كان 72- فيلم السعفة الذهبية:
Parasite..
عن طفيليات بشرية وأماكن متصارعة
أحمد شوقي
يُعرّف القاموس الطفيلي
Parasite
بأنه "كائن حي يعيش في أو على كائن من نوع آخر هو العائل أو المضيف
host،
ويقوم الطفيلي بالاستفادة عبر استخلاص الغذاء على حساب العائل". هذا هو
التفسير القاموسي، فماذا عن التفسير الفيلمي؟ ومن هو الطفيلي في فيلم
المخرج الكوري الجنوبي بونج جون-هو الذي صعد بصانعه لأعلى قمة هرم السينما
العالمية للعام الحالي، عبر حصد السعفة الذهبية لمهرجان كان السينمائي
الثاني والسبعين؟
إذا كانت الطفيليات البيولوجية كائنات تابعة، ضارة في أغلب
الأحوال، تعيش على هامش كائنات أرقى وتتغذى من خلالها، فإن جون-هو لا يضيع
الكثير من الوقت قبل أن يُقدم إشارات أولية لتشابه حياة الأسرة التي
يتابعها الفيلم مع الأوصاف السابقة. أب وأم وابن وابنة يعيشون في منزل فقير
أقرب للجُحر، موقعه تحت الأرض، يرون من نافذته أقدام البشر، ولا يتورع بعض
السكارى عن التبول على النافذة وأمام أعين سكانها الملحوظين بالكاد.
كارثة كبرى ينطلق بها الفيلم، أو هكذا تبدو على الأبطال
الأربعة، كارثة تتلخص في تعديل كلمة سر شبكة الإنترنت الخاصة بالجيران
والتي كانوا يستخدمونها خلسة، ولا يبدو من طريقة تعاملهم مع انقطاع
الإنترنت المجاني أن الاشتراك بشكل قانوني وامتلاك خط إنترنت خاص بالأسرة
هو احتمال وارد لدى أي من الأربعة.
لا يوجد ما هو أوضح: هؤلاء كائنات طفيلية، تعيش دون خجل على
فتات الآخرين. لكن هل يكفي تفسير مباشر وبديهي كهذا يأتي في الدقائق الأولى
ليجعل من فيلم "طفيلي" عملًا جديرًا بهذا التقدير الهائل الذي ناله بمجرد
عرضه في كان، وقبل حتى أن ينال جائزة المهرجان الكبرى؟ بالتأكيد لا يكفي،
لكنه مجرد مدخل للحكاية الشيقة التي تقوم على تشبيه الأبطال بالطفيليات،
بما يعنيه ذلك من نمط تصرفات ستتوالي لتؤكد هذا الوصف وترسم علاقة الأسرة
الطفيلية بالأسرة العائلة.
عدوى واختراق وتوسع
الأمر يبدأ دائمًا بالعدوى، بالسماح للطفيلي بالدخول إلى
عالم يبدو آمنًا وحصينًا. الابن يتمكن من إقناع ربة المنزل الثرية بأنه
أفضل معلم انجليزية يمكن أن تعثر عليه ابنتها المراهقة، لا يتورع عن
التزوير والكذب والتلاعب بالمشاعر من أجل إيجاد مكانه ثم أماكن ذويه داخل
المنزل الكبير.
خطة تلو الأخرى وخداع يلي الآخر يمارسها الأبطال حتى يحكموا
السيطرة على جميع الوظائف المنزلية لدى الأسرة الثرية، دون أن يعرف ـ أو
يشك ـ أصحاب المنزل أن موظفيهم هم أفراد أسرة يعودون في نهاية اليوم إلى
البيت نفسه. حتى يبلغ الأبطال هدفهم بالسيطرة الطفيلية الكاملة على الحياة
اليومية لمنزل العائل، وعند هذه اللحظة يبدأ الفيلم الحقيقي.
يُمسك جون-هو بنبرة بالغة الدقة تكاد تكون أذكى ما في
فيلمه؛ لا يحب ولا يدين، أو يحب ويدين في الوقت ذاته. لا يمكنك مع ذكاء
الأبطال الأربعة وخفة ظلهم إلا أن تنخرط في متابعة خطتهم وتجد نفسك راغبًا
في نجاحها، دون أن يُبرر الفيلم ما يحدث أو يجعله نتيجة طبيعية للظروف. لا
يُنكر "طفيلي" للحظة كونه فيلمًا، شخصياته أكبر من الواقع في قدراتها
وأفعالها، وأحداثه جذابة لبنائها وتشويقها قبل أي قيمة أخرى ستُظهرها
لاحقًا التقلبات التي ستطرأ على الحكاية، ليس فقط على مستوى الأحداث، وإنما
على نوع الفيلم بشكل عام.
حرية الانتقال بين الأنواع
يبدأ "طفيلي" ويستمر لنصف زمنه تقريبًا ملتزمًا بقواعد فيلم
الجريمة ذات الطابع الكوميدي؛ خطط الأبطال محكمة ومنطقية ويمكن تصديقها،
لكنها مصاغة بكثير من خفة الظل التي تنتزع الضحكات، ومع سفر أصحاب المنزل
إلى معسكر خارج المدينة وتركهم المنزل تحت تصرف موظفيهم الطفيليين، يتكسر
تدريجًا تماسك الوضع الدرامي وينقلب طابع ونوع الفيلم أكثر من مرة.
لن نحرق تفاصيل الحكاية لكن اكتشاف كبير يتعلق بمنزل
العائلة الثرية يُعمق الحكاية في لحظة، ويجعلها أكبر من مجرد صراع خفيف
الظل بين أسرتين، أو حتى بين طبقتين اجتماعيتين. يتغير إيقاع الأحداث ويغدو
النوع أكثر قتامة. تتقدم الدراما الاجتماعية والكوارث البيئية ثم
السايكودراما لتحتل الصدارة، وتتحرك كرة جليد الفيلم باندفاع فتطرق في
مسارها المفاجئ العديد من الأبواب والأفكار.
ومع تطوّر الحكاية وتشابك مواقف الشخصيات يبدأ المخرج في
مسائلة النظام الطبقي في كوريا الجنوبية، دون قسوة تفرض أحكامًا قاطعة على
العالم، وإنما هي مسائلة هادئة، لا ترى الوضع القائم مأزومًا قدر كونه
صالحًا لاستقبال الأزمات إذا لم يتم الانتباه لأخطاء الطرفين: الطفيليون
الساعون لامتصاص قوتهم من الغير بأي وسيلة، ومن يدفعونهم لليقين بأن ذلك هو
السبيل الوحيد للعيش.
المكان بطلًا
فيلم بونج جون-هو ينشغل بأكثر ممتلكات البشر خصوصية:
منازلهم، غرف نومهم، ملابسهم، دفاتر يومياتهم، وحتى رائحة أجسادهم. كلما
ازداد الشيء التصاقًا بصاحبه كلما صعب تزييفه أو الانسلاخ عنه. يمكنك أن
تدعي الانتماء لحيٍ راقٍ لكنك ستعود في نهاية اليوم لمنزلك الفقير، يمكنك
التظاهر بسلوك يخالف جذورك لكنك لن تتخلص من رائحة عالمك الملتصقة بجلدك.
وفي هذا الاقتران التي يُقسم البشر ـ بإرادتهم أو رغمًا عنها ـ تكمن قدرة
الفيلم على التعبير بحساسية مفرطة عن قضية لطالما اقترن طرحها بسينما
المباشرة والقبضات المرفوعة.
الاهتمام الكبير بالمساحات الخاصة يظهر بوضوح في تعامل
الفيلم مع مواقع التصوير، وبالتحديد المكانين اللذين يحتضان أكثر من ثلاثة
أرباع زمن الفيلم: منزلا الأسرتين. لا مجال هنا للصدفة أو التعامل مع
المتاح، كل شيء مُصمَم بعناية في منزلين يمثلان شخصيتين فاعلتين في الدراما.
منزل الأسرة الفقيرة المدفون تحت الأرض بنافذته المطلة على
الأقدام، وسوء تصميمه الذي يجعل المرحاض هو أكثر نقاطه ارتفاعًا عن الأرض
واقترابًا للحرية، ومنزل الأثرياء الأقرب للقصر، بالعلاقات الجغرافية بين
المطبخ والحديقة وغرف النوم، وما يكشفه الفيلم لاحقًا من أسرار يخفيها
تصميم المنزل.
"طفيلي"
إذن حكاية أشخاص وأماكن؛ فالحكاية في جوهرها هي صراع بين هويات تُشكلها
المنازل التي أتت منها كل شخصية. صراع رسمه بونج جون-هو بصورة شيقة،
متماسكة نصًا وإخراجًا، ليمنحنا فيلمًا يصعب الاختلاف حوله. فيلم سيكفل
هدنة مؤقتة للصراع الأزلي بين سينما النخبة وسينما الجمهور العريض، ففي كان
2019 ولحسن الحظ ذهبت السعفة الذهبية لفيلم قادر على إمتاع وإشباع الطرفين. |