كتبوا في السينما

 

 
 
 
 
 

ملفات خاصة

 
 
 

"أمبيانس" فلسطيني:

الموسيقى نمط حياة

نديم جرجوره

كان السينمائي الدولي

الدورة الثانية والسبعون

   
 
 
 
 
 
 

يحافظ "أمبيانس" (2019)، للفلسطيني وسام الجعفري، على بساطة لافتة للانتباه في انتقاء أدوات بصرية، تُعينه على سرد حكاية مُتداولة. لا ادّعاء ولا تصنّع، بل محاولة سينمائيةلكشف شيء من يوميات أناسٍ يُقيمون في مخيم للاجئين داخل بلدهم المحتلّ، بعيدًا عن بطولات ونضالٍ وأيديولوجيات. محاولة تثبيت فكرة أنّ السينما الفلسطينية مستمرّة في مقاربة التفاصيل الحياتية للناس، وتعرية بيئاتهم ومسالكهم وأنماط عيشهم، وتوثيق حكاياتهم وانفعالاتهم وبوحهم.

والبساطة، إنْ تمتلك حيوية سرد وجمالية قول، تقدر على تكثيف اللحظات، والانصراف إلى الأهمّ، والتقاط المطلوب. هذا يصنعه وسام الجعفري في فيلم قصير (15 د.)، يفوز بالجائزة الثالثة (مناصفة مع Duszyczka للبولونية بارْبارا روبتيك) في مسابقة الأفلام القصيرة، في الدورة الـ72 (14 ـ 25 مايو/ أيار 2019) لمهرجان "كانّ" السينمائي الدولي. فيلم يبغي وصفًا حسّيًا لمشكلة يواجهها شابٌ يريد، باختصار شديد، تسجيل مقطوعة موسيقية بمساعدة صديق له. المأزق أن الشابين مقيمان في "مخيّم الدهيشة" (جنوب بيت لحم، الضفّة الغربية)، بما يعنيه هذا من كثرة سكّان، ومن ضيق مساحات، ومن تلاصق أبنية وجدران، ومن ضجيج لن يعرف هدوءًا البتّة.

هذا يُضاف إلى أفعالٍ أخرى، كرصاص المحتلّين، وحفلات أعراس، وأصوات متظاهرين. في 15 دقيقة، يُقدِّم الجعفري ما يُفترض بفيلمٍ قصير أن يُقدّمه، من دون ثرثرة أو إطالة أو إيغال في تفاصيل هامشية، رغم أن لتفاصيل كهذه، أحيانًا، قيمًا حياتية، فالأهمّ بالنسبة إليه كامنٌ في التقاط مسلك خالد (صلاح أبو نغمة) تحديدًا، في يوم كامل يبحث خلاله عن حيّز لتحقيق ما يبغيه. وأثناء ذلك، ينتبه إلى هوامش تعكس شيئًا إضافيًا من يوميات المخيّم وناسه: ثرثرة جيران، صحّة إحدى القريبات، الأم وعلاقتها بابنٍ مشغول بالموسيقى رغم كلّ شيء. 

فشل خالد في إنجاز المرغوب فيه يُثير قلقًا ومخاوف. لكن صبيًا في محل للحلاقة يُنبّهه (من دون قصد) إلى أن الأصوات، التي يعتبرها مزعجة له، قادرة على إفادته، فيبدأ تجوالاً في أزقّة الشارع لتسجيل أصواته وأصوات ناسه.

تقنيات متواضعة، وإضاءة تعكس تبدّل الوقت، وإشارات إلى بؤس الحياة اليومية (انقطاع الكهرباء مثلاً) من دون بكائيات أو ندب، ورغبة في تفوّق الموسيقى على خرابٍ يحاصر الناس والأشياء، هذه كلّها أمورٌ تتكثّف في صنع "أمبيانس" فلسطيني من داخل مخيّم ينتصر للحياة في مقارعة شقاء وحصار.

 

العربي الجديد اللندنية في

31.05.2019

 
 
 
 
 

"مكتوب يا حبي: اللحن الفاصل" فضيحة مهرجان كان الـ72

أمير العمري

فيلم المخرج التونسي عبداللطيف كشيش يخلو من القصة ومن الدراما ويثير عاصفة من الجدل في أوساط كان.

أثار فيلم “مكتوب يا حبي: اللحن الفاصل” للمخرج عبداللطيف كشيش الكثير من الجدل وردود الفعل الغاضبة عند عرضه في مسابقة مهرجان كان السينمائي الـ72 الذي اختتم مؤخرا، هذا المقال يسلط الضوء على الفيلم وأصدائه.

شاهدت الكثير والكثير من الأفلام من جميع أنحاء العالم، لكني لا أستطيع أن أفهم بالضبط ماذا يريد المخرج التونسي-الفرنسي عبداللطيف كشيش، وماذا يرمي من وراء أفلامه الثلاثة الأخيرة تحديدا بعد أن ودع سينما الفكر والفن والرؤية، واتجه إلى “سينما الصدمة”.

ليست أي صدمة، بل صدمة الانحراف المزاجي والهوس بالتصوير الإباحي الحارق للعين، مع الاستمرار في المبالغة الشديدة في طول اللقطات والمشاهد، والاعتماد، لا على الأداء التمثيلي الذي له أصل وفصل، وعلى الحوار المكتوب بدقة بحيث يبدو أيضا طبيعيا على الشاشة، بل على الارتجال والعشوائية والثرثرة وترك الممثلين يتصرفون ويتحدثون كيفما اتفق، فتصبح المشاهد فارغة، وما يقوله الممثلون لبعضهم البعض وهو في معظمه وليد اللحظة، يصبح كلاما لا معنى له ولا يهم أحدا بل ولا يستطيع أحد احتماله طويلا.

كان مهرجان كان السينمائي قد أعلن قبل وقت قصير من موعد افتتاح دورته الـ72 ضم فيلم كشيش الجديد إلى مسابقته الرسمية، وهو في الحقيقة الجزء الثاني من الفيلم الذي بدأه قبل عامين وعرض الجزء الأول منه في مهرجان فينيسيا 2017 بعنوان “مكتوب يا حبي: الفصل الأول”، أما فيلمه هذا فقد أطلق عليه “مكتوب يا حبي: اللحن الفاصل”، ويعتزم استكماله في جزء ثالث لا أحد يعرف ماذا سيضيف فيه وماذا سيطلق عليه.

لكن الواضح أنه يحاول أن يوحي لنا بأنه يصنع “سيمفونية” سينمائية في ثلاث حركات!

واللافت أن المهرجان عندما أعلن ضم الفيلم إلى مسابقته، أوضح في بيان للصحافة أن عبداللطيف كشيش أبلغهم أن زمن عرض فيلمه يبلغ 4 ساعات ووضع هـذا في برنامج المهـرجان بالفعل.

لكن النسخة التي عرضت في آخر أيام المهرجان، جاءت في 206 دقيقة، أي ثلاث ساعات و26 دقيقة، وهو ما يعني أن القائمين على المهرجان لم يكونوا قد شاهدوا النسخة، لكنهم قبلوا الفيلم باعتبار اسم مخرجه الذي ارتبط بحصوله على «السعفة الذهبية» من قبل (ذكر تقرير في مجلة «فاريتي» أن تيري فريمو شاهد 25 دقيقة من المادة المصوّرة في مارس الماضي وأقر الفيلم قبل اكتماله)، وهو في حد ذاته استهتار يصل إلى مستوى الفضيحة.

سينما الرؤية الجديدة

كنت من الذين تحمسوا كثيرا لعبداللطيف كشيش عندما شاهدت أفلامه الأولى وبوجه خاص بعد مشاهدة فيلمه “كسكسي بالسمك” (2007)، ووجدته يبتعد عن المواضيع التقليدية في الأفلام التي يصنعها سينمائيون من أصول مغاربية في فرنسا، حول قضية العلاقة مع “الآخر” في بلدان المهجر، ويبتعد أيضا عن الإفراط المألوف في مشاهد الفولكلور وتصوير العادات العربية من منظور استشراقي، وعدم تركيزه على القوالب المألوفة مثل موضوع اضطهاد الرجل للمرأة والتطرف الديني والكبت الجنسي وختان الإناث.. وغير ذلك.

وكان الفيلم يؤكد على فكرة التمسك بالهوية، دون الوقوع في النمطية والقولبة، كما كان مخرجه يتبع أسلوبا خاصا في التصوير يقترب كثيرا من الأسلوب التسجيلي، مع الاحتفاظ بالزمن الطبيعي على الشاشة مع السيطرة على تدفق اللقطات والأداء.

القائمون على مهرجان كان لم يشاهدوا الفيلم، لكنهم قبلوه باعتبار اسم مخرجه الذي ارتبط بحصوله على "السعفة الذهبية"

وفي “فينوس السوداء” (2010) عثر كشيش على موضوع شديد الأهمية يدور حول فتاة سوداء من بلد أفريقي جاء بها رجل إنكليزي من جنوب أفريقيا تحت إغواء أن يجعل منها نجمة استعراضية يقدمها في عروض السيرك، لكنه استعبدها وأخذ يعرضها ككائن غريب في تكوينه الجسماني يجذب المشاهدين ويدفعهم للمقارنة بينها وبين الحيوانات، خاصة بعد أن أرغمت الفتاة على تقليد أصوات الحيوان وهي تنبح من داخل قفص حديدي وسط تصفيق الجمهور.

كان هذا الفيلم يكشف بشكل صادم عنصرية الغرب وترويجه لصورة نمطية أصبحت ثابتة في الذهنية الغربية عن الأفريقي، الأسود، وكان يعتمد على تجسيد التفاصيل والتناقضات بشكل محسوس، من خلال كاميرا تراقب، وتتسلل، وترقب كل لفتة وحركة وإيماءة، مع الاهتمام الشديد بتفاصيل اللقطة، بالتكوين، بقطع الديكور، بحركة الكاميرا داخل الديكور، بعلاقة الشخصيات الثانوية بالشخصيات الرئيسية وعلاقة الشخصيات عموما بالمكان، وهو أسلوب يعتمد أيضا على خلق الإيهام بأننا نشاهد ما يجري في الزمن الفعلي الحقيقي، دون تدخل كبير من المونتاج.

السعفة الذهبية

بعد ذلك ومع فيلمه ذائع الصيت “حياة أديل” ورغم فوزه بالسعفة الذهبية في مهرجان كان 2013 كان رأيي ومازال، أن كشيش قدم فيه قصة حب مثلية بين فتاتين ولكن بأسلوب وتقنية صنع الأفلام البورنوغرافية الإباحية.. والهدف هو تحقيق الصدمة لجمهور الأفلام غير الإباحية.

وكان فوزه بالجائزة فقط لأن قضية المثلية الجنسية كانت مطروحة على نطاق واسع في فرنسا في تلك الأيام، كان المشهد الحسي الذي يمكن تصويره في دقيقة أو أقل، يستغرق في فيلم كشيش على الشاشة نحو عشر دقائق، وكانت لقطاته من جميع الزوايا تركز على المناطق الحساسة في جسدي الفتاتين من زوايا قريبة، وهو نفس الأسلوب المتبع في أفلام البورنوغرافيا الإباحية المثيرة.

لكن البعض رأى فيه ما لا نراه، أي أننا كنا إزاء شعر سينمائي من نوع جديد، وما أكثر ما يكتب أحيانا من هراء استهلاكي في الصحافة الغربية وينقل عنها بعض المراهقين سينمائيا الذين يهيمون بكل بدعة جديدة تظهر في الغرب، ولو على يدي مخرج قادم من الثقافة الأخرى التي تعتبر محافظة، خاصة في ما يتعلق بتناول موضوع الجنس في السينما، ولكنه يريد أن يثبت للفرنسيين وللغربيين عموما، أنه لا يقل عن مخرجيهم جرأة وانفتاحا وقدرة على التعبير عن أكثر هواجسه “الجنسية” الشخصية جموحا.

استمرأ كشيش الوضع وأراد أن يتمادى في تحقيق المزيد من الصدمات البصرية فلجأ إلى رواية فرنسية اقتبس منها في ما يبدو بعض شخصيات “مكتوب يا حبي” (الأول والثاني)، ليرسم صورة للشباب التونسي في فرنسا وعلاقته بالفتيات الفرنسيات، والتونسيات، في مزيج بين حكاية أسرة عربية تمتلك مطعما في بلدة ساحلية في الجنوب الفرنسي، وبحث مصوّر تونسي شاب يريد أن يصبح كاتبا للسيناريو، وحيرته أو اغترابه.

وبينما كان الجزء الأول أقل صدمة وإن ظل يعاني من غياب الموضوع القوي والشخصيات ذات الركيزة الدرامية ويزحف مترهلا بطيئا ثقيل الوطأة بمشاهده الطويلة ولقطاته المتكررة داخل ملهى ليلي، ولدرجة تدعو للنعاس أو للانصراف من قاعة العرض كما فعل الكثيرون، جاء الفيلم الأحدث الذي عرض بمسابقة كان الـ72 كارثة فنية على جميع المستويات.

لا أريد هنا أن أقدم تحليلا للفيلم الذي يتكون من مشهدين لا أكثر، الأول يدور في 37 دقيقة على الشاطئ في جنوب فرنسا ويصوّر مجموعة فتيات مع شابين أو ثلاثة، يثرثرون جميعا في ما لا يهم ولا يفيد ولا يبدو ذا أهمية من أي نوع، ولكن إحدى الفتيات (هي الفرنسية أوفيلي) التي تحظى بأكبر تركيز في الفيلم كله، على تفاصيل جسدها لا على شخصيتها، يفترض أنها مخطوبة لجندي فرنسي يخدم في العراق (نحن في العام 1994) لا نراه أبدا، ولكنها حامل من شاب تونسي أطلق على نفسه اسم “توني”، لكنه يعبر بوضوح عن عدم رغبته في الزواج منها وإن يظل يحاول إغواءها، فهي بالنسبة له مجرد هدف جنسي فقط، وتقول له هي إنها تعتزم إجهاض نفسها. ويظل الحوار يدور ويتكرر حول هذه النقطة من دون أي تطوّر.

ماذا يريد عبداللطيف كشيش من وراء الإفراط في مشاهد الجنس الصادمة، وماذا يرمي من وراء أفلامه الثلاثة الأخيرة تحديدا بعد أن ودع سينما الفكر والفن والرؤية، واتجه إلى "سينما الصدمة"؟

وفي المشهد الثاني الذي يدور في مساء نفس اليوم، يذهب الجميع إلى ملهى ليلي أو كباريه، حيث يدور الرقص الشهواني والالتواءات الجسدية دون توقف لحظة واحدة، وتركز الكاميرا على الأجزاء السفلى من أجساد الفتيات وعلى جميع المناظر الشاذة التي يقمن بها سواء مع بعضهنّ البعض، أو مع الشباب التونسيين، وتستمر هذه الدوامة إلى نهاية الفيلم.

وفي هذا المشهد يحاول شاب تونسي إغواء أوفيلي بممارسة الجنس معها، لكنها تتمنع، وعندما تقبل نشاهد أكثر المشاهد صدمة في الفيلم وهو ما يؤكد لنا أننا أمام فيلم من تلك الأفلام الإباحية التي لا علاقة لها بسينما الفن، كما يدعي ويزعم كشيش في أحاديثه التي يدافع فيها عن فيلمه.

ليس لديّ شخصيا أي شيء ضد تصوير الجنس في السينما، أو الجرأة في استخدام الجسد العاري في التصوير عموما، ولعل أكثر الأفلام جرأة في استخدام الجنس هو فيلم “التانغو الأخير في باريس” (1972) لبرناردو برتولوتشي الإيطالي، ولكن كان هذا عملا من أعمال الفن الرفيع، لا تنفصل فيه فلسفة الفنان ورؤيته التي يجسدها في معاناة بطل فيلمه، عن الإيروتيكية، عن الرغبة في التوحد من خلال الجنس.

فبطله “بول” (مارلون براندو) يسعى إلى خلق عالمه الخاص المعزول تماما عن العالم الخارجي من خلال الإغراق في الجنس، وهو ينكر هويته الاجتماعية، كما يرفض الانتساب العائلي برفضه الأسماء، ويتعامل فقط من خلال الواقع الرمزي المجرد: الأنا والآخر، ويتطلع إلى تحديد شكل العلاقة بين الدولة والبطريرك– الأب والعائلة والفرد، وموته في النهاية ما هو سوى تتويج لمحاولته الدائمة الانتحار عن طريق الإفراط في الجنس. كان هناك موضوع ما وفلسفة عميقة في فيلم برتولوتشي.

أما كشيش فلا يهمه سوى التعبير عن هوسه الشخصي بأجساد الفتيات، وهو يبرّر هذا الهوس في المؤتمر الصحافي حيث ناقش فيلمه في مهرجان كان بقوله “أحاول إظهار ما يهزني من الداخل: البطون والأجساد”، قبل أن يواصل قائلا إن هدف الفيلم هو “الاحتفال بالحياة، الحب، الموسيقى، الجسد وتجريب محاولات أخرى للحكي السينمائي”.

واجه كشيش سواء في فيلمه السابق أو الحالي اتهامات كثيرة بالإفراط في النظرة الذكورية التي تختزل المرأة في جسدها فقط، وأنه لا يهتم أبدا بأجساد الرجال شأن اهتمامه بالنساء بطريقة تسيء إليهنّ.

واتهمته بطلتا فيلمه “حياة أديل” بممارسة الضغوط النفسية القاسية عليهنّ لأداء المشاهد بطريقة معينة، بل ونالته اتهامات أخرى بالتحرش الجنسي.

كارثة المهرجان

ناقد صحيفة “لوس أنجلس تايمز” -على سبيل المثال- وصف الفيلم بأنه “كارثة” و“أسوأ فيلم شاهدته في حياتي” وقال في مقاله “شاهدت الكثير من الأفلام المملة في مهرجان كان، والكثير من الأفلام البشعة حقا التي صدمتني ليس فقط برداءتها.

ولكن بسقوطها الفني حينما تشعر بأن المخرج فاقد القدرة على التحكم وبأنه يتفكك ويسقط، ولكني لا أظن أنني شاهدت سقوطا فنيا مثلما هو الحال مع ‘مكتوب يا حبي: اللحن الفاصل'”.

تتمثل تقنية الفيلم الإباحي في فيلم كشيش الجديد (كما في الفيلمين السابقين) في تركيز الكاميرا على “المؤخرات” من أجساد الفتيات والنهود وتصوير كل مناظر الشذوذ، بما في ذلك مشهد يستغرق 15 دقيقة يدور داخل حمام الكباريه، فأخيرا تستجيب أوفيلي للشاب التونسي الذي يراوضها عن نفسها (رغم أنها حامل في الشهر الثاني!) وتتجه معه إلى حمام الملهى الليلي حيث يصوّر كشيش مشهدا جنسيا مباشرا وصادما بدا لكل من شاهد الفيلم أنه مشهد حقيقي لم تستخدم فيه خدع التصوير.

والأهم بالطبع أنه من دون أي ضرورة درامية، ففيلم كشيش يخلو من القصة ومن الدراما والموضوع والسياق والحبكة، بل والرؤية.. إنه كالعدم سواء.

ومن الممكن أن يستمر الفيلم على الشاشة العشرات من الساعات كما يمكن أن ينتهي في أي لحظة، لذلك فهو ليس عملا فنيا يمكن محاسبته بمقاييس النقد التحليلي العلمي الحديث، فلا هدف له سوى التعبير عن المكبوت الشخصي، أي أنه مجرد استعراض شهواني يخص صاحبه ولا يهم أحدا غيره.

إنني أعتبره دون أدنى شك “فضيحة مهرجان كان 2019”، فعرضه داخل المسابقة الدولية لمهرجان كبير مثل كان، فضيحة على جميع المستويات، لكنه لن يُعدم، رغم ذلك، وجود بعض الأصوات الناشزة التي تدافع وتبرّر وتبدي إعجابها بما لا يمكن أن يراه غيرها، ولكنها -لحسن الحظ- أصوات محدودة لا تأثير لها.

كاتب وناقد سينمائي مصري

 

العرب اللندنية في

31.05.2019

 
 
 
 
 

كانّ ٧٢ - باتريسيو غوزمان ليس سينمائياً حراً

كانّ - هوفيك حبشيان

المصدر: "النهار"

باتريسيو غوزمان سينمائيُّ شجن، حالم ورقيق الاحساس. كان في الثانية والثلاثين عندما شهد على بلدٍ يمضي نحو الديكتاتورية بخطى عسكرية بقيادة الجنرال بينوشيه السيئ الذكر. هذه التروما لم يشفَ منها إلى اليوم، حتى بعد نحو ٣٠ فيلماً موضوعها الأوحد تشيلي والذاكرة المرتبطة بها، آخرها "لا كوردييرا الأحلام" الذي عُرض في #كانّ ٧٢ (١٤ - ٢٥ أيار) ضمن فقرة "عروض خاصة"، وفاز عنه بجائزة "العين الذهب" التي تُسند إلى أفضل وثائقي.

خطاب الفيلم واضح: تذكير التشيليانيين بماضيهم وبمَا حلّ بهم. لأنه يبدو ان الجميع قد نسي. والجميع انتقل إلى مرحلة جديدة من دون حتى فهم ما حصل. على رغم ان الآثار لا تزال في كلّ مكان لمَن يريد ان يرى. لم يعد يؤلم غوزمان ما عاشه من تعذيب وقهر واستبعاد، بقدر ما يشعر بألم جرّاء سقوط هذا كله في النسيان.

طريق الذاكرة عند غوزمان تمرّ عبر مزيج من العناصر: التجربة الشخصية، جغرافيا البلاد المتنوعة من الصحراء إلى الساحل، ومعطيات تاريخية.

بعدما تكلّم عن جنوب البلاد (صحراء أتاكاما) في "نوستالجيا الضوء" ثم شمالها في "الزر اللؤلؤة" (منطقة باتاغونيا)، يجد غوزمان ضالته في الكوردييرا، سلسة جبال الأنديز المهملة من جانب الحكومات التشيليانية المتعاقبة بالرغم من انها تمثّل ٨٠ في المئة من مساحة تشيلي. هذه الجبال التي تعلو فوق العاصمة سانتياغو تشكّل مدخلاً جديداً إلى ماضيه وماضي بلاده. يجدها لازمة ممتازة للحديث عمّا حصل في السبعينات، فسلسلة الجبال هذه شاهدة على كلّ شيء. شاهدة من النوع الذي لا ينحاز ولا ينسى ولا يحاول التخفيف من وطأة المأساة على جيل كامل من التشيليانيين الذين خرجوا من بلادهم ولم يعودوا.

يصوّر غوزمان هذه الجبال الشامخة متمنياً لو لها القدرة على النطق.

منذ انقلاب ١٩٧٣، أمضى مخرج "معركة تشيلي" أكثر من نصف عمره في المنفى. عاش في سبعة بلدان، منها كوبا وإسبانيا وفرنسا، والأخيرة هي البلاد التي يقيم فيها حالياً من دون ان يشعر انه أكثر من سائح فيها. الا ان الذاكرة، بدلاً من ان تضمحل مع مرور الزمن، أضحت أقوى من أي وقت مضى عند فنّان من خامة استثنائية صار على مشارف الثمانين.

الفنّ والحياة أيديهما متشابكة في نظره. لذلك، لا يتوانى عن اشباع أعماله بنبرة شاعرية تحمل بصماته. بهذا، يعطي فيلمه الوثائقي شكل قصيدة.

في مقابلة سابقة لي معه، كان يقول: "كلّنا شاهدنا صوراً ولقطات تلفزيونية من معسكرات الاعتقال النازية وألفناها إلى حدّ ما، ولا نزال حتى اليوم نشعر بالحاجة إلى الحديث عنها، ولكن علينا أيضاً اطعام أطروحتنا بلغة الشعر. هذا طبعاً إذا أردنا منح التراجيديا دلالات أعمق. ما يهمني في الحقيقة هو استنباط الألم من المأساة، وأيّ لغة أكثر من اللغة الشعرية قادرة على ذلك؟ اليوم، في زمن الانترنت، نحن نعجز عن فعل هذا. نتابع صور الموت والقتل على الانترنت. ثم ماذا؟ لا شيء!”.

بعد مشاهدة الفيلم، توجهتُ إلى مقابلة غوزمان. ارتجلنا حديثاً عن علاقته بتشيلي وهو على بُعد آلاف الكيلومترات منها. فجأةً، حملنا الحديث إلى "السترات الصفر" في فرنسا. فرنسا التي يرى الوضع السياسي فيها أعقد وأقل استقراراً من الوضع في وطنه: "حتى هذه اللحظة، تشيلي بلد منضبط جداً ومنظّم جداً. ليست هذه حال فرنسا، حيث المواطنون في امكانهم التصدي للقانون بشكل علني. في فرنسا، غير مستبعد ان يقوم الناس بتدمير الدولة بأكملها. لا نعرف ماذا سيحصل مع الوقت، لننتظر ونر، فالأشياء بدأت للتو”.

منذ بداية لقائي به، وددتُ ان أسأله لمَ لا يزال ينجز الأفلام عن تشيلي، وهو بعيد منها مسافات جغرافية وزمنية. فقال بإسبانيته المطعّمة ببعض الجمل الفرنسية الركيكة: "تشيلي شغفي. لستُ سينمائياً حراً. لديَّ ماضٍ لم أنجح في تخطيه. أنا دائماً في الطريق نفسها. لا تعنيني مشاكل أخرى ولستُ منفتحاً حيالها. في فرنسا، يمكنك الجلوس واختيار العديد من المشكلات المثيرة. ولكن هذا لا يشدّني. لا أود إنجاز الأفلام عن هذه الأشياء. أجهل لماذا، ولكن تشيلي تحلّق في رأسي طوال الوقت".

مع ذلك، لا يرغب في العودة إلى تشيلي، معتبراً ان وجوده فيها لن يشعره بالراحة النفسية.

هل لأن غوزمان صنع بلداً وهمياً في رأسه، ثم بدأ يبحث عنه في الحقيقة؟ ربما لهذا السبب لا يرغب في العودة، لأن صورة معينة عن تشيلي تكرّست في مخيلته، وأغلب الظنّ انها على نقيض تام للصورة الحقيقية. الذهاب إلى تشيلي يعني الاشتباك بها وصناعة خيبة. يوافق غوزمان على هذا الطرح، فيرميني بعبارة ديبلوماسية لطيفة: "هناك احتمال ان تكون على حقّ”.

الكتّاب والسينمائيون في نظره يبنون عالماً كاملاً من حولهم. "عشتُ في سبعة بلدان قبل ان أشد مرساتي إلى فرنسا. شعرتُ دائماً بأنني في حالة ترانزيت. الجميل في المنفى انك تخسر بلداً ولكن تربح بلداً آخر. والإنسان يعتاد هذا في حياته. الا انك، في النهاية، لا تملك الا شيئاً واحداً: ذكريات من بلدك الأول. حفظ بلد ما في الذاكرة يعني اصلاحه. مصير تشيلي مرتبط بالذاكرة. هذه بلاد لا يدرك سكّانها إلى اليوم ماذا حلّ بها. لا يوجد وعي حقيقي. لذلك، المستقبل لا يزال غامضاً”.

"الهوية كتاب مفتوح، ما هي الهوية في الحقيقة؟"، يسأل غوزمان بدلاً من ان أسأله.

"ربما يمكنك أن تبنيها أيضاً"، أرد عليه بتردد. يبتسم. نهاية الحوار.  

 

####

كانّ ٧٢ – "الخائن": المافيا في مسرح ماركو بيللوكيو

كانّ - هوفيك حبشيان

المصدر: "النهار"

مع "الخائن"، يعود بيللوكيو إلى بيللوكيو، إلى ذروة فنّه، بعد أفلام متواضعة عدة، مقترحاً عملاً شديد الاتقان على مستوى السيناريو والتمثيل والاخراج والاستيتيك. للمخرج الإيطالي تاريخ طويل مع كانّ، بالرغم من انه لم يفز يوماً بـ"السعفة" أو حتى بجائزة الإخراج عن الأفلام التي قدّمها هنا، من "الشيطان في الجسد" إلى "انتصار" الذي يُعتبر آخر عمل كبير شاهدناه له قبل عشر سنين، والذي تناول فصولاً من سيرة موسوليني من خلال عشيقته إيدا داسلر.

جديده الذي عُرض في مسابقة الدورة الثانية والسبعين من #كانّ (١٤- ٢٥ أيار)، لا يختلف كثيراً عن "انتصار"، سواء على صعيد التوتر الذي يخلقه في جسد الفيلم أو لجهة عودته إلى حقبة صعبة ودموية وعنيفة من تاريخ بلاده إيطاليا من خلال حوادث يعتبرها "معروفة ومجهولة" في آنٍ واحد. ما يجمع الفيلمين هو المحل الذي لطالما برع فيه بيللوكيو: الإنتقال المستمر من الحدث الكبير إلى الصغير، أو من العام إلى الخاص، وتصويرهما من مساحة واحدة

يحملنا "الخائن" إلى ثمانينات القرن الماضي، الفترة التي شهدت حرباً ضروساً بين فصائل المافيا الصقلية المختلفة (الكورليونيون ضد الباليرميين). صراع دموي لُقِّب وقتها بـ"حرب المافيا الثانية" وخلّف مئات القتلى. أبطال تلك الحقبة؟ القاضي جيوفانّي فالكوني الذي حمل على عاتقه التصدي لظاهرة المافيا حتى اغتياله في أيّار ١٩٩٢؛ توتو رينا زعيم عائلة الكورليونيين المافيوزية الذي أمر بقتل القاضي، و… توماسو بوسيتّا، أحد أعضاء الـ"كوزا نوسترا". تنطلق القصّة من قرار هذا الأخير الوشاية بالجميع وفضحهم. انه أشهر "تائب" في إيطاليا، على رغم رفضه المطلق لكلمة “تائب” معتبراً ان الـ"كوزا نوسترا" هي التي خانت المبادئ بعد تورطها في ترويج المخدرات. يخل بوسيتّا بـ"عرف الصمت" المعروف بالـ"أوميرتا" في أدبيات المافيا، كاشفاً الأساليب الاجرامية التي تنتهجها لتحقيق الأهداف. تاريخياً، شهادته كانت أكثر من ضرورية لتفكيك سيستم المافيا الهرمي ومواصلة الحرب عليها.

كان بوسيتّا هرب إلى البرازيل مع بداية الثمانينات واشتداد وتيرة الحرب الدائرة بين المافيات الصقلية، مدركاً انه سيُستهدَف، يوم كان الدم يسيل في الشوارع، وأن أقاربه عرضة للقتل واحداً تلو الآخر. الا ان الشرطة البرازيلية تقبض عليه وتطرده من البلاد. لدى عودته إلى إيطاليا، تُقام محاكمة تاريخية في باليرمو، للاستماع إلى شهادة عشرات الشهود واصدار أحكام بنحو ٥٠٠ منهم. هذا الحدث سيغيّر وجه المافيا إلى الأبد.

الفيلم يدور بشكل أساسي على هذا المثلّث: الجريمة، العدالة، التوبة. ولأننا في إيطاليا الكاثوليكية، فلا بد ان يأخذ هذا كله، بُعداً دينياً. ولكن هذا لن يحصل تحت اشراف بيللوكيو.

بالرغم من طول مَشاهد المحاكمة البارعة في تناولها للشهادات وتشريحها، فلا ملل يتسرب إلى نصّ بيللوكيو ذي الإيقاع السريع والأحداث المتلاحقة. في كلّ لحظة هناك شيءٌ ما يدفع بالسيرورة الدرامية إلى الأمام، وهو ذو طابع شفهي هنا أكثر منه حدثياً، فنحن في إيطاليا، والإيطاليون ملوك الكلام الخطابي الذي يقترب أحياناً من الهزل من دون ان يصيره تماماً. ويقول بيللوكيو في هذا الصدد انه أراد جعل مَشاهد المحكمة استعراضاً يليق بكوميدا الديلارتي، مع هذه الشخصيات المستعدة لكلّ شيء لمنع انعقاد المحكمة التي ستطيحهم.

بدلاً من سرد مسرحي للحوادث ينطلق من نقطة أ ليصل إلى نقطة ب في مسافة زمنية محددة، يقارب بيللوكيو حكاية الـ"كوزا نوسترا" بالكثير من الانكماش الذي يمنعه من السقوط في حضن الفيلم الاستعراضي، فيرسم بورتريهاً لرجل (بوسيتّا) دارساً الأسباب التي أفضت به إلى تقديم شهادته ضد كلّ الذين تعاون معهم سابقاً. أهو الندم أم صحوة الضمير أم الانتقام؟ أم الخيبة بكلّ بساطة، كون المافيا لم تقدّم لبوسيتّا ما كان يطمح اليه من قيم إجتماعية وأخوية في مقتبل تجربته. أياً يكن، السؤال عن دوافع بوسيتّا لا تنجم عنه اجابة بالسهولة والبساطة التي من الممكن توقعها، لأن الحقائق موجودة في مناطق أعمق، ربما نحتاج إلى سبر أغوار الشخصية. ولكن، في أي حال، يبتعد بيللوكيو قدر المستطاع عن كلّ ما يصنع مجد هذه الأفلام عادةً، فينبذ كلّ شيء من شأنه أن يجعل شخصياته رومنطيقية، مغرية، وتثير تعاطف المُشاهد. تماماً مثل نبذه للحدث بمعناه البدائي، اذ انه أكثر اهتماماً بردّ الفعل الذي يولده في نفوس الآخرين، وصولاً إلى كيف يحوّلهم إلى وحوش.

اذا ما قمنا بربط أفلام بيللوكيو بعضها بالبعض الآخر، في امكاننا تشكيل جدارية لإيطاليا في القرن العشرين. فالفيلم الفلاني يبدأ من حيث ينتهي الآخر، وذاك يصوّر فصلاً معيّناً سبق ان تم تناولها من وجهة نظر أخرى في عمل آخر، وهكذا. الا ان جمال الفيلم يكمن في استعادة شكل من الأشكال السينمائية التي كانت سائدة في سبعينات السينما الإيطالية، بمقاربتها الباروكية التفخيمية. ولإخراج بيللوكيو الفضل الكبير في إيصال الفيلم إلى هذه الدرجة من الروعة في الطرح والمعالجة. في حين يتولى الأداء الفظيع لبيارفرنتشسكو فافينو، اعطاء وجه معذّب لرجل يغادر الفيلم راسماً الكثير من علامات الاستفهام حوله.

من الكنيسة إلى الفاشية عبوراً بالمافيا، يمكن القول ان هناك ما شغل بيللوكيو طوال حياته وألهمه لإنجاز ما أنجزه. انه الضمير والفنّ اللذان يجتمعان في شخص واحد!

 

النهار اللبنانية في

31.05.2019

 
 
 
 
 

سيلين سيامّا الفائزة بجائزة السيناريو في كانّ:

الأدب غيّب الغرام بين الفتيات والسينما تصحّح هذا الخلل

كانّ - هوفيك حبشيان

قدّمت المخرجة الفرنسية سيلين سيامّا هذا العام في مهرجان كانّ (١٤ - ٢٥ أيار) أحد أروع الأفلام المعروضة في المسابقة، "بورتريه فتاة تحترق"، فازت عنه بجائزة السيناريو. هي في الأصل كاتبة سيناريو، وشاركت في تأليف "عندما نكون في الـ١٧"، إخراج أندره تيشينيه. سيامّا انطلقت في كانّ عام ٢٠٠٧ مع "ولادة الأخطبوط" ("نظرة ما")، وهذا الذي شاهدناه هو عملها الرابع اخراجاً. الفنّ والغرام والأحاسيس المكبوتة، هذا كله على مائدة فيلم يحملنا إلى القرن الثامن عشر، لسرد قصّة تتمحور على رسّامة شابة (نويمي مرلان) تطلب اليها سيدة أريستوقراطية (فاليريا غولينو) رسم بورتريه ابنتها (أديل هانل) الخارجة للتو من الدير وفي طريقها إلى بيت رجل من ميلانو تطمح أمها في تزويجها له. الا ان الابنة غير مرتاحة لهذا الخيار، فترفض ان يتم رسمها. عندئذ، لا يبقى أمام الرسّامة سوى ان ترسمها من دون علمها. ولكن، عليها أولاً ان تألفها وتألف تفاصيلها والنحو الذي تتحرك فيه

جزيرة بروتانية هي مسرح الأحداث واللقاءات والمشاهد الحميمية، مع ما يقدّمه هذا المكان من مناظر رومنطيقية خلاّبة تُدرج فيها الشخصيات لتصبح بسرعة كالسمكة في مياهها. هذا الديكور سيشهد نشوء علاقة غرامية جميلة بين الفتاتين، الرسّامة وموديلها، علاقة تقوم على ايحاءات ومشاركة تفاصيل جميلة كأنها من عالم الأدب. يوثّق الفيلم لحظة ولادة الشهوة الجنسية والرغبة العاطفية بين كائنتين، على نحو جد حسيّ، خطوة خطوة وبالكثير من الامعان في التفاصيل الدالة. اذا كان صحيحاً ان خطاب الفيلم الأساسي يرتكز على عرض لوضع المرأة في القرن الثامن عشر (تقريباً كلّ طاقم العمل تألف من نساء)، الا انه لن يكون هذا شغله الشاغل الوحيد. فالفيلم يتأمل أيضاً في مسألة الفنّ والتجسيد ويذهب في اتجاه غير متوقع. اللوحة ما إن تُرسم حتى تنتهي الحجّة ويدخل الفيلم في اعتبارات أخرى، من دون ان ينسى توجيه تحيّة إلى الرسّامات اللواتي لم توفّر السينما لنا فرصة مشاهدتهن خلال الرسم.

"بورتريه فتاة تحترق" عمل استيتيكي كبير يقارب المرأة وجسدها والوصاية المفروضة عليه أحياناً، اجتماعياً وأخلاقياً وفنياً، من وجهة نظر مخرجة صاحبة موهبة خارقة. في الآتي، لقاء "النهار" مع سيلين سيامّا (١٩٧٨) عشية فوزها في كانّ.

ربط الرغبات

"بدأتُ العمل على هذا الفيلم مباشرةً بعد آخر فيلم لي، ولكني حلمتُ به طويلاً، ثلاث سنوات تقريباً، قبل ان أنطلق في تأليف السيناريو. كان عليّ ان أربط كلّ الرغبات بعضها ببعض، واعطيها شكلاً مناسباً. كانت لي تساؤلات كثيرة: كيف نروي قصّة حب؟ كيف نروي ذكرى قصّة حب؟ ثم، كيف نوثّق خطوة خطوة الوقوع في الحبّ، مع كلّ ما يتطلبه من لجوء إلى أدوات السينما ومواردها، ومع كلّ المتعة التي توفّرها عملية الإخراج؟ ثم، أخيراً، استحضار كلّ عظمة قصّة الحبّ بعدما أصبحت معيشة، كذلك كلّ الفلسفة المرتبطة بها، والحيز الذي يشهد لتحررها. هذا كله شغلني طويلاً".

رسّامات في الظلّ

"حضرني العنوان قبل ان أكتب السيناريو. لا أعرف من أين جاء. أعتقد انه كان دليلي. وجب علينا خلال التصوير اشعال النار وتغذيتها في الوقت نفسه. فكرة إمرأة ترسم أخرى جاءت بسرعة، أما الفكرة التي أتت لاحقاً وحررت الكتابة، هي فكرة رسمها في السر، أي من دون علمها. كان هذا أشبه بمحرك نضعه في السيارة لننطلق بمشوارنا. أجريتُ الكثير من البحوث عن رسّامات نشطن في تلك الحقبة (القرن الثامن عشر)؛ كنت أعرف طبعاً أكثرهن شهرةً مثل إليزابيت فيجيه لوبران أو أنجليكا كوفمان، كنت أعرف ثلاثاً أو أربعاً منهن، لكني اكتشفتُ عشرات الفنّانات التشكيليات بعد الغوص في تفاصيل تلك الحقبة.

هذا يعني انه كان هناك مشهد فني غني جداً، وكانت لحظة تحرر قوية جداً للرسّامات، وخصوصاً ان رسم البورتريه كان رائجاً، ولكونه صُنِّف فنّاً ثانوياً، فكان يُسمح للنساء باشتغاله (ضحك). اذاً، اكتشفتُ الكثير من أعمالهن، والكثير من بورتريهاتهن الذاتية. اللافت ان تاريخ الفنّ حذفها، تم التعتيم على هذه الرسوم، وهذا يعني اننا لم نُحرم من أعمال فنية فحسب، بل من شكل من أشكال الذاكرة. تخيل انه لا توجد لوحات تظهر سيدة خلال دورتها الشهرية، أو لوحات تروي ماذا يعني ان تقوم بعملية إجهاض، مثلما لا يوجد الكثير من الأدب الذي يسرد معنى الوقوع في الحبّ بين فتاتين في العصور الماضية. السينما تصحح هذا الخلل من خلال إعادة احياء الذاكرة. لهذا السبب لا أشعر بأني أنتقل عبر الزمن. عندي إحساس أني أروي شيئا قلما رُوي عنه".

لحظة انقلاب

"أردتُ فيلماً مكثّفاً. هناك القليل من المَشاهد، ٦٩ فقط. هذا عدد قليل جداً. كذلك بالنسبة للوحدات التصويرية. وددتُ ان تكون المَشاهد طويلة، وألا تتمحور حول فكرة واحدة، أرتأيتها لعوبة، أي ان تنطلق من مكان وتحط في مكان آخر. كان في بالي فيلم قائم على التنوّع بدلاً من الكونتراست. استخدمتُ الصورة والصورة المقابلة خلال الحوارات، وكان هذا مجال اختبار جديداً لي لأنني لم أعتد عليه. كان المقصود من خلاله خلق لغة بين الفتاتين، تتطور لتصبح لغة الفيلم، وهي لغة كان في نيتي ان أجعل المُشاهد يحكيها فجأةً. اللافت انك اخترتَ لحظة معينة من الفيلم للحديث عن لحظة انقلاب. كثر حكوا لي عن انقلاب، ولكن أحداً منهم لم يضعه في اللحظة التي هي فعلاً لحظة انقلاب. وهذا الامر مثير للشغف. بالنسبة لي كشخص شاهد الفيلم ٩٠ مرة، لحظة الانقلاب هي عندما تنظر أديل إلى اللوحة وتقول: "أهكذا ترينني؟". هذه هي لحظة الانقلاب. لأنها تنطوي على حوار ذهني يضع الشخصيتين فجأةً على قدم المساواة. مساواة في المعرفة ومساواة في طبيعة العلاقة. والحق ان الفيلم مبني على سؤال المساواة بين الشخصيات، فأردتُ قصّة حبّ تنطوي على المساواة، علاقة بين الفنّان والموديل، وهي علاقة أفقية وليست عمودية. لذلك، أنا أرى لحظة الانقلاب هنا، غيرك يراها في مشهد احتراق اللوحة. أياً يكن، الفيلم يعطي مساحة للمُشاهد. أحاول دائماً صناعة أفلامي كحالة تطوّر. وأعتقد ان هذا مهم عندما يكون حديثنا هو الحبّ".

رواية الممكن

"لم يكن في ودي ان أكون إلى جانب المستحيل. لم أرد رسم قواعد لعالم، كون الجميع يعرف هذه القواعد جيداً. تجنبتُ وضع الفتاتين في حال اشتباك مع العالم، بدلاً من ذلك وددتُ وضعهما في الممكن. البطريركية أشبه بسفينة داخل سفينة تتعرض للغرق. لا أقول ان البطريركية ستغرق، ولو أني أتمنى لها ذلك من كلّ قلبي، من أجلنا جميعاً. ولكن، أنا لم أرغب ان أروي الحتمية، بل ما هو ممكن، وهذه طريقتي لأروي باقي الأشياء".

أديل ونويمي

"فكرتُ بأديل هانل وأنا أؤلف السيناريو، وهو يدور حولها وإن كانت شخصية ثانوية. ولكن لا توجد هرمية في توزيع الأدوار، حتى تقنياً. فالفيلم ليس من وجهة نظرها، فهي ناظرة ومنظورة. نحن تعرفنا إحدانا إلى الأخرى أثناء عملنا في السينما، وكان لنا حوار سينمائي لم يتوقف، وتعاون فكري مستمر، ومن أجل كتابة هذا الدور لها استندتُ إلى كلّ شيء أعرفه عنها كممثّلة، وأيضاً لجأتُ إلى كلّ ما لم أكن أعرفه عنها، أشياء ربما حتى هي لم تكن تعرفها عن نفسها. رغبتُ بأديل جديدة، بنبرة صوت مختلفة، بإيقاع مختلف، وهذا يتطلب ان نعرف الشخص جيداً، وان نثق به، للقيام بهذه المجازفة معاً. أما نويمي (مرلان)، فلم أكن شاهدتها قط في فيلم، ولكن كنت أريد ممثّلة لها خبرة ونشيطة وشجاعة، وفي نويمي يجتمع هذا كله. وددتُ ان أخلق ثنائياً سينمائياً بالمعنى الأيقوني. وما جعلني أختارها هو مفهوم المساواة. قابلتُ ممثّلات أصغر منها سناً، وقابلتُ ممثلات يكبرنها سناً، وعندما جاءت نويمي لاحظتُ أنها من عمر أديل بالضبط ومن طولها أيضاً. فجأةً، مبدأ المساواة هذا بين الشخصيات بدا صارخاً عندما وقفت الواحدة منهما جنب الأخرى. كان عندي شعور بأن كلّ شيء حيّ، لأن علاقة الهيمنة كانت معدومة".

انفجار الفنّ

"في الأصل، كان الفيلم خالياً من الموسيقى، ما عدا مقطوعتين، إحداهما لفيفالدي، يعرفها الجميع. ثم، كتبتُ مشهداً معيناً فرغبتُ بابتكار موسيقى من وحي ليغيتي. اقتربنا بعض الشيء من كوبريك. يخيفني إنجاز فيلم عن قصّة حبّ بلا موسيقى. لكن، كان هذا خياري في ما يتعلّق بديناميكية إعادة إحياء الحقبة التي صوّرتها، والإحساس الذي ينبعث منها. وددتُ ان أضع المُشاهد في حالة مشابهة لتلك التي كان فيها ناس تلك الحقبة، حيث كان الاستماع إلى الموسيقى شيئا ذا قيمة وكانت مطالعة كتاب شيئاً ذا قيمة أيضاً. رغبتُ ان يكون انفجار الفنّ في لحظة ما مفاجئاً سواء للمُشاهد أو للشخصيات. هذا لأن الفيلم يتحدّث عن الفنّ، وعن تعاون فنّي بين شخصين، وعن إمرأة فنّانة، وكذلك عن المكان الذي يشغله الفنّ في حياتنا، وعن الفنّ كشيء نتغذى منه، وعن الحبّ كطريق إلى الفن".

علاقتي السرية

"أتنقّل بين تأليف سيناريوات للآخرين وسيناريوات لي. مضت خمس سنوات مذ كتبتُ نصّاً لي. شعرتُ بمتعة وأنا أعيش الوحدة خلال مزاولة الكتابة. يحلو لي ان ألجأ إلى نفسي عندما أكتفي من الآخرين، ثم ان أعود وأدخل في رؤوسهم عندما أكتفي من نفسي. علاقتي جد سرية بما أفبركه. لا أدع أحداً يقرأ السيناريو حتى. ولكن في المقابل، يمكنني ان أروي لك بالضبط كيف أفبرك الأشياء". 

 

النهار اللبنانية في

01.06.2019

 
 
 
 
 
 
 

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك © 2004