كتبوا في السينما

 

 
 
 
 
 

ملفات خاصة

 
 
 

تارانتينو يستعيد سحر السينما بخيال واقعي

أمير العمري

كان السينمائي الدولي

الدورة الثانية والسبعون

   
 
 
 
 
 
 

فيلم تارانتينو عمل خلاق ينبع من خيال جامح، يمزج الخيال بالحقيقة، والواقع بالمجاز، والتعليق الساخر بالكوميديا.

أن يشارك فيلم جديد لكوينتين تارانتينو في مهرجان كان ليس حدثا عاديا بكل تأكيد، فهذا المخرج العبقري استطاع أن يؤكد حضوره القوي في السينما الأميركية وسينما العالم، بموهبته وخياله الجامح وقدرته الفذة على بناء المشهد وإدارة الممثلين، ودفع الحركة والحياة داخل مشاهد أفلامه، بحيث يستولي على أنفاسنا، ويسلب عقولنا، ويجذبنا من عالمنا ليدخلنا في حلم جميل ممتد، يظل يعيش طويلا معنا بعد ذلك.

هذا السحر الذي يتعلق بأسلوب السرد والتصوير والحركة هو أكثر ما يميز فيلم تارانتينو الجديد “ذات مرة في هوليوود” Once Upon a Time in Hollywood، فهو يدور في أواخر الستينات من القرن الماضي، في لوس أنجلس وهوليوود، وتظهر فيه شخصيات حقيقية معروفة كثيرة مثل رومان بولانسكي وشارون تيت وستيف ماكوين، ويحاكي تفاصيل الفترة، سواء من خلال شريط الصوت: الأغاني الشائعة والإعلانات التجارية التي يبثها الراديو والتلفزيون، أو اللقطات العابرة الكثيرة التي تستعرض خلالها الكاميرا (من داخل السيارة) واجهات المتاجر وطرز السيارات وملابس النساء اللاتي يعبرن الطريق، والأهم بالطبع، واجهات دور السينما التي ترتفع فوقها ملصقات الأفلام من الستينات خاصة تلك التي لا يزال يُغرم بها ويحن إليها ويستلهم منها تارانتينو، والتي ساهمت في تكوينه البصري والسينمائي.

ورغم كل ما رُوعي من دقة في تصوير تفاصيل الفترة، باستخدام الكثير من المقاطع واللقطات المقتبسة من الأفلام والمسلسلات التلفزيونية أو المبتكرة والمصنوعة للإيحاء بأنها جزء مما كان يعرض في تلك الفترة، إلا أن فيلم تارانتينو ليس فيلما واقعيا أو يميل إلى الإيهام بالواقع، بل هو في تقديري الشخصي وطبقا لاستقبالي له، عمل خلاق ينبع من خيال جامح، يمزج الخيال بالحقيقة، والواقع بالمجاز، والتعليق الساخر بالكوميديا.

لكنه أساسا، تلاعب ماهر بالوسيط السينمائي نفسه، أي تطويع الشكل (الفورم) لكي يقول لنا تارانتينو في نهايته إنه لا يقيم وزنا لما حدث بالفعل على أرض الواقع عندما يصفعك برؤيته المتخيلة التي تعلي من شأن السينما فوق الواقع، ضاربا بتوقعاتك المسبقة عرض الحائط، لكي يؤكد لك أيضا أن ما شاهدته رغم دقة تفاصيله وصلته بالواقع كان عملا خياليا.. أي “شغل سينما”. وهذا هو أمتع ما في التجربة، أي تجربة الجلوس لأكثر من ساعتين ونصف الساعة لمشاهدة هذا العمل.

هوليوود الأسطورة والعنف

عنوان الفيلم يعتبر تحية للمخرج الإيطالي سيرجيو ليوني (صاحب “ذات مرة في أميركا”) الذي يسيطر بأفلامه على خيال تارانتينو. إلا أن الأخير يختصر أميركا في عالم هوليوود-الستينات، كمصنع كبير للأحلام، مع الكثير من الإشارات والتعليقات حول دور هوليوود في الترويج للعنف أيضا، وما إذا كانت تستحق أن ينعكس العنف عليها وعلى أبطالها الأسطوريين.

العنف مجسد من خلال الكثير من اللقطات والمقاطع التي تحاكي الأفلام ومسلسلات التلفزيون التجارية السائدة. أما إذا بحثت عن قصة محكمة الأطراف في فيلمنا هذا فربما لن تجد، فهو مؤلف من مشاهد متعددة تتراكم وتتعاقب، تجمع بينها شخصيات ثابتة بالطبع، تعيش واقعا يمرّ بفترة تحول.

أهم هذه الشخصيات الممثل “ريك دالتون” بطل أفلام الويسترن (من نوع بي موفيز B- movies) لكن هذا الممثل الذي كان معروفا خبا نجمه حاليا بعد أن تجاوز منتصف العمر، وأصبح حائرا يعيش أزمة وجودية دفعته إلى إدمان تعاطي الويسكي تحديدا، ينفجر أحيانا في نوبات من البكاء على سبيل الرثاء للذات. فالوقت هو فبراير 1969.. زمن الميني جيب والهيبيز وموسيقى “الروك آند رول” وحرب فيتنام وتمرد الشباب، وعلى مستوى هوليوود، هو وقت أفول عصر الشركات السبع الكبيرة (أو الاستديوهات) بسبب المنافسة الشرسة من جانب التلفزيون و”جيل التلفزيون”.

ريك دالتون يسعى للانتقال من أفلام الويسترن إلى أفلام الأكشن والعنف والمطاردات البوليسية. ينصحه وكيله “شولتز” (يقوم بالدور آل باتشينو في ظهور محدود مرتين أو ثلاث مرات فقط) بالذهاب إلى روما للعمل في أفلام “الويسترن الاسباغيتي” التي يخرجها سيرجيو كوروبوتشي (الذي اقتبس منه تارانتينو فيلمه “جانغو طليقا”). سيقاوم ريك في البداية مبديا نفوره من هذا النوع من الأفلام، لكن سيأتي وقت يستجيب ويغيب هناك لستة أشهر بعد ذلك يجني بعض المال ويعود بزوجة إيطالية.

الشخصية الأخرى التي تعتبر الضمير الشخصي لريك دالتون هي شخصية الدوبلير الشخصي له أو (الممثل البديل) الذي يحل محله في أداء الأدوار الخطرة، وهو “كليف بوث” (براد بيت). و”كليف” على العكس من ريك، متماسك، محدود الطموح، لا يعاني من الشرخ النفسي الذي أصاب صديقه، ولا من تضخم الذات، ولأن ريك فقد رخصة قيادته بعد أن تم سحبها منه، لا يمانع كليف من قيادة سيارة ريك دالتون ومشاركته الطعام والشراب والمبيت معه في منزله الفخم الذي يتصادف أنه يجاور منزل الممثلة شارون تيت التي انتقلت منذ أشهر فقط للعيش هناك مع زوجها المخرج رومان بولانسكي (يظهر في الفيلم مرتين فقط على نحو عابر من خلال الممثل الذي يقوم بدوره البولندي رافال زاولوتشي).

مشاهد من الفترة

ريك منبهر بجيرانه الجدد وبالأخص رومان بولانسكي (الذي ذاع صيته في هوليوود بعد “طفل روزماري”- 1968) ويعتبره كما يقول لصديقه وبديله “عبقريا”، لكنه لا يلتقي بأحد منهما. وسرعان ما يرحل بولانسكي إلى لندن للإعداد لفيلم جديد ويترك زوجته وحدها حاملا في الشهر الثامن في صحبة عدد من أصدقائها. سنرى شارون تيت تذهب ذات مساء بصحبة بولانسكي إلى ملهى “البلاي بوي” الليلي حيث ترقص وتهتز على نغمات الروك آند رول مع عدد كبير من الأصدقاء والصحبة والنجوم. وخارج المكان يقف ستيف ماكوين يدخن ويتبادل الثرثرة مع صاحبنا “ريك دالتون” حول شارون وبولانسكي وكيف أن حبيب شارون القديم ينتظر وقوع الطلاق بين الاثنين لكي يعود إليها!

في ما بعد في واحد من أجمل مشاهد الفيلم تتوجه شارون تيت (تقوم بالدور مارغوت روبي) إلى دار السينما التي تعرض فيلم “فريق الإنقاذ” الذي شاركت في بطولته مع دين مارتن، وتجلس داخل السينما، بعد أن ترتدي نظارات سوداء، تتابع في نشوة رد فعل المشاهدين وهم يتفاعلون ويضحكون على ما تتسبب فيه من مقالب.

أما “كليف” الذي يطلب منه القيام بدور الدوبلير في أحد الأفلام أمام بطل الكاراتيه العالمي بروس لي، فينتهي لتحدي بروس لي في مبارزة يطيح خلالها بكرامته ويهزمه شر هزيمة بعد أن يدفع جسده ليرتطم بسيارة زوجة المنتج ويحطم جانبا منها. وعندما يقبل كليف توصيل فتاة من تلك الفتيات اللاتي يعتبرهن صديقه ريك من ضمن صعاليك الهيبيز، يجد نفسه في المكان الذي اعتاد العمل فيه في أفلام الويسترن مع ريك، وهو المكان الحقيقي الذي كان يضم أعضاء جماعة تشارلز مانسون من الهيبيز المسؤولين عن الجريمة البشعة المعروفة.

لا يظهر تشارلز مانسون نفسه في المشهد، بل مجموعة من النساء من أتباعه، لكن كليف يصر على أن يلقي التحية على صديقه القديم مالك المنزل الذي يتردد عليه كل هؤلاء، أي صديقه “جورج” (بروس ديرن) الذي كان قد قام من قبل كثيرا بدور البديل له في السينما.. ورغم النظرات العدائية وأجواء التوتر التي يحيط بها تارانتينو هذا المشهد بحيث يجعلك تتوقع انفجار العنف في أي لحظة، يمضي كليف إلى الداخل ليجد جورج قد أصبح تقريبا شبه مقعد لا يستطيع مغادرة الفراش.

 كما فقد الإبصار، أي أنه لا يدري ماذا يدور من وراء ظهره في مسكنه الذي احتلته جماعة الهيبيز بفضل رفيقة جورج التي ترعاه، وأصبح المنزل الكبير يمتلئ بفضلات الطعام والفئران التي ترعى في المطبخ. هذا المشهد يمنحه تارانتينو كل سحر أفلام الويسترن وإيقاعه وغموضه، بحيث لا نعرف ماذا يمكن أن يحدث لكليف أمام إصراره على اقتحام المنزل المليء بالأسرار وإنكار رفيقة جورج وجوده في البداية ثم إصرارها على منعه من الدخول لكنه كأي بطل “أسطوري” قادم من عالم الويسترن يخوض معركته الأخيرة، التي لا تصبح -لحسن الحظ- الأخيرة!

لا يقدم تارانتينو فيلمه في سياق قصصي محكم بل في سياق “ما بعد الحداثة”. إنه يحتفي كثيرا بما لا يمكن تصور وقوعه على صعيد الواقع، ويمزج بين الأساليب، ويحتفي بالشعبي منها (الويسترن والأكشن والتشويق والجريمة) وينسج فيلمه مما يعرف بـ”الباستيش” pastiche أي محاكاة الكثير مما سبق أن علق في ذاكرة المشاهدين من أفلام أخرى، مع الاحتفاء الكبير بهوليوود الستينات وبسينما الماضي عموما من خلال نظرة “نوستالجية” مليئة بالحنين، وكلها عناصر أساسية في سينما ما بعد الحداثة.

وهو ينير الصورة بالكامل مع استخدام الألوان المتعددة الباهرة، ألوان الحلم أو الأفلام التي كانت تخرج من مصنع الأحلام في هوليوود في “عصر السينما”، فتارانتينو يمنح فيلمه عنوانا يذكرنا بحكايات الجدة، تأكيدا على طابعه الخيالي (رغم استناده على تفاصيل حقيقية). إنه احتفال كبير بسحر السينما، وعالم الخيال المصور، وعصر السنيما، عندما كان الذهاب إلى دار العرض المتعة الأساسية للشباب في العالم، وعندما كان مصنع الأحلام قادرا على إدهاشنا باكتشافاته في عالم النجوم. ومع ذلك يمكن القول أيضا إن الفيلم يعاني في بعض أجزائه من الترهل وفقدان الإيقاع بسبب طول المشاهد والخروج المتعمد بعيدا عن السياق، وكان يمكن أن يصبح أكثر تماسكا لو استبعد منه 5 أو 6 دقائق في المونتاج.

ليوناردو دي كابريو يصل هنا إلى قمة جديدة من قمم الأداء. إنه يتعامل مع الشخصية من الداخل بانفعالات الممثل داخل الفيلم، الذي يرتبك ويتأثر بالإفراط في الشراب ثم يتعثر في الأداء ويضطر لإعادة أداء اللقطة أكثر من مرة قبل أن يقسو على نفسه وينعزل ويقف أمام المرأة يبكي شعوره بالعجز، ثم يعود ويؤدي ويتفاعل مع فتاة صغيرة في الثامنة من عمرها تمثل دورها أمامه بحرفية عالية، ليخرج كل طاقته ويكشف عن ممثل حقيقي كبير، سواء في الفيلم من داخل الفيلم أي في دور ريك، أو في فيلمنا هذا كـ”دي كابريو”.

وأجاد براد بيت أداء دور “كليف” البديل والصديق والسائق والمساعد، أي مرآة ضمير صديقه الذي لا يستغني عنه، وسيلعب مع كلبته في المشاهد الأخيرة من الفيلم دورا كبيرا أيضا. أما مارغوت روبي فقد أتقنت أداء شخصية شارون تيت وأضفت عليها بعض الدلال والرقة والخفة ولكن في حدود الدور كما رسم لها. لكن هذا فيلم مخرج، من خيال رجل. ووجوده في الفيلم مباشر من خلال الراوي الذي يحكي بصوته من خارج الصورة، وهو ضمير تارانتينو نفسه.

زمن القتل

مع ظهور تاريخ الثامن من أغسطس 1969 على الشاشة، ذلك التاريخ الشهير الذي ارتبط بحادثة قتل شارون تيت البشعة على أيدي جماعة مانسون. يصبح التساؤل: ما الذي سيقع بالضبط وكيف سينتهي الأمر، وهل يلجأ تارانتينو إلى تكرار تصوير ما أصبح معروفا وموثقا في أفلام أخرى ظهرت عن الحادثة (خلافا لفيلم تارانتينو ظهر فيلمان هذا العام فقط في مناسبة مرور 50 عاما على الحادث)؟

سيظهر بعض أعضاء قبيلة مانسون ليلا، يتلصصون ثم يردعهم ريك ويرغمهم على الانصراف، لكنهم سيعودون مسلحين، ليس إلى منزل شارون تيت، بل أمام منزل ريك دالتون في وجود زوجته الإيطالية صديقه ورفيقه كليف الذي تصحبه دائما كلبته المخلصة. لكن ليس مسموحا لنا بكشف التفاصيل التي يسردها لنا تارانتينو من وحي خياله العبقري.. فلا بد من مشاهدة الفيلم نفسه لكي تكتمل المتعة.

يكفي القول إن تارانتينو يعبر هنا عن خياله الخاص، ولا يسجل أحداثا يرويها حسبما نتوقع، بل يستدرجنا للدخول في اللعبة التي نسج خيوطها مسبقا، ثم يقول لنا في النهاية: هذه لعبتي الشخصية.. وأنت تورطت فيها دون أن تدري. وهذا هو “سحر السينما”!

كاتب وناقد سينمائي مصري

 

العرب اللندنية في

02.06.2019

 
 
 
 
 

جوائز "محيرة" لمهرجان "كان"

بقلم: أسامة عبد الفتاح

** سارت مع التوقعات في السعفة الذهبية.. وفاجأت الجميع في "الكبرى" والإخراج والسيناريو والتمثيل النسائي.. وتجاهلت الكبار

لا يمكن وصف جوائز الدورة الثانية والسبعين من مهرجان "كان" السينمائي الدولي، والتي أُعلنت في حفل الختام السبت الماضي على مسرح "لوميير" الكبير بالمدينة الفرنسية الساحلية، سوى بأنها محيرة، أرضت المتابعين والنقاد والصحفيين في جانب كبير منها، لكنها فاجأتهم تماما في العديد من الجوائز الرئيسية، وفي عدم حصول عدد من الأفلام الممتازة على أي جوائز رغم أنها تحمل توقيعات مخرجين كبار، وتستحق التتويج لمستواها الفني قبل أي شيء.

كما توقعنا هنا الأسبوع الماضي، فاز الفيلم الكوري الجنوبي "طفيلي"، للمخرج "بونج جوون هو"، بالسعفة الذهبية، ولا خلاف عليه، فهو – كما وصفناه – تحفة فنية حقيقية ويُعد صرخة ضد الطبقية في كوريا الجنوبية والتفاوت الكبير بين الأغنياء والفقراء. لكن لجنة التحكيم صدمت الجميع في الجائزة التالية مباشرة، حين منحت جائزة المهرجان الكبرى إلى فيلم "الأطلنطي"، وهو العمل الأول للمخرجة الشابة ماتي ديوب، ويدور في السنغال حول متاعب عمال البناء وحلمهم بالهجرة إلى أوروبا، لكنه ضعيف ولا يرقى لهذا التتويج الكبير، وربما ساعد على فوزه كون مخرجته امرأة، ومن أفريقيا، تماما كما ساعد كون نادين لبكي امرأة، ومن المنطقة العربية، في فوزها بجائزة لجنة التحكيم العام الماضي.

وإذا كان الفيلم الذي توقعنا تتويجه أيضا، "البؤساء" للمخرج لادج لي، قد حصل على جائزة لجنة التحكيم مناصفة مع الفيلم البرازيلي "باكوراو"، إخراج كليبر مندونشا فيلهو وجوليانو دورنيلس، فإن هذا التساوي أو التقاسم ظالم في حد ذاته لأن الفارق بين الفيلمين كبير لصالح شريط "لادج لي" الممتاز والمبهر.

ومرة أخرى تسير اللجنة مع توقعاتنا بفوز النجم أنطونيو بانديراس بجائزة أحسن ممثل عن تجسيده أزمة مخرج سينمائي يتراجع على جميع المستويات، سواء لمرضه أو لإحساسه بأنه لم يعد لديه ما يقدمه، في فيلم المخرج الإسباني الكبير بدرو ألمودوفار "الألم والمجد"، لكنها تعود وتفاجئنا بمنح جائزة أفضل ممثلة لإميلي بيتشام عن فيلم "جو الصغير"، وهو فيلم فعلا صغير وغير ذي قيمة، وأداء الفائزة فيه عادي جدا ولا أعرف ما الذي أعجب المحكمين فيه، في الوقت الذي تجاهلوا أداء ممثلات مثل نويمي ميرلان وآديل آنيل في "بورتريه الفتاة المحترقة" وفاليري باتشنر في "حياة خفية" وديبي هانيوود في "نأسف لعدم لحاقنا بك"؟

أما أكبر الصدمات والمفاجآت بالنسبة لي، فهي فوز الأخوين جان- بيير ولوك داردن بجائزة أحسن إخراج عن فيلمهما "أحمد الصغير"، رغم أن العمل شديد الضعف وغير مقنع، والأهم أنه لا يحتوي على أي مجهود واضح أو إبداع في الإخراج تحديدا، ويُعد استمرارا لتراجع مستوى الشقيقين لثاني فيلم على التوالي بعد "الفتاة المجهولة". كما أحبطني حصول سيلين سياما على جائزة السيناريو عن فيلمها "بورتريه للفتاة المحترقة".. صحيح أن الفيلم جيد على المستوى البصري، لكنه ليس متميزا على مستوى الصياغة الدرامية.

وقد أهدرت جائزتا الإخراج والسيناريو تحديدا مجهود مخرجين كبار بالمسابقة، وتجاهلت أفلامهم شديدة التميز، ومنهم المخرج الفلسطيني إيليا سليمان، حيث اكتفت لجنة التحكيم بمنحه تنويها خاصا نادرا في مهرجان كان عن فيلمه "لابد أنها الجنة"، وإن كان قد حصل على بعض التعويض بفوزه بجائزة الاتحاد الدولي للصحافة السينمائية (فيبريسي).

وأدهشني التجاهل التام لفيلم "نأسف لعدم لحاقنا بك" للمخرج البريطاني الكبير كين لوتش، وهو من أفضل وأهم أفلامه خلال السنوات الأخيرة، وفيه يثبت مجددا أنه أستاذ الدراما الاجتماعية، التي تظل تتصاعد وتتصاعد حتى تبلغ ذروة كاشفة تنتصر دائما للإنسان وتدين المجتمعات الرأسمالية المادية. ومن العجيب حقا عدم ذكره في لائحة الجوائز على الإطلاق.

ورغم فوز بانديراس بجائزة أفضل ممثل، إلا أنني أرى أنه تم تجاهل بدرو ألمودوفار، الذي لم يخيب الآمال كما فعل عام 2016 في فيلم "خولييتا"، بل قدم فيلما جميلا وضع فيه خلاصة خبرته الطويلة، ومزج بشكل موضوعي وتقني رائع بين حاضره وطفولته، وعلاقته في ذلك الوقت مع أمه، وأزمته الخاصة، في بناء لا يقيمه سوى مخرج كبير.

وكانت إدارة المهرجان قد أعلنت قبل حفل الختام عن فوز المخرج الجواتيمالي الشاب سيزار دياز بالكاميرا الذهبية (جائزة العمل الأول) عن فيلمه "أمهاتنا".

جاء الحفل، الذي قدمه الممثل الفرنسي إيمانويل باير كما قدم حفل الافتتاح، أنيقا مبهرا بحضور العديد من نجوم السينما العالميين الذين شارك بعضهم في تسليم الجوائز، ومنهم كاترين دونوف وسيلفستر ستالون والمخرج الأمريكي مايكل مور وفيجو مورتنسن وكلير دوني وريتي بان، رئيس لجنة تحكيم الكاميرا الذهبية، ونادين لبكي، رئيسة لجنة تحكيم "نظرة ما". وعُرض بعد الحفل فيلم ختام المهرجان "المتميزون"، إخراج إيريك توليدانو وأوليفييه نقاش.

 

جريدة القاهرة في

04.06.2019

 
 
 
 
 

روبرتو مينرفيني يدعو إلى التطرف العادل

هوفيك حبشيان

يوثّق المخرج الإيطالي روبرتو مينرفيني العنصرية التي تلقي بظلالها على جنوب الولايات المتحدة، البلد الذي تبنّاه منذ 21 عاماً، وأنجز فيه أعماله كلها، وذلك في فيلمه الوثائقي الأحدث، "ماذا ستفعل عندما يحترق العالم؟" الذي اكتشفناه في الدورة الأخيرة من مهرجان روتردام ثم استعاده مهرجان تسالونيك (عُرض بدايةً في مسابقة الـ"موسترا" العام الماضي). دائماً بأسلوبه الذي يلغي الحدود بين الروائي والوثائقي، يصوّر الفيلم العنف الذي يتعرض له الأميركيون ذوو الأصول الأفريقية في زمن ترامب. هؤلاء الذين يعيشون على الهامش، وسبق ان تحدّث عنهم في فيلم بديع عنوانه "الجهة الاخرى"(2015).

التقت "النهار" مينرفيني للحديث مطولاً عن الكيفية التي يعمل فيها، وللاطلاع على مغامرة سينمائية يخوضها منذ نحو عقدين. خلف حرفة تمتاز بالالتزام الأخلاقي والاتقان، علاقة عضوية بالشخصيات التي يصوّرها. علاقة هي أساسية في كلّ عمل وثائقي. يقول: "أجري الأبحاث لتتعمّق معرفتي بالشخصيات والبيئة التي أتسلل اليها، وبالأرض والسياسات التي يتّبعها الناس الذين يعيشون فيها. هذا مهم جداً لي قبل دوران الكاميرا. أمضي هكذا، سنة أو سنتين قبل البدء بالمشروع، إلى درجة انه يدهمني شعور بأنني أنتمي إلى هذه البيئة. هناك مرحلة تحضير طويلة جداً، أطول من التصوير نفسه. طوال هذه الفترة، أحاول خلق جو من الحميمية، أقصد أنني أفسح المجال لخلق مكان حيث جميعنا يصبح حساساً جداً، وحيث لا نشعر أننا منبوذون، بل نكون على حقيقتنا. مقاربتي إنسانوية جداً. على أحدنا ان يكون قريباً من الآخر ويحبّه. هذا يتطلب الكثير من الوقت ليتفاعل. ثم هناك عملية اختيار الشخصيات. هذا كله يعزز رؤيتي؛ فجأة أعي ما هو المشروع وكيف سيكون. اذاً، أنطلق دائماً من رؤية. صحيح ان الأشياء تتطوّر أحياناً خلال التصوير، ولكن هذا لا يعني أنني لستُ صاحب رؤية منذ البداية. أما اذا طلبتَ إليَّ تحديد طبيعة البحوث، فسأقول لك بأنها بالنسبة إليَّ تعني ان أكون مع الشخصيات لأطول فترة ممكنة وان أكون جزءاً منها. لا أنتمي إلى مدرسة وثائقية محددة، ولم أتخيل أنني سأصبح يوماً مخرجاً وثائقياً. صدف أنني أنجزتُ أفلاماً وثائقية. وأعتقد إنني اذا انتقلتُ إلى الروائي، سأتحدّث عن بيئة معينة وعن حكايات محددة، ومقاربتي لها لن تتغير".

يرى مينرفيني ان الحكايات، سواء أكانت خيالية أم حقيقية، تتشارك لغة واحدة: اللغة الفيلمية. وهذه اللغة هي التي تملي الشكل الذي يخلقه للفيلم. "لهذا السبب شكل أفلامي أقرب إلىالروائي، وخصوصاً في النحو الذي أخلق فيه التوتر. هذه لغة كلاسيكية إلى حدّ ما. أستخدم لغة سينمائية كونية ترتقي بهذا الشيء الذي اسمه فصل كلاسيكي بين روائي ووثائقي. هذا الميل نراه في الروائي كذلك، أي تطعيمه بعناصر من عالم الواقع، ولكن هذا ليس بالجديد؛ كبار المعلمين في السينما من أوروبا وآسيا (الفيليبين على سبيل المثل) استخدموا الروائي للقفز إلى الواقع.

قبل لقاء مينرفيني، قرأتُ مقابلات عدة معه. في واحدة منها، يقول رداً على سؤال انه ليس ساحراً، بل صانع أفلام. عندما أردتُ التعمّق أكثر في الفكرة، قال: "السحر أجده في الناس الذين أصوّرهم. هم مصدره. السحر هو الحكاية التي يمنحونني اياها. كلما صوّرتهم وأعطوني أنفسهم قبالة الكاميرا، أشعر بأنني مدين لهم. عليك ان تحب الشخصيات التي تصوّرها، وأنا أحبّها جداً. أعرف الكثير من الجماعات في أميركا، وفي رأسي الكثير من الحكايات عنها. ولكن هذه الحكايات مرجّحة للموت ما لم تنشأ صلة بيني وبين الشخصيات. ما لم ينوجد ما أحتاجه من عاطفة ترقى بالمشروع. كلّ شيء عندي يحمل طابعاً علاجياً. صناعة فيلم أشبه بزواج. صناعة فيلم شهادة على العلاقة بين البشر. انها لحظة اشتداد شعور الحبّ، حدّ الرغبة في توثيقه كي يبقى إلى مَن سيأتي من بعدنا. أعتبر نفسي مراقباً يحمل رسالة. أقول عن نفسي إنني مراقب وليس مبتكراً بدافع التواضع. لستُ أبا مشاريعي. أنا التقني الذي يتولى الادارة. إلى حين ولادة الفيلم".

يتحدّث مينرفيني عن "طريقة أخلاقية" في العمل ترسم له الحدود وتملي عليه ما يجب ان يفعله وما يجب ان يمتنع عنه. هذا يشمل حتى التأطير والزاوية التي يضع فيها الكاميرا. يقول ان "الأخلاق في أي حال مسألة ذاتية جداً" قبل ان يشدد بأنه لهذا السبب يعتقد ان النحو الذي يقارب فيه السينما ذاتي، لا وجود للموضوعية فيه. "الموضوعية في الأفلام عبث، اللجوء اليها في السينما يعني الخضوع إلى الرقابة".

يقول مينرفيني ان فكرة الوقت مهمة في العمل الوثائقي. في كلّ مرة ينجز فيها فيلماً جديداً يعي تماماً ان التأثير المطلوب يتحقق مع الوقت. يدرك ان الفيلم سيبقى بعد موته، وغالب الظن ان تأثيره سيكون أكبر تحديداً بعد رحيله من هذه الدنيا. هذا يعني انه سيحتاج إلى وقت طويل، حد انه لن يكون هنا. بهذا المعنى، هناك شيء يجعله يحس بأن أي فيلم له أبدي وهذا شيء يكفيه. بالنسبة إلى "ماذا ستفعل عندما يحترق العالم؟"، يؤمن بأنه سينظر اليه باعتباره امتداداً للستينات. "هذا بالنسبة إلى الوقت خارج الفيلم، يبقى الوقت الذي نكرّسه لسرد الحكاية، والوقت الذي يستغرقه التصوير. هناك تفاوت كبير بين الوقت الذي أستثمره للتصوير والوقت للتعرف إلى الشخصيات والتقرب منها والذي يبلغ ٨٠ في المئة من مجموع الوقت. أمضي الكثير من الوقت من دون تصوير. أحياناً اذا كانت اللحظة رائعة، أطفئ الكاميرا وأعيشها. هذا يخلق الحكمة في السينما. ثم يحصل أنني أصور شيئاً بالأهمية نفسها".

أي فيلم ينتمي إلى موضوعه، بحسب مينرفيني. ومهمته كمخرج هي خلق أرض ينبت فيها هذا الموضوع. تقلقه جداً الخطورة التي تتمثّل في ان يصنع المخرج فيلماً، تطبيقاً لأجندته العقائدية. "لذلك، يحلو لي القول دائماً إنني أجلس في مقعد الراكب إلى جنب السائق. لهذا، من المهم جداً عندي ان أورط طاقم العمل في إنجاز الفيلم، حتى إنهم يواصلون التصوير أحياناً من دوني. أحرص على ألا يكون الفيلم انعكاساً لي، ربما يكون انعكاساً لي كإنسان ولكن ليس ككائن سياسي. والا سيكون اداة اخرى للتلاعب. تتفيه اللغة شيء في منتهى الخطورة".

لا معلّمون له في الوثائقي أو "ربما هؤلاء الذين قفزوا من الوثائقي إلى الروائي والعكس". يثني على شجاعة جان روش وبعض البرازيليين في الستينات كأوزفالدو كانديّاس. قامة سينمائية كفريدريك وايزمان يجدها باردة بلا مشاعر ("هو أكثر المعلّمين انفصالاً عن الموضوع الذي يصوّره")، أما فيكتور كوساكوفسكي فلا يعرفه. أكتب له الاسم على ورقة.

هل يعود يوماً إلى إيطاليا للعمل فيها؟ يقول مينرفيني ان ثمة ركوداً فكرياً في بلاده الأم. هناك تفكيرٌ محفورٌ في الصخر عن كيفية التعاطي الصحّ مع الأشياء. يدّعي بأنها ليست بلداً ديناميكياً كحال الولايات المتحدة. ثم هو مقدَّر في أميركا لأنه دخيل، بحسب قوله. يتكلّم لغة الشارع ويتماهى مع الثقافة. يعيش مع الناس وفي الحين نفسه يرى الأشياء بعين أخرى. حقيبته مزيجٌ من الثقافتين الأوروبية والأميركية.

يؤمن مينرفيني بأن العالم بأسره آيل إلى العنف والتطرف لا محالة. لا يرى أي امكان إلى اقامة توازن. في رأيه ان هناك موجة صغيرة حالياً ستكبر للتحوّل إلى تسونامي. لهذا السبب يحب البقاء في أميركا. الخوف يستوطنه ولكن لا يستغرب رؤية أشخاص يصوتون لترامب في "فقاعة أميركا الليبيرالية". يقول: "هؤلاء يوافقون على وجود عالم مبني على التمييز. أنا لا أتسامح مع انعدام المساواة بين البشر. حتى نيويورك التي تُعتبر أكثر مدينة ليبيرالية في أميركا فيها أعلى درجات التمييز. كلها غيتوات. أفضل المدارس ذات غالبية من البيض. هذا اسمه تفوّق عرقي، لا كلمة أخرى. انه سرطان يجب اقتلاعه، ولا ضير في استعمال التطرف. التطرف العادل

 

النهار اللبنانية في

04.06.2019

 
 
 
 
 

"سعفة ذهبية" لـ"طفيليّون": لعبة الخداع وسينماه

كانّ ــ محمد هاشم عبد السلام

لم يخطر في بال الكوري الجنوبي بونغ جون ـ هو (1969)، عند مشاركته بـ"أوكجا" في المسابقة الرسمية للدورة الـ70 (17 ـ 28 مايو/ أيار 2017) لمهرجان "كانّ" السينمائي الدولي، أنّه سيتوَّج بعد دورتين بـ"السعفة الذهبية" عن "طفيليّون". هو ليس وافدًا جديدًا على المهرجان. دخل "كانّ" من بوابة "نظرة ما"، التي اختارت له، منذ عام 2006، 3 أفلام، آخرها "أم" (2009)، فيلم دراما وجريمة. 

لفت "أوكجا" انتباه عشّاق هذا النوع من الأفلام، لإنسانيته وبراعة تنفيذه، لكنه لم يَفزْ بأية جائزة. رغم هذا، أثار، مع "حكايات مَيَروفيتز" لنواه بومباخ، مشكلة أفضت إلى حرمان المنصّة الأميركية "نتفليكس" (مُنتجة الفيلمين) من مشاركة أفلامها في الدورات اللاحقة للمهرجان، حتى إشعار آخر. 

في "طفيليّون"، يؤكّد بونغ جون ـ هو أنه يستطيع، بسهولة واحترافية، التنقّل بين الأنواع السينمائية من دون مشقّة، وحتّى في الفيلم الواحد نفسه. في جديده، يتنقّل بمهارة بين أكثر من نوع سينمائي. الفيلم يتجاوز فعليًا حدود التصنيف، بمزجه البارع بين الكوميديا بدرجاتها والدراما بألوانها، مُضيفًا إليهما الميلودراما، أحيانًا. كذلك، هناك حضورٌ للرعب والإثارة والقتل. فيه تحوّلات وصدمات وانقلابات، تحرّض على الترقّب والتفكير، وتبديل وجهة النظر إلى نقيضها. يسبق التشويقُ هذا كلّه، فالفيلم ممتع ومُشوّق للغاية، رغم الدراما القاتمة والقاسية. 

"طفيليّون" درس سينمائي بامتياز، في كيفية التقديم المشوّق والمكثّف لموضوع عادي جدًا، ومُعالَج بكثرة. يتجلّى الدرس، كتابةً ومهارة وحِرفة، في كيفية تقديم ما سبق استهلاكه بطريقة جديدة مُشوِّقة وغير مُباشرة، تتّسم بالصدق والابتكار. 

والأدهى كامنٌ في صبّ هذا كلّه في إطار كوميدي بالغ الطرافة. يتناول الصراع الطبقي بتناقضاته كلّها. الحبكة ليست جديدة لا في السينما عمومًا، ولا في سينما كوريا الجنوبية خصوصًا، رغم حداثتها النسبية. فـ"إحراق" (2018) للي تشانغ ـ دونغ، الفائز بجائزة "الاتحاد الدولي للنقّاد (فيبريسي)"، في الدورة الـ71 (8 ـ 19 مايو/ أيار 2018) لمهرجان "كانّ"، يعاين الصراع الطبقي أيضًا. 

غي ـ تايك (سونغ كانغ ـ هو) أبٌ مفلس وعاطل عن العمل. محتالٌ، يفعل أيّ شيء ليحصل على مالٍ، وليُرضي زوجته ويُسكتها. الأم تشونغ ـ سوك (يانغ هاي ـ جين) شبه مُتسلّطة. عاطلة عن العمل هي أيضًا، وتكافح لتدبير نفقات المنزل. الفرص الحياتية، عمليًا ودراسيًا، للابن الأكبر كي ـ وو (تشوي وو ـ سيك) محدودة جدًا. الابنة الصغرى الذكية، كي ـ جونغ (بارك سو ـ دام)، لا تعمل ولا تدرس، ولا مستقبل لها. تعيش الأسرة في شقّة متواضعة جدًا، أسفل إحدى البنايات، في حيّ شعبي بائس ومكتظّ. يطلّ الخارج عليهم عبر نافذة صغيرة على مستوى الشارع، تجلب لهم كلّ ما لا يُطيقونه. تمارس العائلة الهامشيّ والمتقطّع في الحياة، وأعمالاً غير مُربحة. 

من اللقطة الأولى، تظهر طبيعة العائلة: تفقد شبكة "إنترنت"، لأن الجار غيّرها. لكنها تعثر على شبكة أخرى عند جار آخر، وهذا مشهد مُضحك، لأن الشبكة تعمل فقط فوق المرحاض، في الحمّام. هذا خير افتتاح لتقديم الأسرة وسلوكها، ما يُشير إلى طبقة كاملة أيضًا. 

صديق الابن الأكبر يُسافر إلى أميركا، بعد تزكيته لدى السيّد بارك (لي سون ـ كين)، أحد أغنى رجال الأعمال، لتدريس الإنكليزية لابنته. عائلة بارك مؤلّفة من يِوون ـ غيو (تشو يو ـ غيونغ)، الزوجة الجميلة والفارغة، ودا هاي (يونغ زيسو) الابنة المُراهقة شبه البلهاء. لدى الزوجين طفل مُصاب باضطراب نفسي، يرسم لوحات غريبة، يُدعى دا ـ سونغ (يونغ هيون ـ جون). بمساعدة شقيقته، واستنادًا إلى مهارته، يزوِّر كي ـ وو شهادات جامعية من أكسفورد وغيرها، فتنطلي حيلته على الأسرة الثرية، ويبدأ العمل عندها. هذا التزوير بداية، فالخداع لن يتوقف عند هذا الحدّ. 

بدوره، يُرشِّح كي ـ وو شقيقته للاهتمام بدا ـ سونغ. معها "شهادات" في الفن وعلم النفس. يهتمّ بها الطفل. تنال إعجاب والديه. لاحقًا، تجتهد للتخلّص من السائق، فتوقعه في شركٍ أخلاقي، كي تُرشِّح لبارك سائقًا ماهرًا آخر، سيكون والدها. يتكرّر الأمر نفسه مع مدبّرة المنزل، التي تخدم الأسرة منذ أعوام. يتمكّن هؤلاء من تحقيق مبتغاهم، بفضل حيلة خبيثة: إنها مُصابة بالسلّ. تأتي الأم. هكذا تُحكم عائلة غي ـ تايك خناقها على عائلة بارك. 

هناك استمتاع بالطرافة والحيل الخبيثة، وإعجاب ببراعة الخدع المُحكمة بإتقان شديد، والتي يُمارسها أفراد عائلة غي ـ تايك. في المقابل، فإنّ أسرة السيد بارك ساذجة وغير مكترثة، وربما غبيّة. لذا، تنطلي الحِيَل عليها بسهولة شديدة. هذا يؤكده غي ـ تايك ضاحكًا وغير مُصدّق: "الأثرياء ساذجون جدًا". أسرة السيّد بارك لا تكتشف ولا تشكّ في أنّ هؤلاء جميعهم أبناء أسرة واحدة. بصرف النظر عن بلاهة الأسرة، وتصديقها لما يحدث، يصعب أخلاقيًا عدم استهجان سلوك احتياليّ كذاك الذي تتمتّع به أسرة غي ـ تايك. 

النصف الثاني من "طفيليّون" قاتم وسوداوي، وإنْ تدريجيًا. تحدث انقلابات، تُثير تفكيرًا عميقًا وتراجعًا كبيرًا عن الإدانة الكلّية للسلوك المُستهجن للأسرة المحتالة. هناك استدراج تدريجي إلى فخّ يصنعه المخرج، فالمسألة أعمق من أسرة تحتال على أخرى، ومن فرص عمل تُنتَهز، ومن بحثٍ عن لقمة عيش بصرف النظر عن السبل. عندها، يحفر الفيلم عميقًا، بخفّة وسلاسة، في السياسي والاجتماعي والاقتصادي والطبقي والنفسي. 

يتجلّى هذا مع سفر أسرة السيّد بارك، فتستغل أسرة غي ـ تايك الفرصة للاستفادة من المنزل، وإنْ لساعات قصيرة، لاختبار عيشِ حياةِ نعيمٍ ورفاهية. التصميم اللافت للمنزلين يظهر بونًا شاسعًا بين الأسرتين، فتنتفي المقارنة بين الطبقتين. باختصار، تبرز وتتأكّد تناقضاتٍ كرَّسها السيناريو (بونغ جون ـ هو وهان جين ـ وو) بمهارة باهرة. لكن الانقلاب لن يتمثّل بالعودة المفاجئة لأسرة السيّد بارك، بل بوصول مدبّرة المنزل السابقة، لأنها "نسيت ما هو ثمين، وتريد استرداده"، كما تقول. "الثمين" هو زوجها الهارب من الديون والفقر، والمُقيم في قبو المنزل منذ أعوام. تركته من دون ماء أو طعام، بعد طردها من العمل. عندها، يبدأ فصل آخر، غير مُتوقّع نهائيًا، يصل إلى ذروة لم تكن محسوبة، فتضيف إلى صراع الطفيليّين والأغنياء صراعًا آخر بين الطفيليّين أنفسهم. 

هناك تذكير دائم بأنّ الفجوة بين الفقراء والأغنياء لا يُمكن ردمها. لكن الخطورة ليست هنا، بل في سؤال: من سيفوز في الصراع الدموي للطبقات: الأغنياء أم الفقراء؟ هناك ضحايا من الطرفين، وهذا ظاهر في المشهد الدمويّ والرائع في الحديقة، ذي الدلالات العميقة. 

في ظلّ صراع الوجود هذا، لا بد من فائز. لكن، من؟ أهو مالك المال والقوّة، أم من لا يملك شيئًا، ولا يعبأ لا بروحه ولا بجسده؟ أم أنّه من مصلحة الطبقات الفقيرة أن تحافظ على وجود الطبقات الغنية؟ فبانتفاء تلك الطبقات، تتعقّد حياة الطفيليين، ولا يعود لها ما تعتاش به أو ترمّم عليه. ثم، ينتفي وجودها. فهل يقصد بونغ جون ـ هو تلك الطبقات المسحوقة، وإنْ تكن مذنبة ومُدانة سلوكيًا (طفيليون)، أم ماذا تحديدًا؟ 

أسئلة كثيرة وصعبة، لكن، لا إجابات شافية.

 

العربي الجديد اللندنية في

05.06.2019

 
 
 
 
 
 
 

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك © 2004