نهاية عابقة بالإثارة والألق في ليلة إعلان أسماء الفائزين
بجوائز الدورة 72 من «مهرجان كان السينمائي الدولي». أول من أمس، سُلمت
السعفة الذهبية للمخرج الكوريّ الجنوبيّ بونغ جون-هو عن فيلمه «باراسايت»
Parasite
الذي حظي بإجماع لجنة التحكيم، رغم المنافسة الشديدة من أفلام من العيار
الثقيل، ليس أقلها «للأسف لقد نسيناك» لشيخ المخرجين البريطاني كين لوتش
و«كان يا ما كان في هوليوود» لعرّاب السينما الأميركيّة كوينتين تارانتينو.
جائزة أفضل ممثل مُنحت للإسباني أنطونيو بانديراس عن دوره في «ألم ومجد»،
وأفضل ممثّلة للبريطانيّة إميلي بتشام عن دورها في «جو الصغير». لكن الفائز
الأكبر وراء التظاهرة العريقة لم يكن سوى «مهرجان كان» نفسه. بفضل دورته
الأقوى منذ سنوات، منح الحدث المدينة الفرنسيّة الحالمة مكانة عاصمة
للتنوير والمقاومة في وجه ظلام الفاشيّات الجديدة، كما الفنّ السابع الذي
ربح كوكبة من أعمال ستترك بلا شك بصمتها على الذاكرة البصريّة للعالم.
انتهت أول من أمس الدورة 72 من «مهرجان كان» في ليلة ملؤها
الإثارة والألق والفرح، كرّست المهرجان السينمائي الأهم أوروبياً في مكانة
ملك المهرجانات الثقافية تنظيماً ومحتوى ونتائج. هكذا، أطلقت في سماء الفنّ
السابع كوكبة من أعمال سينمائيّة لمخرجين كهنة حكماء مخضرمين، وآخرين
صاعدين واعدين محمّلة بثيمات إنسانية كبرى، وبرسائل تحدّ وصمود ومواجهة في
الأزمنة المظلمة التي قادتنا إليها الرأسمالية العالميّة وفاشيّات الهويّات
المفتعلة، كما لو أنها بقيّة من روح مايو 1968، ستترك دون شكّ أثراً لا
يُنسى على الذاكرة البصريّة للعالم، مانحةً المهرجان العتيد عمراً أطول
بكثير من أيّامه القصيرة المكثّفة.
بدت لجنة التحكيم التي قادها بنجاح مشهود المخرج المكسيكيّ
أليخاندرو غونزاليس إيناريتو في مطلق الثقة والاحترافية والجرأة، وهي تمنح
سعفتها الذهبية كما بقيّة جوائز المهرجان لمستحقيها، غير عابئة بالضغوط
الأدبية والتجارية الهائلة التي فرضتها مشاركات كثيرة بدت استثنائية في
قوتها التقنيّة، كما في رمزيتها السياسيّة ومعناها في إطار السينما
والثقافة العالميين. توافقت اللجنة – وبغير ما اعتدنا عليه – على منح
سعفتها الذهبيّة للمخرج الكوريّ الجنوبيّ بونغ جون- هو عن فيلمه العبقري
«باراسايت» أو «المتطفلون» ضمن ما اعتبره جون-هو تحيّة عالميّة مزجاة
للسينما في بلاده التي تحتفل هذا العام بمئويتها. جون -هو أوّل كوري يحظى
بالسعفة وثاني آسيوي بعد الياباني هيروكازو كور-إيدا الذي سبقه إليها العام
الماضي عن «سارقو المتاجر»
Shoplifters.
مَنْحُ السعفة الذهبيّة للـ«المتطفلون» كان بالضرورة أيضاً قراراً بحجبها
عن أفلام أخرى استحقتها بجدارة من بينها «للأسف لقد نسيناك» لكين لوتش
و«كان يا ما كان في هوليوود» لكوينتين تارانتينو، فيما اعتبره المراقبون
إرادة واعيّة عند المحكمين لتوسيع دائرة الأضواء نحو التجارب السينمائيّة
الجديدة، لا سيّما تلك الآتية من وراء البحار، بدلاً من تجديد منح السعفة
لفائزين سابقين بها.
الفيلم المتوّج بالسعفة الذهبيّة كوميديا سوداء غير
تقليديّة، تحكي قصّة عائلة كوريّة ثريّة وأخرى معدمة من العاطلين عن العمل
تجمعهما الأقدار ليختلطا في القصر الباذخ متوزعين بين عالم فوقيّ مليء
بالسّفاهة والإسراف والتسطيح، وعالم سفليّ مليء بالحسد والحقد والكذب،
كأنها قصّة هذا العالم برمّته. هذه العلاقة المرتبكة بين الطرفين المفعمة
بالمفارقات والّلمزات الذكيّة، تمنح الفيلم قدرةً على الانسياب بأناقة وثقة
نادرة. وقد منحت اللجنة جائزتها الكبرى للمخرجة السنغاليّة ماتي ديوب عن
باكورة أعمالها «أتلانتيكس»
Atlantics.
فيلم يخلط وقائع الانقسام الطبقي في بلادها والهجرة المترتبة عليها بأجواء
روحيّة غريبة خارقة للطبيعة، لتكون بذلك أوّل مخرجة سوداء يعرض فيلمها في
«كان» ولتحصل إلى جانب ذلك الشرّف، على هذا التكريم الرفيع لتصعّب المهمّة
على المُخرجات من أصول أفريقية في الدّورات المقبلة.
وفي ما اعتُبر بمثابة تكريم على مجمل أعماله، مُنح النجم
الإسباني المحبوب أنطونيو بانديراس جائزة أفضل ممثل عن دوره في «ألم ومجد»
للإسباني بيدرو ألمودوفار. يعدّ الشريط نظرة ذاتيّة على سيرة المخرج الكبير
بعد أربعة عقود من العمل بما فيها سبعة أفلام مشتركة مع بانداريس ذاته
ككمثل رئيسي. للحقيقة، فإن فيلم ألمودوفار خيّب الآمال التي كانت معقودة
عليه، وبدا أقلّ كثيراً من تقديم حصة سينمائية تليق بالألم أو بالمجد
اللذين وعدنا بهما. لكن حكماء «كان» تجنبوا ــ من خلال ديبلوماسيّة بارعة
ــ توجيه صفعة صريحة له عبر منح بانديراس جائزة أفضل ممثل.
الأخوان داردين المتوّجان بجائزة أفضل إخراج، اتُّهما
بالنفخ في أتون الإسلاموفوبيا
البريطانيّة الحسناء إميلي بيتشام حصلت بدورها على جائزة
أفضل ممثلة عن دورها في فيلم «جو الصّغير». هو فيلم خيال علمي غرائبي من
إخراج النمساويّة جيسيكا هاوزنر، يبدو كما لو أنّه حلقة من السلسة الشهيرة
«المرآة السوداء» اختصت بالبيولوجيا. في هذا الشريط، تلعب بيتشام دور أمّ
تعمل باحثة في مركز لاستزراع نبتة تنشر الفرح تحوّلت إلى فرانكشتاين نباتي،
فخرجت عن طوع خالقيها وشرعت تتسبب في أعراض جانبيّة لمن يستنشق عبيرها قبل
نضوجها التّام. تبلغ عقدة الفيلم ذروتها عندما تتعلق الأم بأحبال الشك حول
تغيّر سلوك ولدها الصغير جو بعدما أحضرت نموذجاً من تلك النبتة إلى البيت.
راحت تتساءل ما إذا كانت تلك تحولات مقلقة لكل طبيعة يمرّ بها الصّغار
أثناء عبورهم إلى النضج، أم أنها أعراض النبتة اللعينة!
وتقاسمت أفلام سياسيّة الهوى جائزة لجنة التحكيم، فحاز
مناصفة كلٌّ من فيلم «البؤساء» للمخرج الفرنسي من أصول أفريقيّة لاداج لي
الذي يحكي عن قسوة العيش في ضواحي باريس المعاصرة، والبرازيلي «باكيورا»
لكليبر مندونكا فيليو، وخوليانو دورنيلليس، وهو ديستوبيا تبدأ من قرية
برازيليّة نائية في مستقبل قريب تصارع أزمات متلاحقة تنتهي إزائها إلى نضال
لمجرّد البقاء تماماً، كأنها تروي قصة البرازيل المزمنة في الفساد السياسي
والانشطارات الطبقيّة.
المخرجان البلجيكيان المخضرمان، الأخوان جان-بيار ولوك
داردين حصلا على جائزة أفضل إخراج عن فيلمهما «أحمد» الذي يحكي قصّة تحوّل
فتى مسلم في الثالثة عشرة من عمره إلى التطرّف الديني على يد مشايخ مسجد
حيّه، رغم الانتقادات الشديدة التي وجهها نقاد عديدون إلى الشريط بوصفه
ينفخ في أتون الإسلاموفوبيا التي تجتاح مجتمعات الغرب المعاصرة، ويقع في
مطب الرؤية الاستشراقيّة الساذجة حول الإسلام والمسلمين ليخدم قضيّة اليمين
الأوروبي المتطرّف ضد المهاجرين بدلاً من فتح كوّة للتلاقي والتوحد.
جائزة أفضل سيناريو راحت للمخرجة الفرنسيّة سيلين سيامّا عن
فيلمها الخلّاب «امرأة تشتعل»
A Lady on Fire
وهي قصّة مسرحها القرن الثامن عشر تسجّل وقائع صادمة عن التهاب مشاعر
الغرام بين رسامة وفتاة شابّة، كانت الرسامة قد استُدعيت لإنجاز بورتريه
لها بوصفها مرشّحة لزواج أرستقراطي من قبل نبيل ثري. وللحق، فإن عبقريّة
فيلم سياما تتبدى أكثر ما يكون بإدارتها للكاميرا وأدوات السينوغرافيا كما
الأداء الاستثنائي للبطلتين في تقديم تعابير الوجوه والتعبير عن الخوالج
المتردّدة والمضطربة في آن، ربّما أكثر بكثير من السيناريو المشوّق
والمتأثّر بأسلوب المخرج ذائع الصيت ألفريد هيتشكوك.
وكما يليق بعاصمة مقاومة ضد الظلاميّات، غابت «إسرائيل» عن
السمع بينما حضرت فلسطين بقوّة في قلب الحدث العالمي من خلال تحفة
الفلسطينيّ الكبير إيليا سليمان (راجع مقال الزميل طارق حمدان) الذي وقف
الجمهور مصفقاً له لدقائق طويلة. الفيلم ينطلق من الناصرة ويأخذ سليمان
ذاته في دور مخرج يسافر إلى باريس ونيويورك سعياً لبيع فكرة فيلم عن فلسطين
من دون نجاح يُذكر، بينما يواجه سطحيّة العالم والأشخاص بصمت وسخرية ونظرة
دهشةٍ تكاد تقترب إلى حدّ البلاهة. لكنها بلاهة ساخرة مفعمة برسائل سياسيّة
وإنسانيّة عميقة تكمل مسيرة هذا الفنان المبدع في أفلامه السابقة المشغولة
أبداً بالهم الفلسطينيّ، حاملاً وحده كما لو كان شارلي شابلن عربيّاً لواء
السينما الصامتة في العالم. وقد أهدى سليمان فيلمه إلى الناقد البريطاني
اليساري الراحل جون برجر الذي علّم العالم في كتبه ذائعة الصيت كيف ينظّر
للأعمال الفنيّة.
هكذا، غُيّبت الثقافة الأميركيّة بالكامل عن منصّة التكريم
سواء من خلال منع أعمال شركة نتفليكس (وشقيقاتها) من المشاركة في المسابقة
أو حجب الجوائز عمّن شارك من الأفلام بالفعل كفيلم تارنتينو، لكنّ مايكل
مور ملك الوثائقيّات المتوّج، أبى أن تمرّ المناسبة من دون تقريع لاذع
للرئيس الأميركي دونالد ترامب. اعتبر مور أنّه «في الأوقات المظلمة، فإن
الفنّ ساعد دوماً على إنقاذ البشريّة من الأوتوقراط والحمقى» وأنه «بعكس
الفنّ الذي هو كذبة تمنحنا القدرة على إدراك الحقيقة، فإنّ ترامب هو كذبة
تدفعنا إلى مزيد من الكذب».
إذن، دورة استثنائيّة، ووعود بالمُقاومة والتنوير في وجه
الظلام والتسطيح، ولجنة تحكيم أشبه بالحلم، ومخرجون نجوم تلمع، وأخرى ستملأ
سماءنا لعام كامل. شكراً «كان»، لقد منحتنا الأمل. |