كتبوا في السينما

 

 
 
 
 
 

ملفات خاصة

 
 
 

«الشرق الأوسط» في مهرجان «كان» (11) والأخيرة:

قراءة في جوائز الدورة الجديدة

خيبات أمل غالبة وأسئلة لا أجوبة لها

كان: محمد رُضـا

كان السينمائي الدولي

الدورة الثانية والسبعون

   
 
 
 
 
 
 

تشي النتائج التي توصلت إليها لجنة التحكيم في نهاية الدورة 72 بذات المشاكل التي تتبلور كل سنة من جراء ثوابت اختيار يبدو كما لو أنها تظلل كل لجنة تحكيم.

كان رئيس لجنة التحكيم المخرج المكسيكي أليخاندرو غونزاليس إيناريتو، واضحاً عندما ألقى خطبته (بالإنجليزية وليس بالإسبانية كما فعل في حفل الافتتاح)، وقال إنها كانت «سنة عظيمة ومتعددة الاتجاهات». ثم كان أقل وضوحاً عندما أكد في نهاية الحفل ومباشرة قبل تقديم الفيلم الفائز بالسعفة الذهبية أن التصويت كان ديمقراطياً، وكرر الكلمة ما قد يفيد بأنه أيضاً كان حافلاً بوجهات نظر متباينة.

كنا أشرنا إلى بعض المشاكل في هذا الإطار: ستة مخرجين في لجنة واحدة لا بد أن ينشأ عنها اختلافات كبيرة. لذلك انبثق عن تعدد الأصوات ستة جوائز كل منها تبدو كما لو كان صيداً في حقل مختلف. ومع أن إيناريتو أكد ديمقراطية التصويت (وهو أمر طبيعي) إلا أن معظمها ذهب لسينمائيين جدد على حساب سينمائيين لهم سنوات مديدة من التجربة. ليس لأن أفلام الجدد أفضل، بل - غالباً - تشجيعاً لهم.

لكن ما هو واضح أيضاً هو أن النتائج حملت بصمة لاتينية وفرنسية ونسوية. كل منها له الحق في الفوز طالما أن ما يعرضه هو الأفضل فعلاً. لكن هل كان الأمر كذلك بالنسبة لمعظم من فاز؟ وما هو تفسير وجود 14 فيلماً إما فرنسي خالص أو بمساهمة فرنسية رئيسية بين 21 فيلماً مشتركاً في المسابقة؟

- ما بين سليمان وداردان

لا يمكن القول إن فيلم المخرج الفلسطيني إيليا سليمان «لا بد أنها الجنة» هو أفضل أفلامه. فاز بالتنويه فقط، وهذا ربما أسوأ من ألا يفوز مطلقاً. يؤدي إيليا سليمان شخصيته في فيلم يدور حوله كمخرج فلسطيني من الناصرة ينتقل منها إلى باريس ومنها إلى نيويورك بحثاً عن تمويل لأحد أفلامه. في كل مدينة من هذه المدن هو مراقب صامت (لا ينطق إلا مرّة واحدة خلال الفيلم). يلحظ في فلسطين ما يقوم به جاره من تدخل في شؤون حديقته الخاصة. يقطف منها الليمون الحامض ويشذب أغصانها ويسقيها كما لو كانت الحديقة ملكه. جار آخر له يحكي له قصة أفعى كبيرة شكرته عندما صد عنها هجوم نسر كبير ثم - عرفاناً بمعروفه - قامت بنفخ عجلة السيارة المعطوب وأصلحته. وهو في الأسواق يلحظ أمارات أخرى لحياة ذات هدوء مستفز.

بعد نصف ساعة هو في باريس ليقابل منتجاً. يحمل معه قبعة رأسه (تلك التي ظهر فيها على المنصة عند تسلم التنويه) ويرقب حالات غريبة مثل كيف يطارد البوليس شاباً أو كيف تهدر الدبابات في شوارع ضيقة وكيف يقيس بعض رجال الشرطة مساحة المقهى للتأكد من أنه لم يتجاوز الحجم المحدد له وتلك المرأة التي تمشي وحدها على رصيف المترو وخلفها ستة رجال شرطة مسلحين يرقبونها لأن لا أحداً آخر هناك لمراقبته.

لقاؤه مع المنتج الفرنسي ينتهي برفض المنتج التمويل على أساس أن المشروع «ليس فلسطينياً كفاية»، وفي نيويورك يتركه وكيل أعماله الذي صحبه لكي يعرض المشروع على شركة إنتاج وحده ويمضي للاجتماع من دونه. بالطبع لا يختلف الوضع في نيويورك عن سواها: سليمان هناك يرقب ويحفظ ويتعجب صمتاً.

هو أقرب للكوميدي الفرنسي جاك تاتي في كل ذلك. لكن ذلك الكوميدي الكبير كان يوفر كوميديات تثير الضحك وليس مجرد مشاهد تعكس التعجب. لم ينطق تاتي كثيراً، بل لاحظ جنون الحياة العصرية التي هو ضحية لها. عند إيليا سليمان هذا الدور قاصر على عرض الحال الذي يبقى بلا تعليق، وغالباً لا يُصدق.

حين يأتي الأمر لجائزة أفضل إخراج، تلك التي نالها الأخوان جان - بيير ولوك داردان، فإن المسألة لا تستطيع حمل أعذار. الجائزة محددة بالإخراج الذي هو على صعيدين دائمين: كيفية معالجة ما هو مهم للطرح وأسلوب المقاربة مع الموضوع المطروح. في كلا هاتين الخانتين لا يشكل فيلم «الفتى أحمد» أي سابقة تستحق الاحتفاء، ناهيك عن أنه ليس الإخراج الأفضل مما شاهدناه في أفلام المسابقة هذه السنة.

لا هو أفضل إخراجاً من فيلم كن لوتش «آسف، افتقدناك» ولا أفضل إخراجاً من فيلم كونتِن تارانتينو «ذات مرة في هوليوود» (ولو أنه ليس أفضل أفلامه) وبالتأكيد ليس أفضل من الجهد الفني البديع الذي وفّره ترنس مالك في «حياة خفية».

- حسنتان

تجوز المقارنة كذلك بين سيناريو الفرنسية سيلين شياما لفيلم «صورة لسيدة على نار» وبين سيناريو فيلم كونتِن تارنتينو «ذات مرّة في الغرب». المسار الذي غلب على سيناريو شياما تقليدي بالمقارنة مع ذلك الذي وضعه تارنتينو. ينتصر الأول على الثاني في ناحية أنه محدد الاتجاه، لكن سيناريو تارنتينو عن حالات جامعة من أحداث ومواقف لشخصيات مختلفة تلتقي وتنفرد ثم تلتقي من جديد تحت ظل موضوع أهم شأناً.

وسواء كان فوز «صورة لسيدة على نار» (اسم اللوحة التي وضعتها بطلة الفيلم عن امرأة وقعت في هواها) مستحقاً أم لا، فإن المرء لا يستطيع أن يتغاضى عن ملاحظة أن الفيلم كان أحد ثلاثة أفلام دارت حول المثلية (مباشرة أو خفياً). الآخران هما «ألم ومجد» لبدرو ألمودوفار و«مكسيم وماتياس» لإكزافييه دولان. شيء مقلق عندما يكون أحد هذه الأفلام («مكسيم وماتياس») لا قيمة فنية له على الإطلاق.

كل هذا من نسيج مفاده أن الأفلام التي كانت تستحق الفوز غابت بمعظمها عن النتائج وأن تلك التي تنتمي إلى مخرجين جدد برهنوا في أفلامهم الفائزة (مثل «أتلانتيس») وتلك التي لم تفز («المصفّرون») على أنهم نواة مستقبلية من المبكر الاحتفاء بها في مهرجان غير مخصص للمخرجين الجدد كما حال «لوكارنو» مثلاً.

حسنتان وحيدتان خرجت بهما هذه النتائج: الأولى أن فيلم «طفيليات» للكوري جون - هو بونغ استحق جائزة المهرجان الذهبية وأن فيلم عبد اللطيف كشيش «مكتوب، حبي 2» لم يكن من بين الأفلام الفائزة.

 

الشرق الأوسط في

27.05.2019

 
 
 
 
 

مهرجان كانّ وزّع جوائزه:

قلب لجنة إينياريتو هتف للكائن المسحوق من كوريا إلى فرنسا

كانّ - هوفيك حبشيان

بعد ١٢ يوماً من المشاهدة الأكولة لأفلامٍ أتت الينا من كل أصقاع الأرض، اختُتمت أول من أمس الدورة الـ٧٢ من مهرجان كانّ السينمائي (١٤ - ٢٥ الجاري) التي غطتها "النهار" تغطية يومية، باحتفال توزيع الجوائز. تم تسليم المخرج الكوري الجنوبي بونغ جون هو "السعفة الذهب" عن فيلمه الجميل "بارازيت". عمل أغوى الجمهور والنقّاد منذ لحظة عرضه الأول يوم الثلثاء الماضي، وخلق حالة من الإجماع حوله، في حين أن كثرا من الأفلام انقسمت الآراء كثيراً في شأنها. هذه أول "سعفة" ينالها مخرج كوري في المهرجان السينمائي الأكبر في العالم، رغم أن السينما الكورية كانت دائمة الحضور في كانّ، مع سينمائيين نالوا فيه جوائز رفيعة من مثل إيم كوان تك أو بارك تشان ووك.

مع التذكير بأنه نافس بعضاً من أهم معلمي السينما الحديثة، من أمثال ترنس ماليك وبدرو ألمودوفار وكوانتن تارانتينو وعبد اللطيف كشيش، وكلّ هؤلاء لم يحالفهم الحظ مع لجنة تحكيم المخرج المكسيكي أليخاندرو غونزاليث إينياريتو التي اتجهت خياراتها إلى أفلام ذات مضمون إجتماعي وخطاب سياسي يُلتقط من بين السطور، أفلام تعالج قضايا شاملة، بعيداً من أزمة الفرد. أفلام عن مهمّشين ومسحوقين وباحثين عن موطئ قدم لهم في العالم.

بونغ جون هو البالغ من العمر ٤٩ عاماً. بدأ الاخراج في الثلاثين. له سبعة أفلام، "ذكريات قاتل" (٢٠٠٣) و"أم" (٢٠٠٩) من بين أكثرها شهرة. لا مبالغة في اعتباره أحد رواد الموجة الكورية الجديدة. رئيس كوريا مون جاي إن وجّه له تحية أمس على "تويتر"، معتبراً إياه أحد أهم المخرجين في العالم.

يقدّم بونغ جون هو في "بارازيت" خليطاً غريباً من الأصناف السينمائية، كالثريللر والكوميديا وأشياء اخرى تنتمي إلى سياقات السينما الكورية نفسها. هذا كله يسير إلى خواتيمه بايقاع جهنمي يدوم ساعتين وربع ساعة، مفجّراً لحظات ضحك وتشويق ومتعة عند المتلقي. الحكاية محورها عائلة كي تك التي يعاني أفرادها البطالة، ويهتمون جداً بمستوى عيش جيرانهم الأغنياء من عائلة بارك. عندما يضع ابن كي تك رجله في بيت بارك لاعطاء دروس خصوصية بالانكليزية، ستحدث أشياء تخرج عن السيطرة

يضع المخرج الكوري كاميراه في سيول اليوم من أجل فيلم يغلب عليه الطابع الاجتماعي المقنّع، يروي صعوبة العيش والصراع الطبقي بلا كلام مباشر عنهما، ولكن مواربةً، حيث ان الفقراء لا يملكون سوى سرقة الأثرياء. ولكن من الظلم اختزال الفيلم بهذا، إذ إن الفيلم يضعنا أمام مواقف عدة يمتحن فيها أخلاقية الجمهور قبل ان يدين هذا أو ذاك. فلا يبلغ في أي لحظة مستوى الدرس الممل والديداكتية التي بلغها الأخوان داردن في جديدهما على سبيل المثال، بل يبقى على طول الخط "كوميديا اجتماعية"، إذا صح اعتباره كذلك. الا انه، في الختام، يصل خطابه إلى المشاهد بلا أي فلترة.

هذا بالنسبة الى "السعفة" التي يستحقّها على الأرجح بونغ جون هو. أما الجوائز الأخرى، فمعظمها مخيبة جداً، لا بل يمكن نعتها بالفضيحة في ما يخص البعض منها. فمثلاً نال الفيلم الباهت "أتلانتيك"، للمخرجة الفرنسية من أصل سينيغالي ماتي ديوب الـ"جائزة الكبرى" من يدي سيلفستر ستالون الذي كان حاضراً في كانّ هذا العام. يصوّر الفيلم حالة اليأس والتخبط التي يعيشها النسوة في داكار بعدما قرر الرجال خوض مغامرة البحر بغية الهجرة إلى أوروبا. لم يترك الفيلم أي أثر عند كثيرين منّا، نسيناه فور مغادرتنا الصالة. تخلط ديوب الأوراق بين واقعية شفافة ومسحة شاعرية تضرب الفيلم، وهذا ليس دائماً لمصلحته.

إلا أن الفضيحة الكبرى، كما ذكرنا آنفاً، تمثّلت بنيل الأخوين داردن المشاركين في مسابقة كانّ لثامن مرة، جائزة الاخراج، عن "الفتى أحمد"، أحد أضعف أفلام التشكيلة الرسمية، كي لا نقول أكثرها رداءة. أحمد مراهق بلجيكي من أصول مغاربية يقرر قتل معلمته بتحريض مباشر من الإمام الذي يعتبر ما تقوم به من تعليم للغة العربية خارج إطار القرآن مخالفاً للشرع. يقاوم الداردن تجربة الوقوع في "الفيلم الملف" الذي يشرح هذا أو ذاك من وجهة نظر سوسيولوجية، باحثاً عن "مبررات" اجتماعية للتطرف. بدلاً من هذا، يحاولان الاتجاه إلى فيلم يراقب الحركات البدنية للمراهق، بحجة أن الفيلم لا يعاين ظاهرة الإسلام الراديكالي. ولكن، في النهاية، لا نعثر على الكثير من الأسئلة. ما الذي يجعل صبياً في مقتبل عمره يختار أسوأ الطرق، فهذا سؤال لا يشغل الفيلم. مرافعة ساذجة لموضوع خطير. والقول إننا تحمّسنا عندما علمنا أن الداردن سيتحدّثان عن التطرف في المجتمع البلجيكي المعاصر.

الفرنسي "البؤساء" للادج لي تقاسم جائزة لجنة التحكيم مع البرازيلي "باكوراو" للثنائي كليبير مندونسا فيلو وجوليانو دورنيليس. "باكوراو" اسم قرية منسية في البرازيل (منطقة سرتاو)، فيلم غريب اللهجة، "لقيط"، سواء شكلاً أو مضموناً، يتبنى صيغة مختلفة توحي أننا في باروديا لأفلام وسترن ستيناتية. شيء ما بين سينما سيرجيو كوربوتشي وسام بكنباه، ولكن مع إضافات برازيلية. الأحداث تجري في مستقبل قريب جداً، في اشارة واضحة وصريحة إلى حال البرازيل راهناً، اجتماعياً وسياسياً. كأن الفيلم يحذّر من حدوث الأسوأ، تحت سماء ملبدة بالغيوم. الاحساس بنهاية العالم يخيّم على كل ّلقطة، منذ الافتتاحية حتى لحظة الختام. البلدة الصغيرة التي تجري فيها الحوادث قد تختزل في نظر المخرجين، برازيل الحالية الواقعة في فخ الكراهية والعنف والرغبة المتصاعدة في تصفية الآخر، وكلّ هذه الأشياء الآتية من كلّ حدب وصوب، وليست البلدة منبعها في أي حال. أما "البؤساء"، فلم يقنعنا كثيراً. الفيلم من ضواحي باريس التي يلفّها العنف والاهمال والتشدد حيث المهاجرون يعيشون في نوع من غيتوات ويفرضون أحيانا كثيرة قانونهم الخاص، في ظل تغاضي الدولة وأجهزتها. النتيجة مرضية إلى حدّ ما، ذلك ان لادج لي، ابن هذه الضواحي، يعرف عمّا يتحدّث بقدر معرفته بمحتوى جيبه الصغير. ولكن لنطمئن: لسنا أمام تحفة فنية! لا شيء استثنائياً في هذا العمل الذي سارع بعض الصحافة إلى تقريظه على نحو مستفز. حتى ان بعضهم تمنى له "السعفة"، في حين أن النسبة الكبرى من أفلام المسابقة لم تكن عرضت بعد.

المخرج الاسباني بدرو ألمودوفار عاد إلى كانّ بفيلم "ألم ومجد" الذي نال استحساناً من النقّاد والجمهور وبدا أنه من أبرز المرشّحين لـ”السعفة”، هو الذي لم ينلها يوماً رغم مشاركته المتكررة داخل المسابقة. في هذا الفيلم المستوحى من سيرة المخرج نفسه، وإن بشكل غير رسمي، جسّد أنطونيو بانديراس أهمّ دور في حياته، فنال جائزة التمثيل المستحق. أما جائزة التمثيل النسائي فذهبت، يا للغرابة، إلى الممثّلة الانكليزية الأميركية إيميلي بيكام عن "ليتل جو"، إخراج جسيكا هاوزنر.

إذا كان هناك فيلم من بين تلك التي حصلت على جوائز كنّا نتمنى لو فازت بشيء أهم ممّا فازت به (جائزة السيناريو) فهو "بورتريه فتاة بالنار" لسيلين سيامّا. في رابع أعمالها الطويلة، تقدّم سيامّا عملاً استيتيكياً بديعاً عن علاقة غرامية تجمع فتاتين في نهاية القرن الثامن عشر، يتم توظيف واحدة منهن، وهي رسامة، لتضع بورتريه للثانية بهدف استخدام الصورة لتزويجها. الثنائي الذي يتألف من الممثّلتين أديل هانل ونويمي مرلان يسحق القلب، وكان أهلاً بجائزة تمثيل مناصفة.

أخيراً، فاز الممثّل والمخرج الفلسطيني إيليا سليمان، العائد إلى كانّ بعد عشر سنوات بـ"لا بد انها الجنة"، بتنويه خاص من لجنة التحكيم (نال كذلك جائزة الاتحاد الدولي للنقّاد). في جديده يبحث سليمان عن وطن سينمائي يحضنه. يترك مسقطه الناصرة ذات يوم، حيث الشخصيات الغريبة والممارسات التي لم تتغير كثيراً منذ "يد إلهية" (٢٠٠٢) ليحط في باريس، ومنها إلى نيويورك. يراقب ولا يحكي، عبر مجموعة لوحات كوريغرافية تقول معنى ان يكون المرء فلسطينياً في العالم. جمهور كانّ صفّق طويلاً للفيلم الجميل، كثر رشّحوه لجائزة أساسية، ولكن كان للجنة التحكيم رأي آخر، اذ فضّلت عليه أفلاماً أقل قيمة

 

النهار اللبنانية في

27.05.2019

 
 
 
 
 

المدى في مهرجان كان السينمائي 72:

فيلم «الخائن» لماركو بيلّوكّيو يروي عن المافيوي الذي هزم المافيا

عرفان رشيد - مهرجان (كان) السينمائي الدولي

"لا وجود لما تسمٌونها أنتم بـ «المافيا».. فحن نسمٌي ما تُطلقون عليه ذلك الاسم «كوزا نوسترا» - أي ما يخصٌنا- وأنا لست إلٌا جنديٌاً بسيطاً في جيش "كوزا نوسترا".

هذا ما يقوله عراب مافيا «كوزا نوسترا» الشهير تومٌازو بوشّيتّا في اللقاء التحقيقي الأول أمام القاضي جوفاني فالكوني وفي الاستجوابات اللاحقة داخل قاعة المحاكمة الكبرى التي أدخلت العشرات من قادة وعرّابي المافيات أقفاص الاتّهام، بالذات عبر ما أدلى به بوشّيتّا لفالكوني منذ مطلع التسعينيات بعد أن صفّىت زعامات عصابات كورليوني بزعامة توتو ريينا أفراد عائلته، بمن فيهم ولديه الشابين

أسمى بوشّيتّا ما كان يُدلى به أمام القاضي والمحكمة بـ «الإفادات» وليس بـ «الاعترافات»، لأنه اعتبر نفسه، كما قال "لست نادماً، بل مدافعاً عن كوزا نوسترا التي حرَّفها توتر ريينا بدمويته عن مسارها. وحين أتاحت له المحكمة مواجهةً مع العراب الأكبر توتو ريينا، وهو الأكثر دموية في تاريخ كوزا نوسترا، حدّق بوشّيتّا مباشرة في عيني من أفزع الآلاف وقال له ”لن تكون الدولة هي من سيدحر «كوزا نوسترا»، بل أنت، لأنّك حرفت المنظمة عن مسارها وأخلاقيّتها». 

يُصرّ تومّازو بوشّيتّا في إفاداته للقاضي فالكوني بأنه كان وما يزال «رجل كلمة الشرف»، وهي الصفة التي تُطلق على من ينتظم بشكل عضوي في صفوف المافيا. واعتبر عرّابا كوزا نوسترا المشهوران، توتو ريينا وبيرناردو پروفينتسانو، هما من قادا «كوزا نوسترا» صوب هاوية الإجرام. فـ ”المافيا القديمة لم تكن تقتل الأطفال أو النساء أو القضاة“، وبرُغم اعتراض القاضي فالكوني على تأكيدات العرّاب هذه، فقد لمس لديه، ببصيرة الصقلّي العارف لطبائع أبناء جلدته، قدراً من الصدق، الذي سرّب عبره بوشّيتّا من الأسرار التي مكّنت القضاء توجيه ضربة موجعةٍ إلى قلب المافيا، أو بالأحرى إلى «قُبّتها».

كلّ ذلك موثّقٌ في شريط المخرج هو الايطالي الكبير ماركو بيلّوكيو «الخائن» الذي تناول مافيا كوزا نوسترا الصقلّية، عبر الشخصية الرئيسة فيه هذه المنظّمة الإجراميّة. وعراب المافيا الشهير تومّازو بوشّيتّا، الذي صفّى توتو ريينا جميع أفراد عائلته، فيما سمح، هو، باعترافاته وانسحابه من كوزا نوسترا، بإماطة اللثام عن أسرار مثيرة وكثيرة عن تركيبة عصابة الإجرام المنظّم هذه، وبنائها الهرمي، وتركيبة الزعامة المعروفة ب "القبّة". 

عُرض الشريط في المسابقة الرسمية للدورة الثانية والسبعين لمهرجان «كان» السينمائي الدولي، وهي مشاركة بيلّوكّيو الخامسة في هذا المهرجان العريق

وتزامن العُرض الرسمي للفيلم في يوم الثالث والعشرين من أيار، المُصادف للذكرى السابعة والعشرين لاغتيال القاضي جوفاني فالكوني بعملية تفجير رهيبة في الطريق ما بين مطار پاليرمو الصقليّة ومركز المحافظة، تلتها عملية تفجير أخرى في التاسع عشر من تموز/ 1992 أودت بحياة القاضي پاولو بورسيلّينو، زميل فالكوني ورفيق حياته منذ أيام الصبا. وباغتيالهما أزاحت كوزا نوسترا عن طريقها أهم قاضيّيْن قضّا مضاجعها، لذا لم يكن عجباً أن يحتفل المافيون بعد تلك العمليّتين بفتح العديد من قناني الشمبانيا.

معارف بمثابة الحكم بالاعدام

أنت وأنا، جناب القاضي، محكومٌ علينا بالموت، والسؤال الوحيد في هذا الصدد ليس أين أو كيف، بل هو، حول من منّا، نحن الإثنين، سيُقتل قبل الآخر!“ هذا ما يقوله بوشّيتّا لجوفانّي فالكوني، لإدراكه بأنّ كوزا نوسترا له تغفر له هو شخصياً «خيانته»، كما إنّها لن تغفر لفالكوني تعرّفه واطّلاعه على أسرار عبر إفادات بوشّيتّا

يقول ماركو بيلّوكيو ”إطّلعت على تفاصيل حياة شخصية لم أكن أعرف عنها الكثير، وكنت كمن يُجري تحقيقاً داخل تحقيق“ ويُضيف ”إنّ شخصية بوشّيتّا فريدة من نوعها، فهو، بشكلٍ ما خائن، كما أنّه ليس كذلك في عين الوقت. وهو، في حقيقة الأمر، أبعد ما يكون عن البطولة، إذْ هو إنسانٌ فقد كلّ شيء وَثَقَ بالقاضي الجالس أمامه واعتبره رجلاً شريفاً وهب نفسه للصالح العام“.

لن نعلم على الإطلاق ما إذا كان الصفحات الخمسمئة التي احتوت إفادات بوشّيتا قد تضمّنت بالفعل كلّ ما كان بوشّيتّا يختزن في ذاكرته من أسرار المافيا، إلاّ أنّ ما نطق به كان، بالتأكيد، كافياً لتوجيه ضربة موجعةٍ إلى قلب عصابة كورليوني بزعامة توتو ريينا، الذي مات في السجن بعد سنين من اعتقاله في شباط عام 1993

ورُغم استناده على التوثيق الدقيق حول حياة تومّازو بوشّيتّا، وحول صعود نجمه وأفوله في فضاء «كوزا نوسترا»، فإن ماركو بيلّوكّيو لم يُنجز فيلماً وثائقيّاً عن هذه الشخصية، بل أجرى قراءته الشخصية التي سبر تها دواخل الرجل ليتعرّف على الإنسان الكامن في داخله، بالضبط كما كان قد فعل قبل عقد ونصف في فيلم «صباح الخير أيّها الليل»، والذي تناول فيه شخصية رئيس الحكومة الإيطالية الأسبق آلدو مورو الذي اختطفته جماعة «الألوية الحمراء» واحتجزته رهينة واغتالته بعد خمسة وخمسين يوماً لأن الدولة الإيطالية رفضت الانصياع إلى مطالبها بإطلاق سراح عدد من زعامات الجماعة الإرهابيّة المسلّحة. وفي حال آلدو مورو أيضاً، وبرُغم التوثيق الدقيق، سعى بيلّوكيو إلى سبر دواخل شخصياته، ما أبرز في الختام بأنّ من افترضه الإرهابيون رهينةً، كان الأكثر حرّيّةً منهم جميعاً.

وكما في حال شخصية آلدو مورو التي أدّاها بشكل رائع الممثل روبيرتو هيرليسكا، فقد أناط بيلّوكّيو دور بوشّيتّا إلى الممثل الرائع پيير فرانتشيسكو فاڤينو، الذي كان مُرشّحاً قوياً لنيل جائزة أفضل أداء رجالي في المهرجان، والتي ذهبت في نهاية المطاف إلى الممثل الإسباني آنتونيو بانديراس بطل فيلم «ألم وزهو» للمخرج الإسباني پيدرو آلمودوڤار. ولا عجب من أن يكون فاڤينو قد أبدى، في حوار أُجري معه قبل عرض الفيلم في المهرجان، مخاوفه التنافسيّة من بانديراس بالذات.

**********

العضوة الإيطالية في لجنة التحكيم: عشقت فيلم «الخائن»

قالت عضوة لجنة التحكيم الدولية الإيطالية آليتشي روهرڤاكير بأنّها عشقت فيلم "«الخائن» للمخرج الايطالي الكبير ماركو بيلّوكّيو، لكنّ جهودها من أجل منحه إحدى جوائز المهرجان باءت بالفشل، وفي معرض تعليقها على عدم حصول الفيلم على أيّة جائزة في الدورة الثانية والسبعين لمهرجان كان السينمائي الدولي، قالت روهرڤاكير في تصريح لوكالة «آنسا» الإيطالية بعد عودتها إلى إيطاليا "عشقت فيلم «الخائن»، واعتبره فيلماً كبيراً، وسعيت إلى إدخاله في منطقة الجوائز، لكنّ محاولاتي الحثيثة هذه، ضمن المنطق الديموقراطي للجنة التحكيم الدولية، باءت بالفشل للأسف الشديد".

 

المدى العراقية في

27.05.2019

 
 
 
 
 

جوائز "كانّ" 2019: ارتباكات وتجاوزات وتوجّسات

كانّ ــ محمد هاشم عبد السلام

مساء السبت الفائت، أُعلنت ـ على خشبة مسرح "صالة لوميير الكبرى" في "قصر المهرجانات" ـ نتائج المسابقة الرسمية للدورة الـ72 (14 - 25 مايو/ أيار 2019) لمهرجان "كانّ" السينمائي الدولي. إعلان الجوائز سبَّب دهشة كبيرة، وطرح علامات استفهام متعددة، وأثار توجّسات لدى نقّاد وصحافيين وسينمائيين، تابعوا تلك الدورة.

ورغم مشاركة أسماء بارزة ومتعددة في المسابقة، إلا أنّ هذه الأخيرة لم تخلُ، كالعادة، من تشكيلة ثابتة، مقوّماتها متكرّرة في مهرجانات مختلفة، وإنْ كانت ملحوظة أكثر في "كانّ". تضمّ التشكيلة أفلامًا فنية، وأخرى لكبار المخرجين، تتناول قضايا ذات أبعاد فلسفية وإنسانية واجتماعية ونفسية، ويغلب عليها الطابع الفني. بعض الخيارات يُراعي التوزيع الجغرافي (بحسب القارات أحيانًا) قدر الإمكان. وهناك أفلام تتعلّق بالمناخ السياسي الآنيّ (الهجرة والتطرّف الإسلامي في الغرب مثلاً)، بالإضافة إلى أفلام إثارة وقتال بين عصابات إجرامية وتجّار مخدّرات ورجال مافيا. أخيرًا، هناك فيلمٌ أو أكثر عن المثلية الجنسية.

أما الدهشة الناتجة من إعلان الجوائز، فمتأتية من أن الجميع استبشروا خيرًا عند إسناد رئاسة لجنة التحكيم إلى المخرج المكسيكي أليخاندرو غونزاليس إيناريتو. وازدادت الآمال مع إعلان أسماء أعضاء اللجنة، وبينهم المخرجان اليوناني يورغوس لانتيموس والبولندي بافل بافليكوفسكي. لكن معظم نتائج تلك اللجنة مخيّبٌ للآمال، أو غريب وغير مفهوم. فرغم اتفاق الجميع ـ منذ البداية، ومع إعلان أسماء المخرجين الكبار المشاركين في المسابقة ـ على أن مهمّة اللجنة "لن تكون يسيرة نهائيًا"، بصرف النظر عن أسماء أفرادها، إلّا أنّ أحدًا لم يتوقّع أنْ تكون النتائج على هذا النحو.

علامات الاستفهام نابعة من تجاهل اللجنة، ومعظم أعضائها مخرجون بارزون لكلّ واحد منهم سينماه المتميزة، أعمالاً فنية كادت تصل إلى مرتبة "التُحف الفنية"، أو يصعب جدًا عدم التوقّف عند عمقها وإنسانيتها وفنيّاتها المتجلّية في السيناريو أو الإخراج أو التمثيل، كـ"حياة خفية" للأميركي تيرينس ماليك، و"ألم ومجد" للإسباني بيدرو ألمودوفار، و"عفوًا، لم نجدك" للبريطاني كِنْ لوتش، و"لا بدّ أنْ تكون الجنة" للفلسطيني إيليا سليمان. انحازت اللجنة إلى أفلام أقلّ جمالاً واكتمالاً وفنيةً، بمنحها جائزة "لجنة التحكيم الكبرى" لـ"أتلانتيك" للفرنسية السنغالية ماتي ديوب، و"جائزة الإخراج" للأخوين البلجيكيين جان - بيار ولوك داردان عن "الفتى أحمد".

في ما يتعلق بالتوجّسات، فهي كثيرة، إذْ بات راسخًا، دورة تلو أخرى، أنّ هناك قدرًا من المحاصصة بين الرجال والنساء، إلى درجة الهيمنة على المهرجان. بدأ هذا في دورات سابقة، وازدادت وتيرته العام الماضي. بالإضافة إلى إنصات المهرجان إلى صوت حركة "مي تو"، على النقيض التام لـ"مهرجان فينيسيا السينمائي" العام الماضي. في النهاية، بات مهرجان "كانّ"، وغيره وإنْ بقدر أقل، خاضعًا لنوع من الابتزاز، يتعلّق بضرورة مشاركة مخرجات في أقسامه المختلفة، خصوصًا المسابقة الرسمية، واختيار سينمائيات في لجان التحكيم. في الأعوام الأخيرة، بات يصعب على لجان التحكيم في المهرجانات الكبرى تجاهل أفلام المخرجات، حتّى وإنْ لم ترقَ مساهماتهنّ الفنية إلى مرتبة الاشتراك في المسابقة أصلاً، وليس فقط بنيل جوائز.

فوز "أتلانتيك" بجائزة "لجنة التحكيم الكبرى"، ثاني أهم جائزة بعد السعفة الذهبية، "صارخٌ" في غرابته. هذا يعني أن اللجنة رأته "الأفضل" بعد "طُفيليّ" للكوري الجنوبي بونغ - يون هو، المُستحِق بجدارة "السعفة الذهبية". بهذا، اعتبرت اللجنةُ أن "أتلانتيك" متفوّق على أعمال مخرجين كبار مُشاركين في دورة هذا العام. لكن، وبعيدًا عن مقارنته بأعمال هؤلاء الكبار، فإن "أتلانتيك" بحدّ ذاته يشوبه ضعف في مستويات متعددة. لذا، يبدو أن موضوع الهجرة والمهاجرين لا يزال يُثير اهتمام المهرجانات ومانحي الجوائز وجهات الدعم والتمويل، خصوصًا إنْ يكن مخرج العمل امرأة.

الأمر نفسه بخصوص التطرّف الإسلامي في الغرب، خصوصًا في أوروبا: موضوع يجذب دعمًا وتمويلًا، ومهرجانات وجوائز. القضية مهمّة جدًا بالتأكيد، فخطورتها ممتدّة إلى خارج حدود تلك البلدان. لذا، لم يعد يخلو مهرجان أو مسابقة رسمية لمهرجان كبير من مشاركة مخرجين كبار وشباب، تطرح أفلامهم هذا الموضوع، بصرف النظر عن مدى فهمهم الظاهرة، أو عن مدى تمكّنهم من طرحها ومعالجتها، والاقتراب منها.

لذا، ومنذ إعلان اختيار "الفتى أحمد" للأخوين داردان في لائحة الأفلام المُشاركة في المسابقة الرسمية لدورة 2019، مع نبذة عنه، سادَ قلقٌ وتشكيك كبيران، تأكّدا أكثر مع مشاهدته، وتبيان سوئه وسذاجته وسطحيته. أما الكارثة، فمتمثّلة في منح الفيلم جائزة الإخراج "ضد" 5 أفلام على الأقلّ، لم يكن ليختلف عليها أحد، هي الأحقّ بها. لكن، بات مؤكّدًا أن أي فيلم يتعلّق بالهجرة، وإنْ خفّ الاهتمام بها الآن ولو نسبيًا، أو يرتبط بالتطرّف أو الجهاد الإسلاميين في أوروبا، بين المهاجرين الجدد أو مع أبناء الجيلين الأول والثاني، سيحظى من دون أدنى شكّ بكلّ تقدير واحترام وترحيب، وربما بجوائز أيضًا.

توجّسات أخرى أُثيرت إزاء المشاركة السنوية لشركات إنتاج محدّدة في المهرجان وبرامجه الرئيسية، وغالبيتها فرنسية الأصل، وهذا مقبولٌ في ظلّ اعتبارات إنتاجية متعددة، تتعلق بسوق التمويل الفرنسي للأفلام. التوجّسات ليست ضد المشاركة، لكنّ أعمالها لا تستحقّ أن تكون في مسابقة مهرجان عادي، وليس فقط مهرجانًا بحجم "كانّ" واسمه وعراقته، لكنّ المهرجان يتعامل مع تلك الشركات منذ أعوام. وجزء من هدفه كامنٌ في "ضمان" اجتذاب نجوم كثيرين للسير على سجّادته الحمراء. هذا بارز بشكل واضح في الدورة الـ72 تلك، مع الفيلم الأميركي الفرنسي "فرانكي" للأميركي إيرا ساكس، تمثيل الفرنسية إيزابيل أوبير؛ و"سيبيل" للفرنسية جوستين ترِيَات، تمثيل الشابة أديل إكزاركوبوولوس.

إلى ذلك، اعتُبر منح جائزة أفضل ممثل للإسباني أنتونيو بانديراس عن دور سالفادور، في "ألم ومجد"، تكريمًا وإهداءً خاصّا للمخرج بيدرو ألمودوفار نفسه. فاللجنة لم تستطع منح الفيلم ومخرجه أية جائزة أخرى، كـ"السعفة الذهبية" أو الإخراج أو لجنة التحكيم أو السيناريو، فرأت أن "أفضل ممثل" منصفة له. لا يعني هذا أن أداء بانديراس لا يستحق الجائزة، بل بالعكس، لأنّ أداءه تلك الشخصية يُعتبر من أجمل وأعمق وأنضح ما قدّمه إلى الآن، خلال مسيرته الطويلة.

والجائزة تلك مثيرة لحيرة كبيرة، إذْ هناك كثيرون يستحقونها، وهذا على نقيض الأداء النسائي "الباهت" في غالبية الأفلام، الذي لم يُلفت انتباه أحدٍ إلا نادرًا. لذا، لم يُثر حصول البريطانية إيميلي بيتشام على جائزة أفضل ممثلة، عن دور أليس في "جو الصغير" للنمساوية جيسيكا هاوزنر، حماسة واهتمامًا. الفيلم نفسه لم ينل إعجابًا ولم يُحدث نفورًا، بل وُصف فقط بأنه غريب وتجريبيّ، علمًا أنّ أداء بيتشام لا يستحقّ الجائزة أبدًا.

 

العربي الجديد اللندنية في

28.05.2019

 
 
 
 
 

فلسطين في مهرجان " كان " 72

إيليا سليمان يطرح في فيلم " لابد أنها الجنة "سؤال الهوية بحس فكاهي..

فيلم " لابد أنها الجنة " لايليا سليمان : فلسطين نعم، لكن ليس الآن،وبحث فكاهي فلسفي، عن معاني " الهوية "، و واقع الغربة ، في وطن محتل..

كان- صلاح هاشم

شاهدت بالأمس فيلم " لابد أنها الجنة " للمخرج الفلسطيني الكبير إليا سليمان ( الغريب الكامل كما يطلق عليه أحدهم في الفيلم ) أحد أفضل الأفلام التي عرضت في المسابقة الرسمية للدورة 72 ضمن جملة من روائع كبار المخرجين في الإسبوع الثاني من المهرجان، ولو كنت محكما في كان هذه المرة أيضا - آخر مرة كنت عضوا في لجنة تحكيم مسابقة  " الكاميرا الذهبية " في دورة المهرجان المنعقدة  عام 1989 - لمنحت  فيلم إيليا سليمان سعفة ذهبية لأحسن فيلم فكاهي - على السطح فقط ومأسوي تراجيدي ساخر في الأعماق- من ضمن 21 فيلما مشاركا في المسابقة الرسمية، حيث يحكي إليا في فيلمه عن الانسان الفلسطيني الضائع التائه المشرد، الغريب داخل وطنه وبلده، في وطن محتل، وربما كاننت فلسطين كما يقول على لسان شخصية فلسطيني امريكي في نهاية الفيلم، هي البلد الوحيد في العالم، الذي لا يسكر الناس فيه ،وبخاصة الفلسطينيون،لا لكي ينسونه، كما ينسون كل شييء، عندما يسكرون، أو كعادة الناس عندما يشربون،ويسكرون، بل لكي يتذكرونه- ياللغرابة - وبكل مشاعر التقدير،  والولاء والحب..

 ويتسامق فيلم سليمان، الذي يحكي بنفسه عن غربته حتى داخل بلده ،ويمثل شخصية مخرج فلسطيني في الفيلم، يبحث عن منتج لفيلمه الجديد، فيسافر الى فرنسا وامريكا ويعرض لحال البشر هناك،  حالهم مع الاضطهاد والقمع والتحكم والألم، في ظل السلطات الاستبدادية البوليسية التي تتحكم في كل شييء، لكنه لايحكي هنا بالتصريح الفارغ الأجوف، وفي خطب عصماء، ويعظ، بل يحكي بلغة السينما، يحكي بالحركة والصورة ، لكي ينقل لنا صورة للعبث ، الذي صارت اليه حياة الفلسطينيين وحياتنا، يحكي ويصور تناقضات ومشاكل مجتمعاتنا الانسانية  في فلسطين وباريس وأمريكا ، ومن دون أن ينطق بكلمة- الكلمة الوحيدة التي ينطقها  سليمان في الفيلم، يوجهها لسائق تاكسي أمريكي أسود ، يعترف له إيليا بأنه فلسطيني، فيسارع السائق الى الاتصال بزوجته، ليبلغها الخبرالمفرح الذي لا يصدق، ولم يكن التقي بأي فلسطيني قط من قبل في حياته وأعتبر ظهور سليمان في تاكسيه بمثابة " معجزة " ورفض أن يأخذ من سييمان أجرة التاكسي..

 فيلم " لابد أنها الجنة "  يتحاور فيه إيليا سليمان مع عصفور في الفيلم في إسكتش سينمائي بديع، ثم يفتح النافذة في غرفة فندقه في باريس ويطلب من العصفور أن يغادر، ويؤسس إيليا فيلمه على عدة نمر واسكتشات سينمائية  صامتة من نوع "البيرلسك" لاثارة الدهشة،ويسخر فيها  سليمان من كل شييء، بحس انساني فكاهي جميل ونبيل، ويسخر حتى من نفسه، لأنه ليس هناك أفضل من ذلك الحس الفكاهي "الايلياسيليماني"، او الالياسليمانسكي، لكي يطهرنا من غربتنا في وطن محتل..

حظ فلسطين عند المنجّمين

ومن أجمل مشاهد الفيلم ،الذي اعتبره بمثابة " تكريم " للسينما الصامتة العظيمة، وكل صناع السينما الفكاهية العظيمة في العالم ، من أمثال جاك تاتي في فرنسا ،وبستر كيتون في امريكا، وشارلي شابلن في بريطانيا، المشهد الذي يذهب فيه ايليا سليمان، الذي يمثل دوره في الفيلم ، يذهب لمقابلة " منجّم " يقرأ الطالع في نيويورك، ليقول له ان كان سوف يتحقق "حلم الدولة الفلسطينية" وتصبح " فلسطين "واقعا يوما ما، فيؤكد المنجم لايليا سليمان بأن ذلك سوف يحدث، ويطمأنه بعد أن يقرأ الطالع أنه أجل سوف يحدث لامحالة ، لكن ، لكنه يتوقف ويقول لايليا: دعنا ننتظر، فلن يحدث ذلك للاسف كما يقول الطالع، إلا بعد مرور سنوات طويلة، ولن نكون للأسف، لا أنا ،  ولا أنت يا إيليا سليمان هنا..

فيلم " لابد أنها الجنة " هو فيلم بحث فلسفي صوفي روحاني، في معاني " الهوية "، عن تلك "الجنة الموعودة" على الأرض، التي لن تتحقق، التي لابد وانها سوف تتحقق يوما ما يقينا،، لكننا للأسف، لن نكون ومازلنا هنا..

تحية الى إيليا سليمان على فيلمه الفكاهي التهكمي الساخر البديع، الذي يستحق سعفة ذهبية لأفضل فيلم فكاهي في مسابقة المهرجان، ويشرف بفنه وقضيته السينما العربية،  ويستحق المشاهدة عن جدارة..

 

####

3 روائع سينمائية

كان - صلاح هاشم

عرض " كان " – في الاسبوع الثاني من فترة المهرجان ( من 14 الى 25 مايو ) أي خلال الستة أيام الأخيرة - مجموعة جديدة من الأفلام المشاركة في المسابقة الرسمية (من أصل 21 فيلما ) يمكن أن نطلق عليها " أفلام الكبارمن المخرجين الشوامخ "، والتسمية من عندنا..

كونهم، شاركوا بأفلامهم من قبل ، في المسابقة الرسمية للمهرجان، في دورات عديدة، وحصل بعضهم مرة مثل الامريكي كوينتين ترانتيو، أومرتين مثل الشقيقيان داردين من بلجيكا على سعفة " كان " الذهبية، وتعتبرأهم جائزة من جوائز المسابقة التي توزعها لجنة التحكيم الرسمية في كل دورة، مع الأخذ في الاعتبار، أن هناك جائزة أيضا بإسم " الجائزة الكبرى"، تمنح لأهم فيلم في مسابقة المهرجان، بعد الفيلم الحاصل على السعفة الذهبية مباشرة..

عرض المهرجان في الفترة المذكورة : فيلم " حدث ذات مرة في أمريكا " للأمريكي كوينتين ترانتينو " وفيلم " بحيرة البطة البرية " للمخرج الصيني دياو ينان، و فيلم " المصفرون " للمخرج كورنيليو بورومبوا من رومانيا، وفيلم " حياة مخبأة " للامريكي ترانس مالك، وفيلم " صورة سيدة تحترق " للمخرجة الفرنسية سيلين سياما، وفيلم " الصغير أحمد " للشقيقين داردين من بلجيكا، وفيلم " " فرانكي " لايرا ساخس من البرتغال، ، ونتوقف هنا عند أهم أفلام هؤلاء "المخرجين الكبار" في المسابقة الرسمية :

( 1 )

حدث ذات مرة في هوليوود :  "إعصار" سينمائي جبّاريجتاح المدينة

فيلم " حدث ذات مرة في أمريكا " للمخرج الأمريكي كوينتين ترانتينو، المشارك في المسابقة الرسمية للدورة 72 نرشحه للحصول وعن إستحقاق وجدارة على جائزة " السعفة الذهبية "، وقد كان عرضه يوم الثلاثاء الموافق 21 مايو " الحدث الأكبر" في المهرجان، الذي إجتاح – سينمائيا وجماهيريا وإعلاميا - مدينة كان كإعصار،وكان يضا ،بالنظر الى " استراتيجية " ادارة المهرجان في ترتيب عروض الافلام زمنيا،وترتيب عرضه في الأسبوع الثاني من المهرجان،  كان بمثابة تكريم رائع للسينما الأمريكية..

هذا التكريم الذي بدأ في رأينا، من عند عرض فيلم الافتتاح " الموتى لايموتون"للامريكي جيم جامروش، فقد كان المقصود من عرضه في حفل افتتاح المهرجان، ليس الكشف عن جودته ، حيث جاءالفيلم مخيبا للآمال ، واعتبرناه رغم محاولة مخرجه "التجديد" في نوع " أفلام الرعب والموتى الأحياء "، مجرد " نزهة " سينمائية للترويح، وأقرب مايكون الى " مزحة"..

بل كان المقصود أن يكون عرضه،  تكريما للسينما الأمريكية، في شخص مخرجه الامريكي الكبير جيم جامروش، الذي يعد " أيقونة " من أيقونات السينما الأمريكية المستقلة ، وممثلا لـ " تيار "  سينمائي فاعل ومهم - على هامش  أفلام السينماالامريكيةالتجارية وأفلام " البلوكبستر" ذات الانتاج الضخم، التي تكرس لها هوليوود استوديوهاتها الكبرى..

وعلى أساس أن ينتهي ذلك التكريم ،و ينطلق في سماء مدينة كان، والمهرجان كله،مثل صاروخ أو إعصار جبّار،في الاسبوع الثاني من المهرجان، مع عرض فيلم " حدث ذات مرة في هوليوود"، وليكون أشبه بـ "زلزلة"، وهذا هو ماحدث في الواقع، مع عرض الفيلم ..

لايحكي ترانتينو في فيلمه، الذي طلب من الصحفيين في بيان قرأ علينا قبل عرض الفيلم  أن لانعرض لقصته عندما نحكي عنه ، وأن يظل " موضوع " الفيلم سرا" حتى لانقطع على الجمهور استمتاعه بالفيلم،عند خروجه للعرض التجاري، لايحكي.. قصة..

بل يعرض لمسارممثل تليفزيوني أمريكي شهير يدعى " ريك دالتون "  في هوليوود في فترة الستينيات، ويلعب دوره في الفيلم الممثل الأمريكي النجم ليوناردو دي كابريو ، ليحكي عن أسطورة عشق جامح للسينما، وذاكرة وتاريخ، ويراجع أحداث،  ومواقف عاشها، وأشخاص صاحبوه في رحلته، وكان لهم مثل صديقه الممثل البديل الملازم له، وكان حل محله أثناء تصوير المشاهد الخطرة في الأفلام، ويلعب دوره في الفيلم النجم الأمريكي والممثل الكبير براد بيت، كان لهم أبلغ الأثر في حياته..

يحكي ترانتينو في فيلمه عن سينما وعصر، وعن صناعة السينما التي كانت آنذاك تتغير بسرعة، وتشهد تحولات كبرى، وتعاظم أعمال القتل كما في "أفلام الكاوبوي" والعنف الدموي في أفلامها ، ولم تعد تلك "السينما الجميلة" التي عرفاها من قبل..

فيلم ترانتينو " تحفة"  لكل روح تحب الحياة والسينما

فيلم ترانتينو كما أحببناه وتمثلناه، ويظهر في الفيلم بعض شخصيات هوليوود في تلك الفترة،  مثل بروس لي بطل أفلام الكاراتيه والكونج فو، والممثلة الامريكية الشقراء شارون ستون، وزوجها المخرج الفرنسي من أصل بولندي رومان بولانسكي وغيرهم، لايحكي قصة..

بل يحكي سينما وفي كل مشهد ولقطة، وينطلق في جميع الاتجاهات، وبكل تجليات السينما الملهمة، وبحرفية عالية منقطعة النظير،وفهم واستيعاب باهر، للتراث السينمائي العالمي ، وانجازات السينما الهوليوودية ،من عند جون فورد ومرورا  بكازافيتس وحتى سكورسيزي وكوبولا، وبـ " حس فكاهي "  تهكمي ساخر ولاذع، ويسخر تارانتينو في بعض مشاهد الفيلم  يسخر حتى  من نفسه، ويحقق لنا خارج  رواية الحكاية، أو قصة الفيلم أو الالتزام برواية أحداث ما، أكبر متعة واستمتاع، وأعظم توتر وإثارة، وحتى المشهد الختامي الجبار في الفيلم..

فيلم ترانتينو " تحفة " لكل روح تحب الحياة والسينما ،وأرشحه للفوز بسعفة كان ٧٢ لما فيه فقط من سينما ودعنا الان،  بالله عليكم، من قصة وموضوع الفيلم..

( 2 )

فيلم " حياة مخبأة " للأمريكي ترانس مالك : سيمفونية بصرية ضد الفاشي

فيلم " حياة مخبأة " -  A HIDDEN LIFE- للمخرج الأمريكي الكبير ترانس مالك( من مواليد 30 نوفمبر عام 1943 في ولاية أوتاوا.أمريكا)  الذي سبق له الفوز بسعفة " كان " الذهبية – أهم جائزة في المهرجان - عام بفيلمه " شجرة الحياة "، يعتمد على رواية أحداث قصة حقيقية، وقعت بالفعل أثناء صعود النازية ، ووصول هتلر الى سدة الحكم في ألمانيا، فقد قرر فلاح نمساوي يدعى فرانز ياجرستاتر، على عكس كل الفلاحين النمساويين الذين تم  تجنيدهم في جيوش هتلر النازية في الحرب العالمية الثانية..

أن لايحارب في صفوفها، ولايذهب للمشاركة في حرب ضد عدو ما ،لم يرتكب جرما ضده، ولم يعتدي عليه أوعلى أسرته، وكان رفضه المشاركة في الحرب، يعني تعرضه لمحاكمة عسكرية ،وإعدامه والاعتداء على أفراد أسرته، وعقابهم بسبب الوالد، رب الأسرة، الذي صار وسط أهله وقريته خائنا لوطنه، ويستحق أن تعلق له ولأمثاله المشانق..

فيلم " حياة مخبأة " يحكي عن بطل، من أبطال مقاومة النازية من الفلاحين البسطاء ملح الأرض في النمسا ، وهومن اجمل وأقوى الأفلام التي عرضها المهرجان في دورته ..

وقد بدا لنا أقرب ما يكون الى " سيمفونية بصرية "، تتجاوز الحدود بين النوعين الروائي والتسجيلي، حيث يعرض ترانس مالك في فيلمه لوثائق مصورة،من أرشيف النازي، يظهر فيها هتلر، وهو يجهز جيوشه لغزو العالم وينتقم لهزيمة ألمانيا في الحرب العالمية الأولي، معلنا تفوق الجنس الآري، وباسطا نفوذ وهيمنة النازي على العالم،ويؤسس ترانس مالك في فيلمه،من خلال عرض تلك الشرائط الوثائقية في المشاهد الأولى من الفيلم، لمشاهد حياة فرانز وزوجته في أعماق الريف الفرنسي النمساوي الساحر، وكما في معظم الأفلام التي صنعها ترانس مالك، تظهر هنا" بصمته الاخراجية " إن صح التعبير، في تحويل المألوف والعادي  دوما الى ماهو أكبر من المألوف والعادي..

إلى ماهو ملحمي - EPIC -  ويربط مصائر البشر، بالكون، ودورة الأفلاك والنجوم ، و يطرح من خلال الفيلم التساؤلات الفلسفية الوجودية الروحانية العميقة الكبري، ففي حين تحكي الأفلام عادة عن قصة رجل يعبر الشارع من طوار الى طوارآخر،تحكي أفلام ترانس مالك واستطلاعته، ومهما اختلفت موضوعاتها ،عن مغزى ومعاني حياتنا، وهل تستحق أن تعاش، وتعرض لفلسفة حياة كاملة ..

لكن يعيب فيلم مالك طوله، اذ يستغرق عرض الفيلم أكثر من ساعتين ،أو تطويل مالك واستطراده في الوصف والشرح، في وقت لاتسمح فيه ظروف عروض الأفلام في المسابقة التي لاترحم في  دورة المهرجان 72 ، باي نوع من التسامح مع طولها، أو أية مبالغات عاطفية ميلودرامية في الوصف والشرح، لأن فن السينما هو فن الاقتصاد عن جدارة، أي كيف تقول،في أقل عدد من المشاهد والكلمات، وأخطر شييء بالنسبة للأفلام كما يقول  المخرج الأسباني الكبير لوي بونويل أن تصبح مملة .لايهم في الأفلام ماذا، المهم في الأفلام كيف، تقول، وتفصح، المهم إختراع " النظرة "، في حين يستطيع المرء أن يغفر لفيلم ما أي شييء، إلا أن يكون مملا..

ان طموح مالك في أن يصنع ملحمة كونية جبارة، من حكاية الفلاح النمساوي البسيط  " فرانز " المقاوم للنازية، هو الذي هبط بالايقاع في فيلمه، وجعلنا نشعر انه يكرر نفسه ، ولايأتي -  مقارنة مع فيلمه " شجرة الحياة " الرائع والحاصل على سعفة " كان " الذهبية، لايأتي في الواقع.. بجديد..

لكن يحسب لمالك مشروعه السينمائي الجميل والنبيل والضروري، في تسليط الضوء -  وبخاصة في إطار الظروف السياسية الصعبة،  التي تعيشها أمريكا، والمجتمعات الأوروبية الغربية الجديدة،التي تشهد صعود "الشعبوية" والحركات الارهابية النازية ، وتعاظم مشاعر التعصب و الكراهية ضد المهاجرين، وتشييد الحواجز والموانع والأسوار، والانحياز الى المصالح القومية الأنانية-  تسليط الضوءعلى النماذج الانسانية النبيلةالمنسية المقاومة، التي قالت " لا " في وجه النازية ورفضت المشاركة في الحرب..

فيلم " حياة مخبأة" هو أيضا فيلم عن الحب، وبحث صوفي لمخرج حكيم، في القيمة الروحانية لـ " الإيمان "، وليس " العقيدة " . قيمة الإيمان والحب ،في شحننا بقدرة أكبر، وصلابة أشمل،في مقاومة الظلم ومقاومة الفاشية الهتلرية ، ويأسرنا بتوهجه الفني الملحمي، الذي يستحوذ بجماله، على كل ذرة في كيانك في بعض مشاهد الفيلم " الكونية " التي لا تنسى..

( 3 )

فيلم " أحمد الصغير " : للشقيقين داردين: مقاومة  التطرف الديني  والارهاب

فيلم " الصغير أحمد " للأخوين داردين من بلجيكا، جان بيير داردين من مواليد انجلز في 21 ابريل 1951 و لوك داردين من مواليد 10 مارس 1954 في افرس بلجيكا- يحكي عن الطفل أحمد 13 سنة الذي تتنازعه مشاعره وغرائزه الفطرية كمراهق، ورغبته في أن يكون مثالا يحتذي في الطهارة والمثالية، وفقا لتعاليم الامام  الاخواني الارهابي الذي يشرف على تعليمه في المسجد،  وينصاع أحمد لأوامره ..

حتى صار هناك "أحمدين" ، إن صح التعبير،أحمد الطفل البريء، وأحمد المسلم المتطرف الذي صار اخوانيا ارهابيا، فقد تغير أحمد الصغير كثيرا،ولم يعد يقبل بأن يصافح سيدة مسلمة، حتى لو كانت مدرسته، ، حتى أن أمه، صارت تلطم، تبكي حظها العاثر، بعد أن تغير ابنها الصغير البريء أحمد كثيرا،وصار الآن ينظر الى الآخرين مسلمين ومسيحيين على أساس أنهم كفرة منشقين،ويستحقون نار جهنم، وتتمنى الأم في مشهد جد مؤثر في الفيلم  أن يعود لها أحمد صغيرها كما كان، وتكشف رحلتنا مع أحمد في الفيلم عن تردده في الاختيار ، أختيار أي أحمد من بين الأحمدين ، يريد أن يكون..

 معنى " الإلتزام "  في الفن

ويتميز الفيلم كما في معظم أفلام الشقيقين داردين اللذين سبق لهما الحصول مرتين على " سعفة مهرجان كان الذهبية " بواقعيته، وبساطته، وعدم اعتماده على ممثلين محترفين أو " نجوم "، كما في هذا الفيلم " الصغير أحمد "،  فلا مكان في أفلام داردين " الروائية " لاستعراض عضلات اخراجية مبهرة، أو الهروب الى عوالم الخيال الجامح، كما في أفلام الخيال العلمي، ولامكان أيضا في أفلامهما للتأمل الفلسفي ، كما في أفلام الامريكي ترانس مالك، بل ارتباط  جد وثيق بالواقع الصلد، وتناقضاته ومشاكله، للدرجة التي تجعلك وأنت تشاهد فيلما لهما، بأنه فيلم تسجيلي، يصور أحداثا حقيقية ،تجري في الواقع بالفعل..

فيلم "أحمد الصغير " يأسرنا بقوة "التركيز والاقتصاد" في الفيلم، ويذكرنا في وقت يمضي  ويتغيربسرعة ، وقد تكرست فيه أغلب الأفلام للترفيه والتسلية، ودغدغة المشاعر، والدعاية للأنظمة،  والترويج للهراء العام، بأنه مازال هناك لحسن حظنا اهتمام عند البعض من المخرجين الكبار بمذهب " الواقعية "، و بقيمة " الالتزام " في السينما، وتوظيف السينما الفنن كأداة للتأمل والتفكير في مشاكل ومتناقضات مجتمعاتنا الإنسانية، ولذلك لم يكن غريبا في العرض الخاص للصحفيين بحضور الشقيقين داردين وطاقم الممثلين أن يصفق جمهور القاعة للفيلم لأكثر من خمس دقائق..

 

جريدة القاهرة في

28.05.2019

 
 
 
 
 
 
 

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك © 2004