كتبوا في السينما

 

 
 
 
 
 

ملفات خاصة

 
 

أضواء على الدورة الـ76

من مهرجان فينيسيا

أمير العمري

فينيسيا السينمائي الدولي السادس والسبعون

   
 
 
 
 
 
 

قسم "كلاسيكيات فينيسيا" يعدّ أهم أقسام المهرجان ويصلح كمهرجان قائم بذاته، ويعرض مختارات من الكلاسيكيات السينمائية الحديثة.

اكتملت ملامح الدورة الـ76 من مهرجان فينيسيا (البندقية) الشهير الذي يعد الأقدم في العالم، بعد أن أعلن مدير المهرجان ألبرتو باربيرا، تفاصيل البرامج والأقسام الرئيسية للدورة الجديدة التي ستفتتح في 28 أغسطس الجاري وتختتم في السابع من سبتمبر القادم.

أثبت مهرجان فينيسيا خلال السنوات الأخيرة أنه المهرجان الذي تخرج منه أهم الأفلام التي تنال بعد ذلك ترشيحات الأوسكار بل ويحصل معظمها على الجوائز وهناك قائمة طويلة بأسماء هذه الأفلام. وتفوق مهرجان فينيسيا أيضا على منافسه الأول، مهرجان كان، في ترحيبه بعرض الأفلام التي تنتجها وتوزعها شبكة نتفلكيس أو أمازون للبث عبر الإنترنت، ومن هذه الأفلام فيلم “روما” للمخرج المكسيكي ألفونسو كوارون، الذي نال العام الماضي جائزة “الأسد الذهبي” في فينيسيا ومضى بعدها ليحصد جائزة أحسن فيلم في مسابقة “الأوسكار” وجوائز أخرى عديدة ثم أصبح “فيلم العام”.

واستمر مهرجان كان في مقاطعة أفلام شبكات البث الرقمي استجابة لضغوط اتحاد مالكي دور العرض في فرنسا الذين يطالبون بضرورة عرض هذه الأفلام في دور السينما أولا على أن تعرض لمشاهدي الشبكة بعد 36 شهرا. أما مهرجان فينيسيا فقد رفض الخضوع لضغوط مماثلة من داخل إيطاليا، لذلك يعرض في مسابقته فيلمين من إنتاج نتفليكس، وفيلما ثالثا خارج المسابقة.

الممثلة التونسية هند صبري تشارك في لجنة تحكيم جائزة "أسد المستقبل" التي تمنح لأفضل موهبة ناشئة

وكان مهرجان فينيسيا يتطلع إلى عرض فيلم “الأيرلندي” لمارتن سكورسيزي ومن بطولة روبرت دي نيرو وآل باتشينو وجو بيشي، إلاّ أن سكورسيزي فضل على ما يبدو، عرض فيلمه في افتتاح مهرجان نيويورك في 27 سبتمبر.

ومنذ سنوات كان مهرجان فينيسيا يفتتح عادة بفيلم أميركي جديد، أما هذا العام فقد وقع الاختيار على فيلم “الحقيقة” للمخرج الياباني هيروكازو كوريدا صاحب فيلم “لصوص المتاجر” Shoplifters الحاصل على جائزة السعفة الذهبية في مهرجان كان العام الماضي. وسيشارك الفيلم ضمن 21 فيلما اختيرت للتنافس في المسابقة الرسمية على جائزة “الأسد الذهبي” أهم جوائز المهرجان وأكثرها شهرة، إلى جانب جوائز أخرى في التمثيل والإخراج والسيناريو.

وفيلم “الحقيقة”، من الإنتاج المشترك بين اليابان وفرنسا، من نوع الدراما العائلية الاجتماعية عن العلاقة بين الأم وابنتها، وهو ناطق بالإنكليزية والفرنسية، تقوم ببطولته جوليت بينوش وكاترين دينيف، والممثل الأميركي إيثان هوك.

ويختتم المهرجان بفيلم “هرطقة البرتقال المحروق” (خارج المسابقة) للمخرج الإيطالي جيوسيبي كابوتوندي، وهو إنتاج مشترك بين أميركا وإيطاليا لكنه في الحقيقة أميركي في موضوعه كما أنه ناطق بالإنكليزية.

والفيلم مقتبس عن رواية أميركية للكاتب تشارلز ويلفورد، كتب له السيناريو سكوت سميث، في أدوار البطولة ميك جاغر ودونالد سوذرلاند وإليزابيث ديبيكي وكلايس بانغ (موسيقي وممثل هولندي).

تتكون المسابقة من 21 فيلما: 4 أفلام أميركية، و3 أفلام إيطالية، و3 أفلام فرنسية، وفيلمين من الصين، وفيلم واحد من كل من: كندا (كيبيك) وجمهورية التشيك وكولومبيا والسعودية والسويد وأستراليا والبرتغال واليابان وشيلي.

أفلام المسابقة

لم يتمكن المهرجان من الحصول على فيلم “البابا” الذي تغير عنوانه إلى “البابوان” أو “البابان” The Two Popes للمخرج البرازيلي الشهير فرناندو ميريليس (بطولة أنتوني هوبكنز وجوناثان برايس) الذي فضل الذهاب به إلى مهرجان تورنتو الذي يتقاطع في موعده عادة مع موعد إقامة مهرجان فينيسيا.

لكن المهرجان الأخير حصل على الفيلم الجديد للمخرج البولندي الشهير رومان بولانسكي (86 سنة) وهو بعنوان “ضابط وجاسوس” مقتبس عن رواية الكاتب الإنكليزي روبرت هارس، وتدور أحداثه حول قضية دريفوس الشهيرة، وهو الضابط الفرنسي اليهودي الذي اتهم في أواخر القرن التاسع عشر في فرنسا بالخيانة والتجسس لحساب الألمان وأعدم ظلما في مناخ معاد لليهود، ودافع عنه الكاتب إميل زولا في مقاله الشهير “إني أتهم”.

وقد سبق تناول هذا الموضوع كثيرا في السينما، ولكن من المثير أن نشاهد كيف تعامل بولانسكي (وهو نفسه يهودي) مع الموضوع. ويقوم ببطولة الفيلم إيمانويل سينييه (زوجة بولانسكي) وجون ديجوردون (الفنان) ولوي غاريل (المهيب).

فيلم بولانسكي في المسابقة مع أفلام أخرى لكبار المخرجين مثل السويدي روي أندرسون بفيلمه الجديد “عن الأبدية” The Endlessness (فاز أندرسون بالأسد الذهبي في فينيسيا قبل 5 سنوات)، والشيلي بابلو لارين بفيلمه الجديد “إيما”، وجيمس غراي بفيلم “أد أسترا” بطولة براد بيت وتومي لي جونز ودونالد سوذرلاند، وتود فيليبس الأميركي وفيلمه المنتظر “الجوكر” Jocker بطولة جواكين فينكس وروبرت دي نيرو، وستيفن سودربرغ بفيلم “لوندرومات” أو “المغسلة” (عن أوراق بانما)، بطولة ميريل ستريب وغاري أولدمان وأنطونيو بانديراس (إنتاج نتفليكس).

ومن الأفلام التي نترقب عرضها في مسابقة فينيسيا فيلم “في انتظار الهمجيين” للمخرج الكولومبي تشيرو غيرا صاحب رائعتي “عناق الأفعى” و”الطيور العابرة”. وتشترك السينما الإيطالية بثلاثة أفلام كالمعتاد ربما يكون أهمها فيلم المخرج ماريو مارتوني “عمدة ليوني سانيتيه”، وإضافة إلى فيلم بولانسكي هناك فيلمان من فرنسا هما فيلم “غلوريا موندي” لروبير غيديغويان وفيلم “شبكة البعوض” لأوليفييه أسايس، وهو فيلم ناطق بالإنكليزية ويروي قصة الكوبيين الخمسة الذين اعتقلوا وسجنوا في الولايات المتحدة في نهاية التسعينات بتهمة التجسس والقتل. وفي أدوار البطولة بنيلوبي كروز وإدغار راميرز وغايل غارثيا برنال وفاغنر كورا.

ومن المفاجآت السعيدة عرض الفيلم السعودي من الإنتاج المشترك مع ألمانيا وكندا “المرشحة المثالية” The Perfect Candidate للمخرجة هيفاء المنصور (45 سنة) المقيمة في لوس أنجلس، والتي حققت نجاحا كبيرا بفيلمها “وجدة” (2012) ثم أخرجت الفيلم البريطاني “ماري شيلي” (2016). ويدور فيلمها الجديد حول طبيبة سعودية تقرر ترشيح نفسها في الانتخابات البلدية. وقد صوّرت المنصور فيلمها بالكامل داخل السعودية. والفيلم الثاني من إخراج امرأة في المسابقة هو الفيلم الأسترالي “أسنان الرضيع” للمخرجة شانون ميرفي.

ومن مفاجآت المسابقة أيضا عرض فيلم “رقم 7 تشيري لين” للمخرج يونفان من هونغ كونغ (الصين)، وهو من أفلام التحريك. كما يعرض الفيلم التسجيلي الإيطالي “المافيا لم تعد كما كانت” للمخرج فرنشيسكو ماريسكو. ولست في الحقيقة من أنصار الخلط بين أنواع الأفلام في مسابقة واحدة، فيصعب كثيرا على أي لجنة تحكيم تقييم عمل ينتمي إلى نوع أفلام التحريك مثلا، قياسا إلى أفلام درامية، لذلك تخصص المهرجانات مسابقات منفصلة للأنواع الفيلمية المختلفة أو تقام مهرجانات متخصصة في هذه الأنواع أيضا، وإلاّ اختلطت كل المسابقات وألغي التخصيص وقضي الأمر!

في المسابقة فيلم تشيكي هو “الطائر المدهون” لفاكلاف مارهول، والفيلم الصيني الثاني “خيال السبت” Saturday Fiction من إخراج لو ي، وبطولة النجمة الصينية الشهيرة غونغ لي التي اشتهرت في بطولة أفلام جانغ ييمو الأولى.

أطول فيلم

يعود المخرج الكندي الأرمني الأصل أتوم إيغويان إلى مسابقة المهرجان بفيلم “ضيف شرف”، كما يشارك المخرج الأميركي نوح بومباش بالفيلم الأميركي الرابع في المسابقة وهو “قصة زواج” (إنتاج نتفليكس)، بطولة سكارليت جوهانسون وآدم درايفر ولاورا ديرن.

ومن البرتغال يأتي أطول فيلم من أفلام المسابقة وهو Herdade أي “الضيعة” ويبلغ زمنه 166 دقيقة، ويروي قصة عائلة تمتلك أكبر ضيعة في أوروبا تقع على نهر التاغوس، ويصوّر تفجر التناقضات داخلها.

ترأس لجنة التحكيم الدولية المخرجة الإيطالية لوكريسيا مارتل، وسيمنح المهرجان “الأسد الذهبي” الشرفي لكل من المخرج الإسباني بيدرو ألمودوفار تكريما له ولمسيرته الطويلة في السينما، والممثلة الإنكليزية جولي أندروز. ويشارك المخرج الجزائري رشيد بوشارب في لجنة تحكيم قسم “آفاق”، بينما تشارك الممثلة التونسية هند صبري في لجنة تحكيم جائزة “أسد المستقبل” التي تمنح لأفضل موهبة ناشئة.

من أهم الأفلام التي تعرض خارج المسابقة الفيلم الجديد للمخرج الفرنسي كوستا غافراس “بالغون في الغرفة”، وفيه يعود المخرج اليوناني الأصل إلى بلده اليونان حيث يصوّر فيلمه الذي تدور أحداثه في خضم الأزمة الاقتصادية العنيفة التي ضربت اليونان وجاءت بحكومة يسارية أثارت الكثير من الجدل وانقسمت الآراء بشأنها. والفيلم بطولة الإيطالية فاليريا غولينو أمام اليوناني جورج كورافاس. فهل يستعيد غافراس اهتمامه السياسي الأصيل بما يجري في اليونان من صراع مستمر بين اليسار واليمين ويستعيد أجواء فيلمه الشهير “زد” (1969)، يجب أن ننتظر؟

وخارج المسابقة أيضا يعرض الفيلم الروائي “الموصل” أول أفلام الكاتب والمنتج الأميركي ماتيو مايكل كارنهام كمخرج، وهو من بطولة حياة كاميل وعدد كبير من الممثلين العراقيين. ويستند الفيلم على التقارير الصحافية التي كتبها المراسل الحربي لوك موجلسون لصحيفة “نيويوركر”، حيث كان يتابع عن كثب جهود فرقة العمليات الخاصة العراقية التي تشكلت من أبناء الموصل، ثم شنت الهجوم على مدينة الموصل لتطهير المدينة من مقاتلي تنظيم داعش الإرهابي. وقد صوّرت مناظر الفيلم الخارجية في مراكش.

وهناك أيضا فيلم “الملك” الأميركي عن مجموعة مسرحيات لشكسبير (إنتاج نتفليكس)، وفيلم “سبيرغ” Seberg للمخرج البريطاني بنيدكت أندروز، بطولة كريستين ستيوارت ومرغريت كويلي وجاك أوكونيل. ويروي الفيلم القصة الحقيقية لمراقبة ضابط في مكتب التحقيقات الفيدرالي للممثلة الأميركية جين سيبرغ التي نشطت في الستينات في صفوف حركة الحقوق المدنية، مباشرة بعد أن قامت ببطولة فيلم جان لوك غودار الأول “على آخر نفس” (1959) أمام جون بول بلموندو، وأصبحت بعد ذلك أيقونة من أيقونات حركة الشباب الثورية في أوروبا.

وباستخدام المئات من الوثائق المصوّرة من الأرشيف يقدم المخرج الأوكراني سيرجي لوزنيتسا فيلما تسجيليا طويلا، هو “جنازة رسمية” State Funeral يستعرض فيه أيام الرعب التي أعقبت وفاة الزعيم السوفيتي جوزيف ستالين.

وقبل سنوات كان المهرجان قد بدأ في تخصيص قسم لعرض مختارات من المسلسلات التلفزيونية الجديدة. وكنا قد شاهدنا قبل ثلاث سنوات، حلقتين من مسلسل “البابا الشاب” للمخرج الإيطالي المرموق باولو سورنتينو، وسيعرض المهرجان في دورته الجديدة حلقتين من مسلسل سورنتينو “البابا الجديد” الذي يستكمل أحداث المسلسل السابق.

من المفاجآت السعيدة للمهرجان عرض الفيلم السعودي من الإنتاج المشترك مع ألمانيا وكندا "المرشحة المثالية" للمخرجة هيفاء المنصور المقيمة في لوس أنجلس

في قسم “آفاق” يعرض 22 فيلما من بينها فيلم من تونس هو الأول لمخرجه مهدي برساوي بعنوان “ابن”، وفي قسم الأفلام التجريبية التي تجمع بين الخيالي والوثائقي وأفلام الفيديو ميوزيك يعرض فيلم “المانيكان” للمخرج التونسي النوري بوزيد.

وتقام تظاهرة “أيام فينيسيا” على غرار تظاهرة “نصف شهر المخرجين” بمهرجان كان، وتضم هذا العام 21 فيلما من بينها فيلم تونسي بعنوان “بلوز عربي” للمخرجة التونسية المقيمة في باريس مانيل لعبيدي، وتدور أحداثه قبيل الثورة التونسية. وتقوم بدور البطولة فيه الممثلة الإيرانية غولشفيته فرحاني التي تجسّد شخصية طبيبة نفسية تونسية تفتتح عيادة في تونس لعلاج كبار القوم. والفيلم يدور في سياق كوميدي ساخر مع بعض النقد السياسي حسب المعلومات المتوفرة عنه.

وفي “أيام فينيسيا” يعرض أيضا الفيلم السوداني “ستموت في سن العشرين” للمخرج أمجد أبوالعلاء من الإنتاج المشترك مع مصر والنرويج وألمانيا وفرنسا وقطر.

كلاسيكيات فينيسيا

يعدّ قسم “كلاسيكيات فينيسيا” أهم أقسام المهرجان ويصلح كمهرجان قائم بذاته، وينظمه المهرجان منذ عام 2012. ويعرض مختارات من الكلاسيكيات السينمائية الحديثة، بالإضافة إلى عدد آخر من الأفلام التسجيلية عن السينما ومخرجي السينما.

ومن الكلاسيكيات سنشاهد 20 فيلما لكبار السينمائيين، اشتركت مؤسسات سينمائية دولية عديدة متخصصة في ترميمها واستعادتها. ومن هذه الأفلام فيلم “الشيخ الأبيض” لفيلليني الذي سيعرض في الطريق إلى الاحتفال بمرور 100 عام على مولده في 2020، وكان هذا الفيلم قد عرض في دورة مهرجان فينيسيا عام 1952.

ومن الكلاسيكيات الحديثة أيضا يعرض المهرجان نسخة جديدة مرممة من فيلم “نيويورك.. نيويورك” لمارتن سكورسيزي، وفيلمين لبرناردو برتولوتشي هما “قابض الأرواح” The Grim Reaper الذي عرض في دورة 1962 من المهرجان، و”استراتيجية العنكبوت” (عرض في 1970)، والفيلم النادر للمخرج لويس بونويل “الحياة الإجرامية للشجعان” (1955) الذي أخرجه بونويل في المكسيك.

وهناك تسعة أفلام عن صناع السينما منها أفلام عن فيلليني وتاركوفسكي وإدغار رايتز وبييرو فيفاريللي، وآخر عن أفلام الرعب الإيطالية، كما يعرض خارج المسابقة فيلم “المواطن روزي” عن أعمال المخرج الإيطالي الراحل فرنشيسكو روزي. وفي جعبة المهرجان الكثير.

 كاتب وناقد سينمائي مصري

 

العرب اللندنية في

02.08.2019

 
 
 
 
 

مهرجان فينيسيا يعرض فيلماً لكوبريك وآخر عنه

بعد عشرين سنة على تحقيق آخر أحلامه

بالم سبرينغز: محمد رُضـا

يستعد مهرجان فينيسيا في طلته المقبلة في الثامن والعشرين من هذا الشهر تقديم فيلمين لهما علاقة بالمخرج ستانلي كوبريك (1928 - 1999). أحدهما فيلم تسجيلي بعنوان «أبداً ليس حلماً فقط»: ستانلي كوبريك و«عينان مغلقتان باتساع» لمات ولز والآخر هو فيلم ستانلي كوبريك ذاته Eyes Wide Shut الذي أنجزه قبل وفاته بأشهر من بطولة نيكول كيدمان وتوم كروز.

النسخة الجديدة هي احتفاء بمرور عشرين سنة على الفيلم كذلك ذلك الفيلم التسجيلي المصاحب، وكلاهما سوف يعرض في صالات الدول الغربية قبيل نهاية العام للتأكيد على هذه المناسبة.

فيلم ستانلي كوبريك انتمى إلى عالمه الذي حفل بحكايات تمزج الواقع بالخيال والخوف من الأول باللجوء إلى الثاني. هو أقرب، في هذا الوصف، إلى «ذ شاينينغ» (1980) من حيث إن كليهما يتحدث عن زوجين يجدان نفسيهما على طرفي نقيض وكيف أن الزوج يغترب عن واقعه فجأة فينطلق إلى ما يبدو، بالنسبة إليه، لجوءاً إلى مخيلة جانحة.

في الوقت ذاته، فإن مفهوم فيلم كوبريك الأخير يمضي ليشمل الحديث عن مجمع سري (قيل إنه يقصد الماسونية) معرّياً شعائره وممارساته. كوبريك لم يحوّل هذا الهدف إلى تقديم نماذج بل ساق كل ذلك من خلال نظرة عريضة حافلة منطلقها الزوج وما يمر به عندما يقرر دخول المجمّع المغلق. العنوان بحد ذاته يتضمن النقيض: «عينان مغلقتان باتساع» هو لوصف الانكفاء عن المعرفة على نحو كامل.

ألعاب خطرة

في حياته التي شهدت 13 فيلماً طويلاً من إنجازه عالج كوبريوك الوهم في أكثر من طريقة. إنه وهم الانتصار في الخروج من بيئة معينة. قدرة الإنسان المحدودة في مواجهة العالم الذي يجد نفسه في مواجهته. في فيلمه الأول «خوف ورغبة» (1953) اختار الحرب وسيلة لإعلان هزيمة أفراده. بعد ذلك انطلق إلى بيئة نيويوركية محطمة في «قبلة القاتل» (فيلمه الأول، 1955) يدور حول وهم الخروج من ظروف الواقع الصعب. لكنه في الوقت ذاته ليس مجرد حكاية ملاكم واقع في حب فتاة تعاني من سطوة رجل آخر، بل يدور حول الخيال والواقع في بذراته الأولى: هناك ذلك المشهد الذي يدور حول صراع الرجلين في مصنع دمى كاملة الحجم. الواقع المنشود هو حضورهما. الخيال الموازي هو تلك الدمى المحيطة بهما كما لو أن صراع بطل الفيلم مزدوج: واحد ضد رجل آخر يريد القضاء عليه والثاني ضد أوهام الحياة ممثلة بشخصيات أخرى.

نستطيع استبدال الدمى وما ترمز إليه في فيلمه اللاحق «2001: أوديسا فضائية» حيث تتحول الدمى - في عالم كوبريك - إلى عقول الكومبيوتر الجانحة في رغبتها تقويض الإنسان. لكن قبل ذلك داوم كوبريك على استعراض قوانين اللعبة الصعبة ضد أوهام تفرضها تلك الحياة على أبطال أفلامه.

هذا أكثر وضوحاً في فيلمه البوليسي «القتل» (1956) عندما يقدّم خمس شخصيات رجالية مندفعين في سبيل تحقيق غنيمة كبيرة في عملية سطو على مكاتب ميدان لسباق الخيل. العملية تنجح، لكن كل ما يتبعها يهوى تباعاً مقوّضاً الأحلام جميعاً. في واقعه لا يقدم كوبريك في هذا الفيلم شخصيات شريرة فلا جورج (إليشا كوك) الذي يحاول إرضاء زوجته ولا مايك (جو سوير) الذي يريد المال لإدخال زوجته المستشفى، ولا رجل البوليس راندي (تد د كورسيكا) فعلياً فاسد وينطلي الوضع بدوره على زعيم تلك العصبة جوني (سترلينغ هايدن) الذي جل ما يحاوله هو تحقيق حلمه بثراء يمكنه من ترك حياة الجريمة. يتناول كوبريك هذه الشخصيات خالقاً التعاطف معها من لبنة الواقع المر وليس عن طريق تعاطف مباشر معها.

المؤسسة

منذ بداياته تلك وكوبريك كان سيد ما يرويه مبتعداً عما قد تحكيه الرواية الأصلية إذا ما كانت مصدر الفيلم الذي بين يديه (كما الحال في «ذا شايننغ» أو «باري ليندن» مثلاً). لا يلتزم بما تسرده أو بكيف تسرده بل يسحب منها خطوطاً تفي بتصميمه لها. تستجيب لنظرته وإلى كيف يريد لهذا الفيلم أن يكون. وهذه النظرة تبلورت إلى نقد المؤسسة منذ أن قام بتحقيق «ممرات المجد» (1957) الذي قام كيرك دوغلاس ببطولته والتحق به كل من رالف ميكر وأدولف منجو. معارضته للحرب مورست مرتين بعد ذلك. الأولى في «دكتور ستراجلوف» (1964) و«سترة معدنية واقية» (1987).

هذا الأخير كان تعليق المخرج على الحرب الفييتنامية: المؤسسة العسكرية تخلق رجالاً ليحاربوا. الحرب ذاتها تهدم هؤلاء الرجال بعنفها. الأولى تبني والثانية تدمر. هنا العكس يحدث: الخيال يبدأ والواقع يُنهي.

المؤسسة متّهمة أيضاً في «سبارتاكوس» (1960) و«باري ليندون» التاريخيين وفي «كلوكوورك أورانج» وصولاً إلى «عينان مغلقتان باتساع» الذي بنى له حياً في نيويورك داخل ستوديوهات باينوود البريطانية. وبمثابة عودته إلى ذلك الحي كما في فيلمه الأول مع اختلاف عريض تفرزه المقارنة بين فيلم صغير وفيلم كبير. وبين فيلم استند إلى الواقع بقدر ملحوظ إلى فيلم يمضي إلى الخيال الجانح بالقدر ذاته.

الخيال الجانح عند كوبريك في «عينان مغلقتان باتساع» هو نتيجة شكوك الزوج (كروز) بزوجته (كيدمان) التي تدفعه لترك واقعه والاندماج في حياة من الفانتازيا العاطفية الداكنة. لا نرى بطله في أي وضع جنسي، لكنه مراقب لأوضاع هذا يكشف عن عجزه عن بلوغ متعة الحياة كاملة، بقدر ما يكشف عن ضياعه بين واقع يتبدد وخيال يطبق على حياته.

والمشهد الأخير له دلالة مذهلة: الزوجان كيدمان وكروز (وكانا زوجين بالفعل حينها) يقفان في متجر للألعاب كما لو أنها استدارة كاملة مكّـنت كوبريك من الالتقاء مجدداً مع أول فيلم نيويوركي المكان أنجزه وهو «قبلة القاتل».

بعد وفاة كوبريك بأشهر قليلة إثر انتهائه من تحقيق فيلمه الأخير، دار الحديث طويلاً حول إرثه السينمائي. قام المخرج ستيفن سبيلبرغ باستعادة ذكرى كوبريك من خلال تحقيق فيلم كان المخرج الراحل يود إنجازه وهو «ذكاء اصطناعي» (2001).

إثر موته ترك كوبريك حلمه بتحقيق فيلم «نابليون» معلقاً. لا أحد يجرؤ اليوم على إنجازه لا لتكلفته المتوقعة فقط، بل لأن الرؤية التي صاحبت وصف كوبريك للقائد الفرنسي الأشهر تختلف ولا أحد سواه يستطيع تحقيقها على نحو كامل.

لكن هناك سيناريوهين يقوم التلفزيون باقتباسهما. واحد بعنوان «متحدر» (Downslope) والآخر «رجل يخاف الله» (God Fearing Man).

 

الشرق الأوسط في

02.08.2019

 
 
 
 
 
 
 

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك © 2004