فيلم "حياة خفية" قصيدة سينمائية بليغة عن عذاب الروح،
والتساؤل الأبدي حول الوجود والحرية والاختيار، وهي فكرة تعذب ماليك منذ
أول أفلامه.
في فيلمه الجديد “حياة خفية” الذي شارك في مسابقة مهرجان
كان السينمائي الـ72، يعود المخرج الأميركي الشهير تيرنس ماليك إلى
موضوعاته الأثيرة إلى نفسه، وإلى لغته السينمائية الرفيعة، لكي يروي قصة
ليست ككل القصص، رغم تشابهها الظاهري مع بعض ما سبق لنا أن شاهدناه حول
الموضوع نفسه.
تدور أحداث فيلم “حياة خفية
” (A Hidden Life)
للمخرج الأميركي تيرنس ماليك في النمسا، في زمن الحرب العالمية الثانية، أي
بعد أن قام هتلر بضم النمسا إلى “الرايخ” عام 1938، ثم نشوب الحرب العالمية
الثانية في العام التالي الذي تبدأ فيه أحداث الفيلم.
التقط تيرنس ماليك قصة مزارع نمساوي شاب رفض أن يقسم يمين
الولاء لأدولف هتلر كما فرض على النمساويين جميعا، ولم يكن في موقفه هذا
مدفوعا بدوافع سياسية، لكنه استند إلى موقف أخلاقي يجعله يرفض أن يشارك في
عمل يتنافى مع القيم الإنسانية وينتهك بلاد الآخرين، يخوض في القتل من أجل
التوسع والسيطرة.
فلسفة ماليك
هذا أقرب أفلام ماليك إلى نفسه، إلى فلسفته الخاصة وفكره
الديني المسيحي، وهو يعكس معاناته الروحية وتمزقه بين مفاهيم “الصواب”
و“الواجب” و“ما يفرضه المجتمع” من جهة، وبين ما ينبع من داخل الإنسان ويتسق
مع فكرة السمو الروحاني فوق المادي وفوق السائد.
وبطل فيلمه “اللابطل”
(anti-hero)،
يفهم من جميع من حوله أنه يجب أن “يخدم بلده”، وأن رفضه سيضر كثيرا بمن
يحب، زوجته وبناته الثلاث، كما أنه سيدفع ثمن موقفه، حياته نفسها، وتعيش
أسرته من بعده، موصومة بالعار.
وعندما يلجأ “فرانز” (قام بالدور الممثل الألماني أوغست
ديل) إلى الكنيسة طلبا للنصح من القس، ينصحه هذا بالرضوخ مؤكدا أن الرفض لن
يغيّر مسار الأمور، وأن تضحيته عبثية لا قيمة لها، بل ونوع من “الأنانية”
أيضا لأنه سيترك أسرته تدفع الثمن.
نحن هنا أمام بطل تراجيدي باتت نهايته معروفة من البداية،
ولكن الفيلم ليس عن تداعيات موقفه من زاوية التحليل النفسي، بل قصيدة
سينمائية بليغة عن عذاب الروح، والتساؤل الأبدي حول الوجود والحرية
والاختيار، وهي فكرة تعذب تيرنس ماليك منذ أول أفلامه.
يستخرج ماليك كل ما في مخزونه البصري من طاقات إبداعية
محوّلا القصة إلى رؤية ذاتية معذبة تمتد عبر ثلاث ساعات، من الصور البديعة
التي تتداعى وتتعاقب على الشاشة، بحيث لا يمكنك أن تغمض عينيك عنها ولو
للحظة واحدة.. وهو يستخدم حركة الكاميرا البطيئة التي تنتقل بين البشر
والطبيعة وسط مناظر الريف النمساوي الساحرة، ويصوّر البيئة الساكنة التي لا
توحي بأجواء الحرب التي تجتاح أوروبا.
والفيلم يبدأ في 1939، ثم ينتقل إلى قاعدة عسكرية في 1940
حيث يتم اعتقال فرانز ويبدأ في كتابة رسائل يبعث بها إلى زوجته الجميلة
المخلصة المحبة المعذبة “فاني” (قامت بالدور الممثلة الأسترالية فاليري
باشنر) التي تركها خلفه مع بناته الثلاث، يبثها لواعج قلبه، وكأنه يناجي
نفسه، يبوح لها بأفكاره، يطلب منها السماح والفهم، لكن رسائله هي في
الحقيقة أقرب إلى مناجاة للنفس، ولله، فهي تمتزج بصوته الذي يأتي من خارج
الصورة، وتعكس أفكاره المعذبة، مع التداعيات الكثيرة التي تعبر ذهنه.
رحلة "أوديسية" سريالية تتشكل فيها الرؤى من لقطات عديدة
تتشابك وتتعاقب في تشكيلات لونية مذهلة، تمتزج بالموسيقى الكلاسيكية
يتبدى في الفيلم كما في سائر أفلام ماليك، ولعه الكبير
بتصوير علاقة الإنسان بالطبيعة والأشجار، وجداول الماء، الحيوانات التي
ترعى، والسحب التي تتجمع في السماء كأنها تنذر بالمصير القادم، قبل أن
ننتقل فجأة إلى صوت هتلر وهو يهدّد ويتوعّد.. لكنه لا يفرط في استخدام
المواد التسجيلية عن صعود هتلر وبداية الحرب (فهذا ما نراه في بداية الفيلم
من خلال مقاطع بالأبيض والأسود مختارة بعناية من مواد الأرشيف).
واهتمامه ينصب هنا على الفرد ومصيره.. عذابه وغضبه وعجزه عن
الفهم أمام قوة الخالق واحتجاجه على الأقدار، ومع ذلك فهو في سعي شاق
للتصالح مع نفسه ومع اختياراته، إنه يتشكّك ويتضرّع إلى الله وينشد مساعدته
على الفهم “أين أنت.. ولماذا خلقتنا”؟
كان بطل ماليك في “شجرة الحياة” يروي لنا جوانب من التجارب
الأولية التي تركت تأثيرها القوي عليه، ثم يسحبنا ماليك خارج العائلة، بعد
حوالي 20 دقيقة من بداية الفيلم، في رحلة “أوديسية” سريالية تتشكل فيها
الرؤى من لقطات عديدة تتشابك وتتعاقب في تشكيلات لونية مذهلة، شديدة
الجمال، تمتزج بالموسيقى الكلاسيكية فتصبح تعبيرا روحيا عن ذلك الأفق
الأوسع الذي يصبح فيه العقل البشري أدنى ممّا يعتقد، وأقل من أن يحيط
ويستوعب: لنرى تشكيلات لصور من النباتات والأشجار والسحب والمحيطات
والحشرات، نهر يعرج على إحدى ضفتيه ديناصور جريح يقترب منه ديناصور آخر،
صحراء قاحلة برمالها الناعمة التي تنعكس عليها أشعة الشمس الحارقة، مجموعات
من الكواكب والنجوم تدور في مجراتها..
إنها عودة إلى أصل الحياة، أصل الكون، والوجود: ما الذي
يجعله يستمر، ما معنى الحياة نفسها، كيف يستمر الإنسان رغم الموت، ما الذي
يمكن أن يسلب الإنسان الحياة؟ وكلها تساؤلات غير مباشرة تدور تحت جلد الصور
دون أن ترتبط ارتباطا “دراميا” بمسار الفيلم.
قصيدة ألم
هذا النزوع نحو السريالية يبدو غائبا عن “حياة خفية”، فهو
أقرب في أسلوبه إلى الانطباعية، بطل الفيلم فرانز المقضي عليه بأن يدفع ثمن
اختياراته الصعبة، دائم التساؤل، يناجي ويتضرّع ويحاول العثور على إجابات
على الأسئلة التي تعذّبه، لكنه لا يعثر على جواب شافٍ فيظل يتعذّب.
مات والده في الحرب العالمية الأولى وكان يقاتل في صفوف
الألمان ضد الحلفاء، هل كانت تضحيته تخدم قضية حقيقية؟ تختلط أحلامه
بكوابيسه وتضغط عليه همومه الشخصية لتثقل على روحه، يريد أن يعرف هل يتسق
موقفه مع إيمانه، وهل هو أكثر إيمانا من أقرانه الذين ارتضوا لأنفسهم
الانصياع للمطلوب منهم.
القسم الأول من الفيلم عبارة عن تصوير بديع لحياة فرانز
السعيدة البسيطة مع زوجته في تلك البقعة الجميلة الهادئة من الريف
النمساوي، حيث يشترك الاثنان في الزراعة ورعي الماشية وحلب الأبقار وتربية
بناتهنّ الثلاث، ولا يخطر على باله ولا بال أحد في القرية، أن مصيره يمكن
أن يتغير فجأة لينتقل من الوداعة إلى الصخب، ومن الحياة البريئة الهادئة،
إلى المعاناة والتمزّق والأسى والعذاب لينتهي إلى الموت المبكر.
يتهمونه بالخيانة، وبأن موقفه أسوأ من موقف الأعداء، وأنه
أحمق لا يدرك مغبة ما يفعل، يخون بلده بموقفه “السلبي”، لكن هذا الموقف
ينبع من داخله، من روحه، فهو لا يبدو متأثرا بما يحدث من حوله، ولا
بـ“العقلانية” التي يمكن أن تدفعه لأن يغلّب المصلحة وحب البقاء الفطري،
وكأن ماليك يستمد موقف بطله من مقولة المسيح الشهيرة “ماذا يفيد المرء إذا
ما ربح العالم وخسر نفسه؟”، وفي حواره مع الفنان الذي يرسم سقف الكنيسة
مصوّرا المسيح شخصا هانئا وسط أتباعه، يقول له الفنان “إنني أرسم صورة
المسيح المريحة.. لكنّي يوما ما سأرسم صورة المسيح الحقيقي”.
أحداث فيلم "حياة خفية" تدور في زمن الحرب العالمية
الثانية، أي بعد أن قام هتلر بضم النمسا إلى "الرايخ" عام 1938
رحلة عذاب
يدور القسم الثالث من الفيلم في معسكر “إينس” الذي يُنقل
إليه فرانز في 2 مارس 1943، وهناك يتعرض للضرب والإهانة والتعذيب لكي
يتراجع عن موقفه، لكنه دون فائدة، فيتم نقله بالقطار إلى معسكر في برلين
التي يصل إليها في 4 مايو 1944 تمهيدا لمحاكمته، ومن هناك يكتب لزوجته أن
السجناء الموجودين معه لا يعرفون سبب اعتقالهم.. “هؤلاء ليس لهم أصدقاء”،
أما زوجته التي تركها خلفه في القرية فهي تتعرض للإهانات والنبذ من الجميع،
وهي تكتب له تدعمه وتقوّيه وتؤكد حبها له.
يصوّر ماليك رحلة عذاب بطله كرحلة موازية لرحلة التضحية
المسيحية، وفي لحظة ما، تحت تأثير الضرب والإيذاء والتعذيب، يناجي فرانز
الله “وضح لي الطريق.. أحن إلى نورك الأبدي.. إليك أنت الذي لا تحرم الضوء
أبدا”، هنا يستخدم ماليك الكاميرا المتحركة طويلا داخل السجن، من زاوية
منخفضة شأن مشاهد الريف في البداية التي يبدو فيها فرانز كما لو كان كائنا
غير الكائنات، كما تجمع الحركة الناعمة بين الإنسان بالطبيعة، وتعكس زاوية
التصوير المنخفضة التسامي الروحي، مع عبارات قليلة للغاية من الحوار.
وفي مقابل ذلك، يكثر التعليق الصوتي من خارج الصورة في
الجزء الثاني من الفيلم، وكثيرا ما يصل إلى المباشرة من خلال عبارات مثل
“قدني.. ارشدني.. إلى الطريق..”، أو الرسائل المتبادلة بين فرانز وزوجته.
في محكمة الرايخ في برلين – يوليو 1943-، يدور حوار شخصي
بين فرانز والقاضي العسكري الألماني (الدور الأخير للممثل السويسري الراحل
برونو غانز)، يرتجف القاضي أمام أسئلة فرانز الذي يطلب أن ينصت القاضي إلى
ما في دخيلة نفسه، يتوقف، يتأمل يرتبك رغما عنه، لكنه سينتهي إلى الحكم
بالإعدام، ويرفض فرانز التوقيع على بيان بالتراجع عن موقفه وطلب العفو،
فينتهي نهاية يعدها ماليك مشابهة لنهايات القديسين.
“حياة
خفية” فيلم عن المعاناة الداخلية.. وليس عما يحدث في العالم الخارجي، فما
هذا سوى وسيلة لتفجير المعاناة والعذاب، فما يتعلق بصعود النازية والحرب
والممارسات المعادية للإنسان، ليس هو الموضوع، أما جوهر الفيلم فهو
“الاختيار الإنساني” وتلك “الحياة الخفية” التي تصطرع داخل الإنسان، وعبر
العذاب يتطهر الإنسان.
في سياق سينمائي يكاد يخلو من “الحبكة”، بل يعتمد على
الصمت، وعلى التعليق من خارج الصورة، وعلى الهمس أكثر من التعبير المباشر
عن الحالة الذهنية، تصبح الصورة بمكوناتها الوسيلة التي يعبر من خلالها
الفنان عن ذلك الصراع الداخلي، فبطله الذي لا يعتنق أيديولوجية مضادة ليس
بطلا من المناهضين للنازية، لكنه ينصت إلى صوت ينبع من داخله يقول له إنه
لا يجب أن يتخذ ذلك الطريق الخطأ. لكن هذا التناقض تحديدا الذي يبقي عليه
ماليك طوال الوقت، يؤرق المشاهد أيضا ويدفعه إلى التساؤل: ألم يكن من
الأفضل لو أن ماليك أوضح قليلا موقف هذا الرجل ودوافعه، وكيف أصبح شعوره
الديني المتصاعد أقوى من حبه لأسرته وشعوره بالمسؤولية تجاهها؟
البعض يمكن أن يعتبر هذا الموقف حماقة يدفع ثمنها هو وأسرته
دون فائدة، ولكن هذه النظرة تخضع فقط لحسابات المكسب والخسارة بالمعنى
المادي، وهو ليس منطق الفيلم ولا منهج تفكير تيرنس ماليك، إنه غير معني
كثيرا بسرد أحداث التاريخ وتداعياتها، فهي موجودة فقط كإطار خارجي لبطل
تراجيدي تقوده هواجسه الذاتية إلى مصيره.
يعتمد البناء على اللقطات البديعة المصوّرة للشاشة العريضة،
مع حركة طويلة للكاميرا تعكس الصراع الداخلي والقلق الروحي، كما يهتم ماليك
كعادته بالتكوينات البصرية التي يستخدم فيها عناصر الطبيعة، يخفي أكثر ممّا
يصرح، ويهمس عوضا عن أن يهتم بصياغة “رسالة”.
وفي المشهد الأخير، مشهد الإعدام، يجلس عدد من السجناء في
انتظار النهاية، يتم اقتيادهم واحدا بعد الآخر داخل المبنى الذي توجد
بداخله المقصلة، لكننا لا نرى كيف تقطع الرؤوس، نشاهد فقط الحارس وهو يقوم
بتنظيف الدم، قبل اقتياد السجين التالي. وهكذا، إلى أن يدخل فرانز ونعرف
أنها النهاية.
يستخدم تيرنس ماليك مختارات من الموسيقى الكلاسيكية من
بيتهوفن وهاندل وباخ وغيرهم، لمنح الطابع الروحاني لفيلمه لكي ينسجم مع
الطابع الشعري للفيلم كقصيدة من الصور والأصوات: أصوات الطبيعة وحفيف
الأشجار واحتجاج الحيوانات ومداعبات الأطفال ومعاناة الروح والمناجاة
والتضرع. والفيلم دون شك متعة للعين وللأذن.
كاتب وناقد سينمائي مصري |