تنطلق الدورة السادسة والسبعون من مهرجان فينيسيا السينمائي
اليوم ويتقدم بمجموع أفلامه المبهرة حتى السابع من الشهر المقبل. المهرجان
السينمائي الأقدم كان من المفترض به، لو أخذنا بعين الاعتبار سنواته
المديدة، أن يشعر بعبء تلك السنوات ويحني ظهره تعباً من تكرارها. لكن اسأل
أي إعلامي دأب على تغطية المهرجان منذ مطلع الثمانينات (كهذا الناقد)
وسيقول لك إن هذا المهرجان الإيطالي يزداد شباباً كلما تقدم به العمر.
حكاية الجواهر الثلاث
لقد سبق لنا هنا أن تحدثنا عن أسباب هذه الشبابية الدائمة
أو المتجددة إذا ما أخذنا بعين الاعتبار النجاحات المتوالية له منذ مطلع
العقد الثاني من هذا القرن. الأفلام مختارة بعناية تتجاوز اختيارات سواه.
السينمائيون يعتبرونه من أكثر مناسبات العالم السنوية رقياً. لا يحتوي على
سوق كحال برلين وكان، لكن المتسوّقين موجودون والأفلام تشحن نفسها بما يلزم
لبدء مشوار يتجاوز فينيسيا إلى تورونتو ونيويورك من المهرجانات والغولدن
غلوبز والأوسكار من المناسبات السنوية.
وكما ذكرنا آنفاً أيضاً ليس علينا سوى النظر إلى كل تلك
الأفلام التي شهدت عروضها العالمية الأولى في المهرجان الإيطالي وطارت منه
إلى تلك العروض الأخرى حول العالم.
في الواقع ما يهتم به السينمائيون الذين لديهم أفلام
يعرضونها هنا هو كيف سيستقبل الجمهور المشاهد أفلامهم؟ ما الحجم الإعلامي
الذي ستغطيه وما إذا كان الفيلم لديه ما يلزم لكي يواصل النجاح في
المناسبات الأخرى؟
لكن ما الذي يتميّز به مهرجان فينيسيا فعلياً عن المهرجانات
الكبيرة الأخرى؟ كيف يعمل بعيداً عنها وكم يؤثر عليها أو يتأثر بها؟
بالنسبة لبرلين، فإن المهرجان الألماني ينأى بنفسه عن
الدخول في المقارنة مع منافسيه الإيطالي والفرنسي. لا يعني ذلك أنه لا
يكترث لاكتشاف الجديد الجيد واحتوائه، لكنه - حتى الآن حيث الدورة المقبلة
هي الأولى لإدارة جديدة - يتمتع بالرصانة المطلقة وبثقة الكثيرين للتوجه
إليه مع مطلع عام جديد.
لجان التحكيم التي يختارها غالباً أهل للثقة والعروض منتظمة
والانتقال بينها سهل والإدارة تعمل بنظام الساعة السويسرية. على ذلك،
الدورة الأخيرة منه لم تتميز بأفلام رائعة تخرج من جناح المهرجان البرليني
لتلتحق بأجواء المهرجانات والمناسبات الأخرى الفاعلة. تلك التي جاءت من
فرنسا مثل فيلم «بعناية الله»، وألمانيا «إليسا ومارسيلا» لإيزابيل كويكست،
وتركيا «حكاية الشقيقات الثلاث»، وبولندا «مستر جونز»، والصين «وداعاً يا
ابني» أو حتى الفيلم الألماني الجيد «القفاز الذهبي» لم تكن بالمستوى الذي
يرتفع عالياً ثم يحلق بعيداً صوب مستقبل عريض.
وضع مهرجان كان مع منتخباته من الأفلام المتسابقة لم يكن
أفضل بكثير هذا العام. أفضل أفلامه لم تنل الجائزة باستثناء «طفيلي»، ذلك
الفيلم الكوري الذي نال السعفة الذهبية. وكما قدمنا آنذاك فإن الجهد
الممتاز للمخرج ترنس مالك واجه تعنت لجنة التحكيم التي تميل، ومنذ سنوات،
إلى الأفلام الواقعية بدليل تعاقب أفلام هذا النوع على قطف جوائزه الرئيسية.
لكن «كان» محكوم بعوامل مؤثرة من بينها تعاونه مع جمعيات
المنتجين والموزعين وأصحاب الصالات الذين يمارسون ضغوطاً دائمة من شأنها
الاتكال دوماً على ذات الزبائن من المخرجين نظراً لأن أفلامهم عادة ما تكون
من تمويل شركات فرنسية. هذا مطبق منذ سنوات بعيدة وما زال حتى ولو اقتضى
الأمر استقبال أفلام سخيفة المعالجة ممهورة بأسماء معروفة كما حدث هذا
العام مع فيلم الأخوين داردين «الفتى أحمد». أو حتى أفلام من نوع «البحلقة»
في الأجساد كحالة فيلم «مكتوب، حبي: إنترميزو» لعبد اللطيف كشيش.
بادرة لافتة
المشكلة التي يواجهها «كان» ولا يواجهها فينيسيا هي اشتراك
شركات الإنتاج المبثوثة مباشرة إلى المنازل. حكاية قيام «كان» بصد أفلام
شركة نتفلكس صارت معروفة. لكن مآزق مهرجانات عند مهرجانات أخرى فوائد.
«فينيسيا» لم يقل لا لأي شركة إنتاج لأنه لا يكترث إذا ما تم عرض الفيلم
المنتج في صالة سينما أو في غرفة البيت.
هذا العام لدى مهرجان فينيسيا ثلاثة أفلام مشتركة في عروضه
الرسمية وكلها من إنتاج نتفلكس وهي فيلم نواح بومباخ «قصة زواج» مع سكارلت
جوهانسن وأدام درايفر ولورا ديرن وراي ليوتا، وفيلم ستيفن سودربيرغ «مغسلة
الملابس» مع ميريل ستريب وأنطونيو بانديراس. الفيلم الثالث هو «الملك»
لديفيد ميشو الذي سيعرض خارج المسابقة ويقود بطولته تيموثي شالامت في دور
الملك هنري الخامس وروبرت باتنسون في دور غريمه الفرنسي.
بما أنه من الصعب التكهن بجودة كل واحد من هذه الأفلام فإنه
من السابق لأوانه الحكم عليها أو لها. لكن ما هو ثابت أن النصر الكبير في
حياة العلاقة ما بين فينيسيا ونتفلكس تبلور في العام الماضي عندما فاز
«روما» بالأسد الذهبي وانتقل بنجاحه هذا ليحصد 3 مرات أوسكار و211 جائزة
أخرى
(حسب
IMDB Pro).
لكن الغالب أن مستوى هذه الأفلام لن يكون الشاغل الأكبر
بالنسبة للإعلاميين الذين يعرفون مسبقاً أين سيتسابقون لتغطية ما يعتبرونه
الأكثر إثارة لاهتمام المتابعين القابعين خارج جزيرة الليدو، حيث يُقام
المهرجان.
المسألة الغالبة هي استقبال المهرجان لمخرجين حامت حولهما
قضايا اعتداءات جنسية: الأميركي نات باركر والبولندي - الفرنسي رومان
بولانسكي.
بولانسكي ما زال يدفع ثمن ما قام به في ليلة غاب فيها ضوء
القمر قبل 51 سنة. ولهه بالصغيرات عمراً دفعه للاعتداء على فتاة دون
السادسة عشر عاما، والمحكمة التي أدانته بالجريمة كانت بمثابة الأزمة
الكبرى التي شهدها في حياته (ربما الثانية تأثيراً كونه نجا من الهولوكوست
بسبب صغر سنه لكنه عانى من ذكريات مرّة خلال احتلال الألمان لبولندا).
بولانسكي هرب إلى فرنسا التي احتضنته لكن الاتفاقات المتبادلة بين الولايات
المتحدة والكثير من الدول حول العالم جعلت بولانسكي حذرا أثناء السفر إلى
بلد ما خوفاً من أن يضطر بوليس ذلك البلد لإلقاء القبض عليه وتسليمه
للأميركيين.
مهرجان فينيسيا في بادرة لافتة اختار عرض فيلم بولانسكي
الجديد «إني أتهم» الذي يتحدث فيه عن تجربة الضابط اليهودي الفرنسي درايفوس
الذي أدين في مطلع القرن الماضي بالتجسس والخيانة العظمى رغم أن الأدلة
التي سيقت لم تكن كافية لذلك. هل سيعمد بولانسكي لتوفير المقاربات بين وضعه
ووضع درايفوس؟ هل سينقلب على التوقعات ويعرض ما مفاده أن الضابط درايفوس
خان فرنسا فعلاً؟ ثم ما هي الرسالة التي أراد مهرجان فينيسيا توجيهها
للعالم من خلال اختيار فيلم بولانسكي للمسابقة؟
العدالة الغائبة
مثله في الورطة المخرج الأفرو - أميركي نات باركر لكن الوضع
يختلف تماماً.
في أواخر التسعينات جرى اتهامه باغتصاب فتاة في الكلية.
المحكمة أدانت شريكه في التهمة (اسمه جان سيليستن) وبرأته هو والفتاة
انتحرت بعد سنوات قليلة. نايت باركر اعتبر أن المسألة انتهت عند هذا الحد
وامتهن التمثيل ثم قام سنة 1977 بإخراج فيلم «مولد أمّة» الذي عكس فيلم
غريفيث بالعنوان ذاته سنة 1915 ناهض التفرقة العنصرية من خلال فيلم تم
تقديمه في شهر يناير (كانون الثاني) في مهرجان صندانس الأميركي.
تهافت الموزعون على الفيلم وفازت به شركة فوكس التي دفعت
فيه 17 مليون دولار و500 ألف دولار. عندما حان وقت عرض الفيلم تجارياً في
خريف العام ذاته، وجد المخرج والفيلم وشركة فوكس أنفسهم محاصرين بمن فتح
ملفات الأمس ونبش في التهمة التي وجهت إليه. ومع أن المخرج نال براءة من
المحكمة إلا أن سيف المواقع المسيسة في زمن «مي تو» وسواها كان أمضى ووجد
المخرج نفسه معزولاً وفيلمه لا يقوى على التمتع بفرصة العرض الصحيحة ناهيك
عن حلم استحواذ جائزة الأوسكار.
الفيلم الجديد الذي أنجزه في أسابيع قليلة قبل تقديمه
للمسابقة عنوانه «جلد أميركي»
(Aerican Skin)
وفيه يواصل التعرض للعنصرية التي تستفيد من قدر غياب القانون بعذر عدم وجود
أدلة فاعلة. تدور الحكاية هنا حول كنّاس في الكلية يفاجأ بمقتل ابنه الشاب
على يدي رجل بوليس من دون دافع أو تبرير. المحكمة تخلي سبيل القاتل لكن
الكنّاس (يقوم بدوره أوماري هاردويك) سيعرض كيف ينتقم لغياب العادلة.
رسالة فينيسيا في هذا الصدد هي أن الحكم ليس على الشخص بل
على الفيلم، وبالتالي، لا فرق إذا ما كانت خلفية المخرج مثقوبة وسجله لا
يخلو من السواد. المهم هو أن يتيح المهرجان للفيلم المنجز العرض المناسب
لأن هذا يبقى حق المخرج الشخصي ومطلب المهرجان ورواده. |