كيف ظهر بدور العربى فى الأفلام الأجنبية ودور الخواجة فى الأفلام
العربية؟ هل أثَّرت بداياته فى فرنسا فى مسيرته الفنية فى السينما
المصرية؟ كيف نجح فى تقديم الشرير بعيدًا عن شخصية الفتوة مفتول
العضلات؟
نفتقد رؤية أعمال جميل
راتب،
الذى وُلد عام 1926، كممثل شاب فى بداياته السينمائية. ويعود هذا
إلى أن أغلبها أعمال قدمها خارج مصر، فى فرنسا تحديدًا، والمتتبع
لمسيرته الفنية سيكتشف أن الجمهور المصرى لم يعرفه بصورة حقيقية
إلا فى منتصف السبعينيات، أما قبل ذلك فأغلب أعماله فى المسرح
والسينما والتليفزيون أصبحت جزءًا من تراث فن الدراما الفرنسى، وهى
أعمال مجهولة تمامًا للمشاهد العربى.
أغلب المواقع والصحف الفرنسية التى قامت بتأبينه وسرد ملخص لمسيرته
الفنية وصفته بالممثل الكوميدى، ومَن يراجع أعماله المبكرة فى
التليفزيون والسينما الفرنسية سيجدها من نوعية المغامرات
الكوميدية، وكانت ملامحه مزيجًا من الشكل العربى الأصيل والأجنبى
المنتمى إلى دول البحر الأبيض المتوسط الأوروبى، ولا يعود هذا إلى
أن أمه فرنسية ووالده مصرى كما يُشاع، فهو ابن لوالدَين من جذور
مصرية، وأمه تحديدًا صعيدية، وعمة والدته هى الناشطة هدى شعراوى.
ملامحه كانت تؤهله لدور الأجنبى أو العربى على حد سواء، فالطريف
أنه يمثل فى «لورانس العرب» دور ماجد، الشاب العربى، أحد أشهر
أدواره العالمية، ويمثل دور الخواجة الإيطالى فى مسلسل «زيزينيا»،
وهو أحد أشهر أعماله المصرية، وقد حرمته لَكنته الفرنسية فى
السنوات الأولى بعد عودته إلى مصر فى منتصف السبعينيات من تجسيد
شخصية الضابط خالد صفوان فى فيلم «الكرنك»، وذهب الدور إلى كمال
الشناوى، لكنه تمكن من التخلص من هذه اللكنة وترسيخ وجوده فى
الأعمال اللاحقة.
فى بداياته الأولى بالسينما قام ببطولة فيلم «أنا الشرق»، ويمكننا
أن نرى فيه جميل راتب شابًّا وسيمًا وفارسًا من فرسان التمثيل، ولا
يُعرض هذا الفيلم كثيرًا، وهو من الأفلام التى تحمل كثيرًا من
الطرائف فى تفاصيل إنتاجها. مخرج الفيلم هو عبد الحميد زكى، وهو
الفيلم الوحيد الذى أخرجه، وهو ممثل من الصف الثالث ومعروف بأداء
الأدوار الصغيرة، ربما نتذكره فى دور صاحب محل الفطاطرى فى فيلم
«إسماعيل يس فى مستشفى المجانين».
فيلم «أنا الشرق» يضم بجوار أسمائه المشهورة، مثل حسين رياض وتوفيق
الدقن، أسماء نجوم شباب مثل جميل راتب وسعد أردش، كما يشارك فيه
جورج أبيض كممثل فى ظهور نادر للغاية، وتقوم بالبطولة النسائية
الممثلة الفرنسية كلود جودار.
جسد جميل راتب، وكان وقتها شابًّا فى الثلاثين، دور فارس من قبيلة
عربية معاصرة، زعيمها الشيخ فاضل «حسين رياض»، ويتصدَّى الشيخ
والفارس الشاب لمجموعة من المغامرين الأجانب الذين يدّعون أنهم
علماء آثار، لكنهم فى الحقيقة عصابة تسعى للتنقيب عن الذهب فى
صحراء القبيلة وسرقته، ويحتوى الفيلم على كثير من التفاصيل
النمطية، وخلاصة العمل تقول بمباشرة وسطحية إن الغرب شرير
وانتهازى، والشرق طيب وخيِّر.
أغلب المصادر تذكر أن الفيلم من إنتاج عام 1946، وقلة تؤكد أنه من
إنتاج عام 1956، وفى رواية ثالثة عام 1958، وظنى أن التاريخ الأخير
هو الأدق، ففى منتصف الأربعينيات كان جميل راتب شابًّا فى العشرين،
التحق لتَوّه بمدرسة الحقوق الفرنسية، وذهب بعد عامه الأول بها إلى
باريس لاستكمال دراسته، وهناك هوى التمثيل ومارسه، ودرسه لاحقًا
بعد أن ترك دراسة الحقوق، بالإضافة إلى أن بدايات توفيق الدقن وسعد
أردش السينمائية تعود إلى السنوات الأولى من الخمسينيات.
فى هذا الوقت لم يكن جميل راتب، الذى درس التمثيل ومارسه فى فرنسا،
معروفًا فى الوسط السينمائى المصرى، وكانت شهرته أكثر كممثل مسرحى
كلاسيكى فى الكوميدى فرانسيز، وربما لهذا السبب تم اختياره فى
منتصف الخمسينيات، بعد العدوان الثلاثى على مصر، لبطولة فيلم
يتناول علاقة الشرق والغرب، فهو وجه معروف إلى حد ما فى فرنسا،
والفيلم يحمل ملامح العمل الملحمى العالمى، وكان مخططًا لعرضه فى
جميع أنحاء العالم كجزء من القوة الناعمة وقتها.
لم ينجح الفيلم فى ترسيخ نجومية جميل راتب فى السينما المصرية،
وترك بعده الشرق، وبدأت مرحلة فنية جديدة مع الغرب كممثل للأدوار
الصغيرة فى السينما والتليفزيون الفرنسيين، كما شارك بدور صغير
كلاعب سيرك فى الفيلم الهوليوودى «Trapeze»،
وكان الفيلم بطولة بيرت لانكستر وجينا لولو بريجيدا، وجاءته الفرصة
الكبرى للعالمية حينما شارك فى فيلم
Lawrence of Arabia «لورانس
العرب»، لكن حظوظ عمر الشريف كانت أفضل عالميًّا، وظل جميل راتب
طوال حقبتَى الستينيات والسبعينيات يمثل فى مسلسلات التليفزيون
الفرنسى، وبعض الأفلام التجارية الفرنسية الخفيفة، وهذه الأعمال
رغم كثرتها، فإنها مجهولة ونادرة، ويصعب الحصول عليها.
أحب جميل راتب الفن، وشغف به، وقَبِلَ ابن العائلة الأرستقراطية
تحدى حرمان أسرته من الدعم المالى حينما سافر إلى فرنسا لدراسة
الحقوق، ودرس التمثيل بدلًا منها، وعمل فى مهن متواضعة لإكمال
دراسته والإنفاق على نفسه، وعاد إلى السينما المصرية وعمره يقترب
من الخمسين، وكان وقتها يجسد شخصيات الرجل الناضج فى منتصف العمر،
التى تلائم سنه، ومن أعماله فى تلك المرحلة فيلما «الكداب» و«على
مَن نطلق الرصاص»، ثم بدأ يتوجه إلى التليفزيون الذى صنع نجوميته
وجماهيريته الكبرى لاحقًا.
تنوعت أدواره فى مرحلة أواخر السبعينيات وبدايات الثمانينيات، وغلب
عليها لون الشر، ولكنه شر الدهاء والمكر، بعيدًا عن شكل الشرير
الفتوة صاحب العضلات، وهى الصورة النمطية التى أخلصت إليها السينما
المصرية، فهو ضابط الموساد «آدمون» فى «الصعود إلى الهاوية»، وطارق
مظهر رئيس التحرير فى «لا عزاء للسيدات»، والثرى البخيل عبد الجواد
الغطريفى فى فيلم «شعبان تحت الصفر»، ورجل الأعمال الفاسد فى «الحب
فى الزنزانة»، وأفندينا فى «شفيقة ومتولى»، وجسد فى فيلم «الكيف»
دور سليم البهظ، تاجر المخدرات الذى يُفلسف أفكاره فى تجارة
المخدرات فى حواراته الغريبة مع دكتور الكيمياء «يحيى الفخرانى»،
وهو واحد من أفضل أدواره، وتوالت أعماله التى مثلت محطات مهمة فى
مسيرته الفنية، مثل دور رجل الأعمال «نبيه بيه» فى فيلم «البداية»،
نموذج الديكتاتور الرأسمالى، ولم يقدم بعدها فى السينما أدوارًا
لافتة بنفس قيمة تلك الأدوار.
كان جميل راتب، فى حقبة الثمانينيات وما بعدها، اكتشافًا
تليفزيونيًّا، وقدم تليفزيونيًّا نحو 45 مسلسلًا، من أبرزها دور
السفير مفيد أبو الغار فى مسلسل «الراية البيضا»، فى عمل من إبداع
الراحل أسامة أنور عكاشة، ويصور الصراع بين سطوة المال والجهل وبين
القيم الأصيلة من خلال رغبة «مَعلمة» ثرية فى شراء فيلا أثرية فى
الإسكندرية لهدمها وبناء برج سكنى مكانها، ودور جيوفانى ديلورينزى
فى مسلسل «زيزينيا»، وأيضًا أدواره فى الأعمال الكوميدية، مثل دور
الجد «أبو الفضل» فى مسلسل «يوميات ونيس»، و«لطفى بيه» فى «رحلة
المليون»، وكان آخر أدواره فى رمضان الماضى دور صديق السفير نادر
التركى «يحيى الفخرانى» فى مسلسل «بالحجم العائلى»، وظلت مشاركته
فى السينما الفرنسية والعربية مستمرة حتى آخر أيامه، فقبل أسابيع
من وفاته عُرض آخر فيلم أجنبى شارك فيه، وهو الفيلم المجرى «Hier»،
وله مشاركات عديدة فى السينما التونسية، منها «صيف حلق الوادى»
للمخرج فريد بوغدير، وفيلم «شيشخان» لمحمود بن محمود، و«كش ملك»
لرشيد فرشيو، وهو فيلم شارك بطولته مع شريهان، وهو فيلم تم إنتاجه
عام 1994، وتناول حكاية ديكتاتور عربى يلجأ إلى حصن فى بلد بعيد
بعد انقلاب ضده، وهناك يرى أنه بلا قيمة حقيقية دون سلطة أو نفوذ. |