كتبوا في السينما

 

 
 
 
 
 

ملفات خاصة

 
 
 

فون دونرسمارك المتسابق على الـ"أوسكار" لـ"النهار":

لو النازيون مثلما تصوّرهم السينما لدخل كلّ الألمان في المقاومة

هوفيك حبشيان

القاهرة السينمائي الدولي

الدورة الأربعون

   
 
 
 
 
 
 

المخرج الألماني فلوريان هنكل فون دونرسمارك "صام" 8 سنوات قبل ان يعود بـ"عمل بلا مؤلف". صاحب "حياة الآخرين" الذي نال عنه جائزة "أوسكار" أفضل فيلم أجنبي في العام 2007، كشف في مهرجان البندقية الأخير تفاصيل فيلمه هذا، ذي الـ188 دقيقة، الذي رُشِّح قبل أيام لجائزة "غولدن غلوب" ودخل السباق نصف النهائي على جائزة الـ"أوسكار" (كلتاهما في فئة أفضل فيلم أجنبي)

حكاية الفيلم تنحت في الزمن نحواً من ثلاثة عقود، من ١٩٣٧ إلى ١٩٦٦، لترتكز على شخصية كورت برنرت الخيالية (توم شيللينغ)، مذ كان طفلاً صغيراً تصطحبه خالته إلى معارض التشكيل الذي على كلّ نازي محترم ان ينبذه، وصولاً إلى اللحظة التي يتحوّل فيها فناناً مكرساً. شخصية برنرت مستوحاة من التشكيلي الألماني المعروف غرهارد ريختر (٨٦ عاماً حالياً). هذه السنوات الثلاثون التي سنعبرها بسلاسة، هي مختبر ألمانيا الحديثة التي انقسمت، فانتقل جزء منها من يد النازية إلى الشيوعية. النقطة المشتركة بين المراحل كافة؟ كورت الشاهد على كلّ الفظائع، هذا الذي سيحاول ان ينفد بريشه على رغم المآسي التي عرفها منذ نعومة أظفاره. النقطة المشتركة الثانية؟ شخصية البروفسور النازي مدير مشفى في درسدن كارل سيباند (سيباستيان كوش) الذي كان يرسل كلّ الذين يعانون عاهات إلى المعتقلات بأمر من القيادة النازية، وهو الذي أرسل خالة كورت إلى غرف الغاز، ثم عاد ليعيش حياةً طبيعية بعد انتهاء الحرب وانصهر في المجتمع. الفيلم سجاليٌّ في بعض جوانبه، وخصوصاً ان دونرسمارك يحاول ان يجد نقاطاً مشتركة بين النازية التي تروّج لفكرة الفنّ النظيف والصافي، والواقعية الاشتراكية والحداثة التي باتت "أي كلام"!

·        ¶ صحافية ألمانية هاجمتك أمس خلال المؤتمر الصحافي

- هناك "أصول" معينة تجيز الحديث عن التاريخ الألماني. يكاد يكون هناك قانون يقول لك ما يجب ان تفعل وما يجب ان تمتنع عنه. واذا لم تلتزمه، يمتعض الناس. هذه قيود سياسية لا تعنيني ولا أهتم بها. السيدة التي هاجمتني في المؤتمر الصحافي أعرفها جيداً، وتردد دائماً الكلام نفسه في شأني. لم تكتب عنّي كلمة إيجابية واحدة في حياتها. المطبوعة نفسها التي تنشر لها، لديها قائمة بالمواضيع التي تصلح مناقشتها في إطار الحديث عن تاريخ ألمانيا. كان هذا سبب عدم قبول فيلمي، "حياة الآخرين"، في مهرجان برلين. وددتُ فعلاً عرضه في برلين، ولكن قيل لي: "لا نريد هذه النظرة إلى ألمانيا". لحسن حظي ان الصحافة العالمية والجمهور العالمي أكثر انفتاحاً تجاه أفلامي. حتى الناس الذين شهدوا على الفترة التي أرويها في الفيلم هم أكثر انفتاحاً من الذين سمعوا عنها. أتمنى ان يذهب الناقد لمشاهدة الفيلم بروح منفتحة.

·        ¶ أنت غائبٌ منذ فترة. ما السبب؟

- (تنهيدة عميقة). أسأل نفسي (ضحك). هذا الفيلم تطلّب انجازه وقتاً طويلاً، أي نحو أربع سنوات. قبل ذلك، مررتُ بفترة صعبة جداً في حياتي. (بتردد) أسباب الغياب شخصية. مات صديقي الحبيب الذي مثّل في "حياة الآخرين"، وكان مقرّباً جداً منّي. كان هذا فصلاً مؤلماً في حياتي. كان موته تراجيدياً ومحزناً. ثم بعد عام، توفي والدي بطريقة غير متوقعة، فباشرتُ كتابة سيناريو قاتم جداً عن أشخاص يحاولون الانتحار. ولكن أمام هول ما كنت أعيشه، قررتُ ان أنجز فيلماً خفيفاً، فأنجزتُ "السائحة". لم تمر فترة طويلة قبل ان ينتحر أعزّ صديق لي، صديقي الوحيد، فلم أعد قادراً على تصوير السيناريو الذي كنت كتبته. مضت فترة قبل ان أقول لنفسي: "أوكي، هيّا نجد فيلماً يخوّلني العمل عليه ولا يخف اهتمامي في شأنه حتى النهاية". أسوأ مخاوفي دائماً ان أتورط في مشروع، وبعد سنة أشعر انه ما عاد يهمّني. تشعر بأن السيارة فرغت من الوقود وأنت على الأوتوستراد. يخيفني هذا الشيء جداً. عندما قررتُ العمل على هذا الفيلم، أدركتُ ان فيه ما يكفي كي أبقى متحمّساً له، مع العلم انني لم أكن لأتخيل انه سيتطلب أربع سنوات.

·        ¶ بعد مشاهدة الفيلم، ندرك مدى انشغالك بالسرد

- السرد مهم جداً. أُقارِب الحياة كسرد، لا شعورياً. لا أكفّ عن سرد قصص لنفسي، هكذا أعطي حياتي معنى. أستطيع ان أنجز فيلماً عن جلستي معك، وسيصبح فيلماً أرغب في مشاهدته. هي فقط مسألة صوغ ما نتحدّث عنه في إطار دراماتيكي معين، وأعتقد انه يمكنني ان أنجز فيلماً مشوّقاً من المادة المتوافرة عندي. صحيح ما تقوله: "عمل بلا مؤلف" فيلم سردي. من المؤسف اعتقاد البعض ان على صنف معين من المخرجين ان يظل ينجز صنفاً معيناً من الأفلام.

·        ¶ تحاول ان تفهم حتى الأشرار في هذا الفيلم، بعيداً من الادانة السهلة والمباشرة.

- لا أحب تقديم الأشرار في الأفلام باعتبارهم أشراراً، حدّ انه يمكن التقاط الفكرة بسرعة. أحياناً، لا ينقصهم الا قرنان على الرأس كي يصبحوا من الشياطين. لو كان النازيون على النحو الذي تقدمّه لنا السينماتان الأميركية والألمانية، كن أكيداً ان الألمان كلهم كانوا دخلوا في المقاومة. المشكلة ان العلاقة بين الناس والنازيين قائمة على الاغواء الخفيّ بدرجة أكبر ممّا يعتقده البعض. واذا كنت ممن يعتقد ان النازية اذا عادت ستبدو كنازية الأفلام، فهذا يعني انها ستعود. لأنها لن تبدو كما في بعض الأفلام. لذلك أردتُ الدخول في عقل النازي، حيث الكثير من الغموض. لا أستوعب مثلاً إلامَ يطمح البروفسور سيباند عندما يرغب في تأسيس فكرة "العرق السامي". هل يعتقد انه اذا مارس شخص ما ٢٠ "بوش – آبّ" وينجح في تغيير اطار سيارة ويذكر جملة لبوشكين، سيغدو أكثر سعادة؟ اذا تأسس بلد كامل على هؤلاء الناس المثاليين والجميلين، هل سيعم الفرح؟ لهذا السبب، أردتُ اقتحام عقله، كي لا أكتفي بقول انه شرير لأنه يعتنق عقيدة كهذه. كان هدفي ان أفهم. لذلك قرأنا الكثير من النصوص العقائدية التي أرجّح ان البروفسور كان قرأها. هذا ما أفعله دائماً. أردتُ ان أعرف كيف تحوّل إلى هذا الشخص. أعتقد ان الناس لا يولدون أشراراً. قرأتُ الكثير من نيتشه كذلك.

·        ¶ أكثر ما أعجبني في الفيلم تلك المواجهة بين العالم النموذجي الذي يتأسس على اليقين حيث يعيش البروفسور، وعالم الفنّ الذي كله شكّ بشكّ… البروفسور يعرف بالضبط ما يريده، أمّا الشاب ففي حال متواصلة من البحث ومراجعة الذات.

- الشكّ جزء لا يتجزأ من التعبير الفنّي، وخصوصاً عند الرعيل الذي نتحدّث عنه في الفيلم. هؤلاء رسموا علامة استفهام حول كلّ شيء. وهذا يأتي من حقيقة ان كلّاً من النازيين والشيوعيين لم يساورهم أي شك في خصوص أفكارهم. كانوا متأكدين جداً من الخطأ والصواب.

·        ¶ قضيّة غرف الغاز المخصصة للذين كانوا يشكون من خلل عقلي، بقيت في الظلّ طويلاً ولم تكن معروفة

- صحيح. هذه الغرف كانت في الجزء الشرقي للرايخ. أرادوها سريّة. ومع ذلك، انكشفت عندما توقف البرنامج. ذهبنا مع فريق كامل لإجراء بحوث في المكان الذي قُتل فيه هؤلاء الناس. أثناء التصوير، حضر مؤرخون كي يتأكدوا من دقّة المعلومات. هذا فصل مريع من الجرائم المرعبة التي ارتكبها النازيون. في الأخير، توقف برنامج اعدام المختلين عقلياً بعد تنديد الكنيسة الكاثوليكية بها. هناك كاردينال حرّض كلّ يوم أحد في عظاته ضد هذه الجرائم التي كانت مخالفة تماماً للقيم المسيحية، فاضطروا إلى ايقافها، الأمر الذي أغضب هتلر كثيراً.

·        ¶ صوَّرتَ النازية والشيوعية بطريقة متقاربة بعض الشيء. كأنك تريد القول انهما سيّان. خصوصاً في نقطة محدّدة، وهي ان كلتيهما تريدان فرض إيديولوجيتهما بالقوة.

- النازيون طوّروا فكرة واضحة جداً عن كيفية توظيفهم للفنّ. أرادوا من الفنّ أشياء محددة. مثلما قالوا أيضاً ما لا يريدونه من الفنّ. والمعرض الذي تراه في بداية الفيلم أقيم فعلاً. وقد شهد اقبالاً جماهيرياً ضخماً. كان الجمهور خليطاً من ناس يريدون إلقاء نظرة أخيرة على الفنّ الذي سيدمّره النازيون، وناس جاؤوا للاستهزاء من هذه الأعمال التي لا تتماشى مع رؤيتهم للفنّ. ألمانيا عاشت فترة صعبة جداً بين الحربين العالميتين، كانت في حال فقر شديد، أشياء مرعبة حدثت فيها، تصاعدت وتيرة الجرائم وانتشرت الدعارة، كثر كانوا يشحذون على الأرصفة. للمرة الأولى قرر الفنّانون ان يجسدوا هذه المعاناة في لوحاتهم، فاعتقد النازيون انه اذا رسموا هذه الأشياء فهذا يعني انهم يحبّذونها. والمعرض جاء نتيجة لهذا. جاء من رغبة النازيين في القول: "انظروا إلى الفرق؛ كنّا نرسم أميرات جميلات والآن نرسم عاهرات، أهذا ما تريدونه لهذا البلد؟ لم يفكّروا للحظة ان هذا الفنّ يعبّر عن ضياع ما. بالنسبة إليهم، لم يكن مفهوماً كيف ان امرأةً ألمانية تعمل في الدعارة. أو كيف أن جندياً يشحذ المال. كانوا يرددون: أهذا ما تريدونه؟ أرادوا فنّاً نبيلاً يظهر رجالاً بعضلات مفتولة ويكون مصدراً للقوة. أما المرأة فكان ينبغي تصويرها مستلقية في مكان ما. وعندما انهار هذا كله وتبوأ الشيوعيون السلطة، هم بدورهم منعوا الفنانين من رسم الأشياء السلبية. كان يجوز التغنّي بدييغو ريبيرا وبيكاسو في بداياته، ولكن امتنعوا من الذهاب بعيداً. من المضحك رؤيتهم وهم يكافحون من أجل تحديد ماهية الفنّ الذي كان مختلفاً جداً عن فنّ النازيين، ولكن كلاهما يلتقيان في مكان ما. الشيء الوحيد ربما الذي يُعتبر بمثابة عزاء في الفنّ الشيوعي ولم يكن موجوداً في الفنّ النازي، هو جودته التقنية. والآن بات الفنّ: شخص يرمي بعض الدهان على الأرض ويمشي عليه ويقول "هذا فنّ". هذا هراء!

·        ¶ انشغالك بالنازية ألا يعني خوفاً من العودة إلى تلك الحقبة؟

- اذا لم تدرس التاريخ بعمق فأنت محكوم بتكراره. عندما أرى قرارات بعض رجال السياسة، أقول لنفسي: "يا إلهي، هؤلاء لم يكلّفوا أنفسهم مطالعة التاريخ". لذلك، خطر ان نعود إلى النازية في أوروبا قائم. يجب ان يكون هناك امتحان في التاريخ يخوضه أي شخص يترشّح لمنصب قيادي. نعلم جميعاً ان اهانة شعوب وثقافات أخرى تؤدي إلى حروب وصراعات. نتيجتها حتمية. التاريخ يقول هذا بوضوح. يجب عدم اهانة الآخر. ابلع اعتزازك. حتى لو لم تكن تحبّ الآخر، الاحترام كافٍ. الديبلوماسية اختفت. لا أعتقد اننا ذاهبون إلى حروب، فنحن في حالة حرب أصلاً. ربما يجب اعطاء السياسيين لائحة بالأفلام التي ينبغي لهم مشاهدتها.

·        ¶ سبق ان نلتَ "أوسكاراً" عن فيلمك البديع، "حياة الآخرين". ماذا اذا ترشّحتَ لـ"أوسكار" جديدة (أُجريت المقابلة قبل الترشيح"؟

- (ضحك) الحكاية هي انني أحاول عدم التفكير بها. سُعدتُ جداً ان ألمانيا رشّحت هذا الفيلم للـ"أوسكار". ما يفكّره الآخرون عن الفيلم خارج كلّياً عن سيطرتي، لذلك أحاول ألا أشغل بالي به. اشغلتُ بالي كثيراً لتحقيقه. أنهيناه قبل أيام، فقلتُ لنفسي "أوكي". أعتقد أنني أنجزتُ العمل الذي كنت أريده. الآن، أنظر إلى الأمر بسلبية، كي أفاجأ اذا شيء إيجابي حلّ بي. ولكن عموماً، لا يُمكن ان تترك الجوائز تعبث بك. اذا كتبتَ مقالك بهدف نيل جائزة، حتماً سيكون مقالاً سيئاً (ضحك)

النهار اللبنانية في

21.12.2018

 
 
 
 
 

"ليلة الاثني عشر عاما": فيلم "الهرم الذهبي" في القاهرة السينمائي

أمير العمري

موضوع الفيلم مستمد من قصة حقيقية عاشها ثلاثة من مناضلي حركة التوباماروس اليسارية، وهو يروي أنشودة الصمود في وجه الدكتاتورية العسكرية.

"ليلة الاثني عشر عاما” هو الفيلم الفائز بالهرم الذهبي، أي الجائزة الكبرى لأفضل فيلم في المسابقة الرسمية لمهرجان القاهرة السينمائي الـ40، وهو أيضا الفيلم المرشح رسميا من قبل الأوروغواي لتمثيلها في مسابقة الأوسكار في فرع أفضل فيلم أجنبي.

لعل أكثر ما يلفت النظر في فيلم “ليلة الاثني عشر عاما” A twelve Year Night، وهو العمل الروائي الثالث لمخرجه ألفارو بريخنر (42 عاما) من أوروغواي، ويجعله أيضا عملا فريدا يكتسب كل هذه الجاذبية ويحظى بالتقدير، أسلوب مخرجه السينمائي، الذي يكسب موضوعه وهو ليس جديدا تماما، جاذبية وتأثيرا خاصا.

والمقصود بالأسلوب السينمائي: سياق السرد، أي طريقة بناء السيناريو، وأسلوب الإخراج (استخدام عناصر السينما الأساسية: التصوير والمونتاج والموسيقى والديكور.. وغيرها) للتعبير عن الأفكار الأساسية في الموضوع: فكرة قهر العزيمة الإنسانية وكسر الإرادة ودفع الأسير أو السجين إلى الجنون، والتعامل معه في محبسه وكأنه قد أصبح فأر تجارب.

نحن لن نقتلكم لكننا سندفعكم إلى الجنون.. من الآن فصاعدا، أنتم لم تعودوا سجناء، بل أسرى نفعل بكم ما نشاء”، هذا ما يقوله الضابط المسؤول عن اعتقال الأبطال الثلاثة – الذين لم يعودوا أبطالا – بهدف إذلالهم ووضعهم تحت أقسى ما يمكن تخيله من ظروف التعذيب والقهر، وتذكيرهم الدائم بأنهم “خسروا الحرب” التي خاضوها ضد النظام الدكتاتوري.

عن الموضوع

كان يمكن أن يتحول موضوع القهر والاعتقال السياسي بين يدي مخرج آخر إلى فيلم عن الحياة داخل السجن، وكيف يتعامل “قطيع” السجناء مع الحراس ومع بعضهم البعض وما يتعرضون له من تعذيب مباشر، أما هنا فقد شاء مخرجه ومؤلفه أن يتعامل مع الموضوع من زاوية أخرى، فوضع العقل أمام القوة، والعزيمة أمام القهر، والداخل العميق الذي لا يمكن لأي قوة في الأرض اختراقه، أي داخل الإنسان وما يحتويه من أفكار وأحلام ورغبات وأماني، أمام رغبة همجية في كسر الإنسان وتحويله إلى حيوان فاقد للذاكرة والتاريخ، حتى يصبح تفكيره بالكامل، منصبا على الحاضر الشاق المعذب الممتد الذي يقولون له إنه سيكون أيضا هو المستقبل، أي من دون أدنى أمل في النجاة.

كيف يمكن للإنسان أن يقهر مصيره الذي فرضه عليه عدوه؟ كيف يمكن للماضي، وللتاريخ الشخصي أن يدعم الحاضر ويدفع صاحبه إلى الصمود والتمسك بالأمل مهما كان ضئيلا، إلى حين أن ينبلج النهار؟

وسط هذه الأفكار كان لا بد أن يصبح مسار السرد في الفيلم متعرجا، متشعبا، متدفقا، ينتقل بين الماضي والحاضر، من خلال نسيج شعري يربط بين الوعي والخيال، وبين الحلم والرغبة، وبين الخروج بالذهن والبصيرة والروح خارج جدران الزنازين الضيقة الصلدة الجامدة، إلى العالم الفسيح باللجوء إلى الخيال، أقصى الخيال، ومن دون أن يفقد المرء علاقته بتاريخه الشخصي: أسرته ونضاله ورفاقه.

الموضوع مستمد من القصة الحقيقية أو بالأحرى من تجربة السجن التي عاشها ثلاثة من مناضلي حركة التوباماروس اليسارية التي انغمست في السبعينات في حرب عصابات ضد الحكومة العسكرية في أوروغواي، بعد أن شن النظام الذي أقام دكتاتورية عسكرية استمرت من 1973 إلى 1985، حملات عنيفة لتصفية عناصر التوباماروس، بالقتل مع الاحتفاظ بعدد صغير للغاية من السجناء لا يزيد عن تسعة أشخاص، يروي الفيلم قصة ثلاثة منهم، ولكن ليس مهما أن يحفظ المشاهد العربي أسماء الشبان الثلاثة، فهي قد لا تعني شيئا، لكن المؤكد أن شخصيات الشبان الثلاثة في تباينها وملامحها المحددة، ستبقى في ذاكرة من يشاهد الفيلم.

يوضع الشبان الثلاثة في زنازين فردية مصمتة الجدران، يحجبون عنهم الضوء ويحظرون عليهم الحديث، يلقون إليهم بأقل القليل من الطعام، يحرمونهم من النوم، يواصلون نقلهم باستمرار من معتقل إلى آخر، ويقال إنهم انتقلوا بين 40 معتقلا خلال الاثني عشر عاما التي قضوها في الحبس، حيث تعرضوا للتعذيب والإهانة والتنكيل والإذلال، فقط بغرض جعلهم نماذج لقدرة الإنسان المتحكم، على تدمير الإنسان المختلف.

إرهاب ثوري

ليس من الممكن اعتبار هذا الفيلم أحد الأفلام السياسية، رغم الخلفية السياسية التي تلقي بثقلها على موضوعه، أي أنه ليس من أفلام الهجاء السياسي كما أنه لا يقسم البشر طبقا لمواقفهم السياسية، فلا شك أن الشباب الثلاثة كما يصور الفيلم بوضوح، قد مارسوا العنف أو ما كان يُطلق عليه – يساريا في أميركا اللاتينية – “الإرهاب الثوري”، كما أن أحدهم وهو خوزيه موخيكا (أو بيبيه)، يقر ويعترف بما ارتكبه، ويعترف بأنه قد أخطأ وقد دفع ثمن خطأه وكفى، إلاّ أن الانتماء السياسي ليس هو الأساس في سياق الفيلم، بل تلك القسوة والرغبة في تدمير الإنسان من جهة، أمام التشبث بالصمود في وجه آلة التدمير القاسية الشرسة من جهة أخرى.

إنهم يحظرون عليهم تبادل الحديث مع بعضهم البعض عبر الجدران، لكن الشباب الثلاثة يبتكرون وسيلة للتواصل من خلال النقر على الجدران بحيث ينجحون في خلق “لغة” جديدة أو شيفرة للتخاطب ليس بوسع الحراس إدراكها.

يحرمونهم من رؤية ذويهم، فيلجؤون إلى الخيال: يتحدثون إلى أحبائهم وأبنائهم وزوجاتهم وآبائهم ويستمعون إلى أصواتهم، ويرون صورهم ويقضون معهم أوقاتا سعيدة خارج الجدران.. في الخيال، فقد أصبح الخيال بديلا عن الواقع، وهنا يصبح الانتقال في الصور من خلال المونتاج، إما على شكل شذرات ونثرات سريعة تعبر الذهن سريعا، وإما على شكل مشاهد كاملة أكثر وضوحا وتفصيلا واكتمالا لمشاهد الاستجواب والتعذيب والمطاردة والترقب والاستهداف المتعمد بالقتل لأعضاء التوباماروس، هذه اللقطات التي تتداعى من الذاكرة وفي الخيال، تخلق صورا مخيفة تصل أحيانا إلى السريالية.

فيلم "ليلة الاثني عشر عاما" مرشح رسميا من قبل الأوروغواي لتمثيلها في مسابقة الأوسكار في فرع أفضل فيلم أجنبي

وفي أحد المشاهد تهاجم قوة عسكرية مسلحة منزلا يختبئ فيه قادة الجماعة، تخرج امرأة.. صاحبة المنزل على ما يبدو، تفاجأ بوجود قوة ضخمة تصوب بنادقها تجاه المنزل، ونحو الطابق العلوي السري الذي يعلو غرفة الحمام حيث يختبئ اثنان من النشطاء.

تتطلع المرأة مشدوهة، لقد أدركت المذبحة التي توشك على الوقوع، وفجأة ينهال الرصاص يزق جسدها دون سابق إنذار، ودون أن تكون قد فعلت شيئا، ويستمر إطلاق الرصاص بشكل عشوائي.. وتخترق الرصاصات واجهة المنزل، وفي الداخل يفقد أحد النشطاء حياته ثم زميل آخر له دون أي رغبة من جانب الضابط الكولونيل إيرماندو أكوستا في القبض عليهما فقد جاء ليقتل.

وفي المخزن السري أعلى المنزل يقبض بيبيه على بندقيته، إنه يستطيع إطلاق الرصاص على الجنود، لكنه يدرك أن المعركة ستكون غير متكافئة وأن نتيجتها محسومة سلفا، لقد أصيب في القصف العشوائي، ذراعه تنزف الدم بغزارة، وجندي يدخل إلى الحمام ليغتسل، تتساقط قطرات الدماء من ذراع صاحبنا المصاب، تخترق أرضية المخبأ الهشة.. يسقط الدم على يد الجندي، يتطلع إلى أعلى، يدفع ببندقيته قطاعا متحركا من السقف الهش، يكتشف وجود الرجلين، يذهب ويحضر قائده، يصرخ بيبيه طلبا للاستسلام.

وفي اللحظة التي يكاد يفقد حياته بعد أن يستعد القائد لإطلاق النار يظهر وكيل النائب العام الذي يوقف القتل ويأمر بالقبض على الرجلين، “كان يوما لا يمكن لأحدنا أن ينساه”، هذا ما يقوله بيبيه للضابط في ما بعد قبل أن يستعيد في ذاكرته المشهد الذي وقع فيما يعتبر أكثر الأيام دموية، في الرابع عشر من أبريل 1972، كان ذلك يوم إعلان النهاية بالنسبة لحركة التمرد.

تفتيت الحدث

ما الذي دفع السلطة العسكرية إلى الإبقاء على حياة سبعة من الثوار بينهم أبطالنا الثلاثة (أو تسعة أشخاص حسب المعلومات الموثقة المنشورة عما وقع في ذلك اليوم)؟ لقد أرادوا في ما يبدو، أن يجعلوا منهم عبرة لغيرهم، وقد تم تسخير النيابة العسكرية والقضاء، بل وحتى الصليب الأحمر للرضوخ لتعليمات الحكم العسكري، فرفضوا مجرد الاستماع للسجناء. لكن السجناء يصرخون في الخيال بما تعرضوا له، وهو أسلوب تفتيت الحدث ونقله إلى مستوى آخر بالصورة والصوت، في ابتكار فني مشوق ومقنع ويثري الفيلم كبناء ويوصل المعنى دون انتهاج أسلوب الحكي المباشر الذي أصبح آفة الفيلم السياسي أو “فيلم الرسالة”.

يأتي حراس السجن فجأة، يضعون مكاتب ورفوف كتب وطعام وأدوات حديثة داخل الزنازين ويقودون السجناء الثلاثة بعد تغطية رؤوسهم كالعادة بقلنسوات تحجب الرؤية تماما، لمقابلة ممثلي الصليب الأحمر، مع تهديد بالعقاب الصارم إذا نطقوا بما لا تحمد عقباه.

وفي مشهد لا ينسى يقف بيبيه أمام المحققين، يصرخ بالحقيقة، لكنه يتخيل فقط في مشهد آخر متخيل، وبعد أن تنتهي زيارة أمه له ويستولي الجنود على الطعام الذي أتت به معها، يصرخ من شباك الزنزانة في الجمع العسكري المحتشد في الميدان خارج أسوار المعتقل يحتفل بذكرى مرور 168 عاما على تحرير البلاد من الاستعمار الإسباني، يصرخ ويكرر الصراخ ويهدد بفضح خيانة الضابط لزوجته ويحذر زملاءه من إصابة الضابط بمرض الزهري.. إنه يريد شيئا واحدا فقط: استعادة الطعام اللذيذ الذي يحبه والذي أتت به والدته واستولى عليه الجنود وأخذوا يلتهمونه أمام عينيه!

كيف عرف أن الضابط يخون زوجته، لا بد أنه يتنصت من وراء الجدران، لا بد أن داخل دماغه جهازا غامضا للتسجيل، هذا ما يعتقده الضابط فيأمر بتفتيشه فينكلون به ثم ينقلونه لفحصه والعثور على ما يوجد داخل رأسه، لكننا ننتقل من الخيال السريالي إلى الواقع، فنشاهده وهو يشكو للطبيبة النفسية من الصداع ومن سماع صوت صفير مستمر داخل رأسه، تهمس له الطبيبة التي تتعاطف معه: إنهم يريدون دفعك إلى الجنون، لا أحد سيأخذ منك ما تخبئه في رأسك، عليك أن تتمسك بأي شيء تحبه لكي تنجو.

قهر المحنة

تتعاقب السنون.. تظهر التواريخ على الشاشة، مصحوبة بعدد الأيام التي مرت على اعتقال الشباب الثلاثة، لكن الضباط في السجن يصبحون سجناء بدورهم، أسرى لضعفهم وقلة حيلتهم وتخاذلهم.. عاجزين عن إقامة علاقات سوية في الخارج.

ويلجأ أحدهم إلى “روسينكوف” الكاتب والشاعر السجين لكي يكتب له خطابات للمرأة التي يحبها ويرغب فيها، لكنه لا يستطيع أن يصارحه.. إنه يعلمه التعبير عن المشاعر بالكلمات، ومقابل ذلك يتمكن من الحصول على بعض المزايا الخاصة جدا: أوراق وقلم.

لدينا إذن الكاتب الموهوب الذي سيخرج مع زميليه بعد أن تنتصر الديمقراطية في 1985، لكي يصبح كاتبا وشاعرا وروائيا مرموقا، ولدينا الشاب الذي كان لاعبا شهيرا للكرة، وأصبح بعد خروجه عضوا في البرلمان ثم وزيرا للدفاع، ولدينا بيبيه أو خوزيه موخيكا، الذي سيصبح رئيسا للجمهورية في 2010، وكلها معلومات تظهر على الشاشة في نهاية الفيلم، لا تضيف كثيرا سوى أنها تؤكد للمشاهد أن أبطالنا الثلاثة استطاعوا قهر محنتهم الطويلة.

والفيلم مزيج من الواقعية الرومانسية، مع لمسات تأثيرية تصطبغ أحيانا بالسريالية، وجميع عناصر الفيلم متوازنة: اختيار أماكن التصوير ومعظمها سجون ومعتقلات حقيقية، الكاميرا التي تتخذ وجهات نظر شخصية للتطلع من خلال عيون السجناء الثلاثة، تهتز حينا للتعبير عما يشعرون به من اضطراب وتشوش، أو تتحرك في نعومة ورقة مع تدفق الذكريات التي تحتل فيها الأسرة والأبناء والحبيبة والزوجة موقعا أساسيا.

تنتقل الكاميرا من اللقطات القريبة للأجساد والوجوه: حدقات العيون، ارتعاشات الأيدي، ضمور الأجساد.. إلى اللقطات البعيدة الناعمة مع الموسيقى التي تأتي تارة من المذياع أو من الذاكرة والخيال على مشاهد متخيلة وسط الطبيعة، بينما ضوء شمس يسطع، وحقول خضراء يتمرغ فوق ترابها الناعم أبطالنا، ثم إلى تلك الأغنية البديعة قرب النهاية مع الخروج إلى الحرية.

يقول المخرج إن فيلمه ليس عن المعتقل، بل عن “معجزة أن تكون إنسانا”، وقد نجح في التعبير عن هذا بأكثر العناصر بلاغة.

المخرج ألفارو بريخنر يقول إن فيلمه "ليلة الاثني عشر عاما" ليس عن المعتقل، بل عن"معجزة أن تكون إنسانا"، وقد نجح في التعبير عن هذا بأكثر العناصر بلاغة

 كاتب وناقد سينمائي مصري

العرب اللندنية في

21.12.2018

 
 
 
 
 

بيتر غرينواي لـ"النهار": السينما إلى زوال

هوفيك حبشيان

حلّ المخرج والمنظّر البريطاني بيتر غرينواي ضيفاً على مهرجان القاهرة السينمائي الأخير في دورته الأربعين، أواخر الشهر الماضي. خُصِّص له تكريم عن مجمل أعماله. نُظِّمت كذلك محاضرة ليلقي فيها خطابه الشهير عن موت السينما في عنوان "ماتت السينما، عاشت السينما". مجيء صاحب "الطبّاخ، اللصّ، زوجته وعشيقها| إلى القاهرة يُعَدّ حدثاً في ذاته، الا انه لم ينل إهتمام الصحافة المصرية المنشغلة بتقييم فساتين الممثّلات. المحاضرة التي قدّمها غرينواي كانت تهدف إلى إثارة الجدل، لكن الجدل بقي في حدود السجّادة الحمراء.

المخرج البالغ من العمر ستة وسبعين عاماً جلستُ قبالته في أحد صالونات فندق "سميراميس" يتلو نغمته المفضّلة: موت السينما، زوالها، تفتيتها، اغتيالها على أيدي السينمائيين أنفسهم. كان غرينواي يحرص على التكلّم بصوت مسرحي تفخيمي محرّكاً يديه في كلّ الاتجاهات، كأنه يقرأ نصّاً مكتوباً بعناية بالغة، حدّ انني ندمتُ انني لم أسجّل المقابلة صوتاً وصورة. تحدّثنا قليلاً عن أي شيء وعن كلّ شيء، بدايةً من فيلمه الأخير، "أيزنشتاين في غواناخواتو" الذي عُرض قبل نحو أربعة أعوام في برلين. بدا مستجيباً، مستعداً للمضي إلى أي مكان يجرّنا اليه الحديث المرتجل. بعدما أبديتُ اعجابي برؤيته لأيزنشتاين، همس لي، ناسياً أو متناسياً ان أي سرّ سيكشفه سيُنشر بالأسود على الأبيض: "هل تعلم انه تم نصحي بأن أتجنب زيارة روسيا لبضع سنوات بعدما أنجزتُ هذا الفيلم؟". تظاهرتُ بأنني أسمع المعلومة للمرة الأولى. أتذكّر انني قرأتُ شيئاً شبيهاً لهذا الكلام في مقابلة معه. أيّاً يكن، فأن ينجز غرينواي فيلماً عن أيزنشتاين، ضربٌ من الجنون. الجنون الذي لا يغيب عن أفلام صاحب "جريمة في حديقة إنكليزية". يمكن اعتباره تحية من ثائر بريطاني إلى اسطورة روسية كانت خلف وضع بعض من قوانين السينما، وخصوصاً في المونتاج.

طبعاً، السلطات الروسية عبّرت يومها عن امتعاضها من السيناريو الذي وضعه غرينواي، وخصوصاً الشقّ المتعلّق بعملية تصوير "البارجة بوتمكين"، فيلم أيزنشتاين الأعظم. صحيح انه لم يُسَجَّل أي اعتراض رسمي على مثلية أيزنشتاين الجنسية التي يصوّرها غرينواي، الا انني كنت مصرّاً على اخباره بأن صديقاً لي هالته مقاربته للمخرج الروسي ونحن خارجان من عرضه البرليني. "لفترة طويلة، كان الجميع يعلم عن مثلية تشايكوفسكي، ومع ذلك لا أحد كان يتحدث في الموضوع، علماً ان هناك خلافاً في هذا الشأن. سان بطرسبورغ هي على الأرجح عاصمة المثلية في أوروبا. على رغم غضب الروس، ففيلمي عُرض في روسيا، بفضل ميخالكوف ومهرجان موسكو السينمائي. كنت متحمّساً للممثّل (ستيليو سافانته) الذي اضطلع بالدور، أظنّه كان بارعاً. حدّ انني فكّرتُ لاحقاً في إنجاز ثلاثية عن أيزنشتاين. الجزء الثاني كان عن أول مهرجان سينمائي في العالم، أقيم وقتها في جنيف. جاء أيزنشتاين وهيمن عليه بخطابه الاعتيادي عمّا اذا كانت السينما فنّاً أو ترفيهاً؛ السؤال الذي لا نزال نجهل الردّ عليه. ستالين كان يريده ان يتعلّم السينما الناطقة، لذلك تم ارساله إلى هوليوود في العام ١٩٢٩ برفقة مصوّره. "بارجة بوتمكين" كان عنيفاً للحساسية الأميركية ومستفزاً سياسياً. الشيوعي تشارلي شابلن دعاه إلى هوليوود لينجز فيها فيلماً. فشل المشروع، لأن هوليوود لا تفهم المثقّفين. كثر من عظماء أوروبا ذهبوا إلى هناك وسقطوا".

"هل كنتَ سينيفيلياً منذ الطفولة؟"، أسأله وأنا أعلم ان الفنّ التشكيلي سبق السينما إلى قلبه، فعاد إلى "حبّه الأول" أخيراً واستقر في أمستردام. "لا، كنت أنوي ان أكون رسّاماً. بدأتُ حياتي المهنية في الرسم. صحافي إيطالي سألني قبل فترة لماذا يا سيد غرينواي بدأتَ حياتك كرسام ثم اتجهتَ إلى الإخراج؟ فقلتُ له لطالما خيّب الرسم ظنّي لعدم وجود موسيقى تصويرية فيه. ماذا كان في امكاني ان أفعل من دون موسيقى؟ حبّ السينما عندي مصدره الرسم. في عائلتي، لا خلفية سينمائية. كنت مهتماً بالتاريخ الطبيعي. الإنكليز مهووسون بالتاريخ الطبيعي؛ نظرية التطور، تشارلز داروين، الخ. في طفولتي، كان يقلقني تغير الأشياء باستمرار: كأن يتحوّل الصيف إلى شتاء وتتساقط أوراق الشجر. أردتُ إصلاح هذا. كنت في الثالثة عشرة، كنت يافعاً وساذجاً. فكّرتُ ان الطريقة المثلى لإصلاح الأشياء كانت عبر رسمها. في الخامسة عشرة، قررتُ الانتساب إلى معهد الفنون كي أتعلم الأشياء على أصولها. والدي اعتبرها فكرة سمجة وطردني من البيت. أنا كنت مصمّماً على الدراسة في معهد الفنون في لندن. أحدّثك عن بداية الستينات. أي غداة الحرب العالمية الثانية. كنّا أول جيل ما بعد الحرب يحاول البحث عن فردية مختلفة عن فردية أهلنا. كنّا نملك القليل من المال، وكان زمن تألق الصناعة الموسيقية، من البيتلز إلى الرولينغ ستونز. وسط هذا كله، اكتشفتُ السينما في اطار الدراسة".

فور ابتعادنا عن المسار الشخصي للحوار، يغتنم غرينواي الفرصة للعودة إلى شأنه المفضّل: مأساة السينما الحالية. يخبرني كم تخلّت الشاشة عن الهدف التي وُلدت من أجله، أي الكتابة بالصور. في رأيه ان النصّ المكتوب في السينما احتل مكاناً كبيراً. "عرفنا الشعر الملحمي منذ هوميروس لثلاثة آلاف عام، والرواية لـ٤٠٠ عام، ثم المسرح الذي عبّر عن أفكاره بالصورة لا بالكلام. لكن السينما خيّبت ظنّنا لأنها لم تستثمر بشكل كاف حاستنا الأهم وهي النظر. اليوم، السينما باتت حكايات قبل النوم للكبار. مارتن سكورسيزي وهو ربما أعظم مخرج أميركي حيّ، لا يزال ينجز أفلامه بطريقة لا تختلف عن طريقة غريفيث. هذا دليل ان السينما لم تتطوّر على رغم تطورها التقني. انظر ماذا حدث بالأدب والرسم والموسيقى منذ ١٨٩٥، تاريخ اختراع السينما. هذه الفنون شهدت تغييرات جذرية. تطوّر اللغة السينمائية كان بطيئاً عبر التاريخ، بسبب ارتباطها بالمال. من دون ان ننسى ان الإنسان كائن محافظ في طبيعته ومحصّن ضد التغييرات الكبيرة. والأشياء المرتبطة بالمال تغييرها أبطأ. لا يمكن مقارنة تطوّر السينما بتطوّر الانطباعية في الرسم أو ما بعد الانطباعية التي كانت تياراً راديكالياً. الفنّ التشكيلي تاريخه مديد. اذا عدتَ إلى الرسوم في المغارات فهذه عمرها ٤٥ ألف عام. السينما لم تُخترع الا في عام ١٨٩٥ والآن ماتت. ستختفي قريباً!".

فجأةً، ينظر إليَّ منبّهاً ومحذّراً: "ستصبح عاطلاً عن العمل. عليك ان تجد مهنة جديدة قريباً". لوهلة اعتقدتُ انه لا يرى فيّ أي كفاءة صحافية تجعلني أستحق محاورته، الا انني فهمتُ بعد لحظات ان السينما إلى زوال، تالياً النقّاد أيضاً إلى زوال. "معظم الأفلام تشاهدها على هذا الشيء الذي في جيبك. تشاهدها وحدك، لا تتشاركها مع أحد. تشاهد فيلماً وأنت مستلقٍ في الفراش. ما هذا؟ هذه ليست سينما. هل تشاهد الأفلام الصامتة؟ هل تشاهدها للترفيه أم للاطلاع عليها كأرشيف؟ تخيل تاريخا مديدا من السينما امتد بين ١٨٩٥ و١٩٢٩، ما عاد يشاهده أحد. أين راحت هذه السينما؟ ما عادت تهمّ الا بعض الأكاديميين في اطار بحوثهم للاطلاع على حياة البشر في بدايات القرن العشرين. لم تعد تُعتبر ترفيهاً. التجمّع في مكان مظلم حيث الشاشة أكبر من البشر كلهم لتتشارك واياهم لحظات بهجة، هذه الظاهرة إلى زوال، وهذا مؤسف. السينما في الماضي، أيام أجدادنا، كانت حدثاً شعبياً. عندي احساس بأنه سيحلّ بالسينما الناطقة ما حلّ بالسينما الصامتة. ابن حفيدي سيسأل: سينما؟ ما هذه؟ غودار قالها قبل ٢٥ سنة. حتى الأحمق تارانتينو قالها قبل أربع سنوات. حتى السينمائيون الأميركيون الذين ينجزون أفلاماً تجارية باتوا يعترفون بهذه الحقيقة. أنا قلتها قبل زمن طويل. أهم ما حصل في السينما هو الثورة الرقمية. وهنا أتحدّث كمونتير. تعقيد المونتاج العظيم الذي توفّره الرقمية حالياً، مذهل. لا يمكن مقارنته بالماضي. أما تارانتينو، وهو الـ"ماتشو" الذي نعرفه، فيؤمن بسينما تصنعها كاميرات ضخمة مع فريق كبير من حوله. ولكن أنت تعلم أليس كذلك انه يمكنك ان تنجز فيلماً جيداً بهاتفك المحمول؟ لا نحتاج إلى كلّ هذا الـ"سنوبيزم" الهوليوودي. هذه نوستالجيا. ولكن دعنا لا نمتعض. فالتكنولوجيا المقبلة ستفتح الكثير من الأبواب. لا بد ان يولد شيء جديد".

يعمل غرينواي حالياً على مشاريع سينمائية عدة في وقت واحد. لديه في جعبته ثمانية سيناريوات. بعد قرابة نصف قرن من العمل في السينما اكتسب خلالها شهرة دولية، لا يزال يعاني صعوبة في إيجاد المال لأفلامه. "حالياً، أناضل للحصول على تمويل لفيلمي المقبل عن النحّات الروماني برانكوزي الذي أحدث ثورة في عالم الفنّ خلال القرن العشرين. واجهتُ منتجين عدة يفتقرون إلى النزاهة. في العام ١٩٠٤، مشى الرجل من بوادبست إلى باريس. كان في حالٍ من الفقر المدقع. لم يستطع حتى شراء بطاقة قطار". 

النهار اللبنانية في

22.12.2018

 
 
 
 
 

سعيد مثل لازارو”.. نموذج معاصر للواقعية السحرية

مازن فوزي

إذا كانت الواقعية تعنى بتصوير سلوكيات وعلاقات البشر كما هي عليه في العالم المادي بحيث تكون كانعكاس للحياة الحقيقية والسريالية تعنى بالتعبير عن العقل الباطن واللاوعي، بحيث تستكشف الترابطات مع الخيال وليس مع الواقع المادي بشكل أقرب للأحلام، فإن الواقعية السحرية هي مزيج ما بين الاثنين، فصحيح إنها تستخدم عنصر الخيال في عرض محتواها لكنها لا تعنى بذلك التأمل واستكشاف العقل الباطن بل بالتعبير عن العالم المادي من خلال الإسقاط على المجتمع والطبيعة فتعرض الخيال كحقيقة مسلم بها.

عندما عرض الفيلم الإيطاليسعيد مثل لازارو قوبل بآراء تنقد بنائه الدرامي الذي قسم الفيلم لجزئيين مختلفين تماماً:

ففي الساعة الأولى نتعرف على قرية “انفيولاتا”، مزرعة التبغ التي تمتلكها الماركيزة “دي لونا” سيدة قامت باستعباد أهل القرية وجعلتهم يعملون لديها طوال عمرهم وذلك عن طريق عزلهم عن العالم الخارجي وإخفاء كل معالم التمدن حتى لا يدركوا حقوقهم، يتابع الفيلم واحد من العمال في القرية، “لازارو” الفتى الطيب الذى تتسم ملامحه بالبراءة وكذلك تصرفاته فهو يقبل أن ينفذ كل الأوامر والتعليمات التي يتلقاها مهما بدت غريبة لكنه ليس غبى بل نقى وهو الوحيد الذى ينشئ علاقة صداقة مع “تنكرادى” ابن الماركيزة وهى علاقة وإن كانت علاقة إخوة من طرق لازارو فهي لا تخلو من الاستغلال من طرف ابن الماركيزة.

حتى هذه اللحظة كل شيء طبيعي، حكاية كلاسيكية يتم التعبير عنها بواقعية لكن كل ذلك يتغير في الساعة الثانية، عندما يتعرض لازارو لحادث، يغفو على أثره وعندما يستيقظ يكتشف أن القرية صارت مهجورة وبعد أن يقابل أفراد من قريته يكتشف أنه قد مضى سنوات على اختفائه فتبدأ رحلته في التأقلم مع الوضع الجديد وفي البحث عن “تانكرادى”.

الآراء التي هاجمت بناء الفيلم استندت في هجومها على أسس البناء التقليدي للسيناريو، حيث أن صانعة الفيلم أليس رورفاكر عرضت ساعة تأسيسية اتسمت بواقعية التناول وبعد ذلك اعتمدت على حدث خارق للطبيعة في تطور الأحداث وهو موت الشخصية ثم بعثها من جديد فهي بذلك خانت الاتفاق الضمني الذي عقدته بينها وبين المشاهد في بداية الفيلم. كما أن شخصية لازارو لا تتطور فهو شخص برئ ونقى منذ بداية الفيلم حتى آخره، لا يحدث في شخصيته أي تحولات أو تطورات.

البشر بهائم، حيوانات. اجعلهم أحراراً وسيدركون أنهم عبيد. الآن هم يعانون لكنهم لا يدركون ذلك. انظر إلى ذلك الشاب المسكين، أنا أستغلهم وهم يستغلونه، إنها حلقة مفرغة لا تنتهي

لكن ربما هو لا يستغل أحد

هذا مستحيل

هذا جزء من حوار دار بين الماركيزة وابنها في الفيلم، هذه هي رؤية مخرجة الفيلم للبشر، الجميع يستغل الجميع، هذه رؤيتها وهذا هو العالم الذي خلقته، هي إذا لم تخن العهد بينها وبين المشاهد فموت لازارو ثم بعثه ليس أول حدث خارق للطبيعة في الفيلم بل وجود لازارو نفسه هو حدث خارق للطبيعة ففي هذا العالم يستحيل وجود مثل هذا الشخص النقي.

يستعير الفيلم الكثير من التراث الديني والأساطير الشعبية: فبداية اسم القرية “أنفيولاتا” معناه البكر أو الذي لم يمس من قبل دلالة على عزلة تلك القرية عن بقية العالم، ابن الماريكزة “تانكرادى” اسمه مشتق من “تنكراد” أحد قادة الحملة الصليبية الأولى، “لازارو” نفسه اسمه مشتق من القديس “لعزار” أو “لازاروس” الذي لم تكتفى رورفاكر باستعارة اسمه بل كان مصدر إلهام لشخصية لازارو وأحداث الفيلم نفسها فالقديس لازاروس ارتبط اسمه بآخر المعجزات التي قام بها المسيح وهي إعادة بعث “لازاروس” بعد موته بأربعة أيام حتى أن الاسم نفسه صار يستخدم في المصطلحات العلمية والثقافة الشعبية ليشير إلى أي شيء يعود للحياة مجددا.

هناك أيضاً ذكر لاسم “لازاروس” في التعاليم المسيحية لكنه ليس لنفس الشخص بل هو جزء من أمثال يسوع وهي عبارة عن مجموعة قصص قصيرة عمومًا ومختلفة الطول ضربها يسوع تعتمد على البساطة والكثير من التشبيهات والصور لتوضيح غاية معينة بحيث تساعد الحبكة القصصية أو خلاصة نهاية المثل في فهم الحقائق الروحية. والمثل المقصود اسمه “الرجل الغنى ولازاروس” ويحكى عن علاقة رجل غنى لا يذكر اسمه وبين شحاذ فقير يدعى لازاروس، هذه العلاقة استمرت في حياتهم وبعد موتهم، فلازاروس كان شحاذًا فقيرًا يعيش على باب الغني، لا يجد ما يأكله وعندما مات كلاهما. كان الرجل الغني في النار فنظر إلى أعلى فوجد الأب إبراهيم وبجواره لازاروس فطلب من إبراهيم أن يرسل لازاروس ليطرى لسانه بالماء لأنه في عذاب في هذه النار لكن إبراهيم يخبره أنه حصل على الخيرات في حياته بينما لازاروس حصل على البلايا لكنه الآن يعزى والغني يعذب.

يمكن بسهولة الربط بين المثل وأحداث الفيلم فالوعظ من المثل يكمن في أنانية الغني وإغفاله مساعدة الشحاذ وإن كانت أحداث الفيلم تبرز الأغنياء المتمثلين في الماركيزة بشكل أقصى، فالشر لا يكمن في غنائها لكن في استغلالها لأهل القرية. لكن رورفاكر لا تقدم فقط نقد لفروق الطبقات الاجتماعية لكنها تنتقد هجرة القرى للمدينة وتضحية سكان القرى بما لديهم ليحصلوا على الأقل منه. شخصية لازارو تمثل البراءة الشديدة إلى درجة عدم القدرة على التمييز بين الحقيقة والكذب فعندما تقول زوجة “تنكرادى” أن السبب فيما حصل لهم هو البنك، يذهب إلى البنك ليرجع أموالهم إليهم وهناك ينقض عليه الناس في مشهد مؤلم وقاسى. فرورفاكر تقول “إن الفيلم لا يطلب مننا أن نكون مثل لازارو بل أن نكون قادرين على ملاحظة منهم مثل لازارو، الفيلم ليس عن رؤية لازارو للعالم بل عن رؤية العالم له”.

موقع "إعلام.أورغ" في

20.12.2018

 
 
 
 
 
 
 

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك
  (2004 - 2018)