كتبوا في السينما

 

 
 
 
 
 

ملفات خاصة

 
 
 

كانّ ٧٢ - "الحياة اللامرئية لأوريديسي غوزماو" الفائز بجائزة "نظرة ما":

سرد ميلودرامي لمعاناة وظلم

هوفيك حبشيان - المصدر: " النهار"

كان السينمائي الدولي

الدورة الثانية والسبعون

   
 
 
 
 
 
 

في برازيل الخمسينات، يتم فصل اخت شابة عن اختها الشابة. إحداهما (غيدا - جوليا ستوكلر) لطالما حلمت بالحبّ والتحرر من قيود العائلة الضاغطة، في حين ان الثانية (أوريديسي - كارول دوارتيه) لا تطمح إلى شيء سوى العزف على البيانو. فالأب، وهو رجل محافظ معدوم الضمير، يطرد غيدا من المنزل بعد عودتها حاملاً من شاب عاشت معه علاقة فاشلة. ثم لا يخبر أوريديسي بأنها عادت. أما الأم فلا كلمة لها في كلّ ما يحدث، ولا وجود حتى. هي تعيش في ظلّ "رجل البيت". تتطور الحكاية عبر السنوات بشيء من الميلانكوليا. نتابع معاناة كلٍّ من الشقيقتين على حدة. الواحدة تختلف عن الأخرى طموحاً ومصيراً. هل ستلتقي طريقهما؟

هذا ما ندعكم تكتشفونه في "الحياة اللامرئية لأوريديسي غوسماو" للمخرج البرازيلي من أصل جزائري كريم عينوز الذي فاز بجائزة "نظرة ما" في الدورة الأخيرة من مهرجان كانّ السينمائي (١٤ - ٢٥ أيار).

الفيلم مقتبس من رواية لمارتا باتالا صدرت عام ٢٠١٥. رواية تستعير العديد من التيمات الرائجة حالياً، منها السلطة الأبوية والعنف تجاه النساء والفئات الأكثر هشاشة في المجتمع. رغم ان الأحداث تجري في منتصف الخمسينات، فبعض المواضيع المطروحة تفاجئ المرء لكونها لا تزال مجال أخذ ورد. صداها لا يزال ماثلاً في حاضرنا بأشكال مختلفة.

كلّ واحدة من الشقيقتين ستعاني على طريقتها. كلّ واحدة ستتعامل مع الذكورية وتحاول ان تلملم بقايا الأحلام المسلوبة ضمن حدود امكاناتها. لكن طريق الحرية محفوفة بالذل والمهانات والاقصاء والعنف لكلتيهما. المتفرج سيكون شاهداً على هذا كله من خلال سلسلة رسائل تتبادلها الشقيقتان.

هل السعادة ممكنة من دون الأهل ورضاهم؟ هذا واحد من الأسئلة التي قد يطرحها الواحد منّا وهو يُشاهد الفيلم.

من خلال اسناد دور الجلاد إلى الأب منذ بداية الفيلم، يضع المخرج نفسه في المأزق ولا يسهّل الأمور لا على الشقيقتين ولا الأم اللواتي يعانين من بطشه وسلطته، ولا على المُشاهد المضطر ان يكون إلى جانبهن من دون ان يعرف أي شيء عن شخصية الأب. عدم افساح المجال لنا كي نتعرف إلى الأب وتفكيره كي نرفضه من تلقاء أنفسنا، خلل عميق في الفيلم وتقصير من جانب المخرج. فالمشكلة كامنة في سلوكه وعقليته لا في العائلة التي تدفع الثمن. لا يكترث عينوز بالسبب، ذاهباً إلى النتيجة بخطى واثقة. كان يُمكن صرف النظر عن هذا لو انه قدّم لنا فيلماً قصيراً، ولكن ما يأتينا هنا هو فيلم من ١٤٠ دقيقة، يدور معظمها في حلقة مفرغة.

يقدّم عينوز فيلماً مكتملاً على صعيد المعالجة البصرية: صورة حسيّة عريضة دافئة ذات ألوان صارخة تعبّر عن مأزق الشخصيات وحالتها النفسية وتأتي بمقدار من الحميمية، ولكن لا تنفك تتحول عبئاً على الفيلم من شدة حضورها، في غياب أي هم آخر سوى السرد التسلسلي لبلوغ الخاتمة. أما الميلودراما، فهي النوع الذي وجد فيه الفيلم ضالته لسرد حكاية انقسام عائلي ومحنة، حكاية تبقى دائماً على حافة الأشياء، من دون ان تقحمنا في حالات هستيرية أو تأخذ مواقف حاسمة أو تضع الشخصيات أمام معضلات كبيرة. حتى الصراع بالمعنى التقليدي للكلمة غائب ما إن تتوضح طبيعة المشكلة.

عينوز صادق في طرحه. لكنه لا يمسك بخيوط الموضوع كاملة. هذا بالاضافة إلى ان الكثير من التفاصيل لا يمكن تصديقها، منها مثلاً ان الشقيقتين تعيش كلّ منهما على بُعد مسافة قليلة عن الأخرى، ومع ذلك لا تلتقيان. في المقابل، يبرع في خلق وحدة مسار ومصير بين الفتاتين بالرغم من المسافات التي تبعدهما، وبالرغم من ان واحدة منهما عاشت وهي تبحث عن الحرية والأخرى اذعنت إلى حدّ ما للأعراف الاجتماعية. يقول الفيلم ان الكلّ، سواء تمردوا أو خضعوا، فمصير واحد في انتظارهم.

أخيراً، يصوّر عينوز مَشاهد الجماع كتعذيب. يدور معظمها في أماكن حقيرة، كالحمّام أو تحت السلّم. هذه المَشاهد تأتي كآخر مسمار يُدَقّ في نعش حياة الاقصاء التي ستعيشها كلّ واحدة من الشقيقتين. الجنس هنا يحمل في داخله المتعة والخطيئة في آنٍ واحد، بالرغم من ان أي حكي عن الدين غائب تقريباً عن الفيلم. من سلسلة تناقضات وتلميحات وتحديات، يولد فيلم ينطوي على الكثير من الصعود والهبوط، يقنع أحياناً ويخيب في أحايين أخرى، ولكن في المجمل يُشاهَد كعمل “ترفيهي” لا يترك أثراً كبيراً في النفوس بعد خروجنا من الصالة.

 

النهار اللبنانية في

06.06.2019

 
 
 
 
 

كرسي الفرنسية آنيس فاردا الفارغ في مهرجان «كان»

آية الأتاسي

اختار مهرجان كان السينمائي لهذا العام المخرجة الفرنسية آنيس فاردا لتكون على الملصق الدعائي الخاص به، في تحية لمسيرتها السينمائية الطويلة، التي استمرت حتى وفاتها في مارس/آذار الماضي، عن عمر يناهز التسعين.

الحقيقة أن صورة الملصق الدعائي في حد ذاتها هي شغف حقيقي بالصورة، حيث تبدو فيها المخرجة وهي تقف على ظهر أحد مساعديها، لتصوير لقطة من فيلمها الأول «لابوانت كور»، الذي اعتبر حينها جديداً ومختلفاً، وصنفت مخرجته ضمن رواد «الموجة الجديدة»، على الرغم من أن الفيلم كان قد سبق تلك الموجة بسنوات، وعندما أنجزته فاردا في عام 1955 لم تكن قد شاهدت الكثير من الأفلام السينمائية، ولكنها كانت قد قرات الكثير من الأدب العالمي، وسحرتها العوالم المتداخلة للروائي الأمريكي فوكنر. ولأن الصورة كانت شغفها الأول والصورة توأم الكلمة، انتهى المطاف بفاردا إلى دراسة التصوير الفوتوغرافي وتاريخ الفن، وهكذا عندما أتت إلى الفن السابع، حيث الصورة المتحركة والناطقة، كان لديها زاد ثقافي وبصري كبير لإحداث ثورة في سينما لم تكن تعرف قواعدها، فسهل عليها تكسيرها. واختارت منذ البداية أبطالاً يعيشون على هامش المجتمع، كما في فيلمها «بلا سقف ولا قانون»، الذي يروي قصة شابة متمردة اختارت الحرية والتشرد على حياة الوظيفة المملة والآمنة، إلى أن يقودها هذا إلى حتفها.

أما فيلمها الوثائقي «جامعي النفايات»، فهو عن الأشخاص الذين يعيشون على ما يرميه المزارعون والبائعون من مزروعات لا تتناسب ومعايير السوق الاستهلاكية.

وبسبب انحياز أفلامها إلى المهمشين، صنفت سينماها ضمن مجموعة «ضفة اليسار»، ولكنها كانت تسخر من التسمية قائلة: « كل ما في الأمر أننا كنا نعيش على الضفة اليسرى لنهر السين». والحق يقال فإن روح الدعابة والخروج عن المألوف، صفتان رافقتا فاردا دوماً. فعندما تسلمت جائزة الأوسكار الشرفية عن كامل أعمالها، رقصت فرحة وهي في الثامنة والثمانين وقالت: «أمام ثقل هوليوود، شعرت بخفة ورقصت كطائر حر». كذلك قامت مبكراً بتغيير اسمها الأصلي آرليت لأنه لم يعد يروقها، وبالمقابل احتفظت بتسريحتها الخاصة طوال حياتها، حتى عندما غزا الشيب رأسها، أبقته في الجذور ولم تدعه يصل إلى أطراف الشعر، التي لونتها بالأحمر، وكأنها تقول للزمن مهلاً، ما زلت قادرة على اللعب معك، وما زلت معلقة بين لونين وزمنين. وعلى نحو ما بدأت فاردا مبكراً اللعب مع الزمن، حين جعلته سنة 1962 بطلاً في فيلمها الروائي «غليو من 5 إلى 7»، الذي تدور أحداثه حول مطربة شابة تنتظر نتيجة الفحص الطبي لمرض السرطان، حيث ترافق الكاميرا المطربة خلال ساعتين من الزمن الحقيقي عبر باريس، التي تراها البطلة وكأنها المرة الأولى أو الأخيرة. ومع أن فاردا كانت دائماً من مناصري المرأة، ووقعت في الماضي على عريضة الحق في الإجهاض، إلا أنها كانت ترفض بشدة تصنيف سينماها كسينما نسوية، وكانت ترى أنها منحازة للإنسان بالدرجة الأولى، وأفلامها إنما تصنعها بحساسية امرأة، حتى أنها بعد فيلم «السعادة» الذي أنجزته في عام 1965، تعرضت للهجوم من النسويات واتهمت بتبرير خيانة الرجل، وقد دافعت فاردا حينها عن فيلمها وأنه لا يبرر الخيانة بل يحاول فهم الأسباب التي تدفع رجلاً يعيش زواجاً سعيداً إلى الوقوع في حب امرأة أخرى. ومن هنا جاء عنوان الفيلم، لأنه يبحث في معنى السعادة التي كانت تعيشها العائلة الصغيرة، التي ظهرت في الفيلم من خلال الألوان الانطباعية ومشاهد النزهات العائلية في حقول عباد الشمس، ليتضح في النهاية أنها سعادة زائفة، ففي داخلها دودة الرغبة، التي كانت تنخر فيها ببطء.

وبسبب انحياز أفلامها إلى المهمشين، صنفت سينماها ضمن مجموعة «ضفة اليسار»، ولكنها كانت تسخر من التسمية قائلة: « كل ما في الأمر أننا كنا نعيش على الضفة اليسرى لنهر السين».

في موازاة ذلك وعلى المستوى الشخصي عاشت آنيس علاقة زواج طويلة مع المخرج جاك دومي، تشاركا فيها كل شيء حتى الولع بالسينما، ولم يفرقهما إلا موت جاك، الذي نعته فاردا سينمائياً وأهدته ثلاثة من أفلامها، أجملها كان «جاك من نانت»، وفيه اقتربت من جاك وهو على فراش المرض وقلبت ذاكرته، ولامست في لقطات كلوز آب شعره وعينيه وبقع جلده، وكأنها تلامس تضاريس جسده سينمائياً لآخر مرة. مات جاك بعد 10 أيام من انتهاء التصوير. مات ولكنه ظل حياً.

شواطئ آنيس

«أتخيل أن دواخل البشر هي تضاريس طبيعية، أنا في داخلي شواطئ وشواطئ وشواطئ…»، هكذا وصفت فاردا نفسها، وهكذا عنونت فيلمها «شواطئ آنيس»، الذي يحكي سيرة حياتها من خلال الأمكنة المختلفة التي عاشت فيها، والأشخاص الذين عبروا حياتها. وكما يضع الفنان التشكيلي المرآة أمامه عندما يرسم بورتريه شخصي، كذلك وقفت فاردا في أحد مشاهد الفيلم في مواجهة المرآة، ثم أدارتها ليظهر التقنيون والمساعدون من حولها، وكأنها تقول لا أكون إلا بهم. وفي مشهد آخر ظهرت وهي تسير إلى الوراء في مواجهة الكاميرا، في تجسيد فريد «للفلاش باك «، أو العودة بالذاكرة إلى الوراء. وربما يكون التعريف الأجمل لرؤية فاردا السينمائية، في الجملة التي قالتها داخل الفيلم: «أن تحب السينما يعني أن تحب جاك دومي، العائلة، الفن، الرسم، والبازل»، وربما يكمن السر في سينماها في قطع البازل التي يختلط فيها الواقع بالخيال، الملون بالأسود والأبيض، الشخصي بالعام، الفن بالشعر، الصورة المتحركة بالثابتة، الوثائقي بالروائي.

بين الوثائقي والروائي قلب معلق

لا حدود بين الوثائقي والروائي عند فاردا، ففي أفلامها الروائية الكثير من الواقع، ولطالما لجأت إلى ممثلين يؤدون على الشاشة أدوارهم في الحياة. فالعامل المهاجر في فيلم «بلا سقف ولا قانون»، هو مزارع تونسي أدى دوره في الفيلم، وكذلك فعل عامل الكراج، أما الزوجة في فيلم «السعادة» فهي زوجة الممثل الحقيقية، وأولاده الذين يظهرون في الفيلم هم أولاده البيولوجيون، بالإضافة لهذا فإن المخرجة نفسها ظهرت في الكثير من أفلامها الوثائقية، لتكون قريبة من المشاهد قدر المستطاع، ثم لتعود مجدداً إلى وراء الكاميرا، فالشاشة في أفلامها هي للآخرين كي يتحدثوا، حيث لكل شخص قصة تستحق أن تروى. ومع ذلك ابتعدت دائماً عن الأسلوب التقريري الجاف في أعمالها، ولم يخل أي فيلم وثائقي لها من الابتكار واللمسات الفنية، فتلك الفنانة المتعددة الوجوه، تتنقل بحرفية بين التصوير الفوتوغرافي والسينمائي، وبين فن التجهيز وكتابة السيناريو. وفي لحظة ما قد يتحول الوثائقي لديها إلى روائي، والانسان العادي إلى شخصية روائية، فلدى فاردا كل شخص هو مشروع نجم، وكل اسم يستحق أن يكتب على الشاشة، حتى أسماء 646 متبرع ظهروا في شارة نهاية فيلم «وجوه وأمكنة»، بل قد تستدعي الحميمية أن تكتب الشارة بخط اليد، وليس غريباً أن ينتهي الفيلم بكلمة «ستارة»، عوضاً عن «نهاية»، فالسينما كما الحياة خشبة مسرح لابد أن تسدل عليها الستارة في النهاية.

كل ما يدور فيها من مشاهد ولقطات وحوار ما هو إلا كولاج يحاكي الذاكرة، ويبقى ناقصاً مهما اكتمل، بل قد تكون القطعة الضائعة هي الأجمل ومن دونها لا يكتمل المعنى.

وجوه وأمكنة الأبطال المنسيين

«لحظة التقاط الصورة هي لحظة ملتبسة، ففي اللحظة التي يتم الضغط فيها على الزناد، ليست عين المصور التي ترى بل عين الكاميرا». هذا ما قالته المصورة فاردا، التي سعت طوال حياتها إلى نقل الواقع، والتقاط الوجوه والأمكنة والقصص المخبئة خلفه. وفي فيلمها «وجوه وأمكنة»، الذي أنجزته عام 2017 مع المصور الشاب ج آر، ذهبت إلى الناس وحكايتهم على متن كاميرا، حيث ركبت مع المصور الشاب في شاحنته السحرية، التي داخلها هو استديو تصوير متكامل، وهكذا تلتقط «الشاحنة الكاميرا» صوراً عملاقة للوجوه والأمكنة التي تعبرها بمحض الصدفة أو بمساعدتها، كما كان يحلو لفاردا أن تقول: «مساعدي الإخراج الأول هو الصدفة».

ويتم في ما بعد إلصاق الصورة العملاقة للناس على الواجهات العامة، كما تلصق عادة صور النجوم والمشهورين في عالم السياسة والفن، ولكن ليست ضخامة الصورة ما يعطي الإنسان القيمة في الفيلم، بل المساحة التي تمنح له على الشاشة ليتحدث ويروي، ويخبر قصته. وهكذا تتجمع قصص مختلفة عن عمال مصانع، مزارعين، مربي ماعز، عمال رصيف المرفأ وزوجاتهم.. ويتحول الفيلم إلى بورتريه عن فرنسا وناسها المهمشين، وأيضاً بورتريه عن المخرجين والصداقة التي بدأت تنشأ بينهما. من جهة فاردا بعينيها المتعبتين، ومن جهة أخرى ج آر الذي يخفي عينيه وراء نظارته السوداء. وفي مشهد من الفيلم تقول فاردا لصديقها الشاب «أنا أرى بضبابية وأنت ترى في العتمة، ولكننا نرى الناس بقــــلوبنا». قلب لابد أن يقود إلى «البطاطا على شكل قلــــب»، التي أصبحت مرتبــــطة بفاردا، منذ اكتشافها لها في فيلم «جامعي النفايات»، حـــيث التقطتـــــها أو أنقذتها، وبدأت تراقبــها وهي تكبر أو تشيخ…

شيخوخة البطاطا هناك تقود إلى شيخوخة فاردا هنا، وهكذا ضمن سيرورة الفيلم يلتقط المصور ج. آر صوراً لأجزاء من جسد آنيس كعينيها، وقدميها ويلصقها على قطار بضائع مسافر، على أمل أن تصل الصورة إلى أمكنة، يتعذر على المصورة المسنة الوصول إليها. إلى أن ينتهي الفيلم عند منزل المخرج غودا، الذي سيغلق بابه، بعد أن يترك ملاحظة ورقية: «لست هنا، أنا في المكان الذي اعتدنا اللقاء به مع جاك دومي»، بمعنى دعي الذكريات هناك حيث هي، ولا تحاولي إيقاظها. ولكن هل السينما شيء آخر سوى الحلم والذاكرة؟ وكل ما يدور فيها من مشاهد ولقطات وحوار ما هو إلا كولاج يحاكي الذاكرة، ويبقى ناقصاً مهما اكتمل، بل قد تكون القطعة الضائعة هي الأجمل ومن دونها لا يكتمل المعنى. وربما يكون كرسي فاردا الفارغ في مهرجان كان لهذا العام، هو قطعة السينما الفرنسية الضائعة.

٭ كاتبة سورية

 

القدس العربي اللندنية في

06.06.2019

 
 
 
 
 

إيليا سليمان الفلسطيني التائه يواصل البحث عن هويته

أمير العمري

إيليا سليمان يريد من خلال فيلمه أن يعكس صورة قاتمة لعالم اليوم الذي يرى أنه لم يعد يختلف كثيرا عن واقع فلسطين المحتلة.

كان فيلم “لا بد أن تكون الجنة” للمخرج الفلسطيني إيليا سليمان الفيلم الكوميدي الوحيد في مسابقة مهرجان كان، ربما مع الفيلم الكوري الفائز بالسعفة الذهبية الذي يبدأ بالكوميديا وينتهي بالتراجيديا، وقد حصل الفيلم الفلسطيني -وهو من الإنتاج الفرنسي الكندي المشترك- على تنويه خاص من لجنة التحكيم.

  كان إيليا سليمان دائما مهتما في أفلامه بموضوع البحث عن الهوية الفلسطينية، ومنذ فيلمه الروائي الطويل الأول “سجل اختفاء” (1996) وهو مهموم بالتعبير الذاتي عن الاغتراب، لذلك كان من الطبيعي أن تنحو أفلامه نحو العبث مضمونا والسريالية أسلوبا.

وفي عام 1994 عاد إيليا سليمان (مواليد 1962) من نيويورك حيث قضى 12 عاما إلى فلسطين، أقام أولا في القدس ثم انتقل إلى الناصرة وهي البلدة التي ولد ونشأ فيها. وفي “سجل اختفاء” كان يصوّر بحث الفلسطيني القادم من الشتات عن هويته في وطنه دون أن يعثر عليها أبدا، وكان يظهر بنفسه في فيلمه، يريد أن يتعرف على وطنه، وأن يلتقي أهله وأصدقاءه، يتحاور معهم ويعرف كيف يعيشون ويفكرون، لكنه سرعان ما يجد نفسه عاجزا عن الاندماج في الواقع، غريبا يتأمله من على مسافة ذهنية، يرصد تناقضاته دون أن يفهمها.

هذا المدخل أجده أساسيا لفهم تجربة إيليا سليمان في فيلمه الجديد “لا بد أن تكون الجنة” It Must Be Heaven الذي يعتبر امتدادا لتجربته في “سجل اختفاء”، ولكن بينما كان “سجل اختفاء” يدور في الداخل الفلسطيني من وجهة نظر الفلسطيني العائد “من الشتات”، يعبر سليمان في معظم أجزاء فيلمه الجديد إلى الجانب الآخر، أي إلى “الشتات” مجددا، في محاولة للإفلات من الواقع العبثي الذي يستعصي عليه فهم ألغازه، ولكن هل سيتمكن من سبر أغوار الجانب الآخر من العالم؟

ويتكون الفيلم شأن أفلام مخرجه السابقة، من مشاهد منفصلة أقرب ما تكون إلى “الاسكتشات” التي تعبر عن رؤية تميل لمداعبة المتفرج، تعكس عبثية الواقع، وتنتج الكوميديا هنا من خلال الصدام بين الحقيقي والمتخيل المبالغ فيه، لكن الفيلم أقل كثيرا من أفلام مخرجه السابقة خاصة فيلمه السابق مباشرة “الزمن الباقي” الذي بلغ فيه قمة النضج والقدرة على تجسيد الخيال.

إنه لا يزال يحتفظ بعالمه وبقدرته المدهشة على الابتكار: في تصميم المشهد وتحقيق الدهشة وكذلك في سخريته اللاذعة ومبالغاته التي تجعله فريدا في أسلوبه باعتباره الوريث العربي الوحيد لتراث جاك تاتي الفرنسي، مع الاحتفاظ بمذاقه الفلسطيني الخاص ذي الثقافة المسيحية العربية، ولمسات تشي بتأثره بالعيش في الغرب، ورغبته في التحقق من خلال السينما وما يواجه في سبيل ذلك من عقبات تزيده شعورا بالاغتراب.

لقد قضى سليمان عشر سنوات يبحث عن وسيلة لإنتاج فيلمه الجديد، لكنه لا يخطو خطوة جديدة نحو بناء أكثر تركيبا في فيلمه الجديد، وهو يعبر عن شعوره بالإحباط في أحد مشاهد “لا بد أن تكون الجنة” عندما يذهب إلى شركة إنتاج باريسية كان قد أرسل إليها سيناريو فيلم، فيقابله مدير الشركة ويخبره في مونولوج طويل تقريري، أن فيلمه لا يتفق مع ما تراه الشركة في فيلم “فلسطيني”، أي أنه بعيد عن الفيلم الفلسطيني التقليدي.

غير أن إيليا سليمان نجح في الحصول على تمويل لفيلمه هذا من فرنسا ومن كندا وألمانيا وغيرها، وهو يبدأ الفيلم في الناصرة حيث يقيم، غريبا، يتطلع إلى الخارج من شرفة منزله، وحيدا عاجزا عن فهم ما يجري حوله: لص يتردد يوميا على حديقة المنزل يسرق ثمار الليمون ثم ينصرف كما لو كان قد أصبح مالكا للحديقة، يروي أشجارها ويلوّح بيده لصاحبها العاجز في مكانه في الشرفة.

الاحتجاج الساخر

أما المشهد الأول، فهو يعبر عن موقف إيليا سليمان الاحتجاجي الرافض للكنيسة: يبدأ المشهد بمجموعة من المسيحيين يحتفلون داخل كنيسة يرتلون بالعربية الفصحى تراتيل دينية تحتفي بالمسيح “هذا هو اليوم الذي صنعه الرب.. فلنفرح ونتهلل به”.

يقود المنشدين قس يهبط بهم في ممر إلى حيث يوجد باب حديدي موصد، يطلب أن يفتح الباب بأمر الرب وبركته، لكن الباب لا يُفتح، بل يرد عليه من وراءه رجل يبدو أنه ذلك المسؤول الخفي المكلف بفتح الباب استجابة لمشيئة الرب، يقول له إنه لن يفتح الباب ويسخر من القس ويطالبه بالانصراف، الرجل على ما يبدو، سئم اللعبة.

الفيلم يتكون من مشاهد منفصلة أقرب ما تكون إلى "الاسكتشات" التي تعبر عن رؤية تميل للمداعبة، تعكس عبثية الواقع

وربما يكون يفضفض عن مشاعره الحقيقية تحت تأثير الخمر، يتجه القس إلى الجهة الأخرى ويقتحم الغرفة الخلفية ويشبع الرجل الغامض ضربا، لكننا لا نرى بل نسمع فقط صوت استغاثة الرجل!

يراقب بطلنا رجلا مخمورا، يعيث فسادا، تحضر الشرطة، يراقب شرطيان بمنظار ثم يرحلان، يشاهد رجلا يتبوّل على جدار منزله ويردد كلاما لا معنى له، وعندما يقود سيارته يلمح سيارة تمر بجواره في داخلها شرطيان وفي المقعد الخلفي فتاة معصوبة العينين، يتبادل الشرطيان ارتداء نظارات سوداء متطابقة دون هدف.

تحت وطأة الشعور بالعبث، يحزم إيليا أمره ويقرر مغادرة البلاد، يبيع أثاث منزله، ويركب الطائرة، ولكنه يصبح الوحيد الذي يشعر بالوجوم والقلق كلما ارتجف جسد الطائرة في الجو.

يصل إلى باريس.. هناك يجلس يتأمل في دهشة الفتيات وهنّ يسرن كعارضات أزياء بتنوراتهنّ القصيرة، ثلاثة من رجال الشرطة يمارسون التزحلق على أرضية الشارع، وفي مشهد عبثي تماما يجلس رجل مشرّد بجوار جدار كنيسة، تحضر سيارة إسعاف، تهبط منها مسعفة تسأله هل هو جائع؟ وهل يرغب في تناول وجبة من الدجاج أم اللحم؟ تقدّم له قائمة الطعام ليختار منها، ثم تقدّم له ما طلبه وتتمنى له شهية طيبة وترحل كما جاءت.

تحلق طائرات حربية فوق باريس شبه الخالية من السكان، تعبر صفوف من الدبابات الضخمة أمام مصرف فرنسا، نوتردام (قبل الحريق) متألقة كما كانت أبدا، داخل محطة مترو تتبع مجموعة من الشرطة سيدة تحمل حقيبة، كلما سارت في اتجاه ما يسيرون وراءها، وعندما تغير اتجاهها يغيرون اتجاههم ليسيروا خلفها.

هناك شاب يقف على رصيف إحدى محطات المترو، يغطي ذراعيه الوشم.. يتبع إيليا سليمان بعد أن يركب المترو يتأمل سحنته.. يتحسب له صاحبنا ويتفادى التطلع إليه.. ينتهي المشهد الطويل فجأة نهاية غير واضحة، يرتدي إيليا سليمان دائما قبعة ونظارات سميكة ويبدو الشيب وقد غطى شعره.

مواقف طريفة

هناك الكثير من المواقف الطريفة في حد ذاتها، ولكن ما هي الحصيلة؟ لا شيء يذكرنا بفلسطين وبقضية هذا الرجل، ولا وجود للجانب الآخر، أي لإسرائيل في الفيلم سواء في الداخل أو في الخارج، على نحو ما كان واضحا وبقوة في الفيلمين السابقين لإيليا سليمان.

هنا يمكن أن تحدث هذه المشاهد في أي مكان ومن خلال عيني أي شخص، ولكن إيليا سليمان يربطها على استحياء شديد وبشكل ضعيف ودون إقناع بموضوع فلسطين، فأي إشِارة إلى فلسطين تبدو مقحمة منفصلة عن عبثية المشاهد واللقطات.

هناك على سبيل المثال طرافة لا شك فيها في المشهد الذي يجلس فيه إيليا يحاول أن يكتب سيناريو فيلمه في غرفته الباريسية، تحط عصفورة صغيرة على سطح المكتب، تقفز على “الكيبورد” وتعوقه عن الاستمرار في الكتابة. وكلما أزاحها بعيدا تعود لتقفز وتقف أمامه، يتكرّر هذا مرات عدة إلى أن يمسكها ويلقي بها من النافذة برفق لتطير في الخارج، مشهد جميل ومنفذ جيدا وبارع في الخيال.. ما المقصود من مشهد كهذا؟

في “الزمن الباقي” مثلا كانت هناك صلة عضوية بين الصور واشتباك حقيقي مع الواقع، ومع امتداد الزمن كان الفلسطيني (إيليا سليمان نفسه) يتحوّل إلى معتقل في بيته: يكتفي بالتطلع إلى الألعاب النارية بمناسبة حلول العام الجديد، بينما على الأرض يبدو كلا الطرفين منغمسين في لعبة هزلية قد تمتد إلى الأبد.

 

العرب اللندنية في

07.06.2019

 
 
 
 
 

فيلو ودورنيليس الفائزان بجائزة لجنة التحكيم في كانّ ٧٢:

وددنا ردّ الاعتبار إلى ضحايا التمييز

هوفيك حبشيان - المصدر: "النهار"

"باكوراو" عن قرية برازيلية منسية، فيلم غريب اللهجة، "لقيط"، شكلاً ومضموناً، فاز عنه البرازيليان كليبير مندونسا فيلو وشريكه في الإخراج جوليانو دورنيليس بجائزة لجنة التحكيم (مناصفةً مع "البؤساء" للادج لي) خلال الدورة الأخيرة من مهرجان كانّ السينمائي التي أقيمت الشهر الماضي.

الاحساس الأبوكاليبتي يخيّم على كلّ لقطة، منذ الافتتاحية حتى لحظة الختام. التناغم الذي يعيش فيه أهل القرية يهتز مع دخول بعض السياح إليها وانطلاق أحداث دموية. فجأةً، يكتشفسكّانها انهم لم يعودوا على الخريطة. عن المرجعيات السينمائية التي ألقت بظلالها على الفيلم والتمييز المناطقي الذي أمسى أهل شمال شرق البرازيل ضحاياه التاريخيين، أجرينا هذا اللقاء مع مخرجَي الفيلم.

جوليانو دورنيليس: كلّ شيء بدأ بحوار بيننا حصل خلال وجودنا في مهرجان سينمائي. فقررنا ان نعمل معاً على إخراج هذا الفيلم. سبق ان اشتغلنا معاً على أفلام قصيرة. لم نخطط لشيء. حصل فحسب. منذ صغري، أحببتُ كتابات كليبير. هو يصغرني بـ١١ عاماً. كنت أتابع مقالاته عن السينما بحماسة. ثم، بدأتُ أرتاد "سينما دو فونداسون"، أهم صالة في ريسيفي، حيث كان يعمل مبرمجاً. هكذا التقينا. بدأنا نتحدّث عن الأفلام. ثم دخلتُ مجال السينما، فدعاني إلى العمل معه.

كليبير مندونسا فيلو: أشتاق إلى النقد السينمائي، لكني أؤمن انه مرحلة ولّت من حياتي. أشبه بشخص أحببته تربطك فيه الآن علاقة طيبة، الا انك تعلم انها لن تعود لتصبح علاقة غرامية. أفتقد الأدرينالين. في كانّ، هذه المرة، لم أشاهد سوى ٤ أو ٥ أفلام. كنت أشاهد ٤٠ عندما أحضر إلى هنا للكتابة، علماً ان رقمي القياسي هو ٤٦ فيلماً، مع كتابة يومية.

دورنيليس: لطالما كان وحشاً (ضحك).

باكوراو

فيلو: كلمة باكوراو تعني "الحافلة الأخيرة" في اللهجة المحلية للمنطقة التي صوّرنا فيها. هذه الحافلة تغادر في الساعة الأولى بعد منتصف الليل. طبعاً، عندما كنّا في سن الشباب، أي قبل "أوبر" بسنوات كثيرة، كنّا نركض لنلحق بالباكوراو، فاذا فاتتك فستواجه مشكلة. لا حلّ سوى ان تنام عند صديق أو في المتنزه وهذا شيء غير آمن. احدى النسخ الأولى للسيناريو كانت تظهر تيريزا (نراها داخل الشاحنة في النسخة النهائية للفيلم) وهي تركض ليلاً مع حشد من الناس للحاق بالحافلة في المحطة. أحببنا هذا المشهد، لكننا اضطررنا لحذفه من السيناريو لأنه لم يعطِ معنى لبقية الفيلم. طبعاً الباكوراو هو أيضاً نوع من أنواع الطيور، يختبئ دائماً، ولا يظهر الا ليلاً. سلوكه شبيه جداً بسلوك الجماعة التي أصوّرها، اذ ان الجميع "يختفي" عندما يصل العمدة إلى القرية، ويتكرر الاختفاء عندما يصل الغرباء في نهاية الفيلم.

أعمل على "باكوراو" منذ عشر سنين. كتبته قبل "أكواريوس"، وكان من المفترض ان أنجزه قبله. لكن سيناريو "أكواريوس" كان شيئاً فريداً. كتبته في ستة أشهر. ثم صوّرته، هكذا، ببساطة! بلغت كلفته أقل من كلفة "باكوراو".

بولسونارو

دورنيليس: بالنسبة إلى الربط بين الفيلم والوضع السياسي الحالي في البرازيل في ظلّ بولسونارو، يجب التذكير بأن إنجاز فيلم يحتاج إلى وقت، فكيف يمكن ان نصوّر فيلماً عن وضع عمره بضعة أشهر؟

فيلو: أنهينا التصوير في مثل هذا الشهر (أيار) من العام الماضي. صدِّقني لم يكن انتخاب بولسونارو وارداً حتى. لا يزال الوقت مبكراً للحديث عن تداعيات انتخاب بولسونارو لأن التغييرات دخلت لتوها حيز التنفيذ. لكن يمكنني ان أعطيك مثلاً عملياً: عادةً، نحظى بموازنة معينة لإخراج الفيلم في الصالات. هذه المرة، يبدو اننا لن ننال أي دعم.

وسترن مغامرات

فيلو: كانت رغبتنا في الأساس انجاز وسترن مغامرات عن السلطة والقوة. وعندما تفكّر بالقوة، لا بد ان تتجه الأنظار إلى الولايات المتحدة. الصداقة التي تربطني بجوليانو وحبّنا المشترك للأفلام، فضلاً عن النفوذ الذي وفّره لي "أكواريوس"، هذا كله حفزني لإنجاز هذا الفيلم الذي ينتمي إلى سينما الـ"جانر". مع ذلك، أعلم انه لا يمكن تجنّب ربط برازيل الماضي ببرازيل الحاضر، بالتوتر الذي تعيش فيه وبتناقضاتها المجنونة.

لم أستطع الهروب من جون كاربنتر يوماً. هو حاضر في كلّ فيلم أنجزته. كنت محظوظاً انني التقيته هنا في كانّ ضمن نشاط "أسبوعا المخرجين" في يوم عرض فيلمنا.

دورنيليس: خلال الأشهر الثمانية التي استغرقها كتابة السيناريو، في كلّ مرة كنّا نصل إلى حائط مسدود، كنّا نتوقف عن العمل ونشاهد فيلماً. شاهدنا الكثير من الوسترن. هناك مرجعيات سينيفيلية في الفيلم تتجاوز القدرة على التقاطها.

فيلو: "كومبانييروس" لسرجيو كوربوتشي كان فيلماً مهماً لنا. أحببناه لأنه "قذر"، لا يشبه الوسترن الأميركي التقليدي. لفتنا جوّ القسوة والحقارة الذي كان ينبعث منه.

دورنيليس: توماس ميليان هو الذي يتولى دور البطولة. من الأشياء التي أحببتها وضع رجل أبيض مكان الهندي الأحمر، أي استبدال المواقع. هذا يمدّني برضا معين.

فيلو: السينما الأميركية والهوليوودية لطالما قالت لنا ان بطل السينما هو أميركي وأبيض بامتياز. هنا، تم تصوير الأميركيين كأبطال كلاسيكيين، لكن أعمالهم ليست بطولية. أياً يكن، لا أزالمتحمساً جداً لمعرفة كيف سيكون ردود الأميركيين على "باكوراو".

شمال شرق البرازيل

دورنيليس: نسينا ان نتكلّم عن الناس الذين ألهموا الفيلم الذي أعتبره ردّ اعتبار إلى هؤلاء البشر الذين يأتون من منطقتنا. فقبل بضع سنوات، كنّا في مهرجان سينمائي نشاهد فيه عدداً كبيراً من الأفلام. قدّمنا فيه فيلماً قصيراً عنوانه "كولد تروبيكس"، أنا منتجه وكليبير مخرجه ومؤلفه. شاهدنا الكثير من الوثائقيات عن الاتنيات المختلفة في البرازيل وعن البسطاء من الناس الاكزوتيكيين...

فيلو: ...كانت أفلام نيتها طيبة، لا أفلام شريرة...

دورنيليس: ...اختلفنا حول بعض نواحي تمثيل هؤلاء الناس على الشاشة. ولكن، شاهدتُ في هذا المهرجان ما أثار قلقي: شابة فقيرة جداً ظهرت في أحد الأفلام الوثائقية رأيتها تجلس على كنبة جلدية فاخرة. كنّا استلمنا مبلغاً من المال من المهرجان لشراء الطعام. المبلغ عن كلّ يوم أكل كان يكفي لشراء الطعام طوال شهر كامل. كانت هي وغيرها من الفتيات يرتدين ملابس رثّة، الأمر الذي منعهن من دخول المطاعم. أزعجنا جداً هذا الأمر. الكلّ حولهن كانت نياتهم حسنة، رغم العنف الذي يوحي به الموقف. رغبتنا في إنجاز "باكوراو" جاءت من هذا اللقاء.

فيلو: يوجد تقسيم اقليمي وثقافي واجتماعي بين شمال شرق البرازيل وجنوبها حيث ريو وساو باولو، مركز الأموال. نحن من هذا الاقليم، ما يعني انه علينا ان نواجه الكثير من الأفكار المسبقة تجاهنا. الآن، وقد حققنا هذا الفيلم، هناك صحافيان برازيليان ذكيّان ومحترمان جداً، طرحا علينا السؤال الآتي: "ما شعورك وأنتَ أنجزتَ فيلماً عن شمال شرق البرازيل؟". فكان ردّنا: "حسناً، نحن من هذا المكان". الأمر أشبه بأن تذهب إلى سينمائي مثلي وتسأله: "ما هو شعورك بأنك مخرج مثلي؟"...

دورنيليس: ...أو "لماذا أنجزتَ فيلماً عن المثليين؟" (ضحك).

فيلو: (ضحك)... وعندما قلتُ للسائل ما قلته، كان ردّه: "سحقاً، نعم، أنت محق جداً، أعتذر، أفهم وجهة نظرك". لحسن حظنا، ولاية برنمبوك التي آتي منها غنية جداً من النواحي الثقافية: موسيقى، أدب، فيلم. المشهد الثقافي فيها محل تقدير وإحترام الجميع. لكن خارج هذا المشهد، نرى الويلات! سأعطيك مثلاً: في العام ٢٠٠٠، ذهبتُ إلى ريو (قصر كوباكابانا) لاجراء مقابلة مع صنّاع فيلم التحريك "أمير مصر". كانت المقابلة مع جيفري كاتسنبرغ وجيف غولدبلوم. توجّهتُ إلى آخر الممر حيث شخصان من ساو باولو كانا في انتظاري، فقلتُ لهما: "اسمي كليبير مندونسا من الجريدة الفلانية، وأنا هنا من أجل المقابلة. جرى بيننا الحوار الآتي:

• "أهلاً بك، أنتَ تحتاج إلى مترجم، صح؟".

• "لا، أتحدّث الانكليزية".

• "آه، سكّان شمال شرق البرازيل صاروا يتحدّثون الانكليزية؟ جيد جيد…!".

• "ماذا تقصدين؟".

• "أعتذر، كانت نكتة غير موفقة. أعتذر جداً".

دورنيليس: ... ولكنها لم تكن نكتة!

فيلو: بالطبع لم تكن نكتة! فـ"باكوراو" هو عن هذا الجانب من البرازيل أيضاً. هل فهمتَ مثلاً ان سائقي الدرّاجة النارية هما برازيليان؟ اهتممتُ بهذين الكاراكتيرين لأني أفكّر كثيراً في الحرب العالمية الثانية، خصوصاً في بعض الأوكرانيين الذين تعاونوا مع النازيين وقدّموا لهم الخدمات. دورهم كان مرعباً خلال الحرب، وهذان الشخصان استوحيتهما من بعض القصص التي قرأتها في كتب التاريخ عن غزو النازيين للاتحاد السوفياتي.

خلال كتابة السيناريو، تعمّدنا عدم اعطاء معلومات كثيرة، بل الاكتفاء بتقديم تلميحات لمَا يمكن ان يحصل. أما بالنسبة إلى موضوع دعارة صغيرات السن، فلم تعد الحال كما كانت في السابق، أي في الثمانينات في ريسيفي، حيث الشواطئ الرائعة. كنّا نرى طائرات محمّلة سيّاحاً ألماناً وهولنديين يأتون الينا لمضاجعة بنات صغيرات جداً جداً. أعمارهن بين ١٢ و١٤. كان يمكن رؤيتهم على الشاطئ في وضح النهار. لا أقول ان هذا ما ألهمني، لكنها تجربة شخصية استلهمتُ منها.

أودو كير

فيلو: التقيته في بالم سبرينغز، حيث يعيش. أحدهم في المهرجان سألني اذا كنت أريد ان التقيه، فقلت "بالتأكيد". كان يلبس بزة لونها بنفسجي، فأول ما عرفني اليه الشخص، استدار وقال لي: "لم أكن يوماً عشيق فاسبيندر!" (ضحك). كانت هذه أغرب طريقة يتم تعريفي بها إلى شخص. انه رجل ظريف جداً. مشاركته في الفيلم تحرك احساسي. استمتعنا جداً ونحن نصوّر".

دورنيليس: أودو، يا له من كاراكتير! أحبّه من قلبي، لعله أفضل رجل في العالم.

 

النهار اللبنانية في

07.06.2019

 
 
 
 
 

إن المخرج أوليفر ستون يقدم من خلال فيلمه هذا، إدانة جديدة لأمريكا وجنودها، كما يقدم إدانة لكل الحروب بشكل أو بآخر. لقد قدم المخرج فيلماً متقناً في حرفيته، يعد من بين أهم أفلام الحركة والتكنيك السينمائي الأمريكي، ولكن هذا لا يجعله يتميز كثيراً عن الجيد من أفلام حرب فيتنام.

 

المصرية في

20.05.2019

 
 
 
 
 
 
 

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك © 2004