كتبوا في السينما

 

 
 
 
 
 

ملفات خاصة

 
 
 

في رحيل أسامة فوزي:

الابتسامة المُخادِعة

نديم جرجوره

عن رحيل «أسامة فوزي»

   
 
 
 
 
 
 

قبل انصرافه إلى الإخراج، منتصف تسعينيات القرن الـ20، يختبر السينمائيّ المصري أسامة فوزي (1961 ـ 2019) تجربة العمل كمخرج مساعد في 12 فيلمًا، خلال 10 أعوام. هذا ليس تفصيلاً عابرًا. التجربة ـ إنْ تكن مرتبطة بسينمائيين يمتلكون رؤية ولغة وفكرًا واشتغالاً ـ تُحصِّن وعيًا، وتُبلور معرفة، وتُعمِّق أسلوب عمل وخيارات بصرية. وفوزي، المتخرّج حديثًا حينها من "المعهد العالي للسينما" في القاهرة، يخوض تلك التجربة متنوّعة الأساليب، من نتاجٍ تجاري بحت (3 أفلام مع حسين كمال) إلى السجالي والمحرّض على إعمال العقل والمشاعر، وعلى طرح أسئلة الواقع والحياة والتواصل والسلوك والتأمّل (فيلمان اثنان مع رضوان الكاشف ويُسري نصرالله). 

بين عامي 1983 و1993، يُعاين أسامة فوزي ـ الراحل صباح 8 يناير/ كانون الثاني 2019 ـ آليات عديدة للإخراج السينمائي، وفق توجّهات يرتكز بعضها القليل على طابع إنساني في مقاربة "الورطة الفردية" في عيشٍ وارتباكٍ وأقدارٍ وبيئات. فهو، بدراسته السينما، يأتي إلى تلك التجربة كمن يرغب في اكتساب عمليّ لنظريات واشتغال أكاديمي بحت، وكمن يسعى إلى اكتشاف وقائع التركيب البصري لحكايات وانفعالات وتقنيات. في حين أن انتقاله إلى الإخراج سيكون، في الوقت نفسه، انتقالاً إلى مساحة تنفصل عن تلك التجربة، فتتيح له إمكانية أكبر لقول ذاتي في مسائل الاجتماع والتصرّف ولغة التواصل بين الناس، في مجتمعٍ مُصابٍ بانغلاقٍ وتزمّت ناتجين من تربية دينية جماعية، تتشابه وغيرها في اعتماد المنع والتحريم منهجًا لحياةٍ، ومنطقًا لتفكير. 

لعلّ أبرز لحظتين في تجربته كمخرج مساعد، يُمكن الركون إليهما كركيزة سينمائية وثقافية وفكرية وإنسانية أجمل وأهمّ، تتمثّلان في عمله مع يُسري نصرالله (1952) في "مرسيدس" (1993) ورضوان الكاشف (1952 ـ 2002) في "ليه يا بنفسج" (1993). غير أن سيرته تقترب أكثر إلى سيرة الكاشف، في قلّة الأفلام المنجزة (3 للكاشف في 8 أعوام، و4 لفوزي في 13 عامًا)، وفي قسوة الحياة وسرعة نهايتها (رغم أن فوزي سيعيش 8 أعوام أكثر من الكاشف)، وفي تحدّيات العمل ونتائجها المريرة على نفسٍ وروحٍ وجسدٍ، وفي تنامي شعور القهر، رغم الابتسامة الملتبسة أو المُخادِعة التي يتمتّع بها السينمائيان. 

وإذْ يتمكّن رضوان الكاشف، في "عرق البلح" (1998)، من قولٍ سينمائي أعمق وأجمل وأقدر على إثارة سجالٍ حيوي وجمالي، سيحول ـ في الوقت نفسه ـ دون السماح له بعروض تجارية أكثر؛ فإن أسامة فوزي يُنجز بدوره فيلمًا بعنوان "بحبّ السيما" (2004)، يُثير صخبًا لن يمنع التنبّه إلى جمالياته في الحكاية والسرد والتمثيل والتفكيك والاشتغال، تمامًا كحال "عرق البلح". وإذْ يغيب الكاشف في الموت بعد عامٍ واحدٍ على إنجازه "الساحر" (2001)، فإن فوزي سيمضي 10 أعوام بعد "بالألوان الطبيعية" (2009) قبل رحيله، عاجزًا فيها عن تحقيق أي مشروع جديد له، وغارقًا يومًا تلو آخر في مزيدٍ من العزلة والانكفاء، رغم أعمال قليلة لن تكون سينمائية بحتة، كما أنها لن تكون له كلّيًا. وكما أن "الساحر" أضعف أفلام الكاشف، وأقلّها جمالياتٍ؛ فإن الفيلم الأخير لفوزي لن يبلغ مرتبة بديعة من فعل سينمائيّ يعتاده في أفلامه السابقة. 

لكن قولاً كهذا لن يُغيِّب إطلاقًا جماليات مختلفة تحضر في أفلامهما الأخرى، كـ"ليه يا بنفسج" (1993) للكاشف و"عفاريت الإسفلت" (1996) و"جنّة الشياطين" (1999)، أول روائيين طويلين لفوزي. فقدرهما أن تكون بداياتهما ناشطة وحيّة وحماسية وسجالية، تدفعهما إلى مواجهة سائدٍ منبوذ، وإلى ابتكار بعض الجديد المطلوب. رغم هذا، ينتهي بهما الوضع إلى مزيجٍ من إحباط وخيبة ووجع داخلي، يصمد أسامة فوزي إزاءه 10 أعوامٍ قبل أن يغيب في الموت. 

والبداية، التي تُعلن انطلاق أسامة فوزي في الإخراج السينمائيّ، تؤكّد شيئًا مهمّا من توجّهه الإنساني والفكري والتأمّلي، عبر سينما تنفض عنها التجاريّ الباهت، وتجتهد للحاق بنمطٍ يحاول مصريون عديدون ترسيخه في مواجهة تبسيطٍ وبهتانٍ، في مرحلة تتّسم بتنامي ظاهرة "الكوميديين الجدد" مطلع تسعينيات القرن الـ20، في مقابل استكمال مشروع التغيير والتجديد السينمائيين، الذي يصنعه مخرجو "الواقعية الجديدة" في القاهرة منذ الثمانينيات السابقة. والاستكمال متمثّل بالسيرتين السينمائيتين لداود عبد السيّد (1946) ويُسري نصرالله، مثلاً. فعبد السيّد يُخرج أول روائي طويل له عام 1985 (الصعاليك)، قبل 3 أعوام على بدء نصرالله عمله الإخراجي، مع "سرقات صيفية" (1988)، وهما معًا يُكملان نهجهما السينمائي المختلف والتجديدي في تلك التسعينيات، وفي ما بعدها أيضًا. 

التسعينيات نفسها تشهد نوعًا من نزاعٍ بين أنماطٍ، يختار أسامة فوزي منها الأقرب إلى طموحه كسينمائيّ يهوى معاندة الواقع ومقارعته، فيتوغّل في ثناياه العديدة، ملتقطًا نسقَ عيشٍ وتفكير لأناس مهمّشين، منطلقًا بـ"عفاريت الإسفلت"، الذي يتجوّل في عالم سائقي "ميكروباص"، كي يكشف أحوال بيئة مقتربة من بؤس وشقاء يحاول ناسها التصدّي لهما.

يتفرّد أسامة فوزي في اختراق المسكوت عنه، وفي انتقاء غير المتداول وغير المعتاد انتقاؤه. ومع أن "عفاريت الإسفلت" يلتقي، في المناخ الإنساني العام، واشتغال سينمائيي "الواقعية الجديدة" تحديدًا، إلاّ أن "جنّة الشياطين" (1999) ـ المأخوذ بتصرّفٍ من رواية "موت كوينكاس بيرّو داغا وموته" (1959) للبرازيلي خورخي أمادو (1912 ـ 2001)، المعروفة بـ"الرجل الذي مات مرّتين" ـ يلمس وترًا حسّاسًا لدى متزمّتين يرفضون المسّ بما يعتبرونه مقدّسات يُحرَّم الاقتراب منها. فالفيلم الثاني لفوزي يمزج بين السخرية ومرارة الواقع وتصنّع الطبقة البورجوازية وتفكيك هذا كلّه وتعريته الحادة، عبر حكاية رجل ثري يتخلّى عن عائلته وثروته لاختياره العيش رفقة مُشرّدين وسكارى وعاهرات، يجد معهم أمانًا يبحث عنه، وراحة يريدها. وعند وفاته بعد سنين، تكتشف عائلته البيئة التي يلجأ إليها، ويبدأ نوع من نزاع خفي بينها وبين "عائلته" الأخرى تلك، التي ستقوم وإياه (وهو جثّة هامدة) في رحلة أخيرة إلى الأماكن التي يُحبّ، وإلى الفضاءات التي يعشق. 

ملامسة الممنوع يجذب أسامة فوزي إلى اقتحام بيئته الدينية (التي يتخلّى عنها لاحقًا بسبب حبٍّ يعيشه مع سلوى خطّاب)، فيُحقِّق "بحبّ السيما" (2004)، ليكشف بطش التشدّد وقسوته، ومدى تمكّنه من تحطيم إرادات وأحلام ورغبات، وإنْ يفشل البطش، أحيانًا، في تحقيق المُراد منه. وإذْ يتميّز "جنّة الشياطين"، بين مميزات عديدة أخرى، بتولّي الممثل محمود حميدة عملية إنتاجه في خطوة أولى له في هذا المجال، مؤدّيًا ـ في الوقت نفسه ـ دور الثري المتوفى بين أصدقائه؛ فإن "بحبّ السيما" يكشف، مجدّدًا، براعة التمثيل لدى حميدة نفسه، في شخصية مسيحي متشدّد بإيمانه المتعلّق بحَرْفية النص الديني، وفي ارتباكه وقلقه وخوفه، وهذه أمور تجعله يُقوّي الحصار على زوجته عاشقة الرسم (وهذا ممنوع)، وابنه الصغير عاشق السينما (وهذا حرام). 

وإذْ يبدو الفنّ (السينما) حرامًا في بيئة مسيحية متشدّدة، فإن الفن (الرسم والنحت) حرامٌ في بيئة دينية متشدّدة اخرى، لن يكون تزمّتها أخفّ وطأة من غيرها. هذا ما يحاول فوزي إنجازه في "بالألوان الطبيعية" (2009)، من خلال قصّة طالب في كلية الفنون، يمتلك موهبة الرسم ويريد أن يبرع فيه، لكنه يواجه عصبيات الأفكار المتشدّدة، المنفضّة عن الفن، والرافضة إياه، والصدامية معه. لكن الفيلم، الذي يختم سيرته السينمائية من دون قصد، يبقى الأقل جمالية. ربما لهذا سيغوص فوزي، شيئًا فشيئًا، في غيابٍ يزداد يومًا تلو آخر، حتى لحظة رحيله قبل شهرين و10 أيام على احتفاله بمرور 58 عامًا على ولادته (19 مارس/ آذار 1951). 

يغيب أسامة فوزي. يُغلق الباب وراءه بصمتٍ ويرحل. يحمل معه ابتسامة وبَكَرة أفلام، وشيئًا كثيرًا من خيبة ومرارة. يلتفت قليلاً إلى الوراء، ثم ينصرف. كأنه يقول بابتسامته الملتبسة أو المُخادِعة ما تعجز السينما عن قوله. أو ربما لن يقول، بابتسامته تلك، أي شيء، فهو يبوح ببعضٍ من أقواله في أفلامه، وببعضٍ أكثر في صمته وانكفائه ورحيله.

 

العربي الجديد اللندنية في

11.01.2019

 
 
 
 
 

حزين جداً لرحيل المخرج أسامة فوزي

حسام علوان

أنا عن نفسي كواحد بيشتغل حتى الآن في صناعة الأفلام حزين جداً لرحيل المخرج أسامة فوزي لأسباب شخصية بحتة . أسامة واحد من الناس اللي و انا لسه ف اول حياتي و مش حد خالص فتحلي بيته في شارع البستان لما كان ساكن في وسط البلد ، و مع نمو إحساسي بالانعزال بمرور السنين دي كان واحد من الناس اللي لما يشوفني في مكان مش مهم معاه مين ألاقيه فتح دراعه و هوه بيوسعلي و يقولي "تعالى يا حسام اقعد معانا" . دي حاجة بتأثر فيا جداً، و مابيعملهاش عادة غير الناس الكبار في القيمة في الصناعة دي و هما كتار بالمناسبة. 

حزنت بشكل شخصي كمان لأني كنت في لجنة تحكيم مشروعات و اتقدم مشروع "اسود وردي" ورشحت انه يتقبل ، لكن اللجنة رفضته ، و حسيت ان الرفض دا كان إهانة ليا شخصياً. 

طب هل انا كنت ممكن اساعد اسامة يعمل فيلمه ؟ الحقيقة لا. انا كنت بشتغل حتى وقت قريب مع مخرجين بيحاولوا يعملوا أفلامهم من خلال الانتاج المشترك ، و بحكم اني بعرف الخواجات عايزين ايه لأني عشت معاهم و عارف بيفكروا ازاي ، فأول كلمة هتتقال على مشروع مخرج مهم زي اسامة انه مدرسة قديمة . و الحقيقة ان العيب مش في اسامة ، العيب في الخواجات اللي ذوقهم فاسد و منحط و متخيلين انهم من خلال منظومة التمويل يقدروا يعملوا أفلام تفصيل على ذوقهم الشخصي تكون ماشية مع موجة الأفلام اللي ماشية في العالم، و ماعندهمش حد ادنى من الفهم للاختلافات الثقافية ، وشغلهم الشاغل التاكيد على المركزية الثقافية الأوربية في السيطرة على الذوق الثقافي في العالم. 

طب نيجي للنقطة الأهم ، هل اسامة فوزي اول مخرج يرحل بدون مايخرج مشروع حاول يعمله لمدة عشر سنين ، الحقيقة برضه لا، اغلب المخرجين رحلوا و عندهم مشاريع مؤجلة . انا قريت حوارات شادي عبد السلام قبل وفاته في منتصف الخمسينات من عمره و اغلبها كان عن غزو ثقافة البترودولار و تأثيرها على المجتمع و اننا لازم نحافظ على مكوناتنا الثقافية ، و في الفترة الاخيرة من حياته قال انه بيفكر يسيب السينما و يشتغل في تجارة الدواجن ، و اتقدم لجائزة الدولة التشجيعية -مش التقديرية - و خدها و استلمها من الرئيس مبارك و قال تصريح ان لها قيمة خاصة بالنسباله انه يحس بالتقدير لأول مرة في بلده . و دي في حد ذاتها مفارقة غير مضحكة بالمرة. 

طب هل فيه حل يمنع المبدعين السينمائيين من الرحيل بدون مايحققوا مشاريعهم السينمائية ، و اللي عدم تحقيقها خسارة كبيرة للثقافة المصرية ؟ الحقيقة فيه، و تقدمنا كسينمائيين مرات عديدة بمقترحات لإنشاء صندوق دعم للسينما مستدام ، و شخصياً اتقدمت بمقترح قبل كده بكيفية عمل الصندوق و آلية تسييره و كيفية اتاحة موارد متعددة ليه ، و المشكلة الكبيرة اللي بتقف عقبة ان صندوق من هذا النوع محتاج اما قرار جمهوري او تقديم المشروع لمجلس الشعب و إقراره و إقرار آلية العمل بيه، و انا اتمنى ان كل سينمائي مصري اتصدم لرحيل اسامة فوزي يسعى ان صندوق زي ده يخرج للنور بحيث يكون عندنا سينما تشبهنا و تشبه ثقافتنا لا تخضع لظروف السوق و الجمهور عاوز كده و لا لظروف التمويل الأجنبي و الخواجة عاوز كده.

 

الـ FaceBook في

11.01.2019

 
 
 
 
 

أسامة فوزي: كيف يحيا الموت في السينما؟

أندرو محسن

شوف إنت لما المزين (الحلاق) مننا يحلق لواحد ميت، وإزاي طول الحلاقة يقدر ميفتحش بقه بكلمة.

ملعون أبو الفلوس اللي تخلي الواحد ميتكلمش.

الأسطى محمد – عفاريت الأسفلت

بعد 4 أفلام فقط قدمها المخرج أسامة فوزي يرحل فجأة دون مقدمات أثناء تحضيره لفيلم جديد، ليترك لنا: «عفاريت الأسفلت» 1996 – «جنة الشياطين» 1999 – «بحب السيما» 2004 – «بالألوان الطبيعية» 2009.

من النادر أن ينجح مخرج في ترك علامة حقيقية في فيلمه الأول، ثم يؤكد مع فيلميه الثاني والثالث أن نجاحه لم يكن صدفة، وأنه مخرج لديه رؤية حقيقية، بل يستطيع تقديم فيلم شديد التفرد هو «جنة الشياطين». ورغم أن فيلمه الأخير لم يكن على المستوى الأمثل، خاصة إذا ما قورن بسابقيه، إلا أن خصائص المخرج لا تزال حاضرة فيه، وهذا هو ما سنفرد له السطور التالية. أسامة فوزي وسينما المؤلف.

مفهوم «سينما المؤلف» لا يعني بالضرورة أن يكون المخرج هو نفسه كاتب السيناريو كما هو شائع، بل أن يكون لديه من الأسلوب والخصائص ما يميز أعماله بشكل واضح، وبالشكل الكافي ليُنسب العمل إليه.

لهذا ليس كل مخرج جيد هو مخرج مؤلف بالضرورة، هناك من يجيد الحرفة ويدرك كيفية صناعة فيلم جيد، وهناك من يجيد الحرفة ويمنح الفيلم جزءًا خالصًا منه هو شخصيًّا، وسم لا يمكن مشاهدته لو أعطينا نفس السيناريو مخرجًا آخر، وبعبارة أخرى، الفارق هو بين أن نقول هذا العمل «من إخراج فلان» أو نقول هذا فيلم «لـ فلان».

مثل القطيفة

أهو أنا القطيفة عندي زي النسوان، الحتة الغالية تعرفها أول ما تبص فيها.

زي الواحدة الحلوة قبل الجواز، تبقى خايف لا تكون الحلاوة برّاني، تعرف إنها أصيلة بس بعد الجواز.

وكل ما تقدم كل ما تعتق في الحلاوة.

صالح ماسح الأحذية – عفاريت الأسفلت

رغم كون «عفاريت الأسفلت» فيلمًا مميزًا، فإنه من الصعب تحديد أسلوب المخرج عادة من فيلم واحد، ولهذا فكما يتحدث صالح (لطفي لبيب) عن القطيفة، ينطبق الأمر على أفلام فوزي، فمع كل فيلم جديد نكتشف الكثير عن أسلوبه المميز.

العلامة الأولى التي يمكن الوقوف عندها هنا هي إعطاء طابع خاص لكل فيلم، مناسب لطبيعة وموضوع العمل. في «عفاريت الأسفلت» نشاهد الإخلاص الشديد للواقعية، بداية من ديكورات البيت القديم، أو موقف الميكروباصات مكان عمل سيد (محمود حميدة)، ثم الانتقال لسوق وكالة البلح، والإحساس بتفاصيل هذا المكان من نداءات الباعة وطريقة عرض البضائع، ولا يمكن نسيان الفرح الشعبي في الحارة بالطبع.

ليس على مستوى الشكل فقط، بل إن الشخصيات وطبيعة علاقاتها شديدة الواقعية، شخصيات من لحم ودم يمكن مقابلتها، مفاهيم الخيانة والوفاء لديها مختلّة ومختلطة، بل إن تقدير النفس أيضًا مختل، حتى إن سيد لا يود لأخته أن تتزوج من رينجو (عبد الله محمود) الذي يشبهه.

لكن الواقعية تتوارى إلى حد ما في فيلمه الثاني «جنة الشياطين»، القاهرة التي كانت ممتلئة بالبشر في مشاهد فيلمه الأول تبدو الآن كمدينة أشباح. لا نشاهد بشرًا في الشارع ولا سيارات غريبة تقريبًا إلا التي في مشهد الحادث، والعلاقة بين الشخصيات غامضة ومحيّرة.

في الفيلم الأول نجد أن الإضاءة قوية في أغلب المشاهد، واللقطات أغلبها من الحجم المتوسط، يمنح هذا المشاهد حالة شعورية محايدة من الشخصيات، لا تدفعه إلى جانب معين من التعاطف أو النفور، ليحدد موقفه في النهاية بعد أن يشاهد كل جوانب هذه الشخصيات، المشهد الذي يختزل هذه الحالة مشهد الأسطى محمد (حسن حسني) وهو يحكي حكايته الأخيرة عن هارون الرشيد وإبراهيم الموصلي، في لقطة متوسطة طويلة نسبيًّا تبدأ الكاميرا من عند سيد ثم تتحرك لتعرض لنا كل الشخصيات الأخرى تصغي، والمشاهد يشاهد كل هؤلاء ويستمع أيضًا كأنه معهم.

تختلف الحالة الشعورية التي يصدرها في «جنة الشياطين» كلية، هذا الفيلم مُقبض منذ أول مشاهده وحتى نهايته، يصعب أن ينتهي المشاهد من هذا الفيلم وهو في مزاجٍ رائق ومتعاطف مع الشخصيات. منذ المشهد الأول يؤسس المخرج للطبيعة المظلمة التي ستكمل معنا حتى نهاية الفيلم، الإضاءة محدودة، وعادة تضيف إلى رهبة المشهد مثل إضاءة الشموع حول الصندوق الذي يحتوي على جثة طبل (محمود حميدة).

يزداد عدد اللقطات القريبة والكثير منها لوجه طبل الميت، لا تمنح اللقطات القريبة في هذا الفيلم تفاعلًا أكبر مع الشخصيات، بل على العكس تعطي شعورًا بالضيق وبالحصار، خاصة في اللقطات القريبة داخل السيارة، هذه الشخصيات محاصرة داخل عقلها الذي لا يُدرك الواقع، ومحاصرة داخل هذه السيارة، والمشاهد يجب أن يظل مُحاصرًا معهم.

هذان الفيلمان رغم اختلاف طبيعتهما، لكنهما يوضحان قدرة أسامة فوزي على تأسيس وخلق حالة شعورية مناسبة لموضوع الفيلم، ومن ثم تصديرها للمشاهد، وهو ما استمر أيضًا في فيلميه التاليين.

خيال أم واقع؟

سامعين؟ بيضحك دلوقتي، فضل مكشر لغاية ما جم الألاضيش بتوعه.

وديدة – جنة الشياطين

في أفلامه الأربعة نجد مزجًا واضحًا بين الخيال والواقع بنسب متفاوتة. في فيلمه يقدم الأول مشهدًا ينتمي للواقعية السحرية، بينما فيلمه الثاني بأكمله يمكن تصنيفه داخل الواقعية السحرية، وفي فيلميه التاليين نجد حضورًا واضحًا للخيالات في ذهن الشخصية الرئيسية، مُجسدة على الشاشة.

الواقعية السحرية هي إضافة ما ينتمي إلى السحر أو القدرات غير العادية إلى العالم الواقعي، الأمر لا يشبه الفانتازيا، فلا يوجد تأسيس لعالم مختلف ذي قواعد مختلفة، لكنه نفس العالم الطبيعي بأغلب قواعده لكن مع ظهور بعد التفاصيل غير الطبيعية، أو التي لا تخضع لقواعد هذا العالم.

أثناء حكاية الأسطى محمد عن الجارية التي اتفقت على وضع ساقها في ماء الورد حتى ترشد حبيبها إليها، نشاهد الشخصيات الأنثوية في الفيلم، كل واحدة تمد ساقها خارج النافذة ليقترب منها الشخص الذي يحبها ويدخل إلى حجرتها، ثم تظهر الشخصية التالية ويتكرر الموقف، نفس النافذة ونفس الحجرة باختلاف الشخصية في كل مرة، وهكذا حتى نشاهد كل الشخصيات. هل هذا حلم؟

يمكن اعتبار المشهد مجرد خيال يدور في أذهان الشخصيات أثناء الاستماع للحكاية، لكننا مع آخر شخصية تمد ساقها نجد حلزونة المتأخر عقليًّا (ماجد الكدواني) يقترب من النافذة ليظهر سيد ويضربه ويطرده بعيدًا قبل أن يدخل الحجرة إلى حبيبته، بينما يبتعد حلزونة ويلتقي شخصية أخرى، وهكذا ينهار الحاجز بين واقع الفيلم والخيال.

في «جنة الشياطين» يمكن اعتبار أن الشباب الثلاثة مغيبون، ولا يدركون أن طبل، المرافق لهم، هو جثة، وبالتالي فإن تفاعلهم معه ليس إلا هلوسة، لكن ماذا عن العبارة المذكورة في بداية هذه الفقرة، السيدة التي بكامل قواها العقلية التي تلوم طبل الميت على ضحكه مع هؤلاء المتشردين؟ ماذا عن الابنة (كارولين خليل) التي تطلب من طبيب الأسنان أن يضع لأبيها الميت أسنانًا من عظم لأنه يمكن أن يأخذ الأسنان المعدنية ويبيعها؟

يأخذنا أسامة فوزي إلى جانب آخر عندما نستمع في شريط الصوت بالفعل إلى صوت ضحكات طبل، وعندما نشاهده يمد لسانه ليلعق قطرات الخمر، هل لدينا شك أنه ميت؟ بالتأكيد لا، وهل ينتمي ما يفعله إلى أخلاق الموتى بالتأكيد لا أيضًا. لكنها الحالة التي يُدخلنا فيها المخرج منذ أول الفيلم فلا ندرك أبدًا الواقع والخيال.

تزداد الأمور وضوحًا في فيلميه التاليين، إذ تصبح الخيالات واضحة وتدور في أذهان صاحبها حتى وإن رأينا انعكاسها أمامنا.

نشاهد أحلام الطفل نعيم بأنه في الجنة عندما يدخل إلى السينما في «بحب السيما» لنجد العاملين في دار العرض يصبحون بجناحات وأكاليل مثل صور الملائكة، ونشاهد يوسف في «بالألوان الطبيعية» تصاحبه الخيالات طوال الوقت، منذ بداية الفيلم يتخيل أمه في لجنة الامتحانات، ويتخيل الداعية الإسلامي في غير مكانه، وتصاحبه أيضًا خيالات لفتاة الليل التي شاهدها مرة واحدة.

معالجات مختلفة للموت

أنا دايمًا خايف منك.

نفسي أحبك زي ما تكون أبويا.

عدلي – بحب السيما

لا يمكن مشاهدة أفلام أسامة فوزي دون الوقوف عند تيمة الخوف، دائمًا الخوف حاضر.

في فيلمه الأول كان الخوف حاضرًا بالكثير من أشكاله، خوف انشراح (سلوى خطاب) من العنوسة، وخوف سيد من العجز الذي نشاهده في تعامله بجفاء مع الفتاة المتأخرة عقليًّا في بداية الفيلم ثم مع حلزونة في نهايته، لكن الخوف الأبرز والحاضر في كل أفلام فوزي، هو الخوف من الموت.

نجد شبح الموت مخيمًا على الأجواء طوال الوقت في «عفاريت الأسفلت» في كلام الأسطى محمد وهو يتحدث عن الحلاقة للموتى، وعن عدم إمكانية أن يحكي لهؤلاء الموتى حكاياته، إلى أن يجد نفسه في قلب هذا الموقف الذي يخشاه. ويحضر الخوف من الموت أيضًا على لسان الأب عبد الله (جميل راتب)، عندما يتحدث عن انتظاره الموت بالربو مثل بقية عائلته.

لكننا في «عفاريت الأسفلت» نشاهد حالة الترقب والتفاعل الهادئ والطبيعي مع الموت، خاصة والميت شخص عجوز بالفعل، بينما ينتقل الأمر لمستوى آخر في «جنة الشياطين» الذي يبدأ هذه المرة مع الموت مباشرة، لنتابع تفاعل الشخصيات الغريبة المنقسمة بين عالمين مختلفين ومتناقدين مع الجثة، كل منهما يرغب في الاحتفاظ بها على طريقته، وكل منهما أيضًا يخشاها لأسباب مختلفة.

تستمر ثنائية الخوف والموت في فيلمه الثالث، يرتبط الخوف من الموت هنا بخوف آخر من العقاب في جهنم، والعلاقة المضطربة بالله سمة واضحة في شخصيات أسامة فوزي أيضًا، بوفاة الأب في «بحب السيما» ربما نشاهد للمرة الأولى في أفلامه من يموت وهو مرتاح، لكن هذا لا يستمر حتى النهاية إذ يُطل الموت بوجهه القبيح مرة أخرى مع نهاية الفيلم، وكأن المخرج يؤكد أنه لا يوجد تصالح مع الموت.

وحتى في فيلمه الأخير كان الموت حاضرًا، وإن لم يكن بنفس الشكل الذي شاهدناه في أفلامه الثلاثة الأولى، لكن لا زال حاضرًا في مشهد سريع عند موت الموديل عم محمود (سعيد صالح)، وهو الميت الوحيد في أفلام أسامة فوزي الذي شاهدناه يرجع إلى الحياة مرة أخرى، وربما أراد المخرج بهذا أن يسخر من الموت مرة واحدة في فيلمه الأخير.

في كل مرة نشاهد أن أسامة فوزي يهتم بجعل الموت مفاجئًا، لهذا غرض درامي لا يخفى على أحد، إذ إن هذه المفاجأة تترك أثرًا صادمًا على المشاهد، وفي نفس الوقت تحقيقًا لهاجس المخرج الذي يشعر بأن الموت ضيف ثقيل الظل لن يأتي بموعد مسبق، لكنه بالتأكيد لم يكن يعرف كم ستقترب أفكاره عن الموت من واقعه.

موقع "إضاءات" في

11.01.2019

 
 
 
 
 

أسامة فوزي ليس الوحيد.. مخرجون أبعدتهم أزمة الإنتاج عن السينما

كتب: نورهان نصرالله

السينما ما زالت تعاني بشكل مستمر حتى مع بدء تحسن الأوضاع في الفترة الأخيرة، فالمساحة أمام خروج تجارب سينمائية على مستوى فنى مختلف ومغايرة لقيود وشروط السوق التقليدي أصبحت ضئيلة وغير كافية، أمام توحش السينما التجارية والأفلام غير صالحة للمشاهدة سوى مرة واحدة، وهو ما عانى منه الراحل أسامة فوزي، بالرغم من حجم إبداعه السينمائي إلا أنه لم يقدم سوى 4 أفلام، كان آخرها "بالألوان الطبيعية" عام 2009، وحارب حتى قبل وفاته بأشهر في محاولة للحصول على تمويل لمشروعه "أسود وردي" ولكن لم ينجح في ذلك.

تلك الأزمة لم تقتصر على "فوزي" فقط، بل على مجموعة كبيرة من المخرجين المبدعين، أصحاب الأعمال المهمة والمشاريع السينمائية، والذين قدموا كثيرا للسينما المصرية، ولكنهم ابتعدوا عنها لسنوات طويلة مهما اختلفت الأسباب ولكن الأهم أن السينما ما زالت في حاجة إلى أعمالهم لتثريها، وفيما يلي أبرز هؤلاء المخرجين:

- داود عبد السيد:

من أهم المخرجين في تاريخ السينما المصرية، بالرغم من قلة عدد أعماله نسبيا إلا أنها علامات سينمائية بارزة وعالماً خاصا استثنائيا شديد الخصوصية، حيث لم تتجاوز أعماله الـ 9 أفلام، قدم آخرها "قدرات غير عادية" عام 2015، وتم الإعلان بعدها عن البدء في مشروع ولكنه توقف بسبب مشاكل إنتاجية، وفقا لما قاله "عبد السيد" في أحد حواراته الصحفية، وقال خلال ندوة تكريمه في الدورة الثانية بمهرجان الجونة السينمائي: "أتمنى لو قدرت أعمل فيلم كمان هبقى سعيد.. لكن ماعتقدش إن هيكون في أفلام جديدة لي".

- علي عبد الخالق:

ما يجاوز الـ 30 عملا قدمهم المخرج علي عبد الخالق عبر مشواره السينمائي الممتد، من بينهم "البيضة والحجر"، "الكيف"، "إعدام ميت"، بالإضافة إلى "أعنية على الممر" و"العار" اللذان جاءا ضمن قائمة أفضل 100 فيلم مصري، وقدم آخر أفلامه "ظاظا" بطولة هاني رمزي في 2006.في 2016 أعلن "عبد الخالق" اعتزاله الإخراج السينمائي بسبب ما وصفه بـ "حالة تردي الإنتاج"، لتكون عودته مرهونة بعودة الدولة إلى الإنتاج مرة أخرى.

- خيري بشارة:

قام برفقة مخرجي بخلق تيار واقعى جديد مميز في السينما المصرية، التي أدانت لهم بالفضل في العديد من الأفلام الهامة التي عبرت عن المواطن وأحلامه وأصبحوا من أهم رموزها، بالرغم من استمرار وجوده على الساحة بإخراج دراما تلفزيونية إلا أن آخر أعماله السينمائية "إشارة مرور" مر عليها 23 عاما، حيث الفيلم من إنتاج عم 1996.قرر "بشارة" بعد 11 فيلما قدمهم على مدار 15 عاما، الابتعاد عن الإخرج السينمائي مقابل إخراج المسلسلات الرمضانية كان أخرهم "لعنة كارما" في 2018.

- علي بدرخان:

2002 كان تاريخ آخر الأعمال السينمائية "الرغبة" التي قدمها المخرج علي بدرخان، وكان في الـ 56 من عمره عن إجمالي 9 أفلام في مشواره السينمائي الذي بدأه عام 1975 بـ "الكرنك".وكشف "بدرخان" في أحد لقاءاته الصحفية، أن ابتعاده عن الساحة الفنية يرجع إلى تردي الأوضاع، قائلا: "لم أبتعد عن السينما بشكل متعمد، ولكن أجواء السينما الآن أرغمتنى على البعد، فتبدد حال الفن وازداد سوءاً فأصبح الفن مكسباً تجاريا تدر أموالاً للمنتج أكثر منها قيمة فنية، فلم يكن لدى حينها سوى خيارين الابتعاد والتنازل عن مبادئى والرضوخ لمتطلبات المنتج الذى يبحث عن المكسب المادى السريع على حساب القيمة الفنية، فاختارت مبادئ وفضلت الابتعاد".

- سمير سيف:

بخلاف الفيلم التونسي "أوغسطينوس ابن دموعها" الذي عرض عام 2016 في مهرجان الإسكندرية السينمائي، كانت آخر أعمال سمير سيف السينمائية "ديل السمكة" عام 2003، ليمتدد غيابه إلى 16 عاما حتى الآن، بعد مجموعة هامة من الأفلام التي قدمها عبر مشواره الفني الممتد منها "غريب في بيتي"، "آخر الرجال لمحترمين" و"معالي الوزير"، حيث قاربت أعمله الـ 25 فيلما.لا يعلم أحد تحديدا سر ابتعاد "سيف" عن الإخراج السينمائي إلا أن الأمر لن يبتعد عن أسباب المخرجيين الآخرين، في الوقت الذي ينشغل فيه بتدريس الإخراج السينمائي بالإضافة إلى رئاسة المركز القومي للسينما.

- إيناس الدغيدي:

"الأكثر إثارة للجدل" لقب لازم المخرجة إيناس الدغيدي منذ بدايتها حتى الآن، حيث تختار دائما الدخول إلى مناطق شائكة والتطرق إليها بجرأة ميزتها دون غيرها من صناع السينما، حيث قدمت ما ييقرب من 16 فيلما من بينهم "الباحثات عن الحرية"، "لحم رخيص" و"كلام الليل"، وكان آخرهم "مجنون أميرة" عام 2009، ليمر 10 سنوات كاملة على آخر أعمالها.وتعتبر أزمة الإنتاج هى السبب الرئيسي أمام ابتعاد "الدغيدي" عن الساحة السينمائية، مؤكدة أن خوف المنتجين من الأفكار الجريئة التي تقدمها له عامل كبير.

الوطن المصرية في

11.01.2019

 
 
 
 
 
 
 

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك
  (2004 - 2019)