جوّ شديد السخونة ساد البندقية أمس، رغم ان درجات الحرارة
المئوية لم تتجاوز الثلاثين. أشعّة الشمس بدت متراقصة على وجه مياه
اللاغونا ونحن نعبرها في اتجاه جزيرة الليدو، محج أهل السينما ومحبّيها
لـ١١ يوماً، وذلك في مناسبة انعقاد الدورة السادسة والسبعين لمهرجان
فينيسيا (٢٨ آب - ٧ أيلول)، الموعد السينمائي الذي يهيئ لنهاية الصيف،
ويجعل منه ذكرى قريبة جداً، مفتتحاً موسم مهرجانات الخريف، ويمهّد العودة
إلى الأشغال والشؤون الجدية.
في الصالات، وُضع المكيف على الدرجة العليا، حتى الشعور
بالبرد. جرياً للعادة، الحماسة تتسلل إلى الليدو على دفعات. كلّ شيء يبدأ
بفتور يوحي بأن الواصلين يأتون إلى وظائفهم الروتينية. شيئاً فشيئاً، مع
اكتشاف الأفلام، تحتدم النقاشات.
يوم الثلثاء، أي عشية الافتتاح، يبدأ الناس بالوصول. فمن
الأفضل دائماً الحضور في المكان الذي يستقطب الأنظار والاهتمام قبل يوم،
للاستقرار في الفندق وتسلم البادج والتماهي مع إيقاع هذه البقعة من
الأدرياتيك التي تجمع بين الاستهلاكية المقنّعة التي تبلورت تحت شعار
السياحة وذروة التجريب والجنون والمغامرة والفن التي يمثّلها بينالي
البندقية الذي يُعتبر معرض الفنّ السينمائي (الموسترا) فرعاً منه.
أن تكون صحافياً في البندقية، يعني أن تتسنّى لك مشاهدة
الأفلام قبل عروضها الرسمية مع فريق العمل الكامل الذي يدخل الصالة على
إيقاع تصفيق الجمهور العريض. هذا تقليد لا تزال البندقية تتمسّك به، بالرغم
من الضغوط التي أدت إلى تعديل جدول عروض كانّ الصحافي، لتتزامن مع العروض
الرسمية، طالبة إلى أهل الصحافة عدم التحدّث عن الافلام، سلباً أو ايجاباً،
قبل العرض الرسمي.
"الحقيقة"
للمخرج الياباني هيركازو كوريه إيدا المشارك في المسابقة والذي افتتح
"الموسترا"، هو أحد هذه الأفلام التي قد تفسد العرض الرسمي اذا ما انتشرت
آراؤه في شأنه، باعتبار انه لم يكن هناك اجماع في شأنه، ولا شك ان النقّاد
سيدلون بدلوهم فور نهاية العرض الرسمي.
بعد "سعفته" في كانّ العام الماضي عن "سارقو المتاجر"، يعود
كوريه إيدا بفيلم هو الأول له تصويراً خارج بلاده اليابان، إذ صوّره في
فرنسا وبمال فرنسي وبلغة فرنسية وممثّلين وطاقم عمل أغلبهم فرنسيون. وبذلك،
ينضم كوريه إيدا إلى مجموعة سينمائيين عرّجوا على ثقافات أخرى، بعد صعود
نجمهم، فقط فضولاً واستكشافاً ورغبة في ترك بصمات على سينما بلدان أخرى.
أحدث مثال لسينمائي نبش في ثقافة ليست ثقافته: المخرج الإيراني أصغر فرهادي
يوم أنجز "الكلّ يعلم" في إسبانيا، فيلم افتتاح آخر، دشن كانّ ٢٠١٨. وكان
قبله قدّم "الماضي"، أول تجربة إخراجية له خارج إيران، وقد صوّره في فرنسا.
الغرب عموماً وفرنسا تحديداً، يفتحان ذراعيهما لهؤلاء، فهما
يعشقان استدراج الأسماء الكبيرة والمواهب الأكيدة إلى الكنف الغربي، حدّ
التبني الكامل. في عالم اسقط الجدران بين الثقافات، وجعل الحكايات تلتقي
إلى ما لا نهاية، قد يبدو التداخل بين الثقافات أمرا بديهيا، الا ان معاينة
دقيقة لفيلم كوريه إيدا تؤكد اننا نخطئ اذا اعتقدنا ان يابانيا من قماشته
يذوب في قِدر أوروبي. فنحن أمام "فنان منتمٍ" بشحمه ولحمه وثقافته
وامتداداته الاجتماعية، يأتي من أقصى الشرق ليصوّر شخوصاً غربيين وعلاقات
إنسانية غربية، ولكن بحساسية يابانية، بنظرة يابانية، ولا يتخلى عن أي من
عاداته التصويرية. لا ينصهر، لا يلقي بنفسه في أحضان ثقافة أخرى، لا يتماهى
معها، لا يتظاهر بأنها ملاذه الجديد، لا ينطق بلغتها، كلّ ما يفعله هو انه
يلتقي بها، يساهم فيها ويروي فضوله عبرها، كرجل وامرأة يتعارفان، يمارسان
الحبّ، ثم يذهب كلّ منهما في طريقه.
يقول كوريه إيدا ان الممثّلين الفرنسيين هم الذين أيقظوا
فيه الرغبة في صناعة فيلم بلغة ليست لغته، وفي بلد ليس بلده. جولييت بينوش
هي التي استفزت في داخله هذه الرغبة الدفينة، يوم ذهبت إلى اليابان عام
٢٠١١، واقترحت عليه ان "يفعلا شيئا ما معاً ذات يوم". فنقطة انطلاق
السيناريو هي مسرحية كتبها عام ٢٠٠٣ عن ليلة في غرفة تبديل ملابس ممثّلة
أوشكت مسيرتها المهنية على النهاية. ثم تحوّلت المسرحية فيلماً. خلال فترة
إعادة الكتابة، سأل المخرج عن المعنى الحقيقي للتمثيل عند ممثّلتين من طراز
كاترين دونوف وجولييت بينوش. أراد ترتيب الحكاية في موسم الخريف كي يتداخل
ما تعيشه ممثّلة في نهاية حياتها مع باريس في نهاية موسم الصيف. خلال
التصوير، الممثّل الأميركي إيثان هوك الذي يضطلع بدور هامشي ولكن رمزي، قال
لكوريه إيدا إن الأهم في صناعة فيلم ليس أن يحكي صنّاعه اللغة نفسها بل ان
يتشارك الرؤية نفسها. هذه الكلمات ساعدته في البقاء حقيقياً، من دون ان
يفقد الثقة بذاته. أراد كوريه إيدا فيلماً خفيفاً لا دراما ثقيلة تلقينية
حول التمثيل. فيلم حيث الكوميديا والدراما تتعايشان بسلام ووئام. ولبلوغ
هذه النقطة، كانت الكيمياء بين الممثّلين مسألة حاسمة وضرورية. يسأل كوريه
إيدا: ما الذي يصنع تماسك العائلة؟ أتصنعه الأكاذيب أو الحقائق؟ وكيف نختار
بين حقيقة مرّة وكذبة لطيفة؟ هناك أسئلة لم يكفّ كوريه إيدا عن طرحها على
نفسه وهو ينجز الفيلم.
إذا كان الفيلم استمد شرعيته من هذه التساؤلات، فكاترين
دونوف هي التي تمثّلها وتبث فيها الحياة قبالة الكاميرا، حتى انه يمكن
القول (اختزالاً) إنه فيلم عن دونوف أكثر ممّا هو عن أي شيء آخر. انه رسالة
حبّ لهذه الممثّلة التي وقفت أمام كبار السينمائيين، من لويس بونويل إلى
فرنسوا تروفو. صحيح أن المشروع انطلق كمعاينة في خصوصية التمثيل، ولكن خضع
للعديد من التعديلات خلال عملية التقاط المشاهد، باعتراف كوريه إيدا نفسه،
الأمر الذي تجاوبت معه دونوف بكل أريحية.
دونوف تحمل الفيلم على كتفيها، لا تفارق الكادر طوال معظم
فصول الفيلم. فهي تضطلع بدور نجمة فرنسية كبيرة تُدعى فابيان، صاحبة سلطة
لم تخبُ حتى مع مرور الزمن وصعود نجمات أخريات في المشهد السينمائي. لئيمة،
متعجرفة، صاحبة إيغو ضخم، تعتقد ان الوجود كله يدور في فلكها. في مناسبة
نشرها لكتاب مذكراتها، تجتمع بعائلتها الصغيرة في منزلها. عائلتها تتألف من
ابنتها كاتبة السيناريو (جولييت بينوش) وزوجها (إيثان هوك) وابنتهما الطفلة
(كليمانتين غرونييه)، بالاضافة إلى زوجها السابق (روجيه فان هول) الذي سمّت
كلبها على اسمه. طبعاً، منذ مئات الأفلام، نعلم جيداً كيف تنتهي هذه
اللمّات العائلية في الأفلام، خصوصاً عندما تكون القلوب "مليانة" والمسافات
التي أمضاها الأفراد بعضهم عن البعض الآخر، صنعت نيات مبيتة وأحاسيس على
قدر من الفتور. أضف إلى هذا وذاك، أشباح الماضي، والخصومات الصغيرة،
و"إيغو" أهل الفنّ، فنحصل على خلطة مسمومة يعرف كوريه إيدا كيف يرميها في
وجهنا، بعد أن يكون قد ذاق طعمها بنكهاتها المختلفة. الأعظم ان لا رغبة
لديه في اعدام شخصياته أو حتى محاكمتها. ولكن، في المقابل، بعض الأمور يجب
ان تُقال وبعض الأسئلة يجب ان تُطرح وبعض الاتهامات يجب ان تُساق، خدمةً
للحقيقة، هذه الحقيقة التي نحاول رؤيتها من ثقب باب يترجح. فهذا ما نراه
تحديداً في فيلم كوريه إيدا، الذي يصح القول إنه ابتعد كثيراً عن الواقعية
البائسة لنشّالي المتاجر، ليهتم بموضوع يتّصل بعملية الخلق الفنّي في بيئة
بورجوازية، واجداً فيه ما يُضحك ويسلّي ويثير المتعة. وبالتأكيد، الخلل
العائلي الحاضن للحكايات والذكريات، حاضر بقوة، على غرار كلّ أفلامه
السابقة.
لا ينفع كثيراً الدخول في تفاصيل القصّة، فهي توفّر لعبة
مرايا بين الشخصيات، شدّ حبال، وصداماً على أكثر من صعيد بين فابيان
ومحطيها انطلاقاً من مفاهيم العائلة والزيف والكذب والحياة المزدوجة. يتأمل
كوريه إيدا في موضوع نادراً ما طُرح في السينما: الحدّ الفاصل بين الحياة
الشخصية لممثّل وأدواره. متى ينتهي الواقع وأين يبدأ الوهم؟ ففابيان تبدو
لوهلة سطحية، ولكن ما هي سوى أرضية يحفر فيها المخرج كي يستخرج منها الكثير
ممّا يمكن التفكير فيه بجدية. الفيلم يوظّف حركات دونوف الجسمانية، ويشتغل
على حضورها ويلتقط تفاصيلها الصغيرة، وهي تفاصيل حملتها من فيلم إلى آخر،
لمَن يمعن في النظر. في المؤتمر الصحافي الذي عُقد بعد العرض الصحافي، نفت
دونوف أي صلة بالشخصية. قالت: "هذه الشخصية بعيدة مني. ما وضعته منّي فيها
هو ما أضعه في كلّ فيلم. الممثّلون يضعون دائماً من أنفسهم. كوريه إيدا لا
يتكلّم الفرنسية ولا الإنكليزية. في النهاية، كان من الأفضل الا نتواصل الا
في الأشياء الأساسية. الأسبوع الأول كان صعباً. تطلّب منا جهداً كي ننظر
إلى شخص ونستمع إلى شخص آخر (المترجمة). اللافت انه لم تكن هناك ثرثرة خلال
التصوير، هذا شيء نادر. قبل تلقف كلام المترجمة، كنت أفهم ما يريده من خلال
تعابير وجهه. دوري دور مركّب رغم أنني أجسّد ممثّلة. أعجبني أن أجسّد
ممثّلة طباعها لا يشبه طباعي، في علاقتها مع ابنتها، الخ. أفهمها جداً،
ولكنها ليست أنا".
"دور
الفانتازيا في تغذية الفنّ"، قد يُمكن اختزال فيلم كوريه إيدا إلى هذا
الحد. أما الحقيقة التي يوحي العنوان بأنه قبض عليها، فليست سوى وهم بوهم
في عالم الفنّ، هذا العالم المشغول بصناعة الإغواء والزيف أكثر من أي بحث
قد يقوم به للعثور على الحقيقة. |