كتبوا في السينما

 

 
 
 
 
 

ملفات خاصة

 
 
 

فيلم "حياة خفية" الاختيار الصعب والبحث الشاق عن اليقين

أمير العمري

كان السينمائي الدولي

الدورة الثانية والسبعون

   
 
 
 
 
 
 

فيلم "حياة خفية" قصيدة سينمائية بليغة عن عذاب الروح، والتساؤل الأبدي حول الوجود والحرية والاختيار، وهي فكرة تعذب ماليك منذ أول أفلامه.

في فيلمه الجديد “حياة خفية” الذي شارك في مسابقة مهرجان كان السينمائي الـ72، يعود المخرج الأميركي الشهير تيرنس ماليك إلى موضوعاته الأثيرة إلى نفسه، وإلى لغته السينمائية الرفيعة، لكي يروي قصة ليست ككل القصص، رغم تشابهها الظاهري مع بعض ما سبق لنا أن شاهدناه حول الموضوع نفسه.

تدور أحداث فيلم “حياة خفية ” (A Hidden Life) للمخرج الأميركي تيرنس ماليك في النمسا، في زمن الحرب العالمية الثانية، أي بعد أن قام هتلر بضم النمسا إلى “الرايخ” عام 1938، ثم نشوب الحرب العالمية الثانية في العام التالي الذي تبدأ فيه أحداث الفيلم.

التقط تيرنس ماليك قصة مزارع نمساوي شاب رفض أن يقسم يمين الولاء لأدولف هتلر كما فرض على النمساويين جميعا، ولم يكن في موقفه هذا مدفوعا بدوافع سياسية، لكنه استند إلى موقف أخلاقي يجعله يرفض أن يشارك في عمل يتنافى مع القيم الإنسانية وينتهك بلاد الآخرين، يخوض في القتل من أجل التوسع والسيطرة.

فلسفة ماليك

هذا أقرب أفلام ماليك إلى نفسه، إلى فلسفته الخاصة وفكره الديني المسيحي، وهو يعكس معاناته الروحية وتمزقه بين مفاهيم “الصواب” و“الواجب” و“ما يفرضه المجتمع” من جهة، وبين ما ينبع من داخل الإنسان ويتسق مع فكرة السمو الروحاني فوق المادي وفوق السائد.

وبطل فيلمه “اللابطل” (anti-hero)، يفهم من جميع من حوله أنه يجب أن “يخدم بلده”، وأن رفضه سيضر كثيرا بمن يحب، زوجته وبناته الثلاث، كما أنه سيدفع ثمن موقفه، حياته نفسها، وتعيش أسرته من بعده، موصومة بالعار.

وعندما يلجأ “فرانز” (قام بالدور الممثل الألماني أوغست ديل) إلى الكنيسة طلبا للنصح من القس، ينصحه هذا بالرضوخ مؤكدا أن الرفض لن يغيّر مسار الأمور، وأن تضحيته عبثية لا قيمة لها، بل ونوع من “الأنانية” أيضا لأنه سيترك أسرته تدفع الثمن.

نحن هنا أمام بطل تراجيدي باتت نهايته معروفة من البداية، ولكن الفيلم ليس عن تداعيات موقفه من زاوية التحليل النفسي، بل قصيدة سينمائية بليغة عن عذاب الروح، والتساؤل الأبدي حول الوجود والحرية والاختيار، وهي فكرة تعذب تيرنس ماليك منذ أول أفلامه.

يستخرج ماليك كل ما في مخزونه البصري من طاقات إبداعية محوّلا القصة إلى رؤية ذاتية معذبة تمتد عبر ثلاث ساعات، من الصور البديعة التي تتداعى وتتعاقب على الشاشة، بحيث لا يمكنك أن تغمض عينيك عنها ولو للحظة واحدة.. وهو يستخدم حركة الكاميرا البطيئة التي تنتقل بين البشر والطبيعة وسط مناظر الريف النمساوي الساحرة، ويصوّر البيئة الساكنة التي لا توحي بأجواء الحرب التي تجتاح أوروبا.

والفيلم يبدأ في 1939، ثم ينتقل إلى قاعدة عسكرية في 1940 حيث يتم اعتقال فرانز ويبدأ في كتابة رسائل يبعث بها إلى زوجته الجميلة المخلصة المحبة المعذبة “فاني” (قامت بالدور الممثلة الأسترالية فاليري باشنر) التي تركها خلفه مع بناته الثلاث، يبثها لواعج قلبه، وكأنه يناجي نفسه، يبوح لها بأفكاره، يطلب منها السماح والفهم، لكن رسائله هي في الحقيقة أقرب إلى مناجاة للنفس، ولله، فهي تمتزج بصوته الذي يأتي من خارج الصورة، وتعكس أفكاره المعذبة، مع التداعيات الكثيرة التي تعبر ذهنه.

رحلة "أوديسية" سريالية تتشكل فيها الرؤى من لقطات عديدة تتشابك وتتعاقب في تشكيلات لونية مذهلة، تمتزج بالموسيقى الكلاسيكية

يتبدى في الفيلم كما في سائر أفلام ماليك، ولعه الكبير بتصوير علاقة الإنسان بالطبيعة والأشجار، وجداول الماء، الحيوانات التي ترعى، والسحب التي تتجمع في السماء كأنها تنذر بالمصير القادم، قبل أن ننتقل فجأة إلى صوت هتلر وهو يهدّد ويتوعّد.. لكنه لا يفرط في استخدام المواد التسجيلية عن صعود هتلر وبداية الحرب (فهذا ما نراه في بداية الفيلم من خلال مقاطع بالأبيض والأسود مختارة بعناية من مواد الأرشيف).

واهتمامه ينصب هنا على الفرد ومصيره.. عذابه وغضبه وعجزه عن الفهم أمام قوة الخالق واحتجاجه على الأقدار، ومع ذلك فهو في سعي شاق للتصالح مع نفسه ومع اختياراته، إنه يتشكّك ويتضرّع إلى الله وينشد مساعدته على الفهم “أين أنت.. ولماذا خلقتنا”؟

كان بطل ماليك في “شجرة الحياة” يروي لنا جوانب من التجارب الأولية التي تركت تأثيرها القوي عليه، ثم يسحبنا ماليك خارج العائلة، بعد حوالي 20 دقيقة من بداية الفيلم، في رحلة “أوديسية” سريالية تتشكل فيها الرؤى من لقطات عديدة تتشابك وتتعاقب في تشكيلات لونية مذهلة، شديدة الجمال، تمتزج بالموسيقى الكلاسيكية فتصبح تعبيرا روحيا عن ذلك الأفق الأوسع الذي يصبح فيه العقل البشري أدنى ممّا يعتقد، وأقل من أن يحيط ويستوعب: لنرى تشكيلات لصور من النباتات والأشجار والسحب والمحيطات والحشرات، نهر يعرج على إحدى ضفتيه ديناصور جريح يقترب منه ديناصور آخر، صحراء قاحلة برمالها الناعمة التي تنعكس عليها أشعة الشمس الحارقة، مجموعات من الكواكب والنجوم تدور في مجراتها..

إنها عودة إلى أصل الحياة، أصل الكون، والوجود: ما الذي يجعله يستمر، ما معنى الحياة نفسها، كيف يستمر الإنسان رغم الموت، ما الذي يمكن أن يسلب الإنسان الحياة؟ وكلها تساؤلات غير مباشرة تدور تحت جلد الصور دون أن ترتبط ارتباطا “دراميا” بمسار الفيلم.

قصيدة ألم

هذا النزوع نحو السريالية يبدو غائبا عن “حياة خفية”، فهو أقرب في أسلوبه إلى الانطباعية، بطل الفيلم فرانز المقضي عليه بأن يدفع ثمن اختياراته الصعبة، دائم التساؤل، يناجي ويتضرّع ويحاول العثور على إجابات على الأسئلة التي تعذّبه، لكنه لا يعثر على جواب شافٍ فيظل يتعذّب.

مات والده في الحرب العالمية الأولى وكان يقاتل في صفوف الألمان ضد الحلفاء، هل كانت تضحيته تخدم قضية حقيقية؟ تختلط أحلامه بكوابيسه وتضغط عليه همومه الشخصية لتثقل على روحه، يريد أن يعرف هل يتسق موقفه مع إيمانه، وهل هو أكثر إيمانا من أقرانه الذين ارتضوا لأنفسهم الانصياع للمطلوب منهم.

القسم الأول من الفيلم عبارة عن تصوير بديع لحياة فرانز السعيدة البسيطة مع زوجته في تلك البقعة الجميلة الهادئة من الريف النمساوي، حيث يشترك الاثنان في الزراعة ورعي الماشية وحلب الأبقار وتربية بناتهنّ الثلاث، ولا يخطر على باله ولا بال أحد في القرية، أن مصيره يمكن أن يتغير فجأة لينتقل من الوداعة إلى الصخب، ومن الحياة البريئة الهادئة، إلى المعاناة والتمزّق والأسى والعذاب لينتهي إلى الموت المبكر.

يتهمونه بالخيانة، وبأن موقفه أسوأ من موقف الأعداء، وأنه أحمق لا يدرك مغبة ما يفعل، يخون بلده بموقفه “السلبي”، لكن هذا الموقف ينبع من داخله، من روحه، فهو لا يبدو متأثرا بما يحدث من حوله، ولا بـ“العقلانية” التي يمكن أن تدفعه لأن يغلّب المصلحة وحب البقاء الفطري، وكأن ماليك يستمد موقف بطله من مقولة المسيح الشهيرة “ماذا يفيد المرء إذا ما ربح العالم وخسر نفسه؟”، وفي حواره مع الفنان الذي يرسم سقف الكنيسة مصوّرا المسيح شخصا هانئا وسط أتباعه، يقول له الفنان “إنني أرسم صورة المسيح المريحة.. لكنّي يوما ما سأرسم صورة المسيح الحقيقي”.

أحداث فيلم "حياة خفية" تدور في زمن الحرب العالمية الثانية، أي بعد أن قام هتلر بضم النمسا إلى "الرايخ" عام 1938

رحلة عذاب

يدور القسم الثالث من الفيلم في معسكر “إينس” الذي يُنقل إليه فرانز في 2 مارس 1943، وهناك يتعرض للضرب والإهانة والتعذيب لكي يتراجع عن موقفه، لكنه دون فائدة، فيتم نقله بالقطار إلى معسكر في برلين التي يصل إليها في 4 مايو 1944 تمهيدا لمحاكمته، ومن هناك يكتب لزوجته أن السجناء الموجودين معه لا يعرفون سبب اعتقالهم.. “هؤلاء ليس لهم أصدقاء”، أما زوجته التي تركها خلفه في القرية فهي تتعرض للإهانات والنبذ من الجميع، وهي تكتب له تدعمه وتقوّيه وتؤكد حبها له.

يصوّر ماليك رحلة عذاب بطله كرحلة موازية لرحلة التضحية المسيحية، وفي لحظة ما، تحت تأثير الضرب والإيذاء والتعذيب، يناجي فرانز الله “وضح لي الطريق.. أحن إلى نورك الأبدي.. إليك أنت الذي لا تحرم الضوء أبدا”، هنا يستخدم ماليك الكاميرا المتحركة طويلا داخل السجن، من زاوية منخفضة شأن مشاهد الريف في البداية التي يبدو فيها فرانز كما لو كان كائنا غير الكائنات، كما تجمع الحركة الناعمة بين الإنسان بالطبيعة، وتعكس زاوية التصوير المنخفضة التسامي الروحي، مع عبارات قليلة للغاية من الحوار.

وفي مقابل ذلك، يكثر التعليق الصوتي من خارج الصورة في الجزء الثاني من الفيلم، وكثيرا ما يصل إلى المباشرة من خلال عبارات مثل “قدني.. ارشدني.. إلى الطريق..”، أو الرسائل المتبادلة بين فرانز وزوجته.

في محكمة الرايخ في برلين – يوليو 1943-، يدور حوار شخصي بين فرانز والقاضي العسكري الألماني (الدور الأخير للممثل السويسري الراحل برونو غانز)، يرتجف القاضي أمام أسئلة فرانز الذي يطلب أن ينصت القاضي إلى ما في دخيلة نفسه، يتوقف، يتأمل يرتبك رغما عنه، لكنه سينتهي إلى الحكم بالإعدام، ويرفض فرانز التوقيع على بيان بالتراجع عن موقفه وطلب العفو، فينتهي نهاية يعدها ماليك مشابهة لنهايات القديسين.

حياة خفية” فيلم عن المعاناة الداخلية.. وليس عما يحدث في العالم الخارجي، فما هذا سوى وسيلة لتفجير المعاناة والعذاب، فما يتعلق بصعود النازية والحرب والممارسات المعادية للإنسان، ليس هو الموضوع، أما جوهر الفيلم فهو “الاختيار الإنساني” وتلك “الحياة الخفية” التي تصطرع داخل الإنسان، وعبر العذاب يتطهر الإنسان.

في سياق سينمائي يكاد يخلو من “الحبكة”، بل يعتمد على الصمت، وعلى التعليق من خارج الصورة، وعلى الهمس أكثر من التعبير المباشر عن الحالة الذهنية، تصبح الصورة بمكوناتها الوسيلة التي يعبر من خلالها الفنان عن ذلك الصراع الداخلي، فبطله الذي لا يعتنق أيديولوجية مضادة ليس بطلا من المناهضين للنازية، لكنه ينصت إلى صوت ينبع من داخله يقول له إنه لا يجب أن يتخذ ذلك الطريق الخطأ. لكن هذا التناقض تحديدا الذي يبقي عليه ماليك طوال الوقت، يؤرق المشاهد أيضا ويدفعه إلى التساؤل: ألم يكن من الأفضل لو أن ماليك أوضح قليلا موقف هذا الرجل ودوافعه، وكيف أصبح شعوره الديني المتصاعد أقوى من حبه لأسرته وشعوره بالمسؤولية تجاهها؟

البعض يمكن أن يعتبر هذا الموقف حماقة يدفع ثمنها هو وأسرته دون فائدة، ولكن هذه النظرة تخضع فقط لحسابات المكسب والخسارة بالمعنى المادي، وهو ليس منطق الفيلم ولا منهج تفكير تيرنس ماليك، إنه غير معني كثيرا بسرد أحداث التاريخ وتداعياتها، فهي موجودة فقط كإطار خارجي لبطل تراجيدي تقوده هواجسه الذاتية إلى مصيره.

يعتمد البناء على اللقطات البديعة المصوّرة للشاشة العريضة، مع حركة طويلة للكاميرا تعكس الصراع الداخلي والقلق الروحي، كما يهتم ماليك كعادته بالتكوينات البصرية التي يستخدم فيها عناصر الطبيعة، يخفي أكثر ممّا يصرح، ويهمس عوضا عن أن يهتم بصياغة “رسالة”.

وفي المشهد الأخير، مشهد الإعدام، يجلس عدد من السجناء في انتظار النهاية، يتم اقتيادهم واحدا بعد الآخر داخل المبنى الذي توجد بداخله المقصلة، لكننا لا نرى كيف تقطع الرؤوس، نشاهد فقط الحارس وهو يقوم بتنظيف الدم، قبل اقتياد السجين التالي. وهكذا، إلى أن يدخل فرانز ونعرف أنها النهاية.

يستخدم تيرنس ماليك مختارات من الموسيقى الكلاسيكية من بيتهوفن وهاندل وباخ وغيرهم، لمنح الطابع الروحاني لفيلمه لكي ينسجم مع الطابع الشعري للفيلم كقصيدة من الصور والأصوات: أصوات الطبيعة وحفيف الأشجار واحتجاج الحيوانات ومداعبات الأطفال ومعاناة الروح والمناجاة والتضرع. والفيلم دون شك متعة للعين وللأذن.

كاتب وناقد سينمائي مصري

 

العرب اللندنية المصرية في

14.06.2019

 
 
 
 
 

علاء الدين سليم يستكشف في {طلاسم} خفايا النفس المتمردة

فيلمه الثاني لا يقل فرادة عن الأول

لوس أنجليس: محمد رُضـا

بعد 45 دقيقة من بداية فيلم علاء الدين سليم الثاني «طلامس»، ينتقل السرد من متابعة شخصية بطله «س» (الاسم الوحيد الممنوح له) إلى شخصية الزوجة «ف» (الاسم الوحيد الممنوح لها)؛ تمهيداً للقاء بين الشخصيتين يتم في منطقة مهجورة من تونس.

هذا واحد من أغرب اللقاءات في السينما العربية (وبعض العالمية) نسبة إلى أنه ليس لقاءً بين شخصيتين طبيعيّتين (وإن بدت شخصية «ف» كذلك) وليس لقاءً في ظرف طبيعي ناهيك عن المكان ذاته.

المخرج التونسي علاء الدين سليم يبدو في فيلمه الثاني «طلاسم» ما زال متيّـماً بالتشكيلات والعناصر التي أمّـها في فيلمه الأول «آخر واحد فينا»، ذلك الذي تم عرضه في مهرجان ڤينسيا سنة 2016 وخرجنا منه مذهولين لقوّته ورؤيته، وخرج هو بجائزة لويجي ديلورنتس الخاصة.

فيلما علاء الدين سليم لا يشبهان أي فيلم تونسي أو عربي، وحقيقة عالمي، آخر. كلاهما صنع خاص من مخيلة مخرج لديه ما يسرده بطريقة مختلفة وبعالم هو أعقد في الصياغة بمقدار ما هو أبعد عن التقليد.

«آخر واحد فينا» دار حول رجل آخر بلا اسم (منحه المخرج حرف ن) كل ما نعرفه عنه إنه لاجئ غير شرعي من نقطة ما من المغرب العربي يسرق مركباً ويبحر به ليصل به إلى مقصده. حين يحط على الأرض لا يعلم أي أرض هي. هل وصل إلى أوروبا فعلاً، أم أن التيار جرفه إلى موقع أفريقي آخر؟ هل تقدّم إلى حيث أراد، أم تأخر إلى حيث هاجر؟ يمضي ردحاً من الوقت يصارع فيه بطله وضعه المنفرد. إنه وحيد يحاول البقاء حياً في غابة كثيفة تبدو كما لو كانت نهاية العالم. تتقلب أيامه فيها بلا بدايات ونهايات إلى أن يسقط في حفرة عميقة فينقذه رجل مسن سماه المخرج «م» الذي يعيش في تلك الغابة التي ستبقى محل الأحداث طوال الوقت.

في «طلاسم» الذي شهد عرضه العالمي الأول في إطار «نصف شهر المخرجين» خلال مهرجان «كان» الأخير، يتحدث بدوره عن رجل يلجأ إلى ما يوازي تلك الغابة. منطقة مهجورة من الحياة تقع بين ساحل البحر وعمق الطبيعة غير المتداولة بعدما فرّ من الخدمة العسكرية. في النصف الأول من الفيلم نتعرف عليه (عبد الله مينياوي) وهو مجنّد في الخدمة العسكرية في فرقة تلاحق الإرهابيين. رفيق له يبوح له بأنه يكره ما يقوم به متذمراً من المهام الصعبة، ومعتبراً أن الحملة لا تؤدي إلا إلى إفقار وتجويع العباد. بعد ذلك ينتحر رفيق السلاح وفي اليوم التالي يصل «س» خبر وفاة والدته. يمنحه قائده أسبوع عطلة فيعود «س» إلى منزله ويبقى فيه وحيداً و... طويلاً.

القيادة تطلبه فلا يرد على الهاتف، وذقنه تنمو بكثافة وينعزل عن الناس إلى أن يصل الأمن العسكري ليقبض عليه فيهرب. بعد حين يكتشف الأمن مكانه ويلقي عليه القبض لثلاث دقائق أو نحوها قبل أن يهرب - عارياً تماماً هذه المرّة - إلى الغابة التي سيقضي الفيلم باقي أحداثه فيها.

هنا يقطع الفيلم إلى ما يشبه حكاية مستقلة: امرأة متزوّجة من رجل أعمال ثري تعود إلى الفيلا المعزولة (نعرف قريباً بأنها تقع بمحاذاة الغابة التي لجأ إليها س) عادت لتخبر زوجها بأنها حامل، والزوج يمنحها قبلة صغيرة قبل سفره. في اليوم التالي، تخرج لتتمشّى في الجوار وهناك تلتقي بالرجل «س» فتسقط مغشياً عليها.

من هنا هي حكاية شخصيتين التقيا في ظرف خاص، لكنه ظرف مصطنع.

- بداية، هناك الكثير من أوجه التشابه بين فيلمي سليم

كما ذكرنا هو الحرف الأول فقط من أي اسم. وشخصيات منفردة ومنعزلة. وموقع لا بشر آخرين فيه. لكن فوق ذلك هناك إصابة قدم لبطليه «ن» و«س» وشخصيّتان لا حوار بينهما مطلقاً، وحالة هرب ولجوء سابقة تقطع علاقة كل من الرجلين بالمدينة والمدنية.

في «طلاسم» موقع جميل مع طبيعة خلابة. بحر هنا ونهر هناك وبحيرة وبعض المطر. «س» يعيش في مبنى مهجور تحت مستوى الأرض والزوجة الحبلى تنضم إليه بعد قليل من الممانعة. لا يقع أي وضع جنسي بينهما، لكن «ف» سوف تتأقلم وتتعاطف وتبقى وتلد مولودها هناك. خلال ذلك، هناك تواصل بالنظرات يحتوي دوماً على «إكستريم كلوز أب» لعين واحد من عيني كل شخصية وكتابة على الشاشة بالكلمات لما يتواصلا حوله. يقول لها - صمتاً وبالفصحى - «لا تخافي»، ترد - صمتاً أيضاً - «أين أنا؟ أين صوتي؟». يرد: «لسنا في حاجة إلى أصوات لكي نتواصل»... لكننا، كمشاهدين، في حاجة إلى تبرير.

المخرج سليم يبتدع انقطاع الصوت عذراً لإفقاد النصف الثاني من الفيلم أي كلمات. قد نعتاد على هذه التركيبة (التواصل بالنظر عبر لقطات قريبة جداً) لكي نتيح للمخرج الاستفادة من الحالة الماثلة. لكن الرغبة في تبرير ما يقع تبدو قائمة: لماذا قرر ترك الجيش؟ لماذا هرب عارياً من الملابس؟ كيف استخرج الرصاصة من ساقه؟ لماذا رضت «ف» بالوضع سريعاً؟ من أين كل تلك الملابس التي يبدو أن «س» يرتديها؟ وكل ذلك حتى النهاية عندما - وبعد ثمانية أشهر من البحث الدائم - يقرر الزوج البحث مجدداً عن زوجته فيهتدي إلى المكان الذي فُقدت فيه ليجد طفله متروكاً هناك!

على الرغم من كل ذلك، ورغم نهاية متسرعة، للفيلم فرديته صوتاً وصورة. مونتاج الصوت والموسيقى المنسابة منه (كتبها وازو تومبييت) بالغة التأثير. والتصوير (أمين المسعدي) مبهر، خصوصاً في مشهد محلّق يبدأ ليلاً من مئذنة مسجد، وينسحب إلى الوراء فوق المدينة طويلاً قبل أن يستدير يميناً لمسافة أخرى لتحط الكاميرا على الأرض بعد أربع دقائق رائعة.

إذ للفيلم خصوصيته يطالعنا كذلك بأنه أكبر حجماً (كإنتاج) من الفيلم السابق وأكثر خيالاً. هناك مشهد لما يبدو جداراً أسود في وسط الغابة يشبه ذاك الذي في «2001: أوديسا فضائية» لكن أصغر. وهناك أفعى تساوي بحجمها تلك التي يتعارك الوحش معها في فيلم «كينغ كونغ» (1933). ليس أن هذه الغرابة تؤدي إلى فك الطلاسم، لكنها تثير الخيال.

 

####

شاشة الناقد:

Once Upon a Time in Hollywood

- إخراج: كونتِن تارنتينو

- تقييم: (جيد)

هوليوود وأشباح الموت

هناك أكثر من طريقة للحديث عن هوليوود. طريقة روبرت ألدريتش في «السكين الكبير» (1955)، حيث مصير الممثل معلق بحصوله على الأوسكار من عدمه، وطريقة روبر ألتمن في «اللاعب» حيث يوجه الفيلم سهامه النقدية إلى ما يصنع عالم الخيال (1992)، وهناك طريقة مارتن رت الساخرة حول المكارثية في «الواجهة» (1976)، وطريقة جورج كلوني الجادة حول الموضوع ذاته في «ليلة طيبة وحظ جيد» (2005)، ثم بالطبع طريقة النجومية التي أفلت في «سنست بوليڤارد» لبيلي وايلدر (1950).

كونتِن تارنتينو لديه طريقة إضافية: سوف يقوم في «ذات مرة في هوليوود» بتناول ثلاثة محاور مختلفة ومتوازية، اثنان منها يدوران حول ممثل و«دوبليره»، والثالث يدور حول أحلام أجهضت قبل أوانها. في محصلته هو عن أشباح موت متعددة المصادر والرؤوس: موت النجومية وموت فترة من الحياة التي لا تعود وموت شارون تيت، ثم الموت الأكبر الذي تجسده هوليوود كما كانت وكما لن تعود.

رك (ليوناردو ديكابريو) ممثل يقف على الحافة. نحن في الستينات. ينظر الممثل إلى وضعه المتأرجح الذي قد ينتهي بفقدانه جمهوره وخروجه من قائمة النجوم الأُوَل إلى ممثلي أدوار الشر وبعض أفلام الوسترن سباغيتي (غرام المخرج تارنتينو المتكرر). للممثل بديل يُستعان به للحلول مكانه في تنفيذ المشاهد الصعبة اسمه كليف (براد بت). كليف هو مثل رك في وسامته، لكنه أكثر تحرراً. ليس لديه ما يخسره إذا لم يتم اكتشافه ويصبح ممثلاً، لذلك يعيش في سلام مع نفسه. هذا على الرغم من أن حياته المهنية هي أقصر من حياة الممثلين.

أما شخصية شارون تيت (تؤديها مارغوت روبي) فهي شخصية الممثلة التي لديها الكثير مما تتطلع إليه مستقبلاً. هي ما زالت جديدة تؤدي أدواراً خفيفة وصغيرة، لكنها تلفت الأنظار. لا تعرف أن حياتها مهددة بالقتل بسبب عصبة مجنونة يقودها تشارلز ماسون. لكن المخرج يحرص على ألا يصوّر العملية. بل هو لا يصوّر مقتل شارون تيت مطلقاً. ما يفعله هو أن يترك لبعض أفراد العصبة الهيبية اقتحام المنزل الفخم للممثل رك بقصد قتله وقتل من فيه. المنزل يقع بمحاذاة المنزل الذي استأجره رومان بولانسكي لزوجته. بذلك يختار تارنتينو الحديث عن عملية خيالية لم تقع ويفرد لها وقتاً ممتعاً مفاده قيام كليف بالتصدي (وكلبه) إلى العصبة التي اقتحمت البيت).

يقف الفيلم على خط الوسط بين العمل الذي لا يوازي بعض أعمال المخرج السابقة وبين الفيلم المثير للإعجاب وهو ينتهي في ذلك الموقف من دون السقوط في أي من الخانتين. بمدة زمنية طويلة (أقل من ثلاث ساعات بقليل) يسرد المخرج معالجة متوقعة في نوستالجيتها للماضي، لكنها لا تقول الكثير في الوقت ذاته.

 

الشرق الأوسط في

14.06.2019

 
 
 
 
 

جناح مصري في "كان".. كيف؟ ومن المسئول؟

بقلم: أسامة عبد الفتاح

** لو كان التواجد بالمهرجان الأهم في العالم غير مهم سينمائيا لما حرصت عليه 60 دولة.. ولو كان مرهقا ماديا لما قامت به دول ظروفها الاقتصادية مثلنا

للعام الثالث على التوالي، غابت مصر عن التواجد في سوق مهرجان "كان" السينمائي الدولي، الحدث السينمائي الأكبر والأهم سنويا في العالم، والذي أقام دورته الثانية والسبعين في الفترة من 14 إلى 25 مايو الماضي، فيما كان آخر تواجد مصري في السوق عام 2016.

وأسارع إلى طرح السؤال "الخاطئ" الشهير قبل أن يطرحه أحد، وهو: هل هناك ضرورة أو أهمية لحجز جناح في "كان" في ظل الظروف الاقتصادية التي تمر بها مصر؟ والإجابة هي: نعم بالتأكيد، فهذا المهرجان هو الفرصة الوحيدة الحقيقية للتواجد الدولي السنوي سينمائيا، ومقابلة اللاعبين الفاعلين والمؤثرين في صناعة الفن السابع عالميا، والترويج للأفلام والمهرجانات المصرية.. وباختصار ووضوح شديدين أقول: من لا يتواجد في "كان" فهو غير متواجد في السوق السينمائية الدولية.

ولو كان الحصول على جناح في سوق "كان" غير مهم سينمائيا لما حرصت عليه أكثر من 60 دولة حول العالم، ولو كان مكلفا أو مرهقا ماديا لما قامت به دول ظروفها الاقتصادية تشبه ظروفنا مثل المغرب وتونس، ودول ظروفها أصعب منا مثل فلسطين.

ويمكن استعراض هذه التكلفة بالأرقام لنتأكد أنها غير مرهقة بالنسبة لمن ينفقون عشرات الملايين على الدعاية في شهر رمضان وفي غيره، ومن يهدرون المال العام في سفريات لا فائدة من ورائها سوى الفسحة، وفي مكافآت لمن لا يفعلون شيئا سوى الجلوس إلى مكاتبهم في انتظار المنح والعطايا. 

تُقام أجنحة وكبائن سوق مهرجان كان في ثلاثة مواقع: قصر المهرجانات، الذي تقدر قيمة الكابينة فيه على مساحة 9 أمتار مربعة نحو 5 آلاف يورو – نحو 100 ألف جنيه – ويضاف حوالى 300 يورو لكل متر مربع إضافي.. وهناك ثانيا الأجنحة المقامة على شاطئ الريفييرا، والتي تبلغ قيمة تأجيرها حوالي 6 آلاف يورو ونحو 400 يورو لكل متر مربع إضافي.. أما الموقع الثالث فهو على شارع "لاكروازيت" ويكلف نحو 6500 يورو لنفس المساحة ونحو 450 يورو للمتر المربع الإضافي.

باختصار، وبحسبة بسيطة، فإن متوسط تكلفة الجناح من حيث الإيجار يتراوح بين 120 و150 ألف جنيه مصري خلال فترة المهرجان (12 يوما)، وهو مبلغ بسيط بالمقارنة بما نهدره كما أسلفت. ومن حيث التشغيل، يكفي سفر مسئول واحد أو اثنين من القاهرة، بالإضافة لبعض العاملين في مكاتب السياحة والثقافة المصرية في فرنسا.

المشكلة أننا لا نعرف إلى من نتوجه بالتحديد لنعيد الجناح المصري في كان ومن المسئول عن ذلك: وزارة الثقافة، بقطاعاتها وهيئاتها المختلفة مثل العلاقات الثقافية الخارجية والمركز القومي للسينما وصندوق التنمية الثقافية؟ أم وزارة السياحة بقطاعاتها وهيئاتها المختلفة؟ أم غرفة صناعة السينما؟ أم النقابات الفنية؟ أم من؟ علما بأن الجناح المصرى الأخير فى المهرجان عام 2016 شهد تعاونا بين وزارة السياحة والمكتب السياحي المصري في فرنسا.

وكان مهرجان "كان" احتفل بمرور 60 عاما على إطلاق سوقه الشهيرة للفيلم الشهر الماضي، ولكي تدرك حجم هذه السوق، يكفي أن تعرف أنها استقبلت 12 ألفا و411 منتجا وموزعا ورجل صناعة عقدوا صفقات أو تفاوضوا حول 4 آلاف فيلم شاهدوها في 33 غرفة عرض بمقر السوق العام الماضي بقصر المهرجانات وقاعات أخرى.

ولا يعني وصول عمر السوق إلى 60 عاما، فيما بلغ عدد دورات المهرجان إلى 72، أنها لم تصاحب المهرجان منذ بداياته، فالحقيقة أن ممثلي شركات إنتاج وتوزيع الأفلام تتم دعوتهم إلى "كان" منذ الدورة الأولى للمهرجان عام 1946، لكن لم تكن لهم مساحة خاصة بهم كما هو الوضع الآن، بل كانوا يلتقون ويشاهدون الأفلام في قاعات السينما الموجودة بشارع "أنتيب"، الموازي لشارع الكورنيش الشهير المعروف باسم "لاكروازيت"، والذي يحتضن قصر المهرجانات الحالي.

وفي 1961، عرضت غرفة صناعة السينما الفرنسية، والتي يمكن اعتبارها اتحاد المنتجين الفرنسيين، إدارة السوق تحت مظلة المهرجان، وهو ما وافقت عليه إدارة الأخير. ومنذ ذلك التاريخ تتطور السوق وتتوسع يوما بعد يوم، سواء من حيث حجم المشاركة والتأثير، أو حتى من حيث المساحة، حيث كانت الرغبة في توسيعها، وزيادة مساحتها وعدد قاعات العروض والاجتماعات فيها، السبب الرئيسي لإنشاء قصر المهرجانات الجديد في "كان"، والذي تم افتتاحه عام 1983 متضمنا مقرا ضخما للسوق يحتل الدور الواقع أسفل مستوى الشارع في القصر بالكامل، بالإضافة إلى "القرية الدولية" التي تشارك فيها الدول الـ 60 بأجنحة تعرض فيها آخر إنتاجاتها وتُعقد فيها المفاوضات والصفقات، وقاعات وساحات أخرى.

 

جريدة القاهرة في

18.06.2019

 
 
 
 
 

كريم عينوز وقهر المرأة البرازيلية

محمد هاشم عبد السلام

بعد مشاركتين، أولى بـ"مدام إبليس" (2002) في "نظرة ما"، وثانية بـ"المنحدر الفضّي" (2011) بـ"نصف شهر المخرجين"، في مهرجان "كانّ" السينمائي، فاز البرازيلي كريم عينوز (1966)، عن "الحياة الخفيّة ليوريديس غوسماو" بجائزة "نظرة ما"، في الدورة الـ72 (14 ـ 25 مايو/ أيار 2019) للمهرجان نفسه. 

أعماله موزّعة بين روائي طويل ووثائقي. "مطار تيمبلهوف المركزي" (2018)، آخر وثائقيّ له عن اللجوء واللاجئين، معروضٌ في "بانوراما" الدورة الـ68 (15 ـ 25 فبراير/ شباط 2018) لـ"مهرجان برلين السينمائي الدولي"، وحاصلٌ بفضله على جائزة "منظّمة العفو الدولية". 

في جديده، يختار كريم عينوز ريو دي جينيرو موقعًا لأحداثه، في خمسينيات القرن الـ20. يتناول موضوعًا مطروقًا بشدّة، في الآونة الأخيرة، وإن يختلف تناوله الفني الذكي والمؤلم معًا: معاناة المرأة، والتسلّط الذكوري. يعرض صورة عامة للمجتمع البرازيلي، ولقهرٍ يُمارَس ضد المرأة منذ عقود طويلة. يتجلّى القمع في إطار بطريركي أبوي: ممارسة تسلّط وقمع وقهر، تجري كلّها داخل أسرة. هذا إسقاط واضح لكيفية تفكير المجتمع، وتصرّفاته إزاء النساء. 

الفيلم مستوحى من رواية أولى بالعنوان نفسه (2015)، للصحافية والكاتبة مارتا باتالها. قراءة سريعة لملخصّها، توضح أن المخرج اقتبسها كلّها، ملتزمًا أجواءها العامة والرئيسية: الحبكة نفسها، الشخصيات نفسها، الخطوط العامة المحيطة بها ونهاية حيواتها أيضًا. نجا عينوز من ميلودرامية الحبكة وكليشيهات موضوعها بصعوبة. الإيقاع باهت. الوتيرة متراخية أحيانًا. الأداء يجنح إلى الضعف تارة، وإلى الافتعال تارة أخرى، خصوصًا أداء البطلتين. 

هذا يُمكن التغاضي عنه، وعن هنات أخرى شابت الفيلم الاجتماعي ـ الإنساني الرائع. هنات لا تحول دون الاستمتاع بفيلم مؤلم حقًا، وبجمالياته البصرية والموسيقية. 

قصّة انفصال يوريديس غوسماو (كارول دوارتي)، ابنة الأعوام الـ18، عن شقيقتها غيدا (جوليا ستوكلر)، التي تكبرها بعامين. قصص انفصال أكثر منها اتصال. في البداية، انسجام وتفاهم بينهما. لغيدا حياة حرّة طليقة. تثق بنفسها. مستقلّة في قراراتها. يوريديس، الخجولة والعقلانية والناضجة، تدافع عن نزق شقيقتها وجنونها، خاصة ضد والدهما مانويل (أنتونيو فونسيكا) وتزمّته وصرامته. تحرّض شقيقتها يوريديس على تحقيق حلمها: السفر إلى النمسا لدراسة الموسيقى أكاديميًا، في "كونسرفاتوار فيينا"، فيوريديس تتمتّع بموهبة العزف على البيانو. 

تتعرّف على بحّار يوناني يعدها بالزواج. تهرب معه ذات ليلة إلى أثينا، من دون إخبار أحدٍ، بمن فيهم شقيقتها. تترك رسالة تفيد بأنها تُحبّ الرجل، وأنهما سيتزوجان ويعيشان في اليونان. تنهار الأم الضعيفة الخانعة آنا (فلافيا غوسماو). يعلن الأب أنّه لم يعد لديه ابنة. يحدث هذا في مجتمع لا يعترف بحبّ أو بعلاقة خارج الزواج، ولا يتنازل عن العذرية. لذا، يصبح الهروب مع الحبيب، من دون زواج، أكبر عار تلحقه ابنة بأسرتها. 

تتمحور الأحداث اللاحقة حول يوريديس، غير الراغبة في الزواج، لكن المرغمة عليه، فالعريس ابن شريك والدها، ولم يخطر ببالها أبدًا أن تُزَفّ له. الموافقة متأتية من رغبةٍ في الفرار من الأهل والمنزل الخالي من شقيقتها، وفي الوقت نفسه، من رغبة في تحقيق حلمها بالسفر والدراسة في فيينا. تحاول يوريديس أن تكون زوجة مطيعة قدر المستطاع، شرط ألّا تحمل، كي لا يتعطّل مستقبلها. 

فجأة، تعود غيدا إلى المنزل وهي حامل، فاليونانيّ تخلّى عنها قبل الزواج بها. بالكاد استطاعت العودة إلى البرازيل. يطردها والدها، بعد إعطائه إياها بعض المال. عندما تحاول والدتها الدفاع عنها، للمرة الأولى، أو محاولة تهدئة الأمور، يُهدّدها زوجها باللحاق بها، فتصمت. عندما تُلحّ غيدا في السؤال عن شقيقتها، يخبرها الوالد بأنها في فيينا للدراسة. 

يتابع الفيلم مسارها الحياتي. تنجب طفلاً، وتتحمّل نفقات العيش، وتربّيه، في ظلّ معاناة حياتية. في المقابل، هناك يوريديس وحملها وانهماكها في الحياة الزوجية، وتشبّثها بحلم دراسة البيانو، وممارستها العزف، ورغبتها الخافتة في السفر إلى فيينا. بالإضافة إلى زيارات عابرة إلى منزل والديها، وسؤالها عن شقيقتها، بين حين وآخر. يكذب الأب، المُتحجّر القلب، كما يفعل مع شقيقتها. لكن، لأعوام طويلة تنتهي بوفاتها، تبقى الوالدة صامتة. هذا مُثيرٌ للريبة والغرابة، فهل هذا كلّه نتاج خوفٍ من عنف الزوج الأب وقهره، أم أن لها معه التفكير نفسه؟ 

لن تلتقي يوريديس شقيقتها غيدا أبدًا، رغم عيشهما أعوامًا طويلة في مدينة واحدة. أكثر من مرة، يلعب القدر لعبته، بعد أن تجمعهما الصدفة، التي ستجمع عرضًا ابن غيدا بابنة يوريديس، دقائق قليلة في مطعم. 

جمال الفيلم كامنٌ في أنّ ذكاء المخرج يتجلّى في حرصه على عدم حدوث اللقاء. تُرسل غيدا رسائل كثيرة إلى شقيقتها، أعوامًا عديدة، لعلّ قلب الأب يرقّ، ويحوّل الرسائل إليها. رغم عدم تلقّيها رسالة واحدة، لم تملّ من الكتابة. تُكلّف يوريديس مُحقّقًا للبحث عن شقيقتها. بعد إخباره إياها بفشله، يُعلمها فجأة بوفاتها. تذهب إلى قبرها، وتقرأ اسمها، وتكتشف كذبة والدها. لكن يوريديس لم تمت، فهي تحمل اسم صاحبة نزلٍ كانت تعيش فيه، أورثتها منزلها قبل وفاتها. كانت لها ولابنها أمًّا حقيقية، وتعويضًا عن أسرتها. ما يُثير أن يوريديس تعثر، صدفة، عند بلوغها 90 عامًا، أن إحداهنّ أخفت الرسائل، واضعةً إياها بين أغراض العائلة. هذا يُذهلها. عندها، تُدرك أنها فقدت شقيقتها أكثر من مرة.

 

العربي الجديد اللندنية في

19.06.2019

 
 
 
 
 

وسام الجعفري: "أمبيانس" حكاية مخيّم مكتظّ يخترقه الإسرائيليون يومياً

أشرف الحساني

ظهر الفلسطيني وسام الجعفري (27 عامًا)، مؤخّرًا، بفضل فيلمه القصير "أمبيانس"، الفائز بالجائزة الثالثة في مسابقة "سيني فونداسيون" للأفلام القصيرة، مناصفة مع المخرجة البولونيّة بارْبارا روبتيك عن Duszyczka، في الدورة الـ72 (14 ـ 25 مايو/ أيار 2019) لمهرجان "كانّ" السينمائي الدولي

يكشف الفيلم تملّك المخرج الشاب لمهنيّة واضحة في معالجة مواضيع بسيطة، تعكس بعض الحياة اليومية، على الأقلّ، للّاجئين في مخيم الدهيشة (بالقرب من مدينة بيت لحم)، في فلسطين المحتلّة. في فيلمه هذا، يصف بدقّة الحياة اليومية لهؤلاء الأفراد، ولما يعانونه من شظف العيش، وانعدام الخصوصية، وضيق المكان، وانقطاع دائم للكهرباء، ما جعل "أمبيانس" يخطف الأضواء في المهرجان الدولي هذا، فاتحًا أفقًا سينمائيًا جديدًا، علمًا أّنه يتضمّن كلامًا بسيطًا ومتواضعًا وسهلاً، يكشف موهبة المخرج في الكتابة أيضًا. 

عن بداية تشكّل فكرة الفيلم لديه، قال وسام الجعفري، في حوار مع "العربي الجديد"، إنّها حياته اليومية في مخيم الدهيشة: "أعيش في مكان يُقيم فيه 15 ألف نسمة على مساحة كيلومتر مربّع واحد. (أمبيانس) جزء بسيط من الحياة اليومية في المخيم. محاولة متواضعة للقيام مع المُشاهد برحلة داخل المخيّم، في أزقته المكتظّة بالناس، وفي شوارعه الضيّقة والمزدحمة والمليئة ضجيجًا، وذلك خلال يومٍ واحد فقط". 

وعمّا يُمثِّله الفوز بالنسبة إليه، قال: "الوصول إلى مكانٍ كهذا (مهرجان "كانّ") فوزٌ بحدّ ذاته. تمّ العمل على الفيلم بإمكانيات بسيطة، مقارنة مع الأفلام الـ16 المشاركة في المسابقة، والمختارة من أصل 2000 فيلم. هذا بحدّ ذاته إنجاز، تمامًا كالقدرة على المنافسة في مسابقة (سيني فونداسيون) في مهرجان (كانّ). إنجاز لي ولفريق العمل، الذي آمن بفكرة الفيلم، وللجامعة أيضًا، فـ(أمبيانس) مشروع تخرّجي من كلية (دار الكلمة للفنون والثقافة)، وهو أول فيلم يصل إلى المسابقة هذه. إنجاز للمخيم الذي أنا منه، والذي منه نشأت فكرة الفيلم". وشدّد الجعفري على أنّ الفيلم "فلسطيني بامتياز، من دون أي تمويل خارجي"، وأنّ العاملين معه جميعهم "درسوا وعملوا في فلسطين". 

أما بالنسبة إلى اختياره الأسود والأبيض في تنفيذ الفيلم، مع كلام بسيط ومكثّف يكشف معاناة لاجئين في بلدهم المحتلّ، فقال الجعفري: "الأهمّ كامنٌ في إظهار واقع لا يراه الناس في مخيمات اللاجئين، وفي طرح صورة للمخيم غير تلك التي اعتاد الناس مشاهدتها في وسائل الإعلام. اختياري الأسود والأبيض منبثقٌ من إمكانية أنْ تؤثّر الألوان على تركيز المُشاهِد. ما أريده هو التركيز على الحدث، فالحدث هو الأهم: شابان يحاولان تسجيل مقطوعة موسيقية خاصة بمسابقة دولية، ويريدان الإسراع في ذلك كي يتمكّنا من تسليمها في الوقت المحدّد. عبر فشل التسجيل، يكتشف المُشاهدُ المكانَ المزدحم، والمليء بالأصوات والضجيج". 

في "أمبيانس"، هناك اهتمام كبير بالتفاصيل الصغيرة والدقيقة المتعلّقة بالحياة اليومية، التي توقّف وسام الجعفري عندها بعناية. فما هي الصعوبات التي واجهها وهو يلتقط تلك الشذرات الصغيرة والبهيّة، الخاصة بحياة الشباب الفلسطينيين اليوم؟ "تحقيق الفيلم في الظروف هذه كلّها يُشبه قصّته. التحدّيات موجودة مع الإمكانيات المتواضعة والبسيطة. لأهل المخيم نصيبٌ كبيرٌ في الفيلم، إذْ سهّلوا لي استخدام أي منزل في المخيم، أو الاستعانة بكابلات الكهرباء. كنتُ أحصل على الإضاءة التي أريد من المنازل، إذْ يكفي أن أطلب هذا من الناس فيُضيئون منازلهم كي أتمكّن وفريق العمل من التصوير. الإيمان الكبير لفريق العمل والممثلين عامل إيجابي مهم للغاية. الممثلون هم سكّان المخيم، وهذه تجربتهم التمثيلية الأولى. هم يعيشون التفاصيل كلّها يوميًا". 

أضاف الجعفري: "تغلّبنا على المعوقات والإمكانيات البسيطة كلّها بفضل أمور كهذه. الشخصيتان الأساسيتان في الفيلم تغلّبتا، هما أيضًا، على هذا كلّه. هناك قناعة لديّ مفادها أنه رغم الانحدار السياسي والاجتماعي الذي نعيشه يوميًا، يُمكن الوصول إلى ما نريد، من دون التنازل عن التفاصيل الصغيرة. الهمّ الوحيد لديّ كان في إنجاز الفيلم كعمل فني متكامل". 

المعروف أن الاحتلال الإسرائيلي اعتقل بطل الفيلم، محمد الخمور (21 عامًا)، بعد الانتهاء من التصوير مباشرة. فهل أثّر هذا على مسار الفيلم؟ أجاب وسام الجعفري: "انتهاكات الاحتلال الإسرائيلي الغاشم موجودة يوميًا، يظهر جزء منها في (أمبيانس)، عبر اقتحامات الجنود الإسرائيليين للمخيم. مع نهاية اليوم الطويل للشابين، وإنجاز استديو من (كراتين) البيض ليتمكّنا من تسجيل مقطوعتهما الموسيقية، يقتحم الجنود الإسرائيليون المكان". وأشار المخرج الشاب إلى أنّ "هناك رسالة يجب إيصالها، فمع اعتقال الخمور حملنا صورته في مهرجان (كانّ). لو كان معنا، لاتّخذ وجودنا في المهرجان معنى مختلفًا". 

وعن تفاعل الأوساط الفلسطينية مع فوزه بالجائزة، قال إنّ "بهجة وفرحًا حقيقيين عرفهما أهل المخيم عند شيوع نبأ الفوز. كانوا يتابعون أي خبر عن المهرجان. كانوا يريدون معرفة المستجدات كلّها، إلى درجة أنّي شعرت بوجودهم معي في (كانّ). خبر الفوز مهمّ جدًا لزملائي في الدراسة، إذْ جعلهم يندفعون بطاقة أكبر إلى إنجاز الأفلام. هذا مُشجِّع لهم، وهذا جعلني أفخر بما أنجزته. سأستمر في إنجاز أفلام فلسطينية. الفوز منحني طاقة كبيرة".

 

العربي الجديد اللندنية في

23.06.2019

 
 
 
 
 

السينمائي التونسي علاء الدين سليم: أجد في حياة المهمشين مادة غنية

فيلم "طلامس" في جولة على المهرجانات الدولية

هوفيك حبشيان  

"طلامس"، ثاني أفلام المخرج التونسي علاء الدين سليم، يستعد لجولة على المهرجانات السينمائية الدولية في الأشهر المقبلة، بعد انطلاقته الناجحة في قسم "أسبوعا المخرجين" داخل مهرجان كانّ السينمائي في مايو (أيار) الماضي. الفيلم لا يختلف كثيراً عن العمل الذي شاهدنا لهذا المخرج الشاب قبل ثلاث سنوات في عنوان "آخر واحد فينا" الذي فاز عنه بجائزة "أسد المستقبل" في فينيسيا. فالتشابه هو على مستوى الجرأة والغموض والالتباس. غالب الظن أن سليم يحاول التنقيب عميقاً في الأرضية التي يعمل فيها، ساعياً إلى إشاعة مناخ خاص به، يتغذى من الصمت والألوان والتيمات التي تبتعد عن السائد في السينما التونسية. 

على الرغم من التشابه بين الفيلمين، فالمغامرة التي يقترحها علينا سليم تحملنا إلى ضفاف جديدة. إنها حكاية يمكن اختزالها ببضعة أسطر: بعد موت أمّه، جندي تونسي (عبدالله مينياوي) يُمنح إذناً خاصاً لمدة أسبوع حداداً. لكنه يستغل الفرصة للفرار وعدم العودة إلى صفوف الجيش. هذا الجندي الغامض يبدو لنا أنه يهرب من واقع فيه الكثير من الإحباط واليأس، واقع يحاول الخاضعون له طمسه. فمباشرة قبل تلقّي خبر وفاة أمّه، نرى زميلاً له وقد قرر الانتحار، من دون أن نعلم الأسباب. ما هو أكيد أن سليم يصوّر بلداً (تونس) لا يقدّم إلا الآفاق المسدودة. بلد يحاول مكافحة الإرهاب، إلا أن الشياطين تطارد جنودها أينما هربوا. لا يوجد لدى الجندي أي شيء يخسره.

نحن كمشاهدين مسمّرين في كراسينا، نتعقب الجندي خطوة خطوة في رحلته الطويلة والبطيئة التي تكاد تصبح نزولاً طوعياً إلى الجحيم. تفاصيل كثيرة يمكن التقاطها داخل الغابة والطبيعة التي يجرنا إليهما الفيلم بشيء من السادية. طوال الرحلة، نتذكّر أفلام التايلاندي أبيشاتبونغ فيراسيتاخول. سليم ليس براديكالية هذا المخرج، بيد أنه لا يمكن أن ينكر تأثيره فيه.

جندينا الفار الذي لا نعرف أصله ولا فصله لا يلبث أن يغرق في وسط الأدغال، قبل أن تتقاطع طريقه بطريق امرأة حامل (سهير بن عمارة)، وهنا تبدأ رحلة من نوع آخر. يقحمنا الفيلم في نفق جديد. هذا الجزء من الفيلم لا يخلو من الفانتازيا. خلافاً للكثير من السينمائيين التونسيين الذين أخذوا ينحتون في صخرة الواقع، يسعى سليم إلى سلك درب آخر، وهذا لا يعني أنه يتجاهل الواقع، بل يتناوله مواربةً، مستخدماً مبادئ بصرية وأدوات سردية أكثر تعقيداً وأقل مباشرةً من تلك التي يلجأ إليها غيره من المخرجين. هو، بهذا المعنى، يتماهى مع "بطله" الجندي المغامر، الذي يبحث بعيداً، لأن الكنيسة القريبة، كما يُقال، لا تشفي. 

هناك صنفان من السينمائيين: الأول يستلهم الحياة والثاني السينما. سليم أقرب من الصنف الثاني. في جلسة لي معه، أخبرني أن اكتشافه للسينما يعود إلى سن التاسعة عشرة. قبل ذلك العمر، كانت ثقافته السينمائية تقتصر على أفلام جان كلود فان دام وغيرها من أفلام الحركة. والأنكى أنه لم يُصب بصدمة يوم اكتشفها، كما حدث مع العديد من السينمائيين الكبار الذين يؤكدون لنا ذلك في مقابلاتهم. وعندما قرر إنجاز الأفلام، لم يمر عبر القنوات التقليدية، أي العمل كمساعد مخرج، وذلك لإيمانه أن الطريقة المثلى لتعلّم السينما هي أن يصنع المخرج فيلمه، لا أفلام الآخرين.

يقول سليم: "لدي ضعف للمهمّشين الذين يعيشون في عزلة. لي تجاههم محبّة وأجد فيهم مادة سينمائية. الأشخاص الذين صوّرتهم إلى الآن لا يهربون. ولكن لا يثبتون في أماكنهم. في منتصف تجربتهم، يتعرضون لحادثة، وهذه الحادثة تسهم في تغيير مسارهم. صحيح أن في فيلمي ثمة عودة إلى الجذور أي إلى الطبيعة، ولكن هذا هو المكان الطبيعي للعيش، أقله هذا ما كنت فعلته لو كنت في مكانهم. أعيش في حيّ شعبي وأتعامل مع العديد من البشر يومياً، ولكنني مقتنع أن على السينمائي أن يكون على كوكبه الخاص، وغير مرتبط بجغرافيا معينة. أنطلق على الدوام من الأشياء التي نعيشها، إلا أنني كفنّان غير مهتم بنقل الواقع الصرف إلى الشاشة. أصلاً، ما إن تضع كاميراتك في مكان ما، فلا يعود ما تنقله هو الواقع. أستلهم من الواقع ولكن أذهب به إلى مناطق أخرى".

ما يجذب في تجربة سليم هو إصراره على العودة إلى أدوات السينما البدائية، من مثل الصوت والصورة والديكور والمونتاج والماكياج، والابتعاد من كلّ الإيفيهات المستهلكة والمكرورة. والأهم تخلّصه من السمة الإكزوتيكية التي صنعت شهرة بعض الأفلام التونسية عبر التاريخ، وهي أفلام تغازل الغرب وتطلب رضاه. هذه الرغبة في العودة إلى أدوات السينما البدائية، تجسّدت في فيلمه السابق، وها إنها تتجسّد مجدداً هنا، بالكثير من الفعالية. يقدّم سليم تجربة حسيّة في المقام الأول. يلوذ بالصمت ليصوّر الانقطاع عن كلّ مظاهر الحياة الحديثة هرباً إلى حضن الطبيعة الدافئ.

عن تعلّقه بالطبيعة يقول سليم إن هذا كله بدأ عنده بعد الثورة التونسية. في السابق، كانت علاقته بالمدينة جد متينة، لكنها تغيرت في اللحظة التي شعر فيها بأنها ضاقت به وبأمثاله. حاول الهرب فكان سبيله إلى الطبيعة. لكن هذا الارتماء في حضن الطبيعة جذوره تعود إلى الطفولة التي عاشها، حينما كان يذهب مع أهله لتمضية بعض الوقت في الريف. كونه يسكن في منطقة سياحية تقع على البحر، فأمضى جلّ العطل الصيفية في الجبل على سبيل التغيير. بعد فيلمين في عراء الطبيعة، يقول سليم إن المدينة بات يتقيأوها، ويبحث عن احتمالات عيش في أماكن أخرى. 

 

إندبيندينت عربية في

24.06.2019

 
 
 
 
 

"باكوراو" فيلم برازيلي يروي قصة قرية على قارعة التاريخ والاغتراب

المخرجان كليبير مندونسا فيلو وجوليانو دورنيليس يقرعان ناقوس الخطر

هوفيك حبشيان  

الأوضاع السياسية في البرازيل بعد انتخاب اليميني المتطرف جايير بولسونارو تستدعي القلق. أفلام عدة ولدت من هذا القلق في الفترة الأخيرة، أفلام تدق ناقوس الخطر وتقدّم رواية أخرى عمّا يحصل من تغييرات سلبية في أكبر بلد أميركي لاتيني، تناقض في فحواها كلّ ما نراه ونسمعه في وسائل الاعلام: تضييق على الحريات، نزعة قومية، نشر أفكار رجعية. من جملة هذه الأفلام: "باكوراو" للثنائي البرازيلي كليبير مندونسا فيلو وجوليانو دورنيليس، الذي عُرض في الدورة الأخيرة من مهرجان كانّ السينمائي حيث فاز بجائزة لجنة التحكيم.

"باكوراو" ليس فيلماً عن بولسونارو أو عن الخطوات العدائية التي قامت بها السلطة ضد فئات من المجتمع. ولكن كلّ شيء فيه يذكّرنا بالسلطة والعدائية والتهميش. فهذا فيلم شديد القسوة، قساوة يجدها البعض رد فعل بديهي وقد حلّت بالبرازيل، موطن فيلو ودورنيليس، كارثة حقيقية، مع وصول بولسونارو إلى سدة الرئاسة وتكريس التطرف. هذا وصول كافٍ عند الكثير من الفنّانين لإعلان حال الطوارئ، أقله سينمائياً، في البلاد، والتصدي له صوتاً وصورة.

باكوراو اسم قرية "منسية" في البرازيل تعيش فيها مجموعة بشرية مهمّشة على قارعة التاريخ والجغرافيا بسبب انها تتحدر من منطقة ينظر الآخرون إلى سكّانها باعتبارهم مواطنين درجة ثانية. الأحداث التي ينطلق بها الفيلم تجري في مستقبلٍ قريب جداً، في اشارة قد توحي بحال البرازيل راهناً، اجتماعياً وسياسياً. كأن الفيلم من خلال الزمن الذي يختاره يحذّر من حدوث الأسوأ. البلدة الصغيرة هذه تختزل من وجهة نظر المخرجين، برازيل الحالية الواقعة في فخ الكراهية والعنف. هناك احساس أبوكاليبتي يخيّم على المناخ العام للفيلم، منذ الافتتاحية حتى لحظة الختام. 

 يتولى الفيلم تصوير الجماعة التي تعيش بتناغم مع بيئتها إلى حين وصول مَن سيعكّر صفو الأشياء. الجزء الأول فيه شيء من المعاينة الأنثروبولوجية الدقيقة، اذ ان مراسم دفن احدى كبيرات السن في القرية تفتح المجال لرسم بورتريه جميل لعادات البلدة وتقاليدها. الا ان دخول بعض السياح وانطلاق الأحداث الدموية، سيضعان أهل البلدة في دائرة الخطر، لتصل المسألة بهم إلى اختفائهم الكلّي عن الخارطة!

الواقع المعقد

صحيح ان "باكوراو" لا يتصدى مباشرة إلى قضية انتخاب بولسونارو، ذلك انه يجول في بال المخرجيَن منذ نحو عقد من الزمن، الا ان الاستبداد الذي ينتظر البرازيل يلقي بظله على الفيلم. يروي المخرجان ان الموضوع مستوحى من نقطة شديدة الارتباط بالواقع البرازيلي. يقول فيلو: "كانت رغبتنا في الأساس انجاز وسترن مغامرات عن السلطة والقوة. وعندما تفكّر بالقوة. الصداقة التي تربطني بجوليانو وحبّنا المشترك للأفلام، فضلاً عن النفوذ الذي وفّره لي فيلمي السابق "أكواريوس"، هذا كله حفزني لإنجاز هذا الفيلم الذي ينتمي إلى سينما النوع. مع ذلك، أعلم انه لا يمكن تجنّب ربط برازيل الماضي ببرازيل الحاضر، بالتوتر الذي تعيش فيه وبتناقضاتها المجنونة". 

يروي دورنيليس ان ما شجّعه على إنجاز هذا الفيلم هو الناس المهمّشين الذين التقاهم في أحد المهرجانات السينمائية، معتبراً ان هذا الفيلم ردّ اعتبار إلى هؤلاء البشر الذين يأتون من منطقة شمال شرق البرازيل (المنطقة التي ولد فيها). فقبل بضع سنوات، كان هو وفيلو في مهرجان سينمائي يقضيان فيه بعض الوقت بمشاهدة عدد كبير من الأفلام. يومها، شاهدا الكثير من الوثائقيات عن الاتنيات المختلفة في البرازيل. ولكن أكثر ما أثار قلقه وحفيظته هو رؤيته شابة فقيرة جداً ظهرت في أحد الأفلام الوثائقية. شاهدها تجلس على كنبة جلدية فاخرة وهي ترتدي ملابس رثّة وتبدو غريبة عن المكان. يتذكّر المبلغ المالي الذي تقاضاه وقتها من المهرجان لشراء المأكولات ويقول انه كان يكفي لشراء الطعام طوال شهر كامل. كانت هي وغيرها من الفتيات يرتدين ملابس رثّة، الأمر الذي منعهن من دخول المطاعم. أزعجته جداً رؤية هذا المشهد. صحيح ان الكلّ حول البنات كانت نياتهم حسنة، ولكن هذا لا ينفي ان الموقف كان شديد العنف. رغبة المخرجان في إنجاز "باكوراو" وليدة هذه اللحظة القاسية. 

يعلّق فيلو على هذا الموضوع قائلاً بأنه يوجد تقسيم ثقافي واجتماعي بين شمال شرق البرازيل وجنوبها حيث ريو وساو باولو، مركز الأموال. هو ودورنيليس من هذا الاقليم، ممّا يعني انهما يتعرضان باستمرار إلى تمييز طبقي على خلفية اصولهما، ولن يساعدهما انتخاب بولسونارو الذي يروّج لأفكار يمينية غير مريحة في محاربة هذ التمييز. "نواجه الكثير من الأفكار المسبقة تجاهنا. لحسن حظنا، ولاية برنمبوك التي آتي منها غنية جداً من النواحي الثقافية: موسيقى، أدب، فيلم. المشهد الثقافي فيها محل تقدير وإحترام الجميع. لكن خارج هذا المشهد، نرى الويلات!".

بعيداً من السياسة، يمكن القول ان فيلو ودورنيليس من السينمائيين الذين لا ينسون ما تعلّموه من السينما يوم كانوا مجرد مشاهدين. فخلال فترة كتابة السيناريو، كانا يستعينان بالحلول المتوافرة في بعض الكلاسيكيات في كلّ مرة شعرا بأنهما أمام حيط كتابي مسدود. لذلك، شاهدا الكثير من الوسترن. "كومبانييروس" لسرجيو كوربوتشي أحد هذه الأفلام التي اضطلعت بدور مهم، وتأثيره في "باكوراو" جد واضح. "لفتنا جوّ القسوة والحقارة الذي كان ينبعث منه"، يقول فيلو قبل ان يصرح بأن السينما الهوليوودية لطالما أرادت اقناع المشاهدين في أنحاء العالم كافة بأن البطل المطلق لا يمكن الا ان يكون أميركي الهوية وأبيض البشرة، ولكن "باكوراو" يقول عكس هذا. 

 

إندبيندينت عربية في

29.06.2019

 
 
 
 
 

المخرج الفلسطيني إيليا سليمان يقاوم سينمائيا... بالسخرية والصمت

فيلم اشبه بسيرة ذاتية من الناصرة الى باريس ونيويورك

هوفيك حبشيان  

كيف نصوّر فيلماً سينمائياً عن الاحتلال من مسافة بعيدة؟ قد يطرح الواحد منّا هذا السؤال على نفسه وهو يشاهد "لا بد أنها الجنّة"، رابع أفلام المخرج الفلسطيني إيليا سليمان وأحدثها الذي فاز بتنويه خاص وجائزة النقاد في الدورة الأخيرة من مهرجان كانّ السينمائي.

في هذا العمل البديع الذي يقف على حافة الأشياء، يلتزم سليمان القول المأثور: "إذا كان الكلام من فضّة فالسكوت من ذهب". ذلك أنه، طوال الفيلم الذي ألفه وأخرجه واضطلع فيه بالدور الرئيس، لا يتفوّه إلا بجملة واحدة ليقول إنه فلسطيني رداً على سؤال سائق سيارة أجرة في نيويورك. نبش سليمان كثيراً في سيرته الذاتية. فالخط الدرامي هو الطريق التي شقّها عندما قرر ترك مسقطه الناصرة في الثمانينيات والذهاب للبحث عن فرصة في الخارج. وكانت محطته الأولى يومها باريس ثم نيويورك.

يعيدنا الفيلم بالتالي إلى باريس ثم نيويورك. مدهشة باريس التي يصوّرها بعين الغريب الحكيم، علماً أنه يعيش فيها منذ سنوات عدة. يصوّرها كما صوّر سابقاً شوارع الناصرة المحتلة. مع الفرق بأن باريس هي بمنزلة الجنّة في مخيال الإنسان العربي الهارب من أرض النزاعات التي لا تنتهي. يصوّرها بالنبض نفسه، إذ نشعر أن هناك إحساساً متواصلاً بأن الخطر سينبعث من مكان ما. حالة الانتظار التي بلورها سليمان في أعماله السابقة والتي اختزلت بصرياً القضية الفلسطينية وجدت حضناً دافئاً لها في باريس. ضف هذا إلى سلسلة مواقف عبثية لا تنكر صلتها بالمخرج الأسوجي روي أندرسون: شرطة ودبّابات وعناصر إسعاف وعجزة في شوارع وجادات وميادين خالية من البشر والسيارات وزحمة السيّاح المتواصلة. أما في نيويورك، فناس آخرون وواقع آخر، ليس أقل "سوريالياً" مما نشاهده في باريس.

صلة الوصل بين الأزمنة والأماكن هي هذا الرجل الصامت (إيليا سليمان) الذي يراقب ولا يعلن مواقفه سوى من خلال لغة الجسد أو النظرات القليلة التي يرميها في اتجاهنا. نحن حيال حكاية شخص صامت يبحث عن وطن قبل أن يكتشف أن وطنه هذا يحمله معه أينما حلّ، بل إن العالم كله "تفلسطن"، وصار يجده على شكل آخر في كلّ بقاع الأرض.

يغوص سليمان في جذور الفنّ السينمائي خالقاً مساحة شعرية بينه وبين المُشاهد، مستخدماً عوامل الضحك الرصين والسخرية والكوميديا السوداء كحزام أمان يخوله عبور الحواجز بكل اطمئنان ومن دون عراقيل تُذكر.

فيلمه هذا، الذي سيأتي إلى الشاشات العربية في الأشهر المقبلة، مناسبة للحديث عن هذا الفنّان الذي استطاع الوصول إلى العالمية من دون إن يبيع نفسه للشيطان. هناك دوماً شعور بالعزلة في أفلامه. في مجالَي التكوين السينمائي والصوت، هناك إيقاعات و"ضربات" جدّ محدّدة، ولا نجد فيها أي فوضى. يعمل سليمان لبناء نظام إيقاعي في الصورة. والممثّلون الثانويون في أفلامه، ليسوا بالضرورة كاراكتيرات ذات بسيكولوجيات معينة بل هم بمثابة عناصر يخلقون نوعاً من الحركة في الصورة تشبه الرقصة. جزء من رغبة سليمان في السينما هو أن يبتكر نظاماً فيه نوع من الكوريغرافيا. باعترافه أنه عندما يمزج ٤ أو ٥ أصوات في الوقت نفسه يصبح لديه تشوش، لذلك لا يحب أن يرى الأمور تتشابك ببعضها بعضاً، ولا يتحمّل رؤية أو سماع الأشياء دفعة واحدة.

يمكن ربط غياب الكلام في أفلام سليمان بحقيقة أن سينماه لا تؤمن بالحوار وتحرص بالتالي على تصوير فقدان الصلة بين البشر. ولكن لديه نظرة أخرى للموضوع لتبرير هذا الغياب. يقول: "لم أتابع دراسات أكاديمية، وكوني لم أدرس تاريخ السينما كما يفعلونه في المعاهد المتخصصة، فدخلتُ المجال السينمائي بالسذاجة نفسها التي كانت عند رواد السينما عندما قاموا بأعمالهم الأولى. الحقيبة الثقافية التي امتلكتها من خلال عبوري للثقافات، أدت إلى أن تتحول عملية تحقيق الفيلم إلى مسألة معقدة. فلأجل الوصول إلى البساطة التي يراها المُشاهد على الشاشة، يجدر المرور في عملية جدّ معقدة".

مخرج فلسطيني طريف

في واحد من أذكى مَشاهد الفيلم الذي يختزل الكثير من المعاني، نرى الممثّل غايل غارثيا برنال يقدّم سليمان لإحدى المنتجات قائلاً لها: "هذا إيليا سليمان، مخرج فلسطيني لكن أفلامه طريفة". هذا المشهد يرسم وظيفة محددة: التعبير عن صورة الفلسطيني في المخيال الغربي. فكيف لرجل وفنّان صاحب قضية أن يتحدّث عن أي شيء سواها، بل عليه أن يكرّس كلّ جهوده من أجلها! هكذا يراه الغرب. في المشهد هذا، يقول سليمان ما يتوقّعه الآخر منه. توقّعات تثقل كاهله منذ بداياته.

في بداياته، عندما كانت السينما الفلسطينية لا تزال تقتصر على بعض أفلام رشيد مشهراوي أو ميشال خليفي، أحد في أوروبا لم يكن يصدّق أن فيلماً كوميدياً تدور أحداثه في فلسطين شيء ممكن، كون الناس يشاهدون الوضع المتأزم الذي يعيش فيه الفلسطينيون عبر محطات التلفزة، من دون الانتباه إلى أنه، على الرغم من المأساة، لا تزال هناك عادات يومية، من شرب قهوة، وزيارة جيران. وفي هذا كله رغبة في التمسّك بالحياة. ومَن عاش الحروب والمآسي يعرف ذلك جيداً.

الناس في الغرب لم يفهموا كيف أنه في إمكان الفلسطيني أن يضحك. سليمان يتفهّم هذا، ولكن يعتبر "الضحك نوعاً من مقاومة"، العبارة التي يكرّرها مراراً. الفكاهة في نظره تخلق مساحة شعرية بيننا وبين مَن يقمعنا!

في أحد دروسه السينمائية، روى كيف أن لا أحد أراد تمويل "سجل اختفاء"، باكورته الروائية الطويلة. لم يتحمّس المنتجون الفرنسيون عندما حمل إليهم مشروع هذا الفيلم، بل إن بعضهم شتمه. أحدهم اتهمه بأنه مجرد مخرج متأمرك، معتبراً أن النصّ الذي كتبه ليس لديه أي علاقة بفلسطين. يقول: "كان هذا المنطق السائد آنذاك. فهم يعرفون أكثر منّي كيف هي فلسطين. يعرفون أكثر من خلال تفويضهم مخرجين فرنسيين لإنجاز أفلام عن فلسطين. فكان شيئاً مشبوهاً أن يخرج الفلسطيني فيلماً، وكأننا نعاني من إعاقة في خيالنا. كانوا يعانون من عقلية ما بعد كولونيالية. هم يريدون مساعدتنا فعلاً، لكن بشرط أن نكون الموضوع وليس الصانع.

مَن كان حاضراً في صالة لوميير داخل مهرجان كان الشهر الماضي، وشهد على الاستقبال الأسطوري الذي ناله إيليا سليمان، لا بد أنه أدرك أن حكايات البدايات الصعبة صارت بعيدة.

 

إندبيندينت عربية في

09.07.2019

 
 
 
 
 
 
 

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك © 2004