كتبوا في السينما

 

 
 
 
 
 

ملفات خاصة

 
 
 

السحر السينمائى اسمه أسامة فوزى

طارق الشناوي

عن رحيل «أسامة فوزي»

   
 
 
 
 
 
 

هل يموت الإنسان عندما يقول نكتفى بهذا القدر؟ تلك هى قناعتى، كل شيء مكتوب «وَمَا تَدْرِى نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِى نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ»، لكن هناك دائما الأسباب، فمن يملك رغبة فى الحياة لا تبخل عنه الحياة بزمن قادم، ومن يرد أن يقول وداعا، أيضا، تستجب له السماء.

وهكذا توقفت طويلا أمام خبر رحيل المخرج أسامة فوزى الذى كانت لديه رغبة عارمة لاستكمال مشواره فى الدنيا.

وحدثنى عن العديد من الأفكار التى كان يشتغل عليها، ورفضتها السوق السينمائية، وتلك التى يسعى أيضا لإنجازها قريبا، فهو قادر على أن يجد ولو ثقبًا صغيرًا فى الجدار الصلب الذى يعوق دائما أصحاب الفكر المختلف، إلا أنه يستطيع إيجاد معادلة إنتاجية تتيح رؤية النور.

فى لقاءاتنا الأخيرة رأيته يتدفق ليس فقط حياة، لكن حيوية، وخفةَ ظلٍ وحضورًا، أغلب الأخبار التى قرأتها جاءت بعد الرحيل، تضمنت هذه المعلومة التى تناقلها الزملاء، رحل المخرج أسامة فوزى بعد معاناة طويلة مع المرض.

آخر مرة رأيته فيها قبل نحو 10 أيام فى إحدى اللجان السينمائية، لم أجد أى معاناة مباشرة أو مستترة طويلة أو قصيرة، كان لديه مشكلة طفيفة فى أحد صمامات القلب، إلا أنه تعايش معها.

لم نكن قد التقينا قبل نحو 10 سنوات، حتى عندما شارك فى لجنة تحكيم مهرجان (الجونة) قبل عام، تضاربت المواعيد فلم نجتمع فى لقاء، ولكنى سعدت قطعا بتواجده فى المهرجان، لأنه من الأسماء التى يتم ترشيحها فى لجان التحكيم قليلًا.

اللجنة السينمائية التى التقينا بها كانت تفرض علينا قراءة عدد من النصوص، تبادلنا التليفونات، ففوجئت بتليفون من أسامة يقول لى إنه قد أنهى القراءة، بل طلب أن أرشح له أى سيناريو أعجبنى من بين ما قرأت، ولم أكن قد بدأت بعد، فطلبت مهلة أسبوعًا، أدهشنى بحرصه ودقته فى القراءة، وقبل ذلك التزامه بالمواعيد، هناك انطباع سائد أن أسامة لا يلتزم، والحقيقة غير ذلك تماما، فهو أكثرنا التزاما.

المطلوب من اللجنة اختيار السيناريو الفائز، ولدينا مرشحون أعلم تماما أنه تربطه صداقات بالعديد منهم، إلا أنه تحرر تماما من هذا القيد وانحاز لما يراه الأجمل.

إنه المخرج الذى يمتلك عالمه ونبضه وتفاصيله التى لا تعبر سوى عن أسامة، هو الأهم فى جيل التسعينيات، بعد حقبة الثمانينيات والذى تضمن أسماء خان وبشارة وداوود والميهى والطيب ونصرالله وعرفة، وعلى اختلاف المذاق الفنى الذى قدمه كل منهم فقد منحونا لمحات خاصة، وأفلامهم امتلكت قدرًا لا ينكر من الحداثة، والجرأة والقدرة على الاقتراب أكثر من خشونة الحياة الواقعية بجمال فنى، جاء أسامة فوزى من رحم هذا المنهج، إلا أنه حافظ على خصوصيته.

ينتمى أسامة لعائلة فنية، والده المنتج السينمائى المعروف جرجس فوزى، وشقيقه الأكبر هانى فوزى، أكمل هانى مسيرة الأب بعد أن درس الإنتاج فى معهد السينما، بينما أسامة التحق بمعهد السينما قسم إخراج، وأتاحت له الظروف التواجد فى فريق الإخراج المساعد لأفلام يوسف شاهين وحسن الإمام وهنرى بركات وحسين كمال وداوود وصولا إلى يسرى نصرالله ورضوان الكاشف.

وفى منتصف التسعينيات، قرر أن يقدم مشروعه الأول مع الكاتب مصطفى ذكرى، ليحرز هدفا عظيما بهذا الفيلم الاستثنائى (عفاريت الأسفلت)، فهو لا يراهن على أسماء النجوم، بل على الممثل قبل النجم، حكى لى أسامة فى لقائنا الأخير، إنه فى البداية رشح المطرب محمد فؤاد لدور (رينجو)، سائق الميكروباص (المخربش) الذى يُشهر المطواة فى وجه من يعارضه، ولكن فؤاد اعتذار، ولم يبدِ أسبابًا، فكان الترشيح الثانى محمد شرف، ووقتها لم تكن تسند إليه إلا أدوار ثانوية، ولكن عين المخرج الموهوب التقطت هذا الفنان الذى اكتشفه، بعد ذلك بسنوات عدد كبير من السينمائيين، المفاجأة بالصدفة يكتشف أسامة أن شرف أساسا لا يعرف قيادة السيارة، وعندما سأله لماذا لم تقل؟ أجابه أنه يتدرب، وبالطبع استبعد الترشيح، وأسند له دورًا أقل فى المساحة من (رينجو)، ورشح للدور النجم الصاعد وقتها الراحل عبدالله محمود لتصبح أول رهان حقيقى عليه.

فى الفيلم الثانى (جنة الشياطين) 1999، إنتاج محمود حميدة أيضا مع توأمه الفنى مصطفى ذكرى، عن رواية الكاتب البرازيلى جورج أمادو (الرجل الذى مات مرتين)، والبطل هو المسيحى الثرى منير الذى قرر اختيار حياة أخرى لنفسه تاركًا حياة الأثرياء ليعيش مع المهمشين والخارجين عن القانون باسم (طبل)، يكتشف أصدقاؤه بالصدفة ذلك، ويقررون وهم مجموعة من العابثين بعد موته اختطافه، ليحتفلوا به على طريقتهم، كان المرشح الأول لدور الميت عمر الشريف، هكذا أيضا كانت وجهة نظر المنتج محمود حميدة ووضع ميزانية مليون جنيه كأجر، ولكن عمر كما روى لى أسامة لم يرد، فكان الحل أن يلعب حميدة الدور، ويحصل حميدة على جائزة افضل ممثل من مهرجان (دمشق) والفيلم نفسه اقتنص الجائزة الأولى فى المهرجان وغيرها من الجوائز المهمة فى لجنة تحكيم كان يرأسها المخرج كمال الشيخ، وعندما يحصل ممثل يلعب دور ميت على جائزة الأفضل يجب أن نتوجه لدراسة ما فعله المخرج ومدير التصوير والمونتير، هذا الفيلم يدعوك من فرط جماله للعديد من المشاهدات، الزمن الفعلى لا يتجاوز 24 ساعة، ولعب المخرج بعدد من الوجوه الجديدة مثل عمرو واكد وسرى النجار.

ونأتى للفيلم القنبلة كما أراه (بحب السيما) 2004 التابوه الذى اخترقه أيضا أسامة بجرأة مع الكاتب هانى فوزى.. أن تُصبح العائلة المسيحية هم الأبطال ليلى علوى ومحمود حميدة وعايدة عبدالعزيز والطفل يوسف عثمان، بينما تعود المشاهد على رؤية أبطاله مسلمين، أيضا التفاصيل فى تقديم الفروق بين الطائفتين الأرثوذكس والبروتستانت، كلها عوالم غير مألوفة للجمهور، بينما قرأ البعض الفيلم على نحو خاطئ، والكنيسة اعترضت، وهتفوا فى صحن الكنيسة ضد أسامة فوزى.

انه واحد من أجرأ وأهم الأفلام فى الألفية الثالثة، ويدفع أسامة كعادتة بوجوه جديدة، لأول مرة، مثل إدوارد ومنة شلبى، ويقدم حميدة أحد أمتع أدواره على الشاشة.

وننتقل إلى فيلمه الرابع 2009 (بالألوان الطبيعية)، ومع نفس الكاتب هانى فوزى، الرهان المباشر على عدد من الوجوه الجديدة، يمنحها البطولة، كريم قاسم ويسرا اللوزى ورمزى لينر وفرح يوسف وفريال يوسف، ويقدم صراع الرؤية الدينية التى سيطرت حتى على الأساتذة داخل كلية الفنون الجميلة مع الفنون الجميلة.

الفيلم ليس الأفضل، ولا هو الذروة للعديد من المشكلات الفنية ليس الآن مجال ذكرها.

يبقى أن هذا المخرج الاستثنائى كان إيقاعه الفنى فى الإبداع فيلمًا كل خمس سنوات، وهو كما ترى نتاج قليل العدد لكنه قادر على أن يضعه فى قائمة الأهم بين مخرجى جيله.

ظل أسامة 10 سنوات ينتظر مشروعه الخامس، وحاول فى الدراما التليفزيونية التى أراها لا تتوافق مع تكوينه الفنى ورغم ذلك تعثر المشروع. غادرنا أسامة سريعًا، وودعته آخر مرة التقيته فيها بقبلة على أمل أن نلتقى مجددا فى واحدة من الحفلات السينمائية، إلا أنه أخلف الوعد! وداعا يا من أحببت السينما التى قدمها، وعندما اقتربت منه إنسانيًا قبل الرحيل بأيام أحببت الإنسان الرقيق أسامة فوزى.

tarekelshinnawi@yahoo.com

المصري اليوم في

11.01.2019

 
 
 
 
 

(بحب السيما) الفيلم الذى قَرَأنا!!

طارق الشناوي

آخر مقال قرأه لى بـ(الواتس آب) الراحل الصديق أسامة فوزى (رأيت الله فى الكنيسة)، استشهدت بفيلمه (بحب السيما)، واعتبرته واحدا من أفضل أفلام الألفية الثالثة، لتمضى فقط 24 ساعة ويرحل عن دنيانا. هذا الفيلم هو الأجرأ فى تقديم العائلة القبطية باعتبارهم مصريين أولاً، كل الأعمال الدرامية تتعامل بقدر لا ينكر من الحساسية مع الشخصية المسيحية، وفى أحيان كثيرة تبتعد عن الدخول لتلك المساحة المثيرة دوماً للأزمات، مثلاً فيلم (البوسطجى) لحسين كمال، المأخوذ عن مجموعة (دماء وطين) ليحيى حقى، تجنب أساساً الإشارة إلى أن شخصيات الأبطال مسيحيون مختلفو الطوائف، وهذا هو سر تعثر الزواج، الناس ترى الفيلم باعتبار أبطاله مسلمين. المتفرج المسلم لا يدرك الكثير عن الديانة القبطية، منها أن هناك ثلاث طوائف مسيحية فى مصر (أرثوذكس وكاثوليك وأنجيليون)، ويتعامل معهم باعتبارهم جميعا أقباطا فقط. فيلم (بحب السيما) كان جريئا فى الغوص داخل تلك التفاصيل وغيرها، بينما الكثير منا يفضل الوقوف على الشاطئ. المثقفون فى بلادنا لم يصلوا أبدا إلى جُرأة أسامة فوزى، الذى أبدع على الشاشة وهو يقدم السيناريو الممتع للموهوب الاستثنائى هانى فوزى. القراءة الصحيحة للفيلم أنهم عائلة مصرية أولًا قبل أن نلحظ الديانة، وهذا هو المفتاح الحقيقى لقراءة الشريط السينمائى، إلا أن الدولة قبل 15 عاما توجست من ردود الفعل، وتعاملت معه باعتباره شأنا قبطيا، هل المثقفون فى تعاطيهم مع الأعمال الفنية يتحررون من القيود الدينية، أم أنهم صدى مباشر للمجتمع بكل تعقيداته وتزمته؟.

مدير الرقابة وقتها د. مدكور ثابت، وجد أن الحل لتمرير الفيلم أن يوافق عليه عدد من المثقفين الأقباط، قرارهم سوف يُهدئ من روع الجميع، شكّل لجنة مكونة من سبعة، بينهم مسلم واحد، الناقد أحمد صالح، هذه اللجنة أصدرت قراراً برفض الفيلم وطالبت بتدخل الكنيسة من خلال رجال الدين المسيحى بطوائفهم الثلاث، من ضمن أسباب الرفض أن الفيلم يتعرض لأحد أسرار الكنيسة السبعة وهو الزواج.

تنبه أمين عام المجلس الأعلى للثقافة وقتها «د. جابر عصفور» لخطورة الموقف، فشكل لجنة أخرى بها أيضاً عدد من الأقباط، ولكن مع إتاحة الفرصة لمن هم أكثر رحابة فكرية وتمت الموافقة على عرض الفيلم كاملا، إلا أن غضب الكنيسة الأرثوذكسية لم يتوقف، وهتفت وقتها المظاهرات داخل الكاتدرائية فى العباسية ضد صُناع (بحب السيما)، تطرف المثقفين وتحكيم الرؤية الدينية والأخلاقية المباشرة لا تزال هى المسيطرة على قسط وافر من المثقفين، أتذكر أن بعض النقاد فى عام 2001 أعلنوا الغضب، لأن المخرج داوود عبد السيد فى فيلمه (مواطن ومخبر وحرامى) قدم «حرامى مسلم»، وهو الدور الذى لعبه شعبان عبدالرحيم، وهكذا صرنا المشكلة بدلًا من الحل. المتظاهرون فى الكنيسة حطموا الخيط الفاصل بين الفنان والإنسان، كان أسامة فوزى، فى منتصف التسعينيات، قد أشهر إسلامه للزواج من الممثلة سلوى خطاب، وبعد الطلاق تزوج من زميلتنا الصحفية صافيناز حشمت، ولا أدرى من هى الزوجة الثالثة، أو ربما لم يتزوج، ولهذا كان الغضب ضده مضاعفا فى الكنيسة. كشف الفيلم مأزق الدولة التى لم تكن على المستوى اللائق وهى تتعامل مع مصنف فنى مصرى، فقررت اعتباره مصنفا فنيا قبطيا. وضع الفيلم الجميع أمام المرآة الكاشفة لعوراتنا، لنرى كم نحن متعصبين ومتعسفين، ليظل (بحب السيما) هو الأجرأ فى قراءتنا أولًا كمصريين، أكرر مصريين، لا مسيحيين أو مسلمين!!.

tarekelshinnawi@yahoo.com

المصري اليوم في

12.01.2019

 
 
 
 
 

وداعا.. أسامة فوزى

كتب : شيماء سليم

 «أحيانا أمر بحالات إحباط تصل إلى اليأس لكننى مازلت متمسكًا بالحد الأدنى من حلمى أو أطراف هذا الحلم على الأقل.. ومع ذلك لقد أصبحت واثقًا – إلى حد كبير – من أن حلمى فى السينما والحرية التى أريد الوصول إليها من خلالها، لن يتحقق.. فالسنوات تمر وحالة السينما لا تشير لأى احتمال بأن يتحقق حلمى عن حرية هذا الفن فى المستقبل القريب».. 

كانت تلك كلمات المخرج «أسامة فوزى» والذى رحل عن عالمنا صباح الثلاثاء الماضى 8 يناير 2019 عن 58 عامًا.. هكذا تحدث «أسامة» فى حوار أجريته معه ونشر فى 3 يونيو عام 2008.. قبل عشر سنوات كانت تلك حالة «أسامة»، كان وقتها يقوم بالتحضير لآخر أفلامه (بالألوان الطبيعية).. دون أن يعلم أنه سيكون بالفعل آخر أفلامه. ولا أحد يعلم كيف مرت السنوات العشر تلك على «أسامة» حتى يسقط هذا الفارس السينمائى تاركا وراءه أربعة أفلام فقط حققها فى 23 عامًا.

مخرج مثل «أسامة فوزى» بموهبته النادرة، وحسه الفنى غير المتكرر وجرأته وشجاعته.. كان لا يلقى سوى رفضًا تامًا من السوق السينمائية والقائمين عليها وقد فسر ذلك قائلا: «اكتشفت أن العيب ليس فى أفلامى ولكن فى السوق وآلياته والمسيطرين عليه والذين للأسف غير منتبهين لأهمية السينما، فلديهم مفاهيم معينة لا يريدون تغييرها ولا يريدون أن يقبلوا شيئًا آخر، فالمسيطرون على الصناعة ينظرون تحت أقدامهم ولا توجد لديهم سياسة صحيحة لمستقبل ومصلحة صناعة الفيلم المصرى، فقط يهمهم مستقبلهم ومصالحهم المادية».

مؤكدًا، بعد ما واجهه «أسامة» فى مشواره الفنى من قبح وتنمر وسلطوية ومحاولات دؤوبة ومستمرة لإحباطه وقمعه.. أن يقتل معنويًا ثم جسديًا.. نعم.. قتلوه، كلهم تآمروا على قتله، قتلوا موهبته وأحلامه. هؤلاء الجالسون على كراسى لا تليق بهم فى مكاتب مكيفة، مرتدين ملابسهم الرسمية،  متخيلين أنفسهم ولاة الفن والأوصياء عليه.. يتحكمون ويأمرون، يحبسون فى أدراجهم أوراقًا تحمل أفكارًا لا يجرءون على مجرد النظر إليها، يحبسون فى رفوفهم شرائط أفلام ربما يموتون لو لمسوها.. يجلسون متفاخرين بسلطتهم الزائفة..(أنت يا أسامة، بأفكارك وطموحك وأحلامك.. لن نسمح لك بالعمل، بالأمل، لن نسمح لك بالوجود..أخرج من جنتنا) وها قد خرج وترك لكم جنتكم، جنة الشياطين.. وإن كانت الشياطين أرق منكم.

هؤلاء الذين قتلوه، وإياهم أن ينعوه، هم كل منتج وموزع ورقيب ومسئول كنيسة أو أزهر.. وقف فى يوم ما أمام أحد أفلامه الأربعة، نعم، كل فيلم صنعه «أسامة» كان يجد هؤلاء أمامه متربصين ومترصدين، كل فيلم من الأفلام الأربعة تعرض لما يفوق طاقة أى إنسان وكأنه الوحيد الذى يصنع أفلامًا هنا، كل فيلم لم يأخذ فقط جزءًا من عمر «أسامة» ولكن أخذ من روحه أكثر حتى فاضت الروح وانتهى العمر.

ولأن السيرة أطول من العمر، فعلينا أن نتذكر كيف عاش هذا الحالم فى ذلك العالم، إليكم حكايته:
لعائلة فنية، والد وأخ منتجين، وياللسخرية، فقد كان العذاب الأكبر الذى يتعرض له «أسامة» يأتيه من المنتجين..الأب هو المنتج الكبير «جرجس فوزى» الذى صنع ما يتجاوز المائة فيلم..ثم حمل الشعلة من بعده الابن «هانى جرجس فوزى» ليستكمل هو الآخر رحلة صناعة الأفلام.. «أسامة» كان شابًا ذا صفات مميزة جدًا، عاش فى بيت يسكنه صناع سينما، لم تجعله (يشرب الصنعة) بما فيها من أرقام وحسابات. ولكنه شرب خلاصة الفن بروحه وأفكاره وهمومه.. التحق بمعهد السينما – قسم إخراج. وتخرج فى عام 1984، وقبل تخرجه وربما قبل التحاقه بالمعهد عمل كمساعد مخرج فى بعض الأفلام التى أنتجها والده، ومع العديد من المخرجين أصحاب الأسماء اللامعة فى عالم السينما مثل (بركات، أشرف فهمى، حسين كمال، يسرى نصر الله ورضوان الكاشف)
.

فى عام 1996 كانت بدايته كمخرج مع فيلم (عفاريت الأسفلت)، الذى أنتجته شركة والده، القصة كانت غريبة وجريئة، رغم أن أجواءها لا تختلف كثيرًا عن أجواء أفلام واقعية مخرجى الثمانينيات ولكن «أسامة» بسيناريو «مصطفى ذكرى» أضاف لها نوعًا من الجرأة والخروج غير العادى عن المألوف.. فالحكايات التى نعيشها فى يومين فقط، أقرب لحواديت ألف ليلة وليلة التى يحكيها أحد الأبطال فى بعض المشاهد.. ولكن ألف ليلة الخاصة بـ«أسامة» كانت تجرى أحداثها فى الحوارى الشعبية ومع مجموعة من المهمشين الحالمين بلحظات سعادة تبخل عليهم بها الحياة فى كثير من الأحيان.. بالطبع واجه الفيلم أزمة رقابية، فمن غير المعقول اعتبار أن مثل علاقات الحب والجنس هذه والتى نشاهدها بين جميع الأبطال فى أحداث الفيلم قابلة للحدوث فى الواقع أو فى الخيال.. يعرض الفيلم ويصبح علامة مميزة فى تاريخ السينما وأحد أهم أفلام التسعينيات، تختاره المهرجانات الدولية ليمثل مصر وينال العديد من الجوائز.. ويقرر الثلاثى (أسامة فوزى مخرجًا- مصطفى ذكرى كاتبًا- ومحمود حميدة بطلًا) أن يتعاونا معا من جديد فى مشروع ثان أكثر جموحًا يخرج للنور فى 1999.

(جنة الشياطين) سيناريو جمع مزيجا بين خيال ورواية لـ«مصطفى ذكرى» حملت عنوان «هراء متاهة قوطية» ورواية «الرجل الذى مات مرتين» للبرازيلى «جورجى أمادو».. قصة صعبة عن ثلاثة شباب يتجولون طوال الليل بجثة صديقهم، قصة غير عادية وأجواء غريبة أكثر مئات المرات من أجواء «عفاريت الأسفلت».. تحطيم كامل لكل صناديق الأفكار بما فيها صندوق البطل الميت من أول الفيلم لآخره. 85 دقيقة من السينما الخالصة. ولكن كالعادة يمارس الموزعون قهرهم المعهود، ويتجلى ضيق أفق موزعى الفيديو فيرفضون توزيع الفيلم طالما لم تصل مدته لـ90 دقيقة، يأخذ الفيلم جولته فى مهرجانات العالم ويحصد عددًا من الجوائز ولكن تكون نتيجته ابتعاد «مصطفى ذكرى» عن عالم السينما و«محمود حميدة» عن عالم الإنتاج.. وعودة «أسامة» لأحلامه  بمشروع سينمائى جديد، لعل هذا المشروع يكون أكثر رحمة مما سبق ولكن المشروع التالى يمثل التجربة الأقسى فى حياة «أسامة» الفنية.. فيعيش سنوات طويلة فى مأساة حقيقية اسمها «بحب السيما»، حيث تمارس عليه كل ألوان القهر والعذاب من وصاة الفن سالفى الذكر.

فى آخر فيلمين من إخراجه (بحب السيما) و(بالألوان الطبيعية) يتعاون «أسامة» مع الكاتب «هانى فوزى»، وإن كانت القراءة الأولى والواضحة للفيلمين تقول بأنهما عن سيرة ذاتية لـ«هانى» فى طفولته وشبابه إلا أنه وبنظرة أكثر عمقًا سنجد أنهما يعبران أيضًا عن «أسامة فوزى»، ولكن ليس كطفل وشاب يافع، بل كرجل ناضج واجه أنواعًا مختلفة من محاولات القمع والإحباط، ما يعيشه  «نعيم» ثم «يوسف» – الطفل ثم الشاب – فى الفيلمين هو ما عاشه «أسامة» فى مشواره الفنى، مواجهة المتشددين والمتطرفين والراغبين فى كبت كل أنواع الحرية، مواجهة أعداء الفن والذين يعتبرونه نقمة ولعنة تصيب المجتمع وليس نافذة للإصلاح والانطلاق.. الوقوف فى وجه أفكاره وأحلامه السينمائية ووضع المعوقات من أصحاب شركات الإنتاج والتوزيع، التدخل الرقابى، لجان التظلمات، اعتراضات الكنيسة والأزهر. من يفرضون سلطتهم على بطلى الفيلمين هم نفس الذين حاولوا فرض سلطتهم على المخرج الحالم، الذى لم يرتكب جرمًا فى حياته سوى (حبه للسيما).

فى نفس الحوار وردًا على سؤال حول سعيه الدائم لتحطيم التابوهات قال «أسامة»: «لا أتعمد ذلك أثناء صناعة الأفلام ولا أضعه فى اعتبارى، ولكنه يظهر فى النهاية أو يبدو كذلك أمام المجتمع المتحفظ، وربما يظهر لأننى أتعامل مع الفن كما تعلمته، ولأننى أؤمن أن فى داخل الفن ثورة، إن لم تتواجد فلن يكون الفن متفاعلا مع المجتمع ولن يحقق أى شيء، فوظيفة الفن هى التغيير والتمرد على الواقع الرديء الساقط تحت سيطرة أفكار بالية وتقاليد عفى عليها الزمن فقد وصلنا إلى درجة من التخبط فى فهم القيم والمفاهيم تصل إلى الفوضى».

مات «أسامة» كمدا، مات بعد أن سرقت أحلامه وتحطمت آماله، بعد أن مكث فى بيته عشر سنوات دون عمل.. دون أمل.. رحل إلى مكان أفضل، تاركا الحياة والسينما لكل من آذوه وأحبطوه، تاركًا لهم جنتهم يعيثون فيها غباءً.. تاركًا لهم (جنة الشياطين).>

 

####

 

الذين خذلوا أسامة فوزى حيًا وميتًا

بقلم : مصطفي عمار

فجأة تذكرنا جميعًا «أسامة فوزى»، فجأة تصدرت صوره صفحاتنا الشخصية على مواقع التواصل الاجتماعى، مصحوبة بكلمات رقيقة عن موهبته ومكانته كمخرج كبير، حدث كل هذا فقط بعد رحيله، وقبل الرحيل كلنا خذلنا «أسامة فوزى» وموهبته، وتخلينا عن مساندته ليواصل رحلته كواحد من أهم المخرجين بتاريخ السينما المصرية رغم قلة أعماله مقارنة بأسماء أخرى أقل منه موهبة وأكثر منه أعمالًا.

 كيف لصاحب أفلام مثل (عفاريت الأسفلت وجنة الشياطين وبحب السيما)، أن يتوقف عن الإبداع ويجلس فى منزله سنوات طويلة للبحث عن منتج أو جهة تقبل بأن تتعاون معه فى فيلم جديد، كيف للصحافة المصرية أن تنسى موهبة بقيمته وتغيب أخباره وحواراته عنها لأنه لم يعد من النوع الذى يحقق الأكثر قراءة على مواقعنا الصحفية، كيف خذلنا «أسامة فوزى لهذه الدرجة»؟!

ربما أكون واحدًا ممن خذلوه، وتناسوا وجوده كمخرج مثل كثيرين غيرى، فأنا لا أعفى نفسى من هذا الذنب، الذى لم أشعر به إلا عندما تلقى تليفونى المحمول رسالة من زوجته السابقة الكاتبة الصحفية «صافيناز حشمت» تقول فيها «أسامة فوزى مات».. لحظات قبل أن يدرك عقلى الرسالة ويستوعبها، موت «أسامة فوزى» ما هو إلا إعلان عن موت جيل بأكمله من المبدعين الذين يجلسون فى بيوتهم لأن ظروف السوق والإنتاج لم تعد تسمح بتواجدهم، جيل أحيل مبكرًا على المعاش، ليحل محله جيل آخر أقل موهبة وأكثر ذكاءً، جيل يُجيد لغة مواقع التواصل الاجتماعى، ويحترف لعبة اقتباس القصص والنصوص وتحويلها لعمل مصرى مشوه بلا روح أو هوية، ولكنه يحقق ملايين الإيرادات، «أسامة فوزى مات»، لأن المنتج الجاهل ورأس المال المشبوه هما المسيطران على السينما والدراما، جيل بالكامل من الكتاب والمبدعين يموتون كل يوم ألف مرة ونار البطالة والإحباط واليأس تأكلهم دون أن يشعر بهم أحد، جيل لا يجيد تسويق نفسه ولا يجيد تلبية رغبات المنتجين ونزواتهم، أتذكر كيف كان يقابل الضجة التى تحدثها أفلامه بابتسامة هادئة وواثقة من أنه سينتصر فى النهاية، أتذكره جيدًا عندما صعد درجات السلم لسينما «شيراتون القاهرة» ليستقبل حضور العرض الخاص لفيلم (بحب السيما) ليواجه معهم تعنت الرقابة فى منحه تصريح للعرض قبل حذف بعض مشاهد من الفيلم.. أتذكر هدوءه وأدبه حتى وهو ينتقد الرقيب الذى يريد أن يفسد شريطه السينمائى.. أتذكر عندما قال: لن أقبل بعرض الفيلم مبتورًا ومشوهًا لأن أبسط حقوق أى مبدع هو عدم تشويه عمله من قبل أى جهة مهما كانت، وقتها كالعادة انتصر «أسامة» وعرض الفيلم وحقق ضجة كبيرة، صنعت منه واحدًا من أهم الأفلام السينمائية فى تاريخ السينما المصرية.. هل من الطبيعى أن ينتصر المرض واليأس والإحباط على مخرج بكل هذه الموهبة؟! عشر سنوات كاملة منذ قدم آخر أفلامه (بالألوان الطبيعية)، وهو يعافر ويحاول تقديم فيلمه الجديد، عشر سنوات مرت عليه وكأنها عمر آخر، لم يجد فيها منتجًا أو جهة متحمسة لمشروع جديد يحمل اسمه، حتى الأفلام التى تقوم المهرجانات السينمائية الكبرى بتمويلها، أصبحت محكومة بشلة لا تسمح لأى شخص خارجها من الاقتراب منها أو حتى الوصول إليها.. كيف كان سيكمل «أسامة فوزى» عمره فى ظل هذه الظروف المحبطة وهذا المناخ الفاسد، ربما كان سيكون «أسامة فوزى» أكثر حظًا إذا عاش فى زمن غير الزمن وفى بلد لم يضرب فنه الفساد بكل هذه القسوة.. وربما يجد «أسامة» فى العالم الآخر ما يعوضه ما عانى منه فى عالمنا الزائف!>

مجلة روز اليوسف في

12.01.2019

 
 
 
 
 
 
 

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك
  (2004 - 2019)