر في داخلها بالخواء: لا ينكشف هذا الخواء
تدريجيا سوى بعد أن تأتي ابنتها جوليت بينوش وتبدأ الاحتكاكات بينهما مع
استعادة الذكريات وما ظل قائما بينهما من حواجز لم تستطع أي منهما تجاوزها.
بينوش تزوجت من ممثل أميركي يحاول أن يضع قدميه على الطريق
لكن الواضح أنه يتعثر، يقوم بالدور أمامها إيثان هوك ويبدو دوره هامشيا،
يظهر فيه متلعثما مهتزا باعتبار أنه كان في الماضي القريب مدمنا للخمر
وحاول الإقلاع عنه، لكن يبدو أنه لم يهجره نهائيا.
أما بينوش فهي كاتبة سيناريو قوية الإرادة، لديها أيضا ابنة
صغيرة تبدو في الخامسة من عمرها، رغم أن الأم تجاوزت الخمسين وبدت عليها
بوضوح علامات التقدم في العمر.
كوريدا يبحث عن أبعاد إنسانية يشتغل عليها عادة في أفلامه،
وعن جرعة من المشاعر المتفجرة التي تنطلق من الصراع. أما الصراع نفسه فينشأ
بعد صدور مذكرات الممثلة المرموقة فابيان أو كاترين دينيف التي تبدو
متمحورة حول ذاتها مع شعورها النرجسي العميق بنفسها، وإنكارها دور الآخرين
بل وأقرب الناس إليها في حياتها مع تلوينها ببعض الأكاذيب التي تجدها مبررة
أيضا في سياق أنها مذكراتها وهي حرة في أن تضع فيها ما تشاء، وأن الكتابة
نوع من الفن المنفصل عن الحقيقة.
غير أن أداء دور الابنة في فيلم جديد أمام أم يفترض أنها لا
تكبر أبدا، يتناوب على هذا الدور عدد من الممثلات الشابات الموهوبات، ومع
استمرار التداعيات في ذهن فابيان وضغوط ابنتها ومواجهتها لها بالحقائق التي
أغفلتها كثيرا في علاقتها بها، تبدأ لحظة المواجهة من الذات، والتخلي عن
دور النجمة والعودة إلى إدراك دور الأم الذي ظلت تتهرب منه وتنكره طويلا،
وخاصة بعد أن يتبدى أمامها أن الزمن أيضا لا يسمح بالاستمرار في إنكار
حقيقة صعود مواهب جديدة في التمثيل ستشق طريقها، رغم أنف فابيان وبنات
جيلها اللاتي لا تعترف بهنّ ولا بتأثير أي منهنّ عليها في إنكار واضح
للحقيقة.
تكرار وتأكيد
هناك الكثير من التكرار والتأكيد على الفكرة مرارا وتكرارا،
مع طغيان مشاهد الثرثرة الكلامية التي تدور داخل غرف مغلقة، حيث يصبح
الانتقال داخل الفيلم بين المنزل الكبير لفابيان الذي يقع وراءه سجن كبير،
وتصفه الحفيدة عندما تراه لأول مرة بأنه “يشبه القلعة”، وبين الأستوديو
الذي يتم فيه تصوير الفيلم الجديد من نوع الخيال العلمي، الذي تقوم ببطولته
فابيان أمام ممثلة جديدة صاعدة تدفع بأدائها لدور الأم تيارا من المشاعر
داخل فابيان.
وهناك تلاعب واضح ومقصود على شخصية كاترين دينيف نفسها،
وإحساسها بنجوميتها بل وتبدو هي في الكثير من تعليقاتها وكأنها تستهجن
وتسخر من نفسها ومن أنانية النجوم بشكل ما بل وبما تفعله النجومية بالمرأة،
ولكن هناك أيضا تعرض ساخر أجده ثقيل الوطأة من مخرج مرموق مثل ألفريد
هيتشكوك الذي تقول الممثلة إنها كانت ستعمل معه في فيلم جديد لولا أنه توفي
قبلها مباشرة، ثم تسخر من أفلامه وتشترك معها ابنتها، وتشير إلى أن أفلامه
كانت مجرد أفلام تمتلئ بالقتل، وهي إشارة غير مفهومة من جانب كوريدا!
ودينيف في أفضل حالاتها عندما تقوم بالتمثيل داخل الفيلم
حينما يشتبك الحاضر مع الفيلم، أو الحقيقة مع الخيال لتنتصر الحقيقة في
الواقع على الوهم الذي عاشت فيه طويلا، لكنها ليست على نفس المستوى من
إثارة الاهتمام عندما تميل إلى الإضحاك وتتمادى في السخرية.
أما بينوش فهي تصبح أفضل حالا عندما تستدعي تأثير صديقة
الأسرة الراحلة سارة التي كانت ممثلة مرموقة تركت تأثيرا لا ينكر على
فابيان التي تنكر أي تأثير للراحلة، وربما أصبحت سارة في وقت ما الأم
البديلة لبينوش التي تتخذ في الفيلم اسم لومير.
فيلم افتتاح المهرجان يقل دون شك عن أفلام افتتاح فينيسيا
في الدورات الست الأخيرة على الأقل. ولذلك كان استقباله في العرض الصحافي
الحاشد، صباح الأربعاء، استقبالا فاترا، ففيه دون شك بعض لمحات من سينما
المخرج الياباني الشهير، لكنه يفتقد لروح أفلامه اليابانية، لكن المؤكد أن
الفيلم سيجد له جمهورا داخل فرنسا، خاصة من الأجيال القديمة التي عاصرت مجد
كاترين دينيف في الستينات، لأن الفيلم يستعيد بعض الممثلين والإشارات إلى
أفلام سابقة لها من تلك الفترة.
المخرج الياباني هيروكازو كوريدا مهتم في "الحقيقة" بفكرة
العائلة وبوجه خاص بفكرة الولاء: هل يكون للعائلة على حساب الفن أم للفن
على حساب العائلة؟
دم البجعة
أما فيلم “دم البجعة”
Pelican Blood
الذي افتتح تظاهرة “آفاق” فجاء عملا طموحا في استخدام الخيال والبعد عن
المواضيع المكررة المعهودة في السينما الألمانية، لكنه فيلم مخرجة امرأة
بامتياز، فهو يدور حول مشكلة التبني، ليس من خلال حالة من آلاف الحالات
“العادية” التي نعرفها وقد ترتبط بفترة أولية من عدم الاستقرار والوضوح في
علاقة الأم (الغير متزوجة) بالابنة التي تبنتها رغم وجود ابنة أخرى لديها،
بل بحالة شديدة الخصوصية لطفلة غريبة ربما تكون من البوسنة اسمها راية، مرت
بظروف سبّبت لها تأثيرا مكدرا على جزء من خلايا المخ ممّا يؤدي إلى تعرضها
لحالات من العصاب والهوس والهواجس المجنونة التي تدفعها إلى العنف والرغبة
الدائمة في إيذاء الآخرين، والأهم ربما، أنها أصبحت غائبة المشاعر، لا
تتأثر بالبكاء أو الضحك أو الشعور بالألم والحب.. الخ. بل أصبحت مثل آلة
صماء تستمع إلى أصوات غريبة مجهولة وترى أشياء لا يراها الآخرون وتسبب
الكثير من المشكلات للمرأة التي تبنتها وابنتها الطبيعية التي أنجبتها من
أب لا نعرف عنه شيئا، بل وامتدت مشكلات راية أيضا إلى المدرسة التي لم
تستطع أن تستمر في قبول التعامل اليومي معها، ولا في الدار المخصّصة لألعاب
الأطفال.
جميع التداعيات التي نشاهدها، تكرّر جميعها فكرة استحالة أن
تتكيف راية وتصبح طفلة طبيعية مع تكرار محاولات الأم وإصرارها على تقديم كل
ما يمكنها وتحمل كل ما ينتج من أذى حتى لابنتها الجميلة البريئة التي أصبحت
لا تطيق راية، وتشعر بالفزع ممّا يمكن أن تقوم به في الليل حينما تنتابها
النوبات.
ورغم هذا التكرار والتأكيد يستمر الفيلم لأكثر من ساعتين في
الإعادة والتكرار بتنويعات مختلفة تتصاعد خلالها جرعة العنف والشر من قتل
الحيوانات وتقطيع الدمى وتكسير الصحون وتحطيم المائدة، إلى إشعال النيران
في غرفتها وإخفاء سكين تحت الوسادة ومحاولة قتل شقيقتها بالتبني.
ويتحوّل الفيلم في ثلثه الأخير من فيلم دراما نفسية إلى أحد
أفلام الرعب، وحينما يفشل الطب النفسي أو يبدو أن العلاج النفسي لن يكون
مجديا في حالة راية، تلجأ الأم إلى ساحرة تمارس السحر الأسود الذي ينتصر
ويتمكن من إخراج الروح الشريرة القادمة من عالم آخر والتي سكنت جسد الفتاة
البريئة.
يتخلى الفيلم عن موضوعه الأساسي، أو على الأقل الموضوع الذي
أوحى به إلينا نحن المشاهدين في البداية، أي تأثير الحروب والنزاعات
المسلحة على نفسيات الأطفال، ليصبح فيلما من أفلام طرد الشياطين والأرواح
الشريرة. وهي رؤية شديدة التخلف، معادية للعلم والعقل، تنتصر للخرافة
والجهل جريا وراء تحقيق التأثير على جمهور السينما الذي سئم استخدام الدين
في طرد الشياطين، فأصبحت هناك الآن ضرورة لتجربة السحر الأسود الذي يقتضي
“دفع ثمن”، كما تقول الساحرة للأم، التي ضحت بسعادتها من أجل تخليص تلك
الطفلة (وهو سلوك غير مبرّر وغير مفهوم في سياق الفيلم).
دور الأم يبدو كما لو كان قد كتب خصيصا للممثلة الألمانية
نينا هيس التي تبدع وتبرع في تلوين مشاعرها وتتجه لتبدو كما لو كانت قد
أصبحت هي نفسها مسكونة بفكرة التحدي.. تحدي المجهول وهزيمته مضحية بسعادتها
الشخصية وحبيبها الذي حاول بكل قوة أن يكسبها ويساعدها.
وبوجه عام يتميز التمثيل في الفيلم وخاصة من جانب الطفلة
كاترينا ليبوفسكا، التي أدت دور راية. والفضل في إدارتها والتحكم في
أدائها، يرجع دون شك إلى المخرجة الألمانية الموهوبة التي لا يخلو فيلمها
من مشاهد جيدة، خاصة تلك التي تدور في إسطبل الخيول الذي تملكه الأم
والمقارنات التي يقدمها الفيلم بين قدرة الإنسان على ترويض الخيول والفشل
في علاج الأطفال، والتحكّم في سلوكهم، كما تبدو قوة المرأة في التعامل مع
الخيول وترويضها بنفسها، علامة على قوة إرادتها وتمكنها، ولكن هذا بكل أسف،
لم يكن كافيا لإنقاذ الفيلم من السقوط في المبالغات الميلودرامية التي تثير
التعاطف، ولكن لا تدفع إلى التفكير. بل ينتهي الفيلم إلى رفض العقل أصلا
والانحياز للخرافة!
كاتب وناقد سينمائي مصري |