كتبوا في السينما

 

 
 
 
 
 

ملفات خاصة

 
 
 

ورد مسموم وسحر المكان

ماجدة موريس

القاهرة السينمائي الدولي

الدورة الأربعون

   
 
 
 
 
 
 

ان يأخذك الاهتمام بالشقاء الانساني فى مكان ما الي أبعد الحدود، وتقرر أن تسجل ما يحدث أمام عينيك، فى كل يوم، بل كل لحظة وان توثق مأساة جزء من البشر فى مجتمعك فى فيلم قصير، وبعد سنوات حين تتاح لك مساحة اكبر من المقدرة على التعبير، كمخرج سينمائي جديد، تقرر ان تعود من جديد لنفس المكان والبشر،لتقدم مأساتهم فى فيلم روائي طويل مستوحيا خطوط وعلاقات وتفاصيل لم تكتمل مع الفيلم القصير وباحثا عن بقية الخيوط التي تكمل المنظومة هذا هو ما فعله مخرجان مصريان جديدان، الاول هو أبو بكر شوقي مخرج فيلم «يوم الدين» الذي اختير للعرض فى مهرجان كان السينمائي فى مايو الماضي،والذي قدم عام ٢٠١٣ فيلمه القصير «المستعمرة» عن مستعمرة مرضي الجذام بأحد مناطق مصر البعيدة عن العمران، هي مثل التيه أقرب حيث يدخل المرضي اليها، وقد لا يخرجون الا الي قبورهم اما يوم الدين، فهو يقدم التفسير الاجتماعي. لهذا حين يقرر أحد المرضي، ويدعي «راضي»، ان يترك المستشفي- المستعمرة- ويعود الي أهله فى الصعيد بعد موت امرأته ويقرر الهروب مستعينا بعربة يجرها حمار كانت تدر له دخلا بسيطا من بيع المخلفات،فإنها تصبح فرصة المخرج لتقديم رؤيته للعالم وكيف يستقبل «راضي»، الذي اكل المرض الكثير من ملامح وجهه، فى رحلة انتقل فيها مع طفل اسمر يتيم تمسك بمرافقته من القري الصحراوية بالصعيد، الي المدن والقوي الصغيرة، والي القطار بعد ان نفق الحمار فى مغامرات متعددة ومفاجآت انسانية تؤكد على الاختلافات التي تملأ أركان هذا المجتمع الذي نعيشه والذي لا نعرفه للأسف ومن هنا كانت دهشتي، وايضا، سعادتي بأن تتكرر التجربة مع مخرج آخر وفيلم آخر، ويعرض مهرجان القاهرة السينمائي الدولي فى دورته الاخيرة « ٢٠- ٢٩ نوڤمبر» فيلم «ورد مسموم »للمخرج احمد فوزي صالح، والذي تدور أحداثه فى منطقه المدابغ التي يعمل رجالها فى دبغ جلود الحيوانات ويستخدمون مواد كيمائية خطرة فى معالجتها، ثم يتم صرف هذه المواد مع مياه الصرف التي تخترق شبكاتها المتهالكة لتملأ الشوارع الضيقة وتحفر فيها أنهارا.

السموم و النفوس

كان «جلد حي» هو اسم الفيلم التسجيلي القصير الذي قدمه احمد فوزي صالح عن المدابغ. وما يحدث فيها عام ٢٠١١ لكنه عاد من جديد ليقدم المكان. ذاته من خلال فيلمه الروائي الطويل الاول « ورد مسموم »بعد سبع سنوات وأفكار عديدة احتفظت للمكان بأهميته القصوي، ولكنها توقفت عند الانسان والبشر الذين يقيمون فى مكان لأ يمكن لاحد تجنبه،او الفكاك من سمومه، بدءا من الهواء والأنفاس،الي مجاري المياه الفاسدة المليئة بألوان الصبغات الي مساحات صغيرة للسير، او القفز، لكي تصل «كوكي » بطلة الفيلم الي شقيقها «صقر» وتعطيه غذاءه يوميا، وهو وغيره معلقون فى ماكينات كبيرة، فى زوايا وأركان الحارات، وينجح مصور الفيلم ماجد نادر فى تقديم صورة لحي عشوائي بامتياز، بمفردات قد نكون قد سمعنا عنها من قبل، لكن بتميز عال، فهو مكان متفرد له خصوصيته وجمالياته، برغم قبحه، وما يصدره للمقيمين به من مشاعر وأفكار، عبرت عنها شخصياته القليلة بلغة الجسد، والعيون، بأكثر من الحوار، وحتي ذلك البهلول الذي يجلس على الارض ويتلقي طلبات الناس لحل مشاكلهم «قام بدوره محمود حميدة» كان معبرا عن حالة من التوهان أصابت الكل فى اطار حياة مغلقة،الام فيها تائهة «صفاء الطوخي»، والابن صقر، صامت كاظم رغباته حتي فى الكلام مع شقيقته، منغلق على حلمه بالهجرة الي ايطاليا، وتبقي الابنة، كوكي، العنصر الاكثر حيوية وجهدا ومتابعة للام، وللشقيق، والتي تعمل فى خدمة البيوت حتي تسير الحياة، ولأجل ان تجهز طعام الغداء وتذهب به يوميا الي شقيقها الذي يبدو احيانا المعادل لحياتها، تعشقه عشقا، وتخدمه دائما، وترتعب من فكرة هجرته لدرجة الابلاغ عنه شخصية تحتمل الكثير من الافكار، والتأويلات، الانسانية، والاجتماعية، حول المرأة فى المجتمعات الصعبة فى بلادنا، وقد أدتها الممثلة الجديدة ميرهان حسين بأسلوب أضاء كل جوانبها بفضل توجيه الجسد للمخرج، وكذلك الامر مع الممثل الجديد إبراهيم النجاري الذي قام بدور الشقيق الكاظم لغضبه ورفضه لحياته، والذي يبدو فى خصام مع المكان والناس برغم عمله اليومي واحتكاكه بالآخرين، ومن المثير للدهشة هنا ان الفيلم الذي صور هذه الحياة الشاقة والمجحفة، يأتي بعد كلام كثير قرأناه حول مشروع تطوير المنطقة، بل نقلها بعيدا عن هذه المنطقة المزدحمة ولكن ما يطرحه الفيلم يخالف ويقدم مارآه المخرج وأسرة الفيلم، من قلب الواقع ليصبح أحد أهم أفلام الواقعية الجديدة فى مصر وليستحق جائزة لجنة التحكيم الخاصة فى المسابقة العربية للمهرجان التي تحمل اسم صلاح ابو سيف أكبر مخرجي الواقعية فى السينما المصرية.

الأهالي المصرية في

16.12.2018

 
 
 
 
 

"جريمة الإيموبيليا".. معمار درامي لا يعرف البناية الشهيرة في مصر

هشام لاشين

تعد عمارة "الإيموبيليا" أضخم عمارة في القاهرة الكبرى، صممها المهندسان المعماريان ماكس أذرعي وجاستون روسي عام 1940 عند نقطة التقاء شارعي شريف وقصر النيل، وكانت السكن المفضل لمشاهير المجتمع من السياسيين والفنانين والرياضيين في الأربعينيات والخمسينيات من القرن الماضي، وبلغت مساحتها ٥٤٤٤ متراً مربعاً، لدرجة أن أطلق عليها هرم مصر الرابع.

هذه العمارة كانت مسرحا لفيلم "جريمة الإيموبيليا" الذي عرض بمهرجان القاهرة السينمائي الأخير، أو هكذا زعم المخرج خالد الحجر في محاولة لاستثمار هذا الاسم البراق في عالم البنايات الشهيرة بوسط البلد في مصر، وربما في محاولة لاستغلال نجاح رواية وفيلم آخر حمل اسم عمارة شهيرة أخرى وهي "عمارة يعقوبيان" الكائنة بشارع طلعت حرب، والتي صممها المعماري الأرمني جارو باليان، وصورت في فيلم عام 2006 أخرجه مروان حامد وحقق نجاحا كبيرا.

وفي فيلم "جريمة الإيموبيليا" نجد أنه لا توجد أي علاقة بين العمارة أو أي عمارة شهيرة بمصر وبين هذا الفيلم، الذي يمكن أن تقع أحداثه في أي مكان وزمان، لا عمارة بعينها كان يقطنها المشاهير.

أما "معمار" الفيلم الدرامي ذاته فهو نسيج يجمع بين "البوليسي" على طريقة حبكة أفلام هتشكوك و"السيكودرامي"، الذي يقترب أحيانا من الرواية الشهيرة "دكتور جيكل ومستر هايد"، التي كانت موضوعاً لأفلام كثيرة، ووصل الأمر إلى حد وصف الشخص الذي يعيش حياة مزدوجة ظاهرها الخير وباطنها الشر باسم شخصية الفيلم.

وبأسلوب البناء التراكمي المتوالي أحيانا والمتوازي أحيانا أخرى نتابع بطل العمل الكاتب الروائي "كمال حلمي"، الذي يعيش وحيدا في شقته بعد أن ماتت زوجته وهجره أولاده للعيش مع أهل والدتهم في كندا، وفي إحدى الليالي يقرر كمال أن يؤنس وحدته بدعوة فتاة تعرف عليها عن طريق الإنترنت إلى شقته لكن بعد وصولها تقع حادثة يكتشف بعدها أنه كان ضحية محاولة ابتزاز وتتوالى جرائم القتل داخل العمارة.

ويرسم الفيلم شكل شخصية بطله الرئيسي، ثم باقي الأبطال على نحو هندسي جذاب متدفق الإيقاع أحيانا وأكثر بطأ في أحيان أخرى، فشخصية "كمال حلمي" التي يلعبها هاني عادل بمهارة واضحة من خلال اطلاعه على حالات كثيرة مصابة بالمرض النفسي تضعنا في حيرة بين نزقه لما يبدو أنه محاولة لكسر حالة العزلة من حوله، وبين تقوقعه داخل ذاته ومخاوفه، بل هلاوسه التي نطالعه خلالها عندما يتحدث مع شخص آخر يبدو أنه "الأنا" وفقا لمدرسة التحليل النفسي عند سيجوند فرويد.

هذه الحالة تتمدد طوال الأحداث بينما نتابع استعانته بصديقه وجاره والناشر الخاص لروايته لإنقاذه من التهمة التي يمكن أن توجه إليه في حال اكتشاف وفاة الفتاة في منزله في أعقاب علاقة بينهما تنتهي بمصرعها.

وينجح المخرج خلال الأحداث، ومع توالي جرائم القتل لبواب العمارة الوحيد الذي يعرف الجريمة ثم الخادمة وزوجها ثم صديقه نفسه، في أن يربك حسابات المتلقي بخلق حالة من الشك والريبة في كل الشخصيات المحيطة، وهنا يظل البناء الدرامي متقنا في التصاعد التدريجي وشحن أدوار من البناء المتوازي بين المرض النفسي الذي صار يتضح تدريجيا عند البطل وبين البناء البوليسي المتدرج بدوره، وصولا للعقدة الدرامية أو سطح البناء، ليكشف عن حقيقة بطل مصاب "بالشيزوفرينيا" تدفعه لكل جرائم القتل السابقة وسط سلسلة من المفاجآت المتتالية، بل يخلط معها مرضا آخر هو "الفصام"، حيث يسمع شتائم وسخرية من تصرفاته عبر صوت يأتي من الداخل إلى الخارج.

هكذا يتأكد لنا أنه لا علاقة لعمارة وسط البلد الشهيرة، بل حتى شقة النجمة الراحلة ليلى مراد التي صور الفيلم بشقتها بعد أن طالعتنا الصحف مؤخرا بشراء المؤلف والمخرج خالد الحجر لها من الورثة، وبين أحداث الفيلم سوى أن بطله شخصية مشهورة.

لكن يبدو أن حديثا سابقا للمخرج ومؤلف الفيلم خالد الحجر في أحد البرامج التلفزيونية مؤخرا عن الشقة التي سكنها حديثا كان خلف صناعة هذا الفيلم، حيث كشف في شهر أكتوبر الماضي عبر برنامج "واحد من الناس" لعمرو الليثي أنه يعاني من رؤية أشباح وكيانات غامضة في شقته بعمارة "الإيموبيليا" الشهيرة بوسط البلد، ويبدأ ظهور تلك الأشباح من وقت المغرب حتى بعد الفجر، مؤكداً أنهم منتشرون حوله في كل مكان، خاصة في الممر الخاص بالشقة، وفي بعض الأحيان بالحمام وغرفة نومه.

ولفت الحجر إلى أن تلك الشقة كانت تعيش فيها الراحلة ليلى مراد التي توفيت عام 1995، واشتراها بعد ذلك، وغير أثاث الشقة بالكامل، فيما عدا غرفة نوم ليلى مراد حيث قرر الاحتفاظ بها.

هاني عادل لعب شخصية البطل على نحو مبتكر وجذاب بما يؤكد موهبته التمثيلية خلال السنوات الأخيرة، ونجح طارق عبدالعزيز في خداعنا بأدائه المركب والبسيط في الوقت نفسه، وجعلنا نشك في تصرفاته في بعض اللحظات حتى يصبح ضحية القاتل الصديق.

ونجحت ناهد السباعي، رغم قصر حجم دورها الذي لا يتجاوز 5 مشاهد، في أن تفرض نفسها كبطلة لقصة تظل في ذاكرتنا حتى المشهد الأخير، كما نلمح أداء جيدا لدعاء طعيمة ويوسف إسماعيل وعزة الحسيني ومنحة زيتون ولطيفة فهمي وحسن حرب وياسمين الهواري وعلي خميس وعزمي داوود وأحمد عبدالله محمود.

واستغل التصوير تاريخ شقة ليلى مراد بصورها واستدعاء الماضي على نحو مقبول بإضاءة مناسبة للحالة النفسية للأبطال وطقس عام لفيلم يخلط بين البوليسية والسيكو دراما، لكنه لم يوظف هذه الحالة بسبب سيناريو الفيلم، مكتفيا باعتبار الشقة كالعمارة مجرد "لوكيشن" لتصوير أحداث غريبة.

ولم يكن هناك معنى لوجود راوٍ في أحداث الفيلم، فكان مفتعلا ويكشف عن استسهال في بناء السيناريو، كما يظل المط والتطويل أحد عيوب الإيقاع، وكان يجب تلافيه في المونتاج لكن ذلك لم يحدث.

بوابة العين الإماراتية في

16.12.2018

 
 
 
 
 

«غود مورننغ» لبنان التي فقدت ذاكرتها !

بقلم: مجدي الطيب

فيلم لبناني حتى النخاع؛ يبحث في قضايا عربية خالصة، ويكاد يتنفس رائحة المكان الواحد الذي تدور فيه الأحداث، والشخصيات القليلة التي تتحرك فيه، ويتغنى بالشاعر الفلسطيني الكبير محمود درويش، ومصر سيد درويش، ويرصد تداعيات الحرب السورية، وما يجري في العاصمة اللبنانية بيروت. فما الذي دفع مخرجه اللبناني بهيج حجيج لأن يُطلق عليه «غود مورننغ»، ولم يسمه باللغة العربية !

سؤال لم أجد له إجابة؛ خصوصاً أن فيلم «غود مورننغ» (لبنان، فرنسا / روائي/ 96 دقيقة / 2018)، الذي شارك المخرج في كتابة السيناريو له مع رشيد الضعيف، صاحب القصة، يتأمل الحياة، ويرصد ما طرأ على الواقع، من متغيرات عاصفة؛ من خلال قصة غاية في العذوبة، والإنسانية، لرجلين تقدم بهما العمر، وخشيا على ذاكرتهما من مداهمة مرض «الألزهايمر»، فاختارا ارتياد أحد المقاهي ليعكفا على حل الكلمات المتقاطعة، التي يُقال إنها تقى من فقدان الذاكرة، ويستثمرا جلساتهما الصباحية اليومية في مناقشة الأوضاع الراهنة في لبنان والساحة العربية والعالمية .

نبض المكان .. والحياة

في المقهي ذي النافذة العريضة، التي تطل على أحد شوارع بيروت، ويكاد يعكس نبض الحياة فيها، والمتغيرات التي طرأت على واقعها، يجلس «الجنرال» (عادل شاهين) وصديقه «الدكتور» (جابرييل يمين)، ليطالعا الصحف الصباحية اللبنانية الشهيرة، ويختارا من بينها الصحيفة التي تنشر شبكات الكلمات المتقاطعة، ليندمجا في حلها بصوت تعمدا أن يكون مسموعاً، لما للكلمة اللغز من مغزى، ولكونها ذات دلالة كاشفة تضع أيدينا على ما يجري في عالمنا، بما يعني مشاركة متلقي الفيلم في حلها، وبلوغ مقصدها؛ فكلمة «لاجيء» صارت تُشير إلى «السوري»، والأزمة المالية تكاد تدفع الصحف الورقية إلى الإغلاق، والاندثار كالديناصورات، بينما المواقع والصحف الإلكترونية تزحف لتحتل الصدارة، وتستحوذ على اهتمام الجيل الجديد، ولبنان، التي كانت تزهو بتراثها، وراحت تهدمه، وتفخر بقوميتها، ودعمها للقضية الفلسطينية؛ فيختار أحد شبابها رسم صورة جرافيتي على جدرانها للشاعر الفلسطيني الكبير محمود درويش، يرصعها بكلمات قصيدته الرائعة «بيروت»، التي يقول فيها : «بيروت خيمتنا الأخيرة .. بيروت نجمتنا الوحيدة»، راحت، في فترة زمنية لاحقة، تنقلب على نفسها، وتشوه «الجرافيتي»، وكأنها تكفر بقوميتها، وتتنكر لرموزها؛ فالفيلم متعدد الإيحاءات، والإيماءات، ويتماس مع قضايا كثيرة، برقة، ورقي، بالغين؛ كما فعل في تناوله لقضية حوار جيل الصحافة الورقية، الذي يمثله الرجلان المُسنان، والجيل الإلكتروني، الذي يمثله الصحفي «سليم» (رودريج سليمان)، ومضيفة المقهى «غنوة» (مايا داغر)؛ فهو حوار تفاعل، وتكامل، ونفى عنه أن يكون حوار «صدام» و«صراع»، أو انقلاب على «الحرس القديم»، وإن لم يتجاهل اختلاف الرؤى بين الجيلين، الذي دفع ابنة الدكتور للهجرة إلى كندا، وابن الجنرال للرحيل إلى قطر !

لم تكن النافذة، والصحيفة، والحوار بين الرجلين المتقاعدين، وسيلة المخرج بهيج حجيج الوحيدة للتعليق على الأحداث اليومية، والمتغيرات الحياتية الراهنة؛ فهناك شاشة التلفاز المعلقة على جدار المقهى، التي تبث أخبار انفجارات الضاحية الجنوبية، والسيارات المفخخة، وتمدد التنظيم الداعشي المتطرف، في المنطقة العربية، والعالم !

سيناريو جريء

أبدع «حجيج» في صوغ سيناريو ينبض بالإنسانية؛ تقع أحداثه الشيقة في مكان واحد (المقهى)، و16 يوم، لخصتها العناوين المكتوبة على الشاشة؛ مثل : «ليت الشباب يعود يوماً»، «ضمير الكون مانو مرتاح»، «هيدا مرض»، «نورا نورا يا نورا»، وكأنها عناوين فصول في كتاب مُسل، تكشف تفاصيل كل فصل؛ فالعنوان الأول – مثلاً – يوحي بما وصل إليه «الجنرال» (78 سنة) و«الدكتور» (81 سنة) من رغبة يائسة في الحياة، والتواصل مع البشر من حولهما، والثاني بمثابة تعليق على ما يجري في العالم من إرهاب، وصراعات، وقلاقل، وعنف، تنغص على البشر صفو حياتهم، بينما يصف العنوان الثالث حال «الجنرال» صاحب الحضور والألق، الذي دفعته خفة ظله الدائمة إلى اقتحام خلوة رواد المقهى، وإجبارهم على الإنصات لنكاته، أما عنوان «نورا نورا» فيستعير أغنية فريد الأطرش، ليضفي مرحاً على الأحداث، ويؤكد ما قلناه حول حوار، وتفاعل، الأجيال؛ إذ يستثمرها «الجنرال»، مع أغنية «يا دنيا يا غرامي»، ليرقص على إيقاعها مع «غنوة»، بعد أن يُعدل عنوانها لتصبح «يا غنوة يا غرامي»؛ فالأغاني تمثل عنصراً مهماً في تأكيد، وتعميق، رسالة الفيلم، كما حدث في اختيار أغنية سيد درويش «الحلوة دي قامت تعجن»، ومقطع «كم لنيلك من أيادي» من الأغنية الوطنية «بلادي بلادي»، في إشادة واضحة، وجميلة، بدور مصر، صاحبة الفضل الكبير على أمتها العربية، وهو الفضل الذي يؤكده «الجنرال»، في إشارته إلى الفترة التي عاشها في حي الزمالك، أثناء مشاركته في إحدى الدورات العسكرية، وسؤاله، وهو يحل الكلمات المتقاطعة، عن إحدى الممثلات المصريات .ومع الأغاني تتميز الموسيقى التصويرية الرشيقة، التي صاغها وسام حجيج، وتركت صداها الإيجابي على إيقاع الأحداث، تماماً كالتصوير (ميلاد طوق)، الذي واجه صعوبة بالغة لكون الأحداث بالكامل تجري في مكان واحد، لم تغادره، ومع هذا نجح في تنويع المشاهد، واللقطات، وكسر الملل، ساعده في هذا المونتاج (حسين يونس)، الذي حافظ على عفوية الإيقاع ونفى عنه الرتابة، كما أسهم في تدفق الأحداث، وأضفى على الشخصيات الدرامية مصداقية، وتلقائية، وحساً إنسانياً لم يخل من شجن وبهجة؛ فالمخرج رسم، بدعم واضح من رشيد الضعيف، سيناريو اتسم بالهدوء والحميمية، والوعي الرصين بالقضايا الشائكة التي تناولها، كاللاجئين السوريين، والفقراء الذين دفعتهم الحاجة إلى التسول، وفوضى الشارع اللبناني، وانتشار ظاهرة الحجاب، جنباً إلى جنب مع العُري، فضلاً عن التعاطف الجميل مع المسنّين البيروتيّين المتقاعدين، والمتشبثين بالحياة، في عالم متغير، عصف بالثوابت والمسلمات .

كوميديا لا تخلو من شجن

«غود مورننج»، مع تحفظي على عنوانه، يفضح ما تعيشه لبنان، التي كانت دائماً بمثابة الجسر بين الماضي والحاضر، من انسحاب صارخ بعيداً عن حلمها العربي / القومي، وانقلاب على ماضيها الستيناتي الوطني، وتنصل من جذورها التاريخية (المبنى التراثي الذي هُدم في غمضة عين)، والخوف الذي تمكن من أهلها، نتيجة الانفجارات، والعمليات الإرهابية، التي لم تعرفها طوال تاريخها، مع تأكيد «الجنرال» أن «شيئاً لن يتغير، وإوضاعاً لن يطرأ عليها اختلاف، مالم تتوقف الحرب في سوريا» !

هذه القصيدة السينمائية الرائعة، التي لم تخل من سخرية لاذعة وحوار طريف للغاية، أفسدتها العناوين الكثيرة، التي كُتبت على الشاشة، وعطلت التدفق الدرامي، والتجاوب الكامل مع الأحداث والشخصيات، بعكس المكان الواحد، الذي لم يبعث على الملل، في أية لحظة، بل كان وثيق الصلة بإيقاع رجلين مُسنين، بلغا من العمر عتياً، ويمثلان شريحة عمرية كبيرة في عالمنا العربي، وإن شاب اختيار البطلين بخلفية عسكرية (الجنرال تقاعد بعد خدمة طويلة في الجيش والدكتور التحق بالقسم الطبي العسكري بطرابلس)، شبهة إسقاط نفاها المخرج في ندوة الفيلم، منوهاً إلى أن الاختيار يعكس معاناة طبقة من المفترض أنها مرفهة، وترفل في رغَد من العيش، كما جاءت الإشارة إلى اختلاف الديانة بين «سليم» و«غنوة» عابرة بدرجة مخلة، ونأت بنفسها عن تعميق الاختلاف، ربما لأسباب رقابية أو خشية إثارة نعرات طائفية !

خيار غير تقليدي نجح المخرج بهيج حجيج، الذي درس الفلسفة والمسرح في الجامعة اللبنانية، ودرس السينما في فرنسا، وصار أستاذاً للسينما في معهد الفنون الجميلة، وأنتج وأخرج عدداً من الأفلام الوثائقية المستقلة؛ مثل : «بيروت حوار الأنقاض»، «المتحف الوطني وتحدي النسيان» و«المخطوفون»، بالإضافة إلى الفيلمين الروائيين الطويلين «زنار النار» و«شتي يا دنيا»، في جعله مرثية لبيروت، «ست الدنيا»، وثلاثة أجيال، في مواجهة الزمن، ومتغيراته المتلاحقة، والواقع الراهن، وإيقاعه اللاهث، أملاً في استعادة دور غائب، وجمال غارب، وطاقم تمثيلي لا يتجاوز الأربعة ممثلين (عادل شاهين وجابرييل يمين ورودريج سليمان ومايا داغر)، أبدعوا في أداء أدوارهم، والتغلغل، بوعي، في شخصياتهم الدرامية، وقدموا، في النهاية، فيلماً إنسانياً بامتياز .

جريدة القاهرة في

18.12.2018

 
 
 
 
 

وشوش وحكايات- مهمة الحفاظ على وجه مصر للأسف تائهة

علا الشافعي

بيان صحفي تم نشره في عدد من الصحف والمواقع الإلكترونية حول قتوقيع رئيس الهيئة العامة للاستعلامات ضياء رشوان اتفاقية مع رئيس مدينة الإنتاج الإعلامي أسامة هيكل تتعلق بضرورة العمل على ترميم نسخ الجريدة السينمائية، وبعض من الأفلام التسجيلية،التي كانت تنتجها هيئة الاستعلامات..

جاء في البيان أنه بناء على هذا العقد "تقوم من خلاله المدينة بترميم وإحياء التراث السينمائي والوثائقي لدى الهيئة من الجريدة السينمائية المصورة والأفلام التسجيلية القديمة، والتي تعد كنزًا معلوماتيًا، ووثائقـيًا غاية في الأهمـية يـوثق للكثـير من الأحـــداث التاريخية والمناسبات الكبرى التي شهدتها البلاد منذ عشرينيات القرن الماضي وحتى وقتنا الحاضر".

البيان وما يتضمنه جدير بالتأمل، لأنه وبالنظر إلى تجارب ماضية لن يلتفت أحد مستقبا إلى مثل هذا العقد، لينضم إلى جوار عقود مماثلة تتعلق بترميم التراث السينمائي الذي يشكل وجه مصر، والذي شهد على مدار أكثر من 30 عاما توقيع عقود واتفاقات تتعلق بإنشاء أرشيف سينمائي مصري "سينماتيك" يحفظ تراثنا السينمائي المصري والذي تحللت العديد من أفلامه.

كل التصريحات الإعلامية، والمؤتمرات التي عقدت ذهبت ولم يبق شىيء إلا الكلام، وقد يكون هذا ما دفع عائلة المخرج يوسف شاهين إلى التحرك بشكل شخصي والقيام بترميم أفلامه، والتي عرض 20 عملاً منها في الاحتفالية التي أقيمت في سبتمبر الماضي، وهو المشروع الكبير الذي عملت عليه ماريان خوري، وجابي خوري بالتعاون مع العديد من الجهات والهيئات الدولية المهتمة.

لا يوجد سحر يضاهي رؤيتك لأفلام هامة في تاريخنا، صنعت فارقا وشكلت وجداننا، وقد عاد إليها بريقها، والبريق هنا لا يعنى معالجة النسخ المتهالكة، والعمل على الألوان والضوء، بل معالجتها كما كانت في خيال صانعها، والوصول لأقرب نتيجة لتحاكي النسخة المعروضة، ما أنجزه شاهين وقت إخراجه لهذه الأفلام سواء تلك التي تم تصويرها بالأبيض والأسود، أو الألوان.

ومن المعروف أن للأفلام بشكل عام عمر افتراضي ( الأفلام التي كانت تصور بالخام وكاميرا 35 مللي) وبعدها تتحلل وتتحول إلى "خل"، لذلك لا بد من أن ترمم حتى يتم الاحتفاظ بها لفترة طويلة، فعملية الترميم هي إعادة إعطاء حياة جديدة للفيلم بفورمات جديدة، وهي عبارة تقريب نسخة الفيلم لأصلها بقدر الإمكان، في محاولة للحفاظ على هذا الأرشيف بشكل حديث.

تلك الاحتفالية والتي شهدت عرض 20 فيلما تم ترميمها من بين إبداعات شاهين، والتي شهدت إقبالا جماهيريا كبيرا من شرائح عمرية متنوعة، لا تعكس إلا أمرا واحدا أن هناك جيل يسعي ويبحث عن الإبداع الحقيقي، مشروع ترميم أفلام شاهين وإعادة الروح إليها يجعلنا أيضا نطرح سؤالا مهما وهو ماذا عن باقي تراث السينما المصرية؟ ماذا عن أفلام كبار مخرجينا ومنهم صلاح أبوسيف وكمال الشيخ وعاطف الطيب وغيرهم؟

كيف يري المسؤولون عن السينما والثقافة النسخ المهملة من أفلام السينما المصرية والتى تعد من الكلاسيكيات ودرر السينما المصرية والعربية، والتي أصبح بعضها قريب للتحلل؟

وإذا كانت عائلة المخرج والمبدع يوسف شاهين تملك الوعي الكافي وتدرك ضرورة الحفاظ على تراثه، وترميم أفلامه لتظل باقيه في الوجدان الإنساني. وإذا كان المخرج العالمي مارتن سكورسيزي قد أدرك أهمية وقيمة فيلم "المومياء" في تراث الإنسانية - كانت بعض فصوله قد قاربت على التحلل- وهو الفيلم الذي اختير ضمن أهم 100 فيلم في العالم وتولى سكورسيزي ترميمه من خلال مؤسسته المعنية بترميم الأفلام المميزة، حيث عرضت النسخة المرممة في مهرجان كان السينمائي الدولي عام 2008 في دول العالم، فماذا عن باقي المخرجين وإنتاجات السينما المصرية وماذا عن الأفلام التي أنتجتها الدولة بنفسها متمثلة في المؤسسة العامة للسينما؟

يبدو أن قضية ترميم الأفلام لا تشغل بال أحد مثلها تماما مثل قضية أرشيف السينما المصرية، والذي بات الكلام والتصريحات حوله أشبه بالعبث، ووعود منذ أكثر من 30 عاما لم يتحقق منها شيء على أرض الواقع، نسخ الأفلام مهملة، تخزين سيئ، وهو ما يعرضها للتحلل والمفارقة أن مصر لا يتبق لها سوى 365 فيلمًا فقط تملكها وزارة الثقافة المصرية من أصل 5000 فيلم سينمائي، تم إنتاجهم على مدار تاريخ السينما المصرية والذي يتخطى الـ122 عاما، منها 1500 فيلم تملكها قنوات art و1600 فيلم تقريبا ملك قنوات روتانا و500 فيلم تملكها الشركة العربية، بينما تملك شركة الصوت والضوء التابعة لوزارة الثقافة 365 فيلما و1000 فيلم تسجيلى وروائى قصير.

قد يبدو الأمر للبعض يحمل قدرا من الرفاهية ولكن تخيلوا معي المشهد لو لم تقم قنوات روتانا بترميم التراث المصري والإنساني الذي صار ملكا لها، وما تبقي لوزارة الثقافة المصرية من أفلام كما هو لم يحصل على شروط تخزين جيدة، أو عملنا على ترميمه، وتحللت هذه الشرائط السينمائية، والتي بالمناسبة لا تحمل صورا متحركة أو قصص درامية محبوكة، ولكنها تحمل حيوات متكاملة وترصد حياة اجتماعية وسياسية بكافة التغييرات، تصور لنا عادات وتقاليد وشكل شوارع وملابس، ودرجات لونية ببساطة تحمل أرواحا نابضة، لو كل ذلك ذهب ما الذي سيتبقي لمصر حينها!

ولا أعرف لماذا تحول معظم السينمائيون إلى مجرد مراقبين! مشروع ترميم أفلام السينما المصرية لا يحتاج إلى الدولة فقط، بل إلى سينمائيين مخلصيين يدركون حقا قيمة ما يملكون، ويسعون للمحافظة عليه من خلال مخاطبة المؤسسات المعنية في دول العالم، والتي تهتم حقا بالحفاظ على التراث السينمائي بوصفه تراثا إنسانيا، بعيدا عن فكرة التجارة والمكسب، على أهل صناعة السينما أن يحافظوا على تراثهم، ولنا في تجربة شاهين وعائلته أسوة.

موقع "في الفن" في

20.12.2018

 
 
 
 
 

سرغي دفرتسيفوي المتسابق على الـ"أوسكار":

لا يحمّسني إنجاز فيلم أعلم كلّ شيء عنه قبل التصوير

هوفيك حبشيان

المصدر: "النهار"

"أيكا"، دراما قاسية أخرجها الكازاخستاني سرغي دفرتسيفوي، وشهد عرضه العالمي الأول في مهرجان كانّ السينمائي الأخير ضمن المسابقة الرسمية، حيث فازت الممثّلة سامال اسلياموفا بجائزة التمثيل. في مطلع هذا الاسبوع، أعنلت أكاديمية فنون الصورة المتحركة وعلومها دخوله السباق على الـ"أوسكار" في فئة أفضل فيلم أجنبي. دفرتسيفوي الفائز سابقاً بجائزة "نظرة ما" عن "تولبان"، يحملنا إلى عمق المعاناة الإنسانية من خلال شخصية مهاجرة تُدعى أيكا (اسلياموفا) تضع مولودها غير المرغوب فيه في المستشفى ثم تهرب لتعيش سلسلة من المهانات المتكررة في شتاء موسكو القارس والعنيف

الطفل ثمرة اغتصاب، لكن قد يكون هذا أقلّ معاناة عندها. لا تملك أيكا شيئاً سوى كرامتها للبقاء حيّة. يصوّر دفرتسيفوي نزولها إلى العدم بتفاصيل كثيرة، بأسلوب يذكّر بعض الشيء بالأخوين داردن، الا ان القسوة أكثر حضوراً وتجسيداً هنا من أي وقت مضى. "أيكا" فيلم عن الألم، كما يراه سينمائي مرهف يؤمن بسموّ الوجع وبقدرته على رفع الإنسان إلى مرتبة إله صغير. هنا مقابلة أجرتها "النهار" مع دفرتسيفوي خلال مشاركته في الدورة الـ٤٠ من مهرجان القاهرة السينمائي.

·        أنت تأتي أساساً من السينما الوثائقية. والفيلم موثّق جداً. هل كنت تطمح لهذا منذ البداية؟

- عندما أباشر إنجاز فيلم، لا أفكّر في هذه الأشياء. لا أقول لنفسي "دعني أنفّذه على هذا النحو كي يبدو وثائقياً". أحاول ان أضع فيه من روحي وحسب. أحاول ان أضع فيه من إحساسي تجاه الأشياء والحياة. يشغلني أكثر ان أحدد أي فيلم أنوي إنجازه حول القضيّة المطروحة. وهذا متأتٍّ من طبيعتي كمخرج أفلام وثائقية. فأنتَ في الوثائقي تتعاطى الواقع الصرف، أي الحياة الحقيقية. وأنا أحب الحياة وأحب الحقيقة. أفلامي أحياناً تجسيد لهذا الواقع، بمعنى انها تنطوي على كلّ شيء، على النور والظلام، على الجحيم والجنّة. لهذا السبب، أميل جداً إلى المفاجأة، إلى تلك اللحظة التي يتعذّر توقّعها، حيث لا نعلم ماذا سيحصل. لا يحمّسني إنجاز فيلم أعلم كلّ شيء عنه قبل التصوير. لا يهمّني ان أحوّل السكريبت إلى مجرد صوَر. لا أرتاح إلى مهمة أفلمة الأدب. السيناريو هو مجرد انطلاقة لي. ثم تطرأ تغييرات كثيرة. أراقب الحياة وأرى ماذا سيحصل. أكتشف الأشياء خلال التصوير. "أيكا" تغيّر في نسبة ثمانين في المئة.

·        ذكّرني أسلوبك وتعقّبك لأيكا بكاميرا محمولة بأسلوب الأخوين داردن. ما رأيك؟

- لا أعرف كيف يعملان، مع أنني أحبّ أفلامهما كثيراً. عندي يوجد إهتمام أشدّ بالبيئة، بجوّ المدينة حيث تجري الأحداث، وكذلك بكلّ الشخصيّات الثانوية. يخيّل إليَّ ان الكاراكتير الرئيسي هو الأهم عند الأخوين داردن. الشخصية الرئيسية مهمّة عندي أيضاً، فأيكا تقريباً على الشاشة طوال الوقت. هذا الفيلم كان صعباً، لأن أيكا ليس لديها مَن تصارحه أو تتواصل وإياه. هي صامتة طوال الوقت، محاطة بالثلوج. كان صعباً جداً تشكيل ملامحها، وخصوصاً انه لا يوجد شرح. شكّل هذا تحديّاً عندي. كيف أخلقها من دون اللجوء إلى احتمالات عدّة؟ لم يكن لديّ سوى الثلج والحركة والقليل من الكلام، هذا كلّ شيء.

·        موسكو المغطاة بالثلوج تكاد تكون شخصية منفصلة؛ شخصية كاملة متكاملة.

- هذا ما فعلته أيضاً في فيلمي السابق "تولبان": إستخدام الطبيعة والمساحات كجزء من التكوين الدراماتورجي. هذا مهمّ في نظري. لأننا جميعاً نعيش طوال الوقت متصلين بالطبيعة، حتى وإن عشنا في متروبول. طبعاً هذا الشعور يزداد في الريف. ولكن حتى في المدن الكبرى، الطبيعة تترك أثرها في البشر. الطبيعة جزء أساسي من "أيكا". هي التي تجعل أيكا أمّاً، وهي التي تتيح لها إطعام طفلها. كما ان العاصفة الثلجية التي تهبّ على المدينة لها يد في جعل الأشياء والناس يتصّلون بعضهم ببعض.

·        ثمة مَشاهد قاسية جداً تصعب مشاهدتها. هل قصدتَ ذلك؟

- تماماً. كيف لي ان أحكي قصّة عبثية كهذه وأنا ألبس الكفوف. ما نشاهده هو خمسة أيام بعد وضع أمّ لمولودها. كلّ شيء في حال من الجنون. الزمن يتّسم بقسوة رهيبة. عندما تقرر تصوير شيء كهذا، لا يُمكن فعله بهدف الترفيه. عليك ان تكون جدياً. الموضوع جديّ والأسلوب جديّ. الموضوع متطرف، على الفيلم ان يكون كذلك. حتى أنني أؤمن بأنه يجب الحديث عن الموضوع بجديّة، والا عدم الحديث عنه بتاتاً. لم أُرِد فيلماً لطيفاً لجمهور لطيف. علينا ان نقوم بعمل جديّ يرتقي إلى جديّة الأدب.

·        هل كنت مدركاً لفخّ الوقوع في استعراض البؤس الشنيع الذي كان يمكن ان تقع فيه؟

- بالنسبة لي، هذا فيلم بسيكولوجي عن المعدومين. لم أُرِد إظهار الفقر المدقع الذي يعيشون فيه. وددتُ تصوير هؤلاء البشر الذين يأتون إلى روسيا بطرق غير شرعية. حتى لو توفرت لديهم أوراق، فهي مزورة. هذا فيلم عن الإنسان، عن طبيعة البشر، عن الأمومة وعن الطبيعة التي تفرض على الإنسان ان يبادر إلى فعل الصواب. كان على أيكا ان تكون أمّا والطبيعة جعلتها أمّاً.

·        يقال إنك صوّرتَ على مدى ستّ سنوات

- نعم. طبعاً مع توقّف امتد لأشهر أحياناً. لكن إنتاج الفيلم تطلّب كلّ هذا الوقت. صوّرنا ساعات كثيرة لم نستعملها، ولكن يمكنني ان أنجز أفلاماً عدة استناداً إلى المادة التي عندي. اذاً، كما قلت، الضغط المادي أشد وطأة. لا يمكن ان تتفاوض معه، فهذا مستحيل. يسألك المنتج: "هل تريد تصوير المزيد؟ افعله على نفقتك الخاصة. أو انه الفيلم هنا". التفاهم مع السياسيين أسهل. المال لا يفهم!

·        كيف اخترتَ الممثّلة سامال اسلياموفا؟

- من مئة ممثّلة عاينتهن، إثنتان فقط كانا قادرتين على أداء هذه الشخصية. أيكا أكثر من مجرد دور. كان عليها ان تتماهى مع ظروف حياة المهاجرين. ليس من السهل إيجاد ممثّلة قادرة على هذا. طبعاً، هي حملت معها كلّ ماضيها وتجربتها الشخصية ومخزونها الثقافي لتحوّل التمثيل إلى "قطعة فنية".

·        هل تطلّب التصوير استعدادات طويلة؟

- دعني أقول لك كيف أستعد للتصوير. أضع الجميع في مكان واحد وأجعلهم يعيشون معاً تحت سقف واحد. سامال عاشت مع مهاجرين، المهاجرين أنفسهم الذين تراهم في الفيلم. واستمر هذا لأشهر عديدة.

·        في روسيا حيث تعمل، ثمة موجة أفلام وطنية في الآونة الأخيرة. "أيكا" بعيد جداً من هذه الموجة. كيف تقاربه السلطات؟

- السينما الروسية غير التجارية في أزمة كبيرة حالياً. الصناعة السينمائية تأسست على قياس الأفلام الرخيصة. وعلى رغم ان موسكو مدينة ضخمة تجمع أذكياء ومثقفين كثراً، يصعب جداً عرض "أيكا"فيها. ليس فقط لأسباب سياسية، بل لأن الناس لا يريدون سوى الترفيه. يفضّلون مشاهدة أفلام كوميدية. لا يريدون رؤية الألم، ألم الناس الذين يعيشون حياة قاسية. الروس، كأي مكان آخر في العالم، باتوا يستهلكون المتعة. طبعاً، لا يزال هناك مَن يريد ان يشاهد مثل هذه الأعمال، ولكن تنقصنا البنية، من صالات إلى نقّاد، كل ما يُعرف بالـ"سيستام"، اذ تم تدميره كلياً بعد سقوط الإتحاد السوفياتي.

·        أيجوز اطلاق صفة "بوتينية" على السينما الروسية الحالية؟

- في الحقيقة، لدينا الآن في روسيا الكثير من المال لتخصيصه للأفلام. وزارة الثقافة تعطي مبالغ كبيرة. لدينا مصدران للتمويل: وزارة الثقافة وصناديق الدعم. الوزارة تموّل سينما المؤلف، فيما تكتفي الصناديق بتمويل الأفلام التجارية الكبيرة. طبعاً، توجد بعض المحظورات السياسية، ولكن لم يتعرض لي أحد وأنا أنجز "أيكا". كلّ شيء كان على ما يرام. لم يقل لي أحد عليّ ان أفعل هذا الأمر ولا أفعل ذاك. فعلتُ ما أريد، بلا أي تدخّل من جهة. قرأوا السيناريو وتركوني وشأني. قد تكون تجربة الآخرين مختلفة. في الحقيقة، نشعر بضغط جراء المال أكثر بكثير من ضغط السلطة.

·        ولكن في روسيا اليوم، هناك أكثر من مخرج في السجن

- نعم، سربرينيكوف. أجد هذا الوضع محزناً بالتأكيد. لكننا نعيش في زمن اختلطت فيه الأوراق، فلم يعد ممكناً فصل خيط الحقيقة عن خيط الكذب. ماذا حدث؟ ما السبب خلف اعتقال سربرينيكوف؟ أشعر بأسى؛ الزجّ بمخرج في السجن عمل مُدان. لا أعتقد انه مجرم.

·        ماذا عن تجربتك في مهرجان كانّ؟

- مهرجان كانّ بوّابة. اذا نجحتَ في عبورها، يذهب الفيلم إلى كلّ مكان. أعتقد ان أي مخرج يستطيع ان ينجز فيلماً ويشارك في كانّ. الأمر يتوقف فقط على المستوى الفني. لا أعتقد ان هناك أحداً ينجز فيلماً جيداً ولا يأخده كانّ لسبب ما.

·        هل افتُتِحت عروض الفيلم في روسيا؟

- ليس بعد. الشهر المقبل (كانون الأول). أنتظر بشغف لمعرفة كيف ستستقبله السلطات، وكيف سيستقبله الناس. أريد لهذا الفيلم ان يكون مؤثراً لتغيير وضع المهاجرين واعطائهم المزيد من الحقوق المدنية.

النهار اللبنانية في

20.12.2018

 
 
 
 
 
 
 

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك
  (2004 - 2018)