جميل راتب.. صعيدى فى السينما الفرنسية
كتب : منى بكر
«المحلية
هى الطريق إلى العالمية»..عبارة طالما سمعناها وهى بالفعل تنطبق
على الكثير من نجوم الفن فى العالم، لكنها لا تمثل تجربة «جنتلمان
السينما». فقد نجح «جميل راتب» فى كسر تلك القاعدة إذ كانت بدايته
من العالمية حيث حققق نجاحات كثيرة فى الخارج أهلته لأن يكون نجمًا
منذ بداية ظهوره فى السينما المصرية.
«جميل
راتب» من أصول صعيدية وتحديدًا من مدينة المنيا، والده كان من كبار
أثرياء وأعيان المدينة وهو «أبوبكر باشا راتب» وهناك شارع يحمل
اسمه موجود بالمحافظة حتى الآن.. ووالدته أيضا كانت من أصول صعيدية
وعمتها هى رائدة تحرر المرأة «هدى شعراوى».
ذهب «راتب» إلى فرنسا ليدرس الحقوق لكن عشقه للفن دفعه إلى الاتجاه
نحو التمثيل فى أدوار صغيرة من خلال فرق مسرحية فرنسية مغمورة
تقدم عروضها على مسارح صغيرة. ومع تطور أدائه ،بدأت الفرق المسرحية
الكبيرة تسعى لضمه إليها ومنحه أدوارًا أكبر وأحيانًا أدوار
رئيسية ومهمة. ومن بين أهم الأعمال المسرحية التى شارك فيها: «مريض
بالوهم» لـ «موليير» و«الرفات» لـ «آندريه دو ريشو» و«أو أمريكا»
لـ «جارسييه» إلى جانب رواية «زومير شولم» لـ «هنريك أبسن». هذا
إلى جانب مسرحيات الروائى الإنجليزى الشهير «ويليام شكسبير» مثل
«عطيل» و«هاملت» و«تاجر البندقية»و«جعجعة بلا طحن».
وفى التليفزيون الفرنسى، شارك «راتب» فى العديد من المسلسلات ولكن
فى أدوار صغيرة وإن كانت مهمة ومؤثرة مثل مسلسلات «طريق دمشق» عام
1962 و«شبة سرية» عام 1967 و«المرأة الشبح» عام 1968 و«الفوميجا»
عام 1974.
ومثلما منح المسرح لـ «راتب» الخبرة وأصقل موهبته التمثيلية ،منحته
السينما المزيد من الخبرة إلى جانب الكثير من الشهرة والنجاح خاصة
أنه شارك فى عددِ من الأفلام المهمة وعلى رأسها «لورانس العرب»
عام 1962، الذى كان الفنان المصرى «عمر الشريف» أحد أبطاله. لعب
«راتب» دورًا صغيرًا فى الفيلم لكنه أظهر موهبة كبيرة يملكها
الممثل الشاب آنذاك وقد كان هذ الفيلم هو بداية صداقة طويلة جمعت
بينه وبين كل من النجم «أنتونى كوين» والمخرج «ديفى لين» حتى وفاة
الأخيرين، كما كان بداية انطلاق «راتب» فى السينما الفرنسية ومنها
إلى التونسية والمصرية.
لكن قبل مشاركته فى «لورانس العرب» كانت البداية الحقيقية لـ«راتب»
فى فيلم «ترابيز» عام 1956 مع النجوم «برت لانكستر» و«تونى كرتيس»
و«جينا لولوبريجيدا» وقد حقق الفيلم نجاحًا جماهيريًا خاصة أنه
يدور داخل السيرك وسط أجواء الإبهار على المسرح والدراما فى
الكواليس، وقد شارك الفيلم فى مهرجان برلين بدورته السادسة.
هذا إلى جانب أفلام «جلد جاسوس» عام 1967 وهو إنتاج فرنسى إيطالى
مشترك و«ذئاب صغيرة» عام 1968 للمخرج مارسيل كارنيه، و يمكن اعتبار
فيلم «وداعًا بونابرت» للمخرج الراحل «يوسف شاهين» من الأفلام
الأجنبية لأنه إنتاج فرنسى وتمت ترجمته وعرض فى الخارج وحقق نجاحًا
كعادة أفلام «شاهين»، وقد ظهر فى الفيلم بشخصية المناضل «محمد
كُريّم» الذى رفض تسليم الإسكندرية لجيوش «بونابرت».
قدم «جميل راتب» أيضًا العديد من الأفلام التونسية منها «صيف حلق
الوادى» عام 1996 للمخرج «فريد بوغدير» وكان الفيلم إنتاجًا
تونسيًا-فرنسيًا مشتركًا، وفيلم «كش ملك» مع النجمة «شيريهان» عام
1995 ويعتبر فيلم «شيشخان» للمخرج التونسى الكبير «فاضل الجعايبى»
عام 1991 أهم أفلامه خارج السينما المصرية. وفى الجزائر قدم فيلم
«ليلة القدر» عام 1999 للمخرج «عبدالكريم بهلول» والذى شارك فى
مهرجان كان.
ونتيجة لهذه المشاركات فى السينما التونسية كرمه الرئيس التونسى
«السبسى» عام 2016 بمنحه الوسام الوطنى للاستحقاق فى قطاع الثقافة
إلى جانب تكريم مهرجان القاهرة السينمائى الدولى له عام 2005
والمهرجان القومى للسينما المصرية عام 2016 ومهرجان الأقصر عام
2017.
لكن مثلما كانت بداياته فى التمثيل من فرنسا كان أول تكريم حصل
عليه «راتب» أيضًا من فرنسا التى قدم فيها أعمالًا فنية على مدى 30
عامًا ،حيث حصل النجم المتواضع على «وسام الشرف الوطنى» وهو أعلى
وسام فى فرنسا والذى يمنح للقادة العسكريين. هذا الوسام الرفيع حصل
عليه النجم الهندى الأشهر «أميتاب باتشان» والممثل والمخرج
الأمريكى العبقرى «كلينت إيستوود» والمخرج الأمريكى الكبير «دافيد
لينش» المصنف من بين أهم مخرجى العالم إلى جانب الموسيقار الألمانى
«ريتشارد شتراوس» والمخرج الأمريكى «ستيفن سبيلبرج». لم يتحدث راتب
عن هذا التكريم ولم يبد أى غرور بعد أن وضعه هذا التكريم فى مصاف
هؤلاء النجوم العالميين الذين لا يقل عنهم بالطبع موهبة وعطاء.
أما فى مصر، فقد كان لـ«جميل راتب» شكلًا مختلفًا، حيث كانت بمثابة
مرحلة جديدة فى المسيرة الفنية له. وحينما اعتبره الفرنسيون عربيًا
ومنحوه الكثير من الأدوار التى تناسب ممثلًا عربيًا، كان صنّاع
السينما فى بلده يرونه أجنبيًا من حيث الملامح والأسلوب ولا يرونه
إلا فى دور الرجل الثرى أو الأجنبى.
وعندما جاءته الفرصة، قدم «راتب» نفسه كممثل محترف موهوب يستطيع
تجسيد كل الأدوار ويهتم بتفاصيل الشخصية بدءًا من الملابس والحركات
وصولا إلى تعبيرات الوجه. فـ«راتب» الذى صال وجال فى المسارح
الفرنسية على مدى 30 عامًا يتحدث ويمثل بالفرنسية هو نفسه «سليم
البهظ» تاجر المخدرات فى فيلم «الكيف» 1985 مع يحيى الفخرانى
ومحمود عبدالعزيز للمخرج على عبدالخالق.. وهو «عبدالله» سائق
الميكروباص فى «عفاريت الأسفلت» الذى كان أول عمل للمخرج «أسامة
فوزى» ومع ذلك شارك «جميل راتب» فى الفيلم دون النظر إلى حجم دوره
الصغير ولا المخرج المبتدئ.
والغريب أن الذى أبدع على المسرح الفرنسى فى أدوار «عطيل» و«هاملت»
هو نفسه الذى قدم أدوارًا كوميدية وإن كان معظمها أفلامًا تضم
مواقف كوميدية ولا تعتمد عليه تمامًا لإضحاك الجمهور لكن الجمهور
ضحك ونجح «راتب» فى الكوميديا من خلال عدة أعمال على رأسها فيام
«البداية» للمخرج «صلاح أبوسيف». ومسلسلات «رحلة المليون» و«يوميات
ونيس» مع «محمد صبحى»، و قد حقق العملان نجاحًا كبيرًا ولا يزل
الجمهور يردد عبارة «راتب أو لطفى بيه» الشهيرة فى «رحلة المليون»،
«بيع يا صبرى» حتى اليوم وبنفس نبرة صوته..ويتذكر طيبة وحنان والد
«ونيس»، «أبوالفضل جادالله».
وبعيدًا عن الكوميديا، كان ظهور «جميل راتب» التليفزيونى لا يقل
عظمة وجمالا عن أدواره العالمية، فهو العاشق المخادع لـ«أبلة حكمت»
فى مسلسل «ضمير أبلة حكمت» وهو الشرير الذى يطارد الفتى الطائر فى
«أحلام الفتى الطائر» وهو السنيور «جيوفانى» عميد الجالية
الإيطالية ورجل «الكوزا نوسترا- المافيا» فى «زيزينيا».. وفوق هذا
وذاك هو الدكتور المثالى، «مفيد أبوالغار» المثقف العاشق لوطنه،
الذى يتحدى الجهل وسطوة المال مدافعًا عن العلم والحضارة فى رائعة
«الرايا البيضا».
لم يتوقف «جميل راتب» عن التمثيل قط ولم يفكر فى الاعتزال أبدًا،
ففى السنوات الأخيرة التى أصابه فيها الوهن والمرض قدم مسلسل
«أبواب الخوف» عام 2011 ثم مسلسل «شمس» عام 2014.وظهر فى رمضان
الماضى كضيف شرف فى مسلسل «بالحجم العائلى» للنجم «يحيى الفخرانى»
إلى جانب الإعلان الذى تم تصويره لتخليد ذكرى النجم الراحل «أحمد
زكى».> |