كتبوا في السينما

 

 
 
 
 
 

ملفات خاصة

 
 
 

"أمبيانس": الفيلم في كانّ وبطله في سجون الاحتلال الإسرائيلي

رام الله ــ فاطمة مشعلة

كان السينمائي الدولي

الدورة الثانية والسبعون

   
 
 
 
 
 
 

في الوقت الذي يواصل فيه الفلسطينيون والمهتمون احتفاءهم منذ أيام بفوز فيلم "أمبيانس" (للمخرج وسام الجعفري) بالمركز الثالث لفئة الأفلام القصيرة من "سيني فنديسيون" في "مهرجان كانّ السينمائي الدولي" في دورته الـ72، بعد قدرته على منافسة أربعة آلاف فيلم، يَعدّ بطل الفيلم (الممثل الرئيسي الثاني) محمد الخمور (21 عاماً)، أيامه داخل سجون الاحتلال الإسرائيلي منذ 10 أشهر، فبعد انتهاء تصوير الفيلم بأشهر قليلة، اعتقله الاحتلال. 

يحكي الفيلم قصة شابين من مخيم الدهيشة، جنوب بيت لحم، وهما محمد الخمور وصلاح أبو نعمة، إذ يحاولان تسجيل الموسيقى داخل المخيم، إلا أن أصوات الحياة فيه تقف حجر عثرة أمام ذلك، فيقرران استثمار هذا الحجر بتحويله من عائق إلى عامل وظيفي، بجعل الموسيقى الخاصة بهما هي صوت الحياة في المخيم. 

محمد الخمور، طالب هندسة الاتصالات في "جامعة القدس" في بلدة أبو ديس، كان من المفترض أن يرافق زملاءه إلى "كانّ"، لكنه بدا مخنوقاً حين علم بفوز الفيلم، لا لشيء سوى أنه محاصر وعاجز عن التعبير عن فرحته، هو الذي تمنى الخروج ليرى الحياة خارج فلسطين، وكانت جدران سجن عوفر الإسرائيلي أقرب. 

الرابعة فجراً 

سعاد الخمور، والدة الممثل الأسير، عندما علمت بخبر فوز الفيلم في مهرجان عالمي، شرعت بالبكاء لأن ابنها في السجن ولن يتمكن من الذهاب برفقة طاقم العمل إلى فرنسا. 

تخبرنا والدته: "كان محمد، وهو البكر في العائلة، سعيداً جداً بقيامه بدور ممثل في الفيلم، أخبرني بشعوره هذا أكثر من مرة: هذا الفيلم يما لوسام الجعفري، هذا الفيلم عشان المخيم، وكنت أنا أمارس الفُرجة عليهم أثناء أداء المشاهد التمثيلية في شوارع المخيم أو حتى عندما يأتون للاجتماع في منزلنا". 

اعتُقل محمد من منزل عائلته في مخيم الدهيشة عند الرابعة فجراً من تاريخ 28 أغسطس/آب عام 2018، ولا يوجه الاحتلال له أي تهمة، أي أنه يُعتبر معتقلاً إدارياً. تؤكد والدته أن ابنها كان إلى جانب دراسته الجامعية، يعمل حارسا لأحد المجمعات التجارية القريبة، "ويوصيني بإيقاظه في حدود الثامنة صباحاً، لكنهم جاؤوا قبل أربع ساعات من دوامه في العمل، أيقظني أخوه الأصغر، فلم أصدق أن جنود الاحتلال حاصروا المكان، علمت أنهم قبل أن يدخلوا من الباب ثبتوا سلما باتجاه نافذة غرفة محمد ودخلوا منها، صحت وبكيت عندما طوقوا يديه بالكلبشات، وطرحوه أرضاً وانهالوا عليه بالضرب، لحقت بهم حتى منتصف الطريق وأنا أوصي محمد بالصبر والاعتناء بنفسه قدر الإمكان". 

حينما ذهبت والدته لأول مرة لحضور جلسة محاكمته، لم تتمكن من التعرف عليه لولا أنه بادر بالقول: "كيف حالك يما؟". 

كهرباء وإضاءة وقهوة

فيلم "أمبيانس" استغرق إنجازه عاماً ونصف العام، وتم تصويره خلال 10 أيام، من أجل الخروج بـ15 دقيقة، وهي المدة النهائية التي قُدم بها الفيلم لمهرجان "كانّ"، فيما يهدي المخرج وسام الجعفري عمله هذا لمحمد الخمور المسجون، وقد رفعت صورته في المهرجان، وهو يتمنى أن يخرج محمد قريباً. 

يتحدث الجعفري لـ"العربي الجديد"، عن الفيلم وإنتاجه، يقول: "عندما خرجنا للشارع لتصوير الفيلم، بدأ أهالي المخيم بسؤالنا: ماذا تفعلون؟ وبدأنا في تقديم الإجابات. ولقلة الإمكانات، كنا نطلب من الناس إبقاء الأضواء الخارجية للمنازل مشتعلة لصالح التصوير، وكنا أحياناً نقوم بمد كابل كهرباء من بيوت الأهالي، ولم يمانعوا مطلقاً". 

يشير وسام إلى أنه، حتى عندما كان الطاقم يحتاج لوجود أحد الأهالي في المكان كممثل إضافي يشارك في المشهد ليكون حياتياً وحقيقياً، كأن يمر أمام الكاميرا مثلاً، "لم أطلب من أحد فعلها واعترض، لقد كان الأهالي متعاونين لدرجة أنهم يعدون القهوة أثناء التصوير، عدا عن إعداد الساندويشات للطاقم". 

صوت المكان 

يوضح المخرج وسام الجعفري أسباب فوز فيلمه في مهرجان "كانّ"، يقول إن "عضوة من لجنة التحكيم على فئة فيلمه أكدت أن الفيلم استطاع التعبير عن الحياة اليومية للمخيم، الحياة الاجتماعية في إطار كوميدي، ربما هذا أحد الأسباب التي أهّلت أمبيانس (صوت المكان) للفوز". 

يوضح وسام أن الفكرة الأشد إلحاحاً بالنسبة إليه كانت أثناء تصوير الفيلم تتعلق بكيفية اصطحاب المُشاهِد إلى رحلة في المخيم عبر أصوات الحياة فيه، وهنا كمن التحدي، "لقد استطاع بطلا الفيلم، رغم أنه يضم ثلاثة آخرين، أخذ الأصوات التي قد تكون مُزعجة وتحويلها إلى قطع موسيقية، وكل ذلك رغم الإمكانات البسيطة". 

قابلنا مُنتج الفيلم سائد أنضوني، وهو يشغل منصب رئيس برنامج الأفلام في كلية دار الكلمة الجامعية للفنون والثقافة في بيت لحم، يقول: "وسام طالب من طلبة الكلية، وفيلمه هذا مشروع تخرجه، وعلينا الأخذ بالاعتبار الجهد الجماعي الذي يبذله الطلبة في مساعدة بعضهم لإنتاج الأفلام. عدد كبير من أفراد الطاقم هم طلبة في الكلية، لولا هذه الروح الجماعية لم يكن هناك فيلم، وكان اجتهاد وسام خاصاً". 

يؤكد أنضوني في حديثه لـ"العربي الجديد"، أن وسام لم يستهن بالتفاصيل أو غض الطرف عنها، بل أصر على إحكام وتفعيل كل تفاصيل الفيلم لإيصاله مع كل مرحلة لمستوى أفضل. في الكلية نوفر المعدات للطلبة، ولديهم مرجعيات استشارية ممثلة بالأساتذة والمختصين، والأمر الأهم في نجاح الفيلم هو صدق الممثلين الذين هم أبناء المخيم خلال أداء الأدوار، وقد انعكس حبهم للمخيم بحساسية عالية ومرهفة أثرت في سرد حكاية فيلمهم.

 

العربي الجديد اللندنية في

08.06.2019

 
 
 
 
 

«الأطلنطي» لماتي ديوب… فيلم يرد الحق لمن غيبهم البحر

نسرين سيد أحمد

كان ـ «القدس العربي»: المحيط الأطلنطي ومن راحوا وسط موجه هو الشبح الذي لا يبرحنا في فيلم «الأطلنطي» للمخرجة السنغالية الفرنسية ماتي ديوب، الذي شارك في المسابقة الرسمية في مهرجان كان في دورته الثانية والسبعين، والذي فاز بالجائزة الكبرى للجنة التحكيم في المهرجان.

«الأطلنطي» قصة حب عن حبيب غيبه الموج، ولكنه في المقام الأول عن النساء اللائي يبقين وينتظرن عودة الأحباب، الذين قرروا الهجرة والتعرض لغدر الموج بحثا عن حياة أفضل. وهو فيلم عن أشباح الموتى الذين قضوا غدرا قبل الأوان، وهو فيلم عن اللوعة والفقد، وعن الظلم المجتمعي والفساد الاقتصادي الذي يدفع بالبعض وهم في ريعان الشباب أن يزجوا بأنفسهم وسط أمواج الأطلنطي وقسوته، بحثا عن حياة أفضل هناك على الجانب الآخر من المحيط في أوروبا.

إنه فيلم عن قضية آنية وعاجلة، عمن تجبرهم قسوة الحياة وظلم الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية على الهجرة في قوارب متهالكة لا قبل لها بتحمل الأمواج العاتية. «الأطلنطي» هو الفيلم الروائي الطويل الأول لديوب، وعلى الرغم من عيوبه السردية وثغرات حبكته، إلا أنه يأخذنا في أجوائه السيريالية الغامضة، تلك الأجواء التي تعود فيها أرواح من قضوا غدرا لتسكن الأحبة طلبا للحق والقصاص.

ناطحة سحاب ضخمة بالقرب من المحيط، هي رمز للحداثة وللنهوض الاقتصادي للسنغال، والسكن فيها هو ما يطمح إليه هؤلاء الذين يهاجرون ويغادرون الوطن، بحثا عن مستقبل أفضل. ولكن البرج الضخم يبدو متنافرا مع البيئة المحيطة ومع المنازل القريبة. هذا البرج يقف هكذا كرمز على كل الجور والظلم في السنغال، فبينما يأمل مالكه في تحقيق أرباح طائلة، إلا أنه يرفض أن يعطي عمال البناء الذين يشيدونه أجورهم، وتمر الشهور بلا أجر ولا يجد هؤلاء الشباب سبيلا أمامهم سوى الأطلنطي بموجه العاتي. ولكن الفيلم ليس عن رحلة الشباب إلى المجهول وسط الموج، بل عن النساء اللاتي تنفطر قلوبهن للفراق، واللائي تشاء لهن الأقدار أن يثأرن لمن ظُلِموا وغابوا. تختار ديوب بعض الخيارات السردية التي قد لا تقنعنا أحيانا، ولكننا لا نستطيع إلا أن نتعاطف مع بطلته الشابة، التي ينفطر قلبها على حبيبها الذي أخذه الموج.

تعامل الفيلم مع العديد من الشخصيات يبدو فاقدا للمصداقية وتبدو الكثير من الشخصيات، خاصة شخصيات الرجال، مفتقرة للعمق والمغزى.

آدا (ماما ساني) شابة في مستهل العشرين أو أصغر، مخطوبة عنوة لشاب ثري يعمل في إيطاليا ولديه المقومات التي ترضاها أسرتها من مال ومسكن وأثاث فاخر، ولكنها لا تحبه. من تهواه هو سليمان (إبراهيم تراوري)، ذلك الشاب النحيل، الذي يعمل في البناء في هذا البرج الشاهق، والذي لم يحصل على أجره منذ أشهر طويلة.

الظلم واقع على كل من آدا وسليمان. آدا فتاة تؤمن بالحب والحرية في مجتمع محافظ، يفرض الكثير من القيود على النساء، ويجبرهن على زيجات لا يرضينها. إنها شابة تريد أن تمرح وتسهر مع أترابها، ولكنها لا تستطيع ذلك علنا خوفا من أسرتها، بل خلسة مع بعض الصديقات. هي فتاة لا تستطيع اختيار من تحب ولا تستطيع الحصول على قسط من الحرية. لا يجد سليمان مخرجا من ظروفه الاقتصادية الجائرة سوى الأطلنطي وموجه، ولا تجد آدا مفرا من ضغط أسرتها سوى الزواج من عمر الذي لا ترغبه. ولكن ليلة العرس تشهد حدثا غرائبيا خارقا للطبيعة، سيكون هو الأول في سلسلة من الأحداث التي يغلب عليها طابع الغموض والسحر، هي أحداث لا تقنعنا تماما وتسعى لإيجاد حل سريع غير مقنع للظلم الاقتصادي والجور والعوز والفقر ولظلم المجتمع المحافظ للمرأة. يقف هذا التدخل السحري حائلا بينا وبين الشخصيات ويحد من قدرتنا على الاستجابة مع الأحداث.

تجد آدا نفسها، كمن مسها الجن أو السحر، مدفوعة دفعا نحو المحيط، هي وجميع الفتيات اللاتي فقدن أحبابهن وسط موجه. يجدن أنفسهن هائمات على وجوههن مدفوعات بقوى لا يعرفنها لرد الحقوق المسلوبة. هذا اللجوء إلى الغيبيات والسحر، كما نراه يحد كثيرا من قدرة الفيلم على الإقناع ويحاول إيجاد حل سريع غير مقنع لأزمة اقتصادية حقيقية ولمظالم حقيقية تدفع أصحابها للموت هجرة وغرقا.

تعامل الفيلم مع العديد من الشخصيات يبدو فاقدا للمصداقية وتبدو الكثير من الشخصيات، خاصة شخصيات الرجال، مفتقرة للعمق والمغزى. لا يقدم الفيلم، على سبيل المثال، سببا لإصرار عمر على الاقتران من آدا وهو يعلم أنها تحب غيره. هو لا يبدو لنا متحفظا أكثر مما ينبغي أو متشددا دينيا أكثر مما ينبغي، بحيث يصر على الزواج ممن تحب غيره. يبدو لنا كما لو كان الأمر مقحما على القصة لزيادة التعاطف مع النساء المقهورات المجبرات على زيجات لا يرغبنها. ويبدو لنا أيضا تعامل ديوب مع شخصية عيسى، ضابط الشرطة الذي يكلف بالتحقيق في حادث احتراق منزل الزوجية لآدا، مفتعلا واهيا.

تسعى ديوب لجمع الكثير من الخيوط والقضايا في الفيلم، بين قصة الحب التي يتصدى لها المجتمع بأعرافه والعوز الاقتصادي، والظلم والفساد اللذين يدفعان الشباب في السنغال للهجرة، وبين القيود المفروضة على النساء في مجتمع محافظ، وبين قدرة النساء على الرد والتحدي. خيوط كثرة تفلت أحيانا من يد ديوب وتشعرنا بثغرات سردية كبيرة.

 

القدس العربي اللندنية في

10.06.2019

 
 
 
 
 

أفلام «كان» تحصد الذّهب بأكثر من وسيلة

أحدها «كفرناحوم»

لوس أنجيليس: محمد رُضـا

حقق فوز فيلم «بارازيت» للكوري بونغ جون هو بالسعفة الذّهبية لمهرجان «كان» في الشهر الماضي، توقعات الذين وجدوا فيه ما يستحق الفوز: دراما مع لمسات كوميدية سوداء عن واقع معيشي واجتماعي محاط بالحاجة للتّطور المادي والحاجة الموازية للتّعبير العاطفي. كلا الحاجتين محاطتان بأسلاك شائكة تمنعهما من المضي بعيداً عن الواقع المعاش.

جزء من توقعات الفوز يبدو لنا تلقائياً: الفيلم في محصلته جيّد التنفيذ وجيد المضمون. لكنّ الجزء الآخر من هذا التوقع يعود بنا إلى ذهبيات «كان» السابقة (لنقل في غضون السنوات القليلة الأخيرة)، إذ ذهبت خمس من الجوائز في السنوات التسع الأخيرة إلى أفلام تطرح قضايا اجتماعية وبيئية. في السنوات الأربع الأخيرة تحديداً، ذهبت السعفة الذّهبية تباعاً إلى «ديبان» لجاك أوديار (2015) و«أنا، دانيال بليك» (2016)، و«الميدان» لروبن أوستلند (2017)، و«النشالون» لهيروكازو كوريدا (2018)، والآن «بارازيت»، وكلها تلتقي عند ذلك الخط الذي يطرح حياتنا في المدن المكتظّة بالمشاغل والمشكلات.

-- نجاح لبناني

«بارازيت» لديه خاصيته بالتأكيد، وقبل أن ندلف إليها نرقب اتجاهات ينجزها الفيلم الكوري تبدو كما لو أنّها تتجه به لتحقيق ذهبيات نقديّة هذه المرّة. ففيلم بونغ جون هو حصد منذ افتتاحه في المهرجان، 35 مليون دولار أميركي. طبعاً هذا ليس بالرقم القياسي، لكنّنا نتحدّث عن فيلم كوري وليس هوليوودياً، وعن حقيقة أنّ الأفلام السّابقة لم تنجز إيرادات افتتاح عالية كهذا الرقم. إذا ما استمر على هذا المنوال (وهو ما يزال في عدد محصور من الأسواق)، فلربما يبلغ ما بلغه فيلم مايكل مور «فهرنهايت 11 - 9» الذي أنجز 222 مليون دولار عالمياً سنة 2008، ذلك الفيلم تسجيلي وسياسي، وهما عنصران من غير المعتاد لهما قيادة فيلم صوب النجاح.

«فهر نهايت 11 - 9» حقق 24 مليون دولار كافتتاح، وهذا كان أكثر مما حقّقه سنة 1994 فيلم كونتن تارنتينو «بالب فيكشن» الذي افتتح عروضه بأكثر من 9 ملايين دولار بقليل. هذا بعد أشهر من فوزة بالسّعفة في دورة ذلك العام.

أسطع الإيرادات الأخيرة بالنسبة لفيلم لم ينل السعفة الذهبية (ولو أنّه رشح لها)، هو من نصيب فيلم نادين لبكي «كفرناحوم» الذي أنجز حول العالم، نجاحات تجعل لبكي في مقدمة صفوف المخرجين الذين ستعتمد شركات الإنتاج والتوزيع عليهم لتحقيق نجاحات مستقبلية.

آخر نجاحات الفيلم اللبناني - الفرنسي، تتجه بنا إلى الصين. فقد حقق الفيلم في أسواقها 54 مليون دولار. بذلك تجاوز عراقيل الثّقافة باعتماده على اللغة العالمية الأم وهي لغة الصورة.

هذا الفيلم الدّرامي بدوره، هو واحد من الأعمال التي تُنتج للحديث عن آلام المجتمعات وأفرادها. ومجلة «سكرين» الإنجليزية تتحدث في مقال لها عن تأثير الفيلم في رجال بكوا في صالات السينما تأثراً بما عرضته نادين لبكي عن ذلك الصّبي المتشرد.

والمفارقة هنا أنّ لبكي عرضت الفيلم أولاً في مهرجان «بيكينغ» في أبريل (نيسان) الأخير، قبل أسبوعين من سماح الرّقابة بتوزيعه محلّياً، ومنح الشّركة الموزعة الإذن بذلك. لكنّ الفيلم عرض بعد أن قصّت الشركة الموزعة، 10 دقائق منه (حسب المقال الوارد في مجلة «سكرين») من بينها مشهد إرضاع أم لطفلها.

هذا الرقم المنجز لفيلم صُنع في لبنان، هو الأعلى للفيلم حول العالم. الدّول الأخرى التي شهدت نجاح هذا الفيلم فيها، هي (على التوالي):

- الولايات المتحدة: مليون و661 ألف دولار

- إيطاليا: مليون و136 ألف دولار

- فرنسا: 635 ألف دولار

- هولندا: 489 ألف دولار

- إسبانيا: 424 ألف دولار

- الإمارات العربية المتحدة: 363 ألف دولار

هذه الدول (من الصين وحتى الإمارات)، هي بعض من 25 دولة عرضت الفيلم في أسواقها. والمبلغ الكلي لما أنجزه الفيلم حتى الآن هو 68 مليون و564 ألف دولار، وهذا أعلى رقم سجّله فيلم لبناني في تاريخ ذلك البلد.

-- من القاع

الرابط بين «نشالون» (سعفة العام الماضي) و«كفرناحوم» (جائزة لجنة التحكيم في العام ذاته) والفيلم الجديد «بارازيت» (سعفة هذا العام التي لم تمنح لفيلم كوري من قبل) لا يمكن أن يُخفى. فالأفلام الثلاثة تدور حول عائلات براشدين ودونهم تحاول وتفشل في تحقيق معنى آخر مختلف عن الحياة المدقعة التي يعيشونها.

أحد أكثر صور فيلم «بارازيت» انتشاراً، هي تلك التي تصوّر العائلة في ذلك الفيلم وهي تفتح علبة بيتزا، عليها أن تكفي أربعة أفواه. وهي صورة تلخّص الكثير من أوجاع الطّبقة التي يتناولها فيلم بونغ جون - هو ضاماً صوته إليها.

بعد رسم ملامح الحالة المزرية لعائلة تعيش على ما تتيحه لها الظّروف، ينتقل بابن العائلة إلى مدار آخر يعتقد أنّه سيحقّق فيه لنفسه بعض الأحلام التي تراوده. ينساق إلى مشروع حكاية حب مع فتاة من مستوى أرقى، لكنّ تلك الأسلاك الشائكة التي أعتقد أنّه قفز فوقها تحيط به من جديد، وينتهي وقد تعلّم أنّ المال الذي تمنّاه لم يحقّق له السّعادة.

هذا المفاد ليس جديداً، لكنّه يختلف عن المفاد في «نشالون»، حيث سيبقى الوضع على ما هو عليه، وعن «كفرناحوم» حيث ستوفر عدالة البعض خلاصاً لائقاً ونهاية سعيدة (مفبركة في الوقت ذاته)، لمن شوهد وهو يعاني طويلاً في تلك الحكاية.

مع هذه البوتقة من الأفلام يمكن لنا أن نضمّ كذلك فيلمي البريطاني كن لوتش «أنا، دانيال بليك» (2016)، و«آسف، افتقدناك» (2019).

لدى لوتش الاهتمام ذاته بالمجتمع الدّوني، وجل أفلامه تتحدث عن رجال ونساء من الطّبقة التي لا تملك، وهي تحاول فقط دفع فواتير الحياة ووضع بعض الطّعام على الطاولة. «أنا، دانيال بليك» أنجز السّعفة الذهبية حينها، ولكن «آسف، افتقدناك» لم يفعل. نظرياً كان المزيد من الموضوع ذاته، على الرغم من إتقان لوتش الدائم لتفاصيل الحياة اليومية وإبطال مفعول المعالجة الدّرامية ومتطلباتها في مقابل نقل صدق الوضع الذي يصوّره.

 

الشرق الأوسط في

11.06.2019

 
 
 
 
 

«لا بد أنها الجنة» للفلسطيني إيليا سليمان: المايسترو يسخر من السلاح

سليم البيك

■ لا للوهلة الأولى، ولا العاشرة، تبدو الكتابة عن فيلم لإيليا سليمان سهلة، تحديداً الآن وقد عُرض فيلمه الأخير «لا بد أنها الجنة» في المسابقة الرسمية لمهرجان «كان» وصار بالإمكان الكتابة، أو محاولة ذلك، عنه.

يُلقب الإيطالي فيدريكو فليني بالمايسترو لإدارته جموعاً كبيرة من الممثلين داخل مشاهد أفلامه. للسبب النقيض تماماً يمكن توصيف سليمان بالمايسترو، لأسباب أكثر جوهرانية وأقل شكلية، أكثر «انقلابية» في العمل السينمائي، صوتاً وصورة، فلشدة المَشاهد في فيلمه الأخير، المزدحمة مضموناً (مع إمكانية تعميم ذلك على أفلامه الثلاثة) يصح ذلك التوصيف، مُقدمةً بسخرية هي تماماً قلبٌ للمتوقع، بمشاهد صامتة وممثل وحيد، بأصوات وممثلين هي مكملات أساسية، بمينيمالية مكثفة، فلا تقل مَشاهد سليمان «كرنفاليةً» عن مشاهد فليني، ولا أقول رغم البعد الأسلوبي بين المخرجَين اللامعين، لكن بسبب هذا البعد، فأي من سينما أحدهما لا تذكر بالآخر، إنما الكثافة في المَشاهد إياها، لكليهما، تخول توصيف كل منهما بالمايسترو، توصيفٌ هو بالعمق أقرب من سليمان حيث الكرنفالات في المعنى، في دواخلنا كمشاهدين، وفي مضامين المَشاهد «السليمانية» وتكثيفاتها.

وقد بدأنا المقالة بالإحالات، فلنقُل إن فيلم إيليا الأخير (كامتداد لأفلامه الثلاثة) هو فيلم للأمريكي بستر كيتن أشرك معه الفنلندي آكي كوريسماكي في صنعه، مع مساهمة كتابية للتشيكي فرانز كافكا والأيرلندي سامويل بيكيت. هو دمجٌ بين كوميديا الأول وميلانكوليا الثاني وعبثية الأخيرَين، هي خلطة عرفناها لدى سليمان في «سجل اختفاء» و«يد إلهية» و«الزمن الباقي»، وشاهدناها اليوم، بنسخة متقدمة عن الأفلام الثلاثة (المتقدمة أساساً) بفيلم أهم ما فيه أنه كان شديد «السليمانية» الآتية كمرحلة أعلى شكلاً ومضموناً، وكتطور طبيعي، لما نعرفه عن سليمان ما قبل «إن شئت كما في السماء».

الفيلم تحفة سينمائية أولاً، وفلسطينية ثانياً. بالحديث عن «أولاً»، كرس الفيلمُ «العلامةَ» الخاصة بسليمان، شكلاً ومضموناً، كرسها في أجمل حالاتها، فالفيلم الساخر من العالم كله وقد صار فلسطينَ كبيرة، محتلة يحكمها أصحاب السلطة: العسكر (البوليس والجيش) المنظم بإفراط في فرنسا، والتسليح العشوائي بإفراط في الولايات المتحدة، كنسخة مُعولَمة، بمكانيه ومعنييه (العسكر والتسليح) للحالة الفلسطينية، حيث الفلسطيني، أي فرد، ضحية المسلحين، منظمين وعشوائيين، وحيث الفلسطيني، الفرد هنا هو إيليا سليمان ذاته، في كل من باريس ونيويورك، مراقباً بيأس «فلسطنَة» العالم، مراقباً المسلحين في كل من المدينتين، ليتركهما عائداً إلى الناصرة في فلسطين.

أما التماثل بين المدن الثلاث، فقد انعكس بصرياً في الصورة التناظرية للقطات الفيلم. العالم كله متناظر، متماثل، منقسم بين حامل السلاح والمُصوب نحوه السلاحُ ذاته، وسليمان (الشخصية الوحيدة في الفيلم) يراقب، بلقطات ذاتية جداً. عينا سليمان هي عين الكاميرا هي أعيننا، يراقب بسخرية شديدة بتهكم صامت، بدون ضجة ولا كلمات تشوش الوعي الذي تحتاجه لتُضحِك، يراقب تفاهةَ القوي، وعجزَ الضعيف، وسريان العالم إلى بعثرة للأحداث وعبثية في فحواها، سريان منتظم إلى أفق لا يملك سليمان (ونحن) سوى الوقوف لمراقبته (كما في البوستر) بعجزِ متشائلِ إيميل حبيبي، يراقب إلى أن يعود إلى البيت الأول، في فلسطين، حيث فتاةٌ تمشي بهدوء، بثبات، في عالم آخر، هو النقيض تماماً لجنون العالم، بثوب فلسطيني وتحمل جرار ماء، تمشي بين شجر الزيتون في الجليل، لا هي القوي المضطهِد ولا هي الضعيف المضطهَد، ولا تسير إلى الهاوية.

الفيلم الذي نال جائزة النقاد أتى باللغة السينمائية المعروفة لدى سليمان، بصرية بامتياز، كوريوغرافية، إيمائية، مفارقاتية، ساخرة، هي كذلك صوتية، الصوت مكمل ضروري للصورة.

صور سليمان قطعَ مفككة مركبة من لوحة موزاييك مقسومة إلى ثلاث مراحل زمانية / مكانية هي الناصرة وباريس ونيويورك، مدن عاش ويعيش فيها سليمان وجمعها في لوحة واحدة تشبكُ بينها مَشاهدُ صامتة (تماماً غالباً) يقرب التناقض في ما بينها، بينها وبين بعضها، كتجارب إنسانية لكل منها نسختها تبعاً للمكان والمجتمع الذي تحدث منه. وأشار سليمان (المخرج) في لقاء لسليمان (الشخصية الرئيسية) مع منتج فرنسي قدم له السيناريو، إلى تلك الحالة، إذ يقول المنتج بعد التنويه بتعاطفه مع القضية الفلسطينية، إن النص ليس فلسطينياً تماماً وإن الأحداث يمكن أن تكون في أي مكان آخر، ورفَضه.

المنتج الفرنسي الذي غادر سليمان (الشخصية) الناصرة ليقدم له السيناريو، يريد فيلماً «تعليمياً» و»إكزوتيكياً» عن القضية الفلسطينية، فيلماً ينزع عن فلسطين بُعدها العالمي الذي يراه سليمان (المخرج والشخصية، فكلاهما واحد، وقد يفسر المشهدُ السنين العشر التي فصلت بين هذا الفيلم والذي قبله) في المدينتين الغربيتين اللتين عاش فيهما. كأن فلسطين موضوع محلي تماماً، وطني ضيق، معزول عن باقي القضايا العادلة، عن باقي المستَضعفين في العالم! هذا التماهي بين المستضعَفين والمستضعِفين كان موضوع السيناريو الذي قدمه سليمان للمنتج، ولأن الفيلم هو كذلك «ميتافيكشن»، هو عن صناعة الفيلم (الفلسطيني لنقُل) كان كذلك موضوع فيلم إيليا سليمان الذي شاهدناه. فالفيلم الذي يصور سيرته (سيرة الفيلم) هو استكمال لأفلام سليمان السيَرية.

بالعلاقة مع ما سبق، في مقابلة، يُسأل سليمان (الشخصية) إن كان لحالة الترحال التي يعيشها، قد أخمدت حبه لمكان واحد ومَدته إلى أمكنة أخرى، وأنه «غريب تام». طبعاً لا يجيب سليمان، الصامت تماماً، والذي يرد بفيلمه هذا، بكامله، على أسئلة كهذه، حين يعود إلى مكانه الأولي، إلى بيته وجيرانه في الناصرة.

الفيلم المبني على تتابع لمَشاهد متفرقة إنما تأتي في السياق ذاته، داخل المدينة الواحدة، وتتلاحق لتكون في سياق واحد داخل المدن الثلاث، كان بتلك المَشاهد مكثفاً جداً، الزمن فيه ممتلئ وكذلك إطار الصورة، فالتناظر في الصورة كان بمحتوى حيوي (كرنفالي بمضمونه)، لكل زاوية فيه شغلٌ خاص، مادة خاصة. سليمان المتوسط الصورة، غالباً، وقد كان مراقباً لما هو خارج الإطار، هو نحن، المشاهدين وبالتالي العالم، ملأ المساحات المحيطة داخل الإطار، بتفاصيل هي جزء راهن مما يحصل، أو استمرارية له. أما امتلاء الزمن فكان مبرراً لاستمرارية الضحك (بأعلى الصوت) من المَشاهد الأولى للفيلم حتى الأخيرة، باستراحات خفيفة لا بد منها. وهذه المَشاهد تتراكم لتشكل معاً مشاهدات شخصية هي أكثر ارتباطاً في ما بينها، مما تبدو عليه للوهلة الأولى، مَشاهد شديدة الذكاء، شديدة الانتقاد، لا يفيد شيئاً سردُها هنا، لا بديل من مشاهدتها، كما هي، وفي سياقها داخل الفيلم.

ليست الكتابة عن هذا الفيلم سهلة، صورٌ ومَشاهد كثيرة تمر في البال ولا يمكن (لا يجوز) الإلمام بها هنا، ممتدة على ساعة و37 دقيقة، والحضور الطاغي للصمت مرفَقاً بتأثيرات صــوتية لما نشاهده، يُدخل المُشاهِد في حالات تعلقٍ بالمُشاهَد وترقبٍ له، هو ترقب ما قبل الانفجار «الضحكي» لواقعية ما يحصل وعبثيته في الوقت ذاته، لهذا الدمج «السليماني» بينهما، باستخدام غني للأصوات والإيماءات وأساساً المونتاج.

الفيلم الذي نال جائزة النقاد (FIPRESCI) وذكراً خاصاً له (Special Mention) ضمن المسابقة الرسمية، أتى باللغة السينمائية المعروفة لدى سليمان، بصرية بامتياز، كوريوغرافية، إيمائية، مفارقاتية، ساخرة، هي كذلك صوتية، الصوت مكمل ضروري للصورة هنا، فالمضمون العالمي للفيلم أتى بشكل لا يحتاج عموماً إلى ترجمة لغوية، لقلة المنطوق وكثرة المرئي والمسموع. والصمت عن الكلام هو هنا موقف سياسي مما يحصل أمام عيني سليمان، هو رفض للحالة العبثية التي صورها الفيلم، وسخر منها، بمجرد المراقبة، سخر منها لحالها كما هو، بدون تعليق، فقط بالمراقبة، الرفض هنا هو السخرية بالصمت، وليس هذا ما يريده أصحاب السلطة/السلاح.

٭ كاتب فلسطيني ـ سوريا

 

القدس العربي اللندنية في

12.06.2019

 
 
 
 
 

كانّ 72

ليخ كوفالسكي: أحلام تحت قبّة الرأسمالية

هوفيك حبشيان

المصدر: "النهار"

في مهرجان كانّ الأخير (١٤ - ٢٥ أيار)، أمسى المخرج ليخ كوفالسكي، لفترة من الزمن، "المقابل البولندي لكَن لوتش". حتى انه ذهب أبعد من زميله البريطاني حين نزل مع أبطال فيلمه، "سنفجّر كلّ شيء"، إلى الكروازيت، في محاولة لشد الانتباه إلى القضية التي جاؤوا من أجلها. في البرنامج: قبضات مرفوعة وخطب تحاول تجديد أدبيات النضال العمّالي.

"سنفجّر كلّ شيء"، هو الوثائقي الذي يروي فيه كوفالسكي نضال ٢٧٧ من عمّال شركة "ج أم وأس" الفرنسية (صانعة مستلزمات السيارات وأثاثها) لاستعادة حقوقهم. ففي العام ٢٠١٧، قررت هذه الشركة الواقعة في منطقة لا كروز، التصفية القضائية، الأمر الذي ولّد احتجاجات من جانب العمّال استمرت لأسابيع طويلة قبل ان تُباع الشركة إلى مجموعة أخرى، الا ان الأخيرة استغنت عن خدمات ١٥٧ عاملاً، مكتفية بـ١٢٠ منهم.

حمل كوفالسكي، البريطاني من أصل بولندي، كاميراه وتعقّب هؤلاء العمّال طوال فترة نضالهم ملتقطاً تمرّدهم على المنظومة ونقمتهم عليها، وملتقطاً كذلك أحلامهم وآمالهم، ولكن أكثر من أي شيء آخر، التقط عجزهم عن التغيير بالرغم من الاصرار. على امتداد فترة التصوير التي دامت سبعة أشهر، أخذت العلاقة تشتد بين المخرج والعمّال فتحوّلت صداقة وكفاحاً مشتركاً. نحواً من ٤٠ عاملاً جاؤوا إلى كانّ للمشاركة في العرض وتنظيم تظاهرة في شوارع المدينة، لشرح قضيتهم أمام الرأي العام، فمن أصل ١٥٧ عاملاً تمّ صرفهم، فقط ٣٧ تمّت تسوية وضعهم. ٧٠ منهم لا يزالون ينتظرون حلاً و٢٦ في وضع يرثى له، كما صرّح للاعلام أحد العمّال القدامى المتضامن مع زملائه، بالرغم من انه من النادرين الذي عاد وانخرط في سوق العمل.

في مقابلة مع "النهار"، روى كوفالسكي كيف ولد الفيلم: "فابريس بوشو المسؤول عن قسم الوثائقي في محطة "آرتي"قال لي أثناء لقاء: "فكرة جيدة ان تنصع فيلماً عمّا يحدث في فرنسا". كان هذا قبل عامين ونصف العام، إبان انتخاب ماكرون. فهمتُ منه انه كان متضايقاً من النحو الذي ينجز فيه السينمائيون الفرنسيون الأفلام الوثائقية عن السياسة. فكّرتُ في الموضوع واقترحتُ عليه فكرة. فقبل عشر سنين، كنت زرتُ مصنعاً يبعد بالسيارة عن باريس نحواً من ساعة. كان العمّال يهددون بتفجير المصنع، "سوديماتكس"، المتخصص بقطع السيارات. توجّهتُ إلى هناك وصوّرتُ لمدة أسبوع. صارت في حوزتي مادة هائلة. ثم، لم أفعل أي شيء بهذه المادة. عندما عرض عليّ فابريس الفكرة، اقترحتُ عليه ان أعود إلى المصنع للقاء العمّال وتصوير ما حلّ بهم خلال فترة غيابي عنهم، بعدما فقدوا وظائفهم، وبناء فيلم عمّا يحدث في فرنسا استناداً إلى ما حدث لهم. فعدتُ وبقيتُ أصوّر طوال شهر ونصف الشهر. كان الأمر مرعباً. صارت قضيتهم في المحاكم بعد خسارة عملهم. وجدتهم محبطين، لا يوافقون على التحدّث إلى الكاميرا التي كانت تُشعرهم بالريبة. فجأة، تلقيتُ اتصالاً من منتجتي، وهي أيضاً صديقتي، لتخبرني بأنها سمعت قصّة عمّال في وسط فرنسا يهددون بتفجير المصنع الذي يعملون فيه. فقلتُ لها "هيا بنا نذهب إلى هناك". صعدنا في القطار برفقة العامليَن اللذين كنت تعرفتُ اليهما واتجهنا إلى هناك. بقينا يومين. هكذا اكتشفت "جي أم وأس". صوّرتُ بدايةً المشهد مع الرجل الذي يصطاد السمك، حينما يروي قصّته ويبكي، ففكّرتُ انه يجب ان أغيّر القصّة وأبقى هناك. في النهاية، عشتُ فيه لمدة تسعة أشهر. أما المونتاج فاستغرق أكثر من ذلك. هكذا بدأ كلّ شيء".

خلال المهرجان، كتبت "تيليراما" ان ضحايا العولمة باتوا بسبب كوفالسكي أبطال الكروازيت. أُعجب المخرج بالمقال لكنه لا يوافق كثيراً على توصيف "ضحايا العولمة". يقول: "لا، ليسوا ضحايا العولمة. هم ليسوا ضحايا. هؤلاء يناضلون كي لا يصبحوا ضحايا. العولمة مصطلح خطأ. انه اختراع الرأسمالية لإعطاء نفسها وجهاً إيجابياً. أعتقد ان شيئاً آخر يحدث هنا. هؤلاء العمّال يحاولون المحافظة على هوية فُقِدت. وهذه الهوية ليست فقط هويتهم، إنما هوية البني آدم الذي يعيش في سياق العولمة وتدمير السياسة لكلّ شيء. الخطوة التالية هي تحويل العالم إلى شركة. وهذا يختلف عن العولمة. مهلاً… قد يجوز القول انهم ضحايا العولمة بعض الشيء. فالشركات الكبرى تعشق العولمة، لأنها تعني سهولة نقل أي شركة إلى الهند أو الصين أو البرازيل أو المكسيك، لأن اليد العاملة أرخص وأصحابها يريدون كسب المزيد من المال، فعولمة كهذه تصب في مصلحتهم. العمّال يعون هذا، لذلك هم ليسوا ضحايا بالمعنى المباشر، بيد انهم ضحايا الآلية التي تسمح بحصول هذا، وهو نتيجة ضعف الحكومات. العمّال مستاؤون جداً من ضعف الحكومات. لا يكترثون للسياسة حتى، في الفيلم لا يوجد أي حكي عن يمين أو يسار. علاقتي كسينمائي مباشرة بهم، وليس عبر قنوات أو فلترة. الفلترة كانت قتلت الفيلم".

لم يرد كوفالسكي فيلماً يراقب ما يحدث ويتابعه. بل فيلماً يشعرك بالعمّال خلال معاناتهم ويشعرك بالنحو الذي تتم مراقبتهم فيه. لهذا السبب، ثمة الكثير من المَشاهد التي التُقطت من خلف القبّعات. رغم انه لا يعتبر فيلمه وثائقياً بل مجرد فيلم، يشتكي ان الكثير من الأفلام الوثائقية لا تهتم بسوى ما يقوله الناس في المقابلات المصوّرة. هذا ليس في صدارة اهتمامه. يروي ان الشيء الجميل في مشهد زيارة ماكرون للمصنع هو انك تراه قليلاً. "رؤيته لوقت أطول كانت جعلت المشهد مملاً"، يقول المخرج البالغ من العمر ٦٨ عاماً.

الفرنسيون في نظر كوفالسكي في مأزق حالياً. يسألون "مَن نحن؟". تَصوُّرُهم لأنفسهم، لخياراتهم السياسية، هذا كله يضعهم في دائرة الخطر. ليسوا موضوعيين البتة حيال أنفسهم. يصنّفون الأشياء وينتقدون بشكل مملّ. "الهدف من هذا الفيلم كان النظر إلى الواقع الفرنسي من زواية أخرى، ليس فقط كمراقب بل…". يبحث كوفالسكي عن كلماته، ثم يجد صياغة أخرى لجملته: "أتعلم؟ حاولتُ ان أكون عضواً في نادي هؤلاء العمّال. حاولت ان أهدم الواجهة التي يستخدمها الفرنسيون للحديث عن أنفسهم ومشاكلهم. هناك تاريخ طويل من الأفلام العمّالية في فرنسا. أفلام قوية جداً. مع "سنفجّر كلّ شيء"، وددتُ ان أُخرج وثائقياً عن المجتمع الفرنسي، ولكن من خلال حفنة من الأشخاص. كان في رغبتي ان نرى كيف يراهم المجتمع الفرنسي وهم كيف يرونه. لذلك، حاولتُ تأطير الفيلم كما في أفلام الوسترن الأميركية، من خلال وضع الجميع في السياق. لجأتُ بشكل متواصل إلى الكوريغرافيا وتحريك الأشياء. كان يجب ان أكون بالضبط في المكان والزمان المناسبين، ولهذا السبب صورتُ الكثير من المواد".

"اذا أفقرت الرأسمالية الناس، فأي زبائن سيبقى لها؟". هذه جملة نسمعها في الفيلم على لسان كوفالسكي. يعلق قائلاً: "هذا هو السؤال الأهم. انه في قلب مشكلتنا الوجودية. الأغنياء يزدادون غنى، بسبب انهم لا يرون في الناس سوى زبائن محتملين. ولكن في مرحلة معينة، عندما سيصل الناس إلى حافة الفقر، كما هي حالنا الآن، لن يوجد الا حلّ واحد: الثورة. اذا كنت غنياً - وأنا أمضيتُ الكثير من الوقت مع أغنياء في أميركا، فأنتَ لا تشارك في صناعة المجتمع. تتنقل بالليموزين وتشعر بأنك فوق الجميع. هذه حياة مملة جداً. عليك ان ترى كيف يتسلى الفقراء؛ أي موسيقى يسمعون وكيف يخلقون البهجة. من دونهم، لا مجتمع، لا ثقافة، لا شيء. اذاً، في وقت من الأوقات، أعتقد اننا سنواجه هذا، سيشهد عالمنا حينذاك كارثة بيئية كبرى. ستتأزم الأمور، وسنحاول البحث عن علاقة جديدة بين الفقراء والأغنياء، وسيكون النصر، لا لمن يملك مالاً أكثر، بل لمن يعرف كيف يعيش. حدث هذا لأمّي عندما كانت في الغولاغ. هناك تعلمت كيف تبقى على قيد الحياة. اضطرت ان تأكل الحشرات. أنجزتُ فيلماً عنها. تعلمت كيف تعيش من دون لا شيء. كانت في الغولاغ مع ناس يتحدرون من عائلات غنية في بولندا. ولكن، في النهاية، مَن عاش هم مَن فهموا الحياة، لا مَن كانوا أكثر ثراءً من غيرهم. أعتقد ان العمّال هم من هذا النوع من الناس".

لا يعتبر كوفالسكي نفسه مخرجاً مناضلاً. يمقت البروباغندا. يود فقط إنجاز الأفلام الجيدة. يعترف انه اذا كان ما ينجزه جيداً على صعيد السرد والجمالية، يتحول إلى فيلم مناضل من تلقاء نفسه. ولكن، هذا ليس هدفه منذ البداية. يحاول ان يتطرق إلى المشاكل، ولكن اذا أصبح الفيلم نضالياً، فليكن، الا انه لن يسعى إليه لأنه يضجره.

"هل العنف يحل المشاكل؟"، هو سؤالي الأخير إلى كوفالسكي. يفكّر للحظات معتبراً السؤال من النوع الذي يحتاج إلى تأمل، فيردّ: "أعتقد انه من الجيد انهم (العمّال) لم يفجّروا المصنع، والا ما كنت جالساً هنا معك نتحدث عنهم. استطاعوا قمع الإيغو الخاص بهم. أدركوا ان القصّة أكبر من مجرد إيغو. قد يفجّرون المصنع يوماً، ولكن هذا غير مفيد لقضيتهم. الحكومات تستخدم العنف ضدنا، وستأتي لحظة نحتاج فيها إلى العنف لتدمير هذا النظام، وستكون لحظة خاصة جداً لا أعرف متى ستصل".

 

####

كانّ 72

برتران بونيللو لـ"النهار": أعدتُ الزومبي إلى أصله

هوفيك حبشيان

المصدر: "النهار"

لبرتران بونيللو القدرة الرهيبة على التلوّن من فيلم إلى آخر والتماهي مع الظروف. جديده، "طفلة زومبي"، الذي عُرض في مهرجان كانّ الأخير (١٤ - ٢٥ أيار) تكريس لكلّ ما أنجزه إلى اليوم، لكنه أيضاً قفزة غير متوقّعة في إتجاه جديد. من خلال حكايتين متوازيتين، واحدة تدور في هايتي الستينات وأخرى في فرنسا الحالية، يقترح بونيللو قراءة حيّة وعصرية ومشاكسة لأحداث وفصول تاريخية ومعتقدات تربط قارة بأخرى، وتقرّب الموت من الحياة، مع مقدار غير قليل من الصوفية والميثولوجيا يجتاز النصّ من أقصاه إلى أقصاه.

استوحى بونيللو قصّة الفيلم من حكاية كليرفيوس نارسيس (ماكنسون بيجو)، رجل عادي من هايتي تحوّل في العام ١٩٦٢ إلى زومبي، قبل استعباده في حقول قصب السكر (عاد إلى الحياة في العام ١٩٨٠). هذه الحكاية يضعها الفيلم في مواجهة حكاية أخرى متخيلة بالكامل، تبتعد مكاناً وزمناً عن الحكاية الأولى (باريس في زمننا الحالي)، فنتعقّب فاني (لويز لابيك)، الطالبة في مدرسة سان دوني الداخلية للبنات، وهي ضحيّة عشق ليس في متناول اليد. لفاني رفيقة صفّ (مليسّا - ويسلاندا لويما) أصلها من هايتي، وقد مات والداها في الزلزال الذي ضرب هايتي في العام ٢٠١١. فاني تمارس طقوس الفودو وتتواصل مع الأموات. ذات مرة، ستكشف لرفيقاتها السرّ الذي يلف عائلتها. الأشياء التي يصوّرها الفيلم داخل جدران المدرسة معقّدة ومبهمة.

سؤال قارئ هذا المقال في هذه اللحظة: كيف تلتقي الحكايتان؟ في هذا نعتمد على البراعة والحسّ والحرفة لدى بونيللو الذي يحملنا إلى رحلة غريبة حيث الفانتازيا تلتقي الواقع الفجّ. يحفر "طفلة زومبي"طريقاً له بين باريس وهايتي، بين نوع من الموسيقى، شبابي وآخر كلاسيكي، بين فيلم الزومبي الطليعي وفيلم المراهقات الاستهلاكية، بين العبودية ونابوليون، وعلى المُشاهد ان يجد روابط بين هذا كله، فلا شيء يأتيه على طبق من ذهب. هذا هو النمط الذي يعتمده بونيللو في عمله، وقد يجده بعضهم عبثياً ونرجسياً ومتعباً ومتفذلكاً، الا ان الانفعال لا بد ان يضع يده علينا في الخاتمة، حدّ ان العقلنة والفهم يصبحان من الأمور الثانوية.

بإنتاج محدود التكلفة وتوزيع أدوار تغيب فيه الوجوه المعروفة، يقدّم بونيللو فيلماً يغوي ويفاجئ ويعطي كلّ مُشاهد ما يستحقّه قياساً بنيّته، والأهم انه يعيد فيلم الزومبي إلى أصله وفصله، بعيداً من توظيفاته الهوليوودية التي استُخدِمت لمعاداة الرأسمالية.

في كانّ، التقينا بونيللو وسجّلنا معه الحديث الآتي:

* أحببتُ الفيلم جداً. لكن هذه السينما مضللة بعض الشيء. هل تعمدتها؟

- أعتقد انه من السهل التقاط الحكايتين المتداخلتين في الفيلم. لكن الصعوبة قد تكمن في متابعتك للكيفية التي ستتعايش فيها القصّة الأولى مع القصّة الثانية. كلّ قصّة في ذاتها سهلة وبسيطة جداً: فتاة تعاني عذاباً عاطفياً ورجل يتم استعباده.

* لماذا أردتَ إنجاز هذا الفيلم؟

- لا يوجد ردّ على هذا السؤال. في لحظة، تفرض الأشياء نفسها عليك، خصوصاً عندما يطلّ شيء ما برأسه. لا يسعني استعمال اللغة الشفهية للتحدّث عن الأسباب، فهذا صعب. هناك مواضيع تثيرني، كالحرية، ولكن هذا الشيء اكتشفته لاحقاً، أي بعد إنجاز الفيلم. لا أعرف اذا كان يجب ان نعرف فعلاً لماذا نفعل ما نفعله.

* هل كان مهمّاً عندك استلهام الزومبي من الواقع لا من السينما؟

- كان مهمّاً عندي ان أنطلق من شيء نعرفه جميعاً، أي الزومبي على الطريقة الأميركية، المنتمي إلى الثقافة الشعبية. عندما تتحدّث الفتيات في ما بينهن عن الزومبي، يتحدّثن عن نوع الزومبي الذي نعرفه. كان هدفي اعادة الزومبي، قليلاً قليلاً، إلى أصله. ومن خلال الحكاية التي تحدث في هايتي، وددتُ ان أربطه بالعبودية التي هي تقريباً أساس الفيلم، ثم ربط هذا كله بالعلاقة التاريخية بين فرنسا وهايتي.

* هل صوّرتَ الفيلم في هايتي؟

- نعم. قمنا بمشوارين قبل التصوير. وجدتُ في هايتي بلداً قوياً ومجنوناً. لم أكن أتوقّع هذا بالرغم من انه قيل لي. في الواقع، ما إن نأتي على ذكر هايتي، حتى يتّجه الحديث نحو السيدا والكوليرا والزلازل والديكتاتورية. توجد أشياء غير هذه في هايتي. انه بلد فقير جداً ولكن في الحين نفسه غنيّ جداً. غنيّ بتاريخه العريق. يمكن لمخرج ان ينجز ٢٠ فيلماً فيها.

* ماذا اكتشفتَ عن ديانة الفودو في هايتي؟

- تستند الفودو إلى تعدد الآلهة. شيء لا نهاية له. مهما قرأتَ، ييقى الكثير للقراءة. وكلما زادت قراءتي بها، قلّ فهمي. ما أجده جميلاً في الفودو هو هذه العلاقة بين الأحياء والأموات التي ليست من صميم حضارتنا الغربية، باعتبار اننا فصلنا بين الموت والحياة نهائياً. هناك "عبور" أجده جميلاً وصادقاً. الزومبيون شيء آخر، انهم على الأرجح الجانب المظلم للفودو. الحديث عن الزومبي في هايتي محرَّم. لا يوجد الكثير من المعلومات عنه.

* هل تؤمن حقاً بأنه من الممكن التحوّل إلى زومبي؟

- نعم، هذا ممكن. يحدث بالنحو الذي تراه في الفيلم. انه نوع من مسحوق مصنوع من أحشاء السمك وبعض الحبوب والنبات. عندما عاد كليرفيوس نرسيس إلى هايتي في العام ١٩٨٠، شدّ هذا الموضوع كثيراً اهتمام الأميركيين والكنديين، فأرسلوا أنثروبولوجيين وأطباء إلى هايتي لاكشتاف سر هذا المسحوق. الآن، بتنا نعلم سرّه. هم اهتمّوا بالموضوع ربما لأسباب غير مناسبة، أرادوه سلاحاً في يدهم، كانوا يقولون ان هذا يتيح لهم ارسال ناس إلى المريخ وأموراًكهذه. وفي العام ١٩٨٠، كتاب ضخم صدر عن كليرفيوس نرسيس.

* هل شاهدتَ الفيلم الذي اقتبسه المخرج الأميركي وَس كرافن عن حكاية نرسيس؟

- أجل. انه فيلم "ب"، يركّز جداً على المسحوق. يحكي عن طبيب أميركي يأتي إلى هايتي لاكتشاف سر المسحوق والعودة به إلى أميركا.

* فيلم الجانر ليس الأكثر رواجاً في السينما الفرنسية. هل كان صعباً تمويل "طفل زومبي"؟

- لطالما كان لدينا أفلام جانر في فرنسا. لكن بعضها محض ترفيهي، مشغول من وجهة نظر ساخرة وسينيكية. الأفلام التي تعجبني تضع مخاوف المخرج في الواجهة. لم يكن انتاج هذا الفيلم صعباً لأنه غير مكلف. صوّرته بسرعة في أربعة أسابيع ولم تتجاوز تكلفته مليوناًونصف مليون أورو.

* هل المؤسسة التعليمية التي تصوّرها هي كذلك في الحقيقة؟

- صوّرتها كما هي في الحقيقة. لم أخترع شيئاً. هذا كله يحصل في العام ٢٠١٩، في سان دوني. في لحظة من اللحظات، وددتُ اظهار الـ"ستاد دو فرانس" كي ننتبه اننا في الضواحي الباريسية. لم أكن أعرف هذه المؤسسة من قبل، لكنها تركت انطباعاً كبيراً فيّ.

* هل اكتشاف المؤسسة فرض عليك إنجاز هذا الفيلم؟

- لا. أساس الفيلم هو هايتي. بحثتُ عن وجهة نظر فرنسية للحديث عنها. لم أصل إلى هايتي لأقول "أريد ان أنجز فيلماً عن الزومبي". كان ينبغي وجود وجهة نظر فرنسية. لذلك اخترعتُ شخصية الفتاة التي مات والداها. ثم كان يبقى البحث عن مؤسسة تعليمية للبنات، فوجدتها عبر الانترنت. فاكتشفتُ ان نابوليون هو الذي أسسها، والعلاقة بين نابوليون وهايتي وارتباطها بالعبودية كانت موضوعاً جد مهم. فجأةً، وجدتُ انسجاماً بين العناصر كافة. اعتبرتُ انه من البديهي ان أصور الفيلم في هذه المؤسسة.

* لفتني خطاب الاستاذ الجامعي باتريك بوشرون ورؤيته للتاريخ الاستعماري خلال محاضرته.

- في بنية سينمائية حرة كهذه، سمحتُ لنفسي بأن أطلق العنان لخيالي. فطلبتُ إلى مؤرخ كبير يدرّس في الكوليج دو فرانس ان يأتي ويمنحنا درساً. أعطيته التيمة (الليبيرالية في القرن التاسع عشر) ثم تركته يذهب بعيداً. لم أكن أتوقع قط ان ينسجم خطابه مع الفيلم. ولكن تحدّث عن كيفية سرد حكاية وغيرها. اضاءته كانت مدهشة. في النهاية، هذا درسه، فتركته يقول ما يريده.

* أجدك تهوى التنوع. لا تنجز الفيلم نفسه مرتين

- هناك ناس يقولون لي العكس، أي انني أنجز دائماً الفيلم نفسه (ضحك). كسينمائي، أحاول دوماً البحث عن أرض ما. عندما أقول "أرض"، أقصد المعنى العريض. ثم، لاحقاً، الهواجس نفسها تتكرر. في أي حال، لستُ الشخص المناسب للحديث عن هذا.

* كيف تعمل على خلق هذين الايقاع والتوتر خلال المونتاج؟ ثم هذا الانتظار الذي يرتفع فينا قبل الانفجار؟

- الفضل الأكبر للسيناريو. أعمل بطريقة كلاسيكية: الفصل الأول ثم الثاني فالثالث. في الأول، أقدّم الشخصيات. في الفصل الثاني، نعرف الشخصيات بعضها على بعض ونطرح الاشكالية، ثم تأتي الخاتمة مع الفصل الثالث. قد يبدو الأمر معقّداً، لكنه سهل إلى درجة عالية. يجب القول ان الفيلم مشغول بطريقة جدّ حرفية، لا يوجد أي مؤثر بصري، ما عدا خدعة لحذف الصحون اللاقطة، لأن جزءاً من القصّة يجري في العام ١٩٦٠. لم أفعل هذا لأسباب إيديولوجية، جاء من تلقاء نفسه. في المقابل، أعتقد ان التوتر يتأتى من المونتاج أكثر منه من التصوير.

* هل الأفلام التي أنجزتها إلى الآن مبادرات شخصية أمطلباً؟

- كلها مبادرات شخصية ما عدا "سان لوران" الذي طُلب مني إنجازه.

* هل تحبّ عرض أفلامك في كانّ؟

- العرض في كانّ على درجة عالية من الصعوبة، على رغم انه مشوّق. لا أعرف اذا كانت كلمة "حبّ" هي الأنسب. هناك دائماً بعض الخوف. نخشى الآراء النقدية وطبيعة الاستقبال. الأشياء تتفاقم بسرعة هنا، وخصوصاً اذا لم يكن الاستقبال جيداً.

* فيلمك "سان لوران" كان في المسابقة، و"طفلة زومبي" في "اسبوعا المخرجين". الا يعنيك في أي يقسم يضع فيه المهرجان فيلمك؟

- أولاً، لا يحق لي الاختيار. أعتقد ان قسماً مثل "اسبوعا المخرجين"جيد جداً. الفيلم مُحمي بشكل جيد. المسابقة أصعب!

* معروف أنك صعبٌ خلال التصوير!

- اطلاقاً. مَن قال لك هذا؟ بالعكس. بلاتوهاتي دائماً جد هادئة وسلسة. نضحك كثيراً. صحيح أني أقسو على نفسي، ولكن في هذا الفيلم لم أحتج إلى ذلك، لأن كلّ شيء كان على ما يرام.

 

النهار اللبنانية في

14.06.2019

 
 
 
 
 
 
 

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك © 2004