كتبوا في السينما

 

 
 
 
 
 

ملفات خاصة

 
 
 

المخرج أحمد فوزى صالح: «ورد مسموم» حلم عمرى الذى خرج من المدابغ

حوار ــ إيمان محمود:

القاهرة السينمائي الدولي

الدورة الأربعون

   
 
 
 
 
 
 

جوائز «القاهرة السينمائى» تؤكد أن فيلمى جيد ويستحق 

السينما التجارية ربطت المهمشين فى مصر بالمخدرات والسلاح.. وأعمالى تعيد لهم قيمتهم كعمال وصنايعية

• «حميدة» دعمنى إيمانًا بموهبتى.. والفيلم حالة فنية لا تعتمد على النجوم

فى ثانى تجاربه السينمائية بعد الفيلم التسجيلى «جلد حى»، حصد المخرج أحمد فوزى صالح 3 جوائز عن فيلمه الروائى الأول «ورد مسموم» من مهرجان القاهرة السينمائى الدولى فى دورته الاربعين، وهى جائزة أحسن فيلم عربى، وجائزة لجنة التحكيم الخاصة التى تحمل اسم مخرج الروائع «صلاح أبوسيف»، إضافة إلى جائزة صندوق الأمم المتحدة للشباب، وهى الجوائز التى توجت رحلة الفيلم فى أكثر من 40 مهرجانا حول العالم، حيث حصد أيضا جائزتين أخريين، هما أفضل فيلم من مهرجان الفيلم الإفريقى بإسبانيا، وجائزة خاصة من لجنة التحكيم بمهرجان الفيلم الإفريقى الدولى بنيجيريا.

وفى حواره مع «الشروق» كشف المخرج أحمد فوزى صالح عن كواليس رحلة فيلمه، وكواليس مشاركاته فى المهرجانات المختلفة..

فى البداية.. كيف استقبلت فوز «ورد مسموم» بـ ٣ جوائز فى مهرجان القاهرة السينمائى الدولي؟

ــ بالتأكيد سعدت بالجوائز التى نالها من المهرجان وكذلك فريق العمل بالفيلم، ورغم أنها ليست الجائزة الأولى لنا، إلا أن السعادة أكبر لأن الجائزة من «القاهرة السينمائي»، مهرجان بلدى التى أحمل ثقافتها وهويتها، والسعادة مضاعفة 3 مرات، لأن هذه المرة 3 جوائز من 3 لجان تحكيم مختلفة، وهو ما يؤكد أن الفيلم جيد ويستحق.

للمرة الثانية تميل لمنطقة المدابغ بعد نجاح فيلمك «جلد حى» الذى قدمته قبل سنوات.. فما سر الارتباط بهذا المكان؟

ــ «ورد مسموم» كان مشروع تخرجى من معهد السينما عام 2009، لكن وجدت صعوبة فى تنفيذه وقتها، وكان البديل أن أقدم فيلما روائيا قصيرا تطور لاحقا ليصبح فيلما تسجيليا عن منطقة المدابغ باسم «جلد حي»، وهو بمثابة بحث عن الصورة واللغة التى اريد تقديمها فى ورد مسموم، واعلان عن مشروعى الكبير، فكان بمثابة خطوة استباقية للفيلم.

ماذا عن فكرة المزج بين التسجيلى والروائى بالفيلم واستخدام مواقع حقيقية والاستعانة بشخصيات حقيقية من العمال؟

ــ السينما فى العالم كله تجاوزت هذه التصنيفات، وإن كان العمل روائيا أو تسجيليا فهو فى النهاية تحت مسمى فيلم، فأنا أريد تقديم سينما مختلفة عن النوعية التجارية الموجودة على الساحة حاليا، واتطلع لسينما تطرح أسئلة وتناقش أفكارا، لتكون أشبه بحجر فى بركة راكدة، وهدفى تقديم تجربة فنية تعتمد على مقومات الفن وتنتصر للصورة.

* هل ستستمر بتقديم هذه النوعية من السينما؟

ــ بالتأكيد، هذه النوعية من السينما التى التحقت من أجلها بمعهد السينما، وتعبر عن أفكارى وقناعاتى، وأسير بخطوات متأنية فى مشروعى الذى بدأته بفيلم «جلد حى» فى 2010، ثم فيلمى الثانى «ورد مسموم»، واتمنى استكمال المسيرة يكون لدى 5 أفلام أو أكثر يرى فيها الجمهور تجربة فنية مكتملة.

قلت إن الفيلم عانى فى بدايته من مشاكل وعثرات حتى خرج للنور.. فكيف كانت تلك المشاكل وكيف سارت الرحلة؟

ــ تأخر تنفيذ الفيلم بسبب أزمة الإنتاج، لأن الفيلم فنى بحت، ولم نجد فى البداية منتجا يغامر معنا، فى إنتاج فيلم فرص نجاحه فى دور العرض قد تكون قليلة، لذلك اعتمدنا على فكرة صناديق الدعم، وحصلنا على دعم قيمته 750 ألف جنيه من وزارة الثقافة، لكن تعطل صرف الدفعات للفيلم، ورغم التحفظات على قيمته، إلا أنه ساهم ولو بجزء فى إخراج العمل للنور، واضطررت لبيع سيارتى، وتقسيط ثمن وجبات فريق العمل أحيانا، ثم لاحقا وافق المنتج صفى الدين محمود على المشاركة فى إنتاج الفيلم، بعد قبول الفيلم فى مهرجان فينسيا قيد الإنتاج، والفيلم بالنسبة لى رحلة تصوف اكتشفت خلالها الكثير.

لماذا قمت بتعديل السيناريو أكثر من مرة، وهل بالفعل حذقت ما يقرب من 40 دقيقة منه؟

ــ التعديل كان ضروريا، فأنا أريد تقديم فيلم جرىء، وقوى بصريا، بعيدا عن الحبكات والقصص التقليدية، والسيناريو الأخير الذى توصلنا إليه بعيد تماما عن رواية «ورود سامة لصقر»، للكاتب أحمد زغلول الشيطى، رغم ذلك حافظنا على التقدير الأدبى له، لأن العمل بدأ من هذه الرواية، لكن هناك اختلاف فى الزمان والمكان وطبيعة العلاقات بين الشخصيات، فالرواية تدور أحداثها فى دمياط بثمانينيات القرن الماضى، بينما تدور أحداث الفيلم فى منطقة المدابغ بالألفية الجديدة، واقتبسنا فقط الخط الرفيع فى علاقة الأخت بأخيها.

وبعد تصوير عدد من المشاهد، شعرنا كفريق عمل أن طموحنا لم يتحقق بالقصة التقليدية التى قتلت الروح الجريئة التى نحاول تحقيقها فى الصورة السينمائية، لذا قررنا إعادة كتابة السيناريو وتطويره وإعادة التصوير مرة أخرى، وتناولنا القصة من خلال وجهة نظر الأخت «تحية»، والتخلى عن الجانب التقليدى فى الرواية للخروج لشيء أكثر سينمائية وجمالا.

ما هى قناعتك فى نقل واقع المناطق الشعبية والمهمشين.. خاصة أن هذه النوعية تجد من يتهمها بتشويه صورة مصر؟

ــ أغلب أفلام السينما المصرية التجارية فى السنوات الأخيرة، قدمت الفقراء والمهمشين على أنهم مجرمون أو تجار مخدرات أو حاملو سلاح، وهذه ليست الحقيقة، فهم عمال ومنتجون يعملون ما يقرب من 12 ساعة يوميا، لذلك اتجهت لصنع فيلم فى المدابغ، انتصارا لقيمة العمل، وهى مكان صعب للغاية وظروف العمل فيه شبه مستحيلة، وبيئة مليئة بالمخاطر والعقبات، وأنا كسينمائى لدى همٌ اجتماعى هو أن أنحاز لهؤلاء، وأساندهم بصورتهم الإنسانية الحقيقية.

بعد نجاح يوم الدين فى لفت الأنظار ونجاح فيلمك فى حصد ٣ جوائز بـ«القاهرة السينمائى».. هل يمكن أن تجد هذه النوعية من الأفلام مكانا فى شباك التذاكر؟

ــ سبق فيلمى وفيلم «يوم الدين» عدة تجارب منها: أخضر يابس والخروج للنهار وآخر أيام المدينة، وهذا يدل على أن هناك سينما جديدة قادمة، وهناك نوعية من الجمهور ينجذب لهذه النوعية من الأعمال، وأظن تدريجيا أن المساحة ستكون أكبر لإنتاج هذه النوعية من الأفلام، والتى تحاول كسر الصورة النمطية لشكل ونوعية الفيلم السينمائى، والخروج من القالب التقليدى للصناعة لأنها تقدم أفكارا جديدة وجريئة، وتمنح قبلة الحياة لاستمرار هذه الصناعة.

الفيلم بدأ عرضه الجمعة الماضية للجمهور بسينما زاوية.. فكيف وجدت الاستقبال للفيلم؟

ــ سينما زاوية تتميز بأن لديها جمهورا ثابتا يفضل هذه النوعية من الأفلام، لذلك كان الاستقبال بشكل جيد، وهناك جمهور سعيد بجرأة التجربة، وهناك من لم يعجبه الفيلم وهذا أمر طبيعى.

ونحن مدركون أن الفيلم صادم على مستوى الصورة وفى طريقة السرد من خلال الصور، فالفيلم لا يعتمد على قصة تتطور أحداثها وبها منحنيات صعودا وهبوطا، ولا يعتمد على حبكات معينة تدغدغ مشاعر المتفرج، الفيلم مشغول بطرح أسئلة حول النفس البشرية والمجتمع الذى نعيش فيه وحول الفن نفسه.

الفنان محمود حميدة دعم الفيلم وشارك بالتمثيل فيه، فهل وجوده كان سببا للفت الأنظار للفيلم خاصة أن أبطال الفيلم وجوه جديدة نسبيا؟

ــ الفيلم فنى، لا يعتمد على وجود النجوم ولم يتجه لوجوه جديدة بسبب الميزانية، فهو يسير فى طريق معين، وكان يحتاج شخصية أشبه بأبطال الأساطير، واخترنا شخصية غريبة اقرب لهذا العالم، وكانت ذلك من خلال شخصية الساحر التى استطاع وجود محمود حميدة تحقيقها على الشاشة شكلا وموضوعا بعيدا معيار النجومية.

ولكن هناك أقاويل أن أسباب دعمه بحكم الصلة الاجتماعية التى تجمعكما؟

ــ الدعم كان إيمانا بالفيلم وبموهبتى، وإذا كان الأمر هكذا، فكان من الأولى الاستفادة من الفنان محمود حميدة بتواجدى داخل السوق التجارية، واكون مخرجا لأفلام ومسلسلات أجنى من خلالها الكثير، لكنى فى النهاية اخترت طريقى ومشوارى الذى يشبهنى وأؤمن به.

وماذا عن المهرجانات التى يشارك فيها الفيلم الفترة القادمة؟

ــ رحلة الفيلم مع المهرجانات لا تزال مستمرة، الفيلم يعرض خلال مهرجان مراكش الدولى، وبعدها بمهرجان بالهند، ويواصل رحلته الأوروبية فى بلجيكا وفرنسا، ثم الارجنتين حيث يشارك بمهرجان الفيلم اللاتينى العربى، ونأمل أن تبدأ عروض الفيلم تجاريا فى بعض الدول الأوروبية، فالتجربة تكون ممتعة عندما يصل فيلمك لأماكن مختلفة فى العالم، ويشاهده جمهور لا يفهم لغتك لكن يفهمون لغة الصورة، وهى اللغة الإنسانية الأولى التى يشترك فيها الناس جميعا.

وعلى المستوى العربى سيعرض الفيلم قريبا بالإمارات وتونس والمغرب من خلال موزع الفيلم زاوية.

الشروق المصرية في

08.12.2018

 
 
 
 
 

ورد مسموم.. شخصيات محاصرة في واقع خشن

أمل مجدي

وسط زحام مدينة القاهرة ذات العوالم المتباينة المتداخلة، هناك الكثير من الحكايات تقبع وراء الحواجز غير المرئية التي تفصل بين سكانها. في فيلمه الروائي الأول "ورد مسموم" يقدم المخرج أحمد فوزي صالح، صورة ثرية بصريا عن حياة منطقة المدابغ الخشنة التي تقع في قلب العاصمة، مبتعدا عن الكليشيهات الدرامية المرتبطة بتناول مثل هذه المناطق المهمشة في الواقع والسينما.

يمهد لنا صالح أن المكان هو البطل الرئيسي، وأن سرد الحكاية يرتكز على الصورة أكثر من الكلمات، في الدقائق الأولى من الفيلم، عن طريق لقطة من أعلى العين ترى ممرا ضيقا غارقا في المياه الملوثة، يتعثر فيه المارة من شخوص وحيوانات، محاصرين داخل هذا المكان الخانق الذي تعجز أشعة الشمس عن اختراقه. ثم يعتمد على المزج بين الروائي والوثائقي خلال الأحداث مستندا على معرفته الجيدة بالمنطقة، منذ صناعة فيلمه التسجيلي "جلد حي" الذي يتعرض لقضية عمالة الأطفال في المدابغ، ويرصد المخاطر التي يتعرضون لها بسبب هذه المهنة القاسية

تتكرر في الفيلم الجديد نفس اللقطات الحية المعبرة عن البيئة القاتلة؛ من ماكينات حادة ومواد كيماوية خطيرة وملابس مهترئة وأياد ملوثة، لكن أثرها الحقيقي والأعمق يتجلى مع تتبع المخرج ليوميات "تحية"، شابة في أواخر العشرينات، تعيش في المنطقة وتتردد باستمرار على ورش الجلود حاملة الطعام لشقيقها الأصغر "صقر"، الذي يحاول النجاة بحياته من شبح الموت المتربص له كل يوم، ويسعى للسفر إلى أوروبا بطريقة غير شرعية كأنه يختار الموت العاجل. تلهث ورائها في الأزقة المتعرجة، كاميرا محمولة ترافقها في رحلاتها الروتينية التي لا يطرأ عليها أي جديد وكأنها تدور في متاهة لا نهاية لها.

تفاصيل العلاقة بينهما مربكة ومحيرة لأن تعلقها به، وغيرتها عليه، ورغبتها في إبقائها بجانبها، توحي بأنها لا تراه شقيقا فحسب، وإنما يمثل بالنسبة لها العالم بأكمله. فبالرغم من استقلالها المادي وإنها صاحبة الدخل الثابت في المنزل، فإنها تشعر بحاجتها إلى وجود رجل في حياتها. هذا الرجل هو الأخ الذي يعوض غياب الأب والزوج والابن، ويمنحها فرصة لممارسة دوري الزوجة والأم. لا يقدم صالح في فيلمه المقتبس عن رواية "ورود سامة لصقر" للكاتب أحمد زغلول الشيطي، قصة تقليدية تعتمد على حبكة في السرد، ولكن يركز على تأثير التغيرات التي تحدث في حياة الأخ عليها، وردود أفعالها تجاه كل محاولاته للتملص منها ومن حبها المرضي له. فدخوله في علاقة عاطفية يعني أنه ليس ملكا لها وحدها، ورحيله عن البلد يفقد حياتها معناها وأهميتها. لذا تقرر البطلة الاستعانة بالسحر للتغلب على مشكلتها، وتذهب إلى الرجل الغامض "كروان"، الذي لا ينتمي مظهره الخارجي من بذلة وقبعة إلى المكان، لكنه يجلس مراقبا لكل شيء من حوله. ينصحها بتعويذة تربط الأخ بجانبها، في صورة أقرب إلى وسوسة الشيطان، التي قد تجعلها على شفا الوقوع في زنا المحارم.

في مثل هذه البيئة الضاغطة لا يوجد مجال للتعلق بأمل الحصول على حياة أفضل لأناس يعيشون على الهامش، غير مرئيين لباقي المجتمع. فقد تحولت الأحلام الطبيعية لشابة جميلة إلى أخرى مسممة ومهلكة لها ولشقيقها الأصغر. فتظهر في المقابر، كأنها ترثي حالها وأنوثتها التي تكاد تذبل مثل الورود المتروكة على مدافن الموتى. فتجمعها في إناء، ثم نراها تلقى في المياه الملوثة ليختلط لونيهما معا دون سبيل لفصل الورد عن السم.

يميل المخرج إلى الاختزال في الحوار والمعلومات التي يمنحها للمشاهد عن الشخصيات، ويفضل الاعتماد على تكوينات مرسومة بعناية شديدة تخلق حالة من الضيق والاختناق، وشريط صوت نابع من البيئة نفسها. كما يختار التركيز على بطلته وعلاقتها بالمكان، متمسكا بوحدة موضوعه وخصوصيته دون انزلاق وراء خطوط درامية فرعية

تتشابه تجربة أحمد فوزي صالح مع تجربة أبو بكر شوقي في فيلم "يوم الدين"، الذي عُرض قبل أشهر قليلة في السينمات عقب مشاركته في المسابقة الرسمية لمهرجان كان السينمائي. فكل منهما تعرف على موضوع فيلمه الروائي الأول من خلال صناعة فيلم تسجيلي سبقه بأعوام، ساعده على التقرب من البيئة وشخوصها. كما أن المخرجين اقتحما عالمين بعيدين تماما عما تقدمه السينما في وقتنا الحالي؛ المدابغ في حالة صالح، والمصابين بمرض الجزام عند شوقي. إلى جانب انشغالهما بالصورة وقدرتها على الحكي والتعبير عن المشاعر الإنسانية. بالتالي، نحن أمام جيل جديد من المخرجين يحاول تقديم معالجات بصرية مختلفة عن السائد، بإدراك واع للواقع المحيط به، وانفتاح على إنتاجات العالم.

في النهاية، "ورد مسموم" فيلم جيد الصنع يتمتع بفكرة أصلية وجديدة على السينما المصرية، مكنته من حصد عدد من الجوائز في الدورة الأخيرة لمهرجان القاهرة السينمائي، وتوجته بلقب أفضل فيلم عربي. ربما يتطلب جهدا من المشاهد لقراءة صورته وإدراك موضوعه الشائك، لكن بالتأكيد يعد عملا سينمائيا يستحق المشاهدة.

موقع "في الفن" في

09.12.2018

 
 
 
 
 

"ورد مسموم".. عن نهر لا يتوقف وأمنيات لا تتحقق

بقلم: أسامة عبد الفتاح

** البُعد الميتافيزيقي في فيلميْ فوزي صالح الطويليْن كاشف ودال، لا يمكن تلقيهما من دون استيعابه ووضع اليد عليه

كادر ثابت من زاوية رأسية، فوقية، لماءٍ جارٍ في شارع. إذا كنت لا تعرف، فستظنه ماءً حلوا. بعد ثوان، ينفتح أيضا ويجري ماءٌ أسود، فتدرك أن لا حلاوة في الموضوع. إنه "شارع المية" في منطقة المدابغ بالقاهرة، الذي يصرف مخلفات دبغ وصباغة الجلود من كيماويات سامة، فضلا عن المجاري، ولا ينقطع جريانه القاتل ليلا أو نهارا، وكأنه نهر أو جدول، غير مبال بما يدور حوله من مآس، أو بمن يدبون على "ضفتيه" من بشر.

ينفتح فيلم "ورد مسموم"، للمخرج أحمد فوزي صالح، على هذه اللقطة، ويكررها أو مثيلات لها من زوايا كثيرة طوال مدة عرضه، في رمز دال وربما مقصود لجريان واستمرار الحياة وسط، ورغم، كل ما أصبح يلوثها من سموم وسواد وعفن، ودوران عجلة الزمن حتى وإن كانت تدهس في طريقها ودورانها المجنون بؤساء لا يملكون من أمرهم شيئا.

النظرة الفوقية الافتتاحية أظنها مقصودة بدورها، لتحيلك إلى القَدَر المحتوم، الذي لا فكاك منه، لسكان هذه المنطقة.. نظرة يملك مثلها دجّال / مشعوذ / ساحر طويل القامة يجلس فوق "عرش" مذهب على مجرى الماء المسموم مباشرة، كأنه إله صغير يشرف على المشهد كله ويتابع ما يجري ويتحكم فيه بنظرات وابتسامات خبيثة ساخرة أداها الكبير محمود حميده باقتدار.. البُعد الميتافيزيقي / الروحاني / الغيبي في فيلميْ صالح الطويليْن حتى الآن، الوثائقي "جلد حيّ" والروائي "ورد مسموم"، كاشف ودال، لا يمكن تلقيهما من دون استيعابه ووضع اليد عليه.

"جلد حيّ"، الذي يدور هو الآخر حول عالم المدابغ، يبدأ وينتهي بلقطات من مولد الحسين، الذي يبدو ملجأ وحيدا من واقع لا يرحم، وكأن الفيلم وُضع بين قوسين صوفيين، فيما ينتهي "ورد مسموم" بمشهد في الملاهي، وهي فعل جماعي آخر لا يختلف كثيرا في صخبه وألوانه ودلالاته، وما يرمز إليه من ذوبان جمعي يعطي الحضور - وكذلك الغياب أو الاختفاء كما يحدث مع شخصية رئيسية في الفيلم - أبعادا مختلفة.

وإذا كان الفيلم يشغل مشاهده، في المستوى الأول من التلقي، بعلاقة شديدة التعقيد بين الشقيقين "صقر" (إبراهيم النجاري)، عامل المدابغ الذي يتوق للخلاص من واقعها وواقعه المرير بالهجرة، و"تحية" (كوكي)، عاملة "مراحيض الأغنياء" التي تستميت للاحتفاظ بأخيها ومنعه من السفر أو حتى الزواج، فإن الموضوع الحقيقي في رأيي هو الأحلام المستحيلة، والأمنيات التي لا تتحقق أبدا، ولا يمكن أن تتحقق في مجتمع قاس ووسط بائس كهذا. "صقر" يضيق بكل شيء، بما في ذلك قيود أخته، ويتمنى السفر لكنه يفشل وتبدو كل محاولاته للنجاة مستحيلة.. و"تحية"، التي تتمنى الإبقاء عليه بأي طريقة حتى لو كانت ستؤذيه أو تسجنه طالما بقي حيا، لا تنجح في ذلك هي الأخرى، ولا تكون عودته من محاولة الهجرة الفاشلة كافية لطمأنتها على استمراره إلى جانبها، حيث يختفي دون سفر أو ابتعاد.

"تحية" هي الشخصية الرئيسية وليس "صقر"، وتتابعها الكاميرا معظم الوقت في ذهابها وعودتها، خاصة في رحلات توصيل الطعام لأخيها في ورشته وقت الغداء.. وقد تشعر مثلي في البداية أن هذه المشاهد ستاتيكية، أي تتكرر كما هي دون جديد، لكنك قد تدرك بعد قليل أن الإصرار على ذلك ربما يكون سببه أن الطعام من الأشياء القليلة جدا التي يمكنها استمالته بها بعد نفوره منها، إلى جانب غسيل الملابس الذي رفضه في أحد المشاهد. وهناك تعبير بصري بليغ عن عودتها لـ"القيادة" والسيطرة - بعد فشل محاولة أخيها الهجرة - يتمثل في مرور عربة كارو يتحكم فيها العربجي في اللحظة التي تستعيد فيها، أو تظن أنها استعادت، أخاها.

ويتميز العمل تقنيا في معظم عناصره، خاصة التصوير لماجد نادر في مناطق شديدة الصعوبة والوعورة مثل "شارع المية" وغيره، والديكور وتنسيق المناظر لأحمد فايز، إلى درجة أنه من الصعب تصديق أن بيت الشقيقين تم بناؤه خصيصا للفيلم فوق سطح إحدى العمارات بالمنطقة وأنه لم يكن موجودا قبل ذلك لفرط دقته وطبيعيته.

وكان الفيلم، الذي كتبه وأخرجه صالح عن رواية لأحمد زغلول الشيطي، فاز بثلاث جوائز مهمة بالدورة 40 من مهرجان القاهرة السينمائي الدولي في نوفمبر الماضي، وهي جائزة لجنة التحكيم الخاصة في مسابقة آفاق السينما العربية، وجائزة أحسن فيلم عربي التي استحدثتها إدارة المهرجان هذا العام، بالإضافة إلى جائزة صندوق الأمم المتحدة للسكان.

 

####

 

ليلي خارجي خامس أعمال أحمد عبد الله السيد

"ليل خارجي " والحيرة بين الشعبوي والنخبوي

صفاء الليثي

قابلت صاحب فيلم " ليل داخلي "  قبل الانتهاء من نسخة الفيلم وكان مشغولا بإجراء اتصالات ليشارك الفيلم في تورنتو، حماسي للقاء رغم ضيق الوقت كان بسبب أن هالة لطفي منتجة الفيلم من خلال "حصالة " لقائهما كان ينفي الاتهام بأن كل منهم يفضل العمل بمفرده، هل ستكون بداية لتجمع ما ؟ خلافا للتعبير المرفوض " سينما مستقلة". لدي مشروع كتاب " محاولة اقتراب " أتتبع فيه مخرجي السينما المصرية الجديدة  ومنهم المخرج أحمد عبد الله.

يقول أحمد عبد الله ، غسلت يدي من تهمة مستقل، عرض على شريف الألفي سيناريو فيلم تقليدي، قرأته ووجدته متماس مع أفكاري، هو شاب عمره 33 سنة ووجدت بيننا أرض مشتركة. واحتاج النص تطويعا أو تطويرا عملنا عليه معا. وهالة لطفي شريك فني في المقام الأول. فيلمي الجديد مختلف تماما، لا أحب أن أكرر نفسي . حين سألته أنني أجد تشابها بين ميكروفون وآيس كريم في جليم ابتسم وقال كتير قالولي كده ولكنه لم يكن ببالي، لا شك أن أفكارنا بنات أشياء تأثرنا بها في حياتنا ومنها أفلام الثمانينيات. هنا في " ليل خارجي " التقط المشاهدون للفيلم بمهرجان القاهرة علاقة مع " ليلة ساخنة" . نعم هناك تقارب مع اختلاف المدخل والشخصية . بقصد أو بدونه تدخل الأفلام في وعينا كأنها واقع معيش، تضيف لتجارب مر بها الكاتب فعليا في حياته الخاصة، وعند الكتابة يمتزج الخاص بالعام، ونجد أنفسنا أمام عمل ممتع رغم تشابهه مع أعمال كثيرة مصرية وعالمية، وخاصة أن نوع فيلم الطريق نوع شائع وله قالبه الذي لا يخرج عنه من تحول البطل في نهاية الرحلة إلى شخص آخر إذ يعود من الرحلة وقد اكتسب معرفة جديدة، يوضحها الحوار في " ليل خارجي"  يقول المأمور – ويقوم به المخرج مجدي أحمد علي  لمو- كريم قاسم-  المخرج، اعتبر انك عرفت حاجة هتعمل عنها فيلم بعد كده. لم يخلو فيلم لأحمد عبد الله من وجود مخرج لسينما جديدة يحاول التواجد في سوق السينما، مرة أخرى كخيري بشارة في " العوامة 70" حيث يقوم أحمد زكي بدور مخرج يصور فيلما تسجيليا، وفي مقدمة ديكور يظهر فيها ابراهيم بطوط وقد قرر أن ينجز فيلما بشروط السوق، يقول أحمد عبد الله ، ابراهيم بطوط غرس فينا احترام تكنولوجيا الديجيتال لكل المخرجين الكادحين، وكان الميل لتأطير أفلامنا ( مبادرة السينمائيين المستقلين) حتى وجدنا أنفسنا غير مدرجين بشكل صحيح ( دول غير دول) كان هناك نوع من الذل رغم تقاطع الطريقين، يقصد سينامهم والسينما السائدة . حدثني أحمد عبد الله أنه بدأ مونتيرا مع ابراهيم بطوط، وبعض أعمال أمير رمسيس ، حدثني عن لقائه بخالد أبو النجا أثناء مونتاج فيلمه مع أمير رمسيس " كشف حساب" وقتها كان لخالد أربعة أفلام بالسوق وتحمس لينتج له العمل الأول "هليوبوليس" وبعده ميكرفون الذي نجح نقديا وجماهيريا. بعدها أخرج فرش وغطا الذي هوجم بشكل جمعي ( رغم إعجاب  كاتبة هذه السطور  الشديد به) ثم فكر في ديكور، الرغبة في عمل فيلم تجاري كانت تتملكني، ومع ذلك لم ينجح فيلم ديكور جماهيريا، يمكن علشان أبيض وأسود ، مع فيلمي الخامس هذه المرة الفيلم بتاعنا، أقدمه بحرية كاملة في الاختيار، حتى لو لم أنجح، هو فيلم طريق البطل كريم قاسم مع الممثل السكندري الموهوب شريف الدسوقي ( تعرفت عليه من أعمال قصيرة لمخرجي الإسكندرية وكان لافتا بأداء خاص ومختلف) .

يحصل شريف دسوقي على جائزة أفضل ممثل من دورة مهرجان القاهرة 40، من لجنة تحكيم رأسها المخرج الكندي بيل أوجست، وسبقه جموع المشاهدين للفيلم في توقعهم لحصوله على الجائزة وكانت جائزة وحيدة حصل عليها الفيلم وسط تنافسه مع أفلام قوية شهدتها أفلام المسابقة في حدث نادر افتقدناه لعدة سنوات، فهذا العام كانت أفلام المسابقة الرسمية من القوة بحيث أشادت بها اللجنة وعبر رئيسها عن سعادته بذلك للمدير الفني القدير الناقد يوسف شريف رزق الله.

ليل خارجي يبدأ بالمخرج يصور إعلانا بينما الممثل أحمد مجدي صديقه معلقا بشكل كاريكاتوري بحبال وتحدث أزمة ويتأخر الونش لينزل الممثل فيغضب ويدور حوار نفهم منه أن الممثل صاحب فضل على المخرج لترشيحه لإخراج هذا الإعلان ( لأنه خالي شغل) الذل الذي ذكره أحمد عبد الله الذي عانى منه مخرجو السينما الجديدة مطروحا في الفيلم كحقيقة، ونعرف مشاكلهم في وحدة مشهدية أجدها قد طالت قبل الدخول إلى الخط الرئيس للفيلم برحلة السائق مصطفى والمخرج مو بالتاكسي واللقاء مع تهاني فتاة الليل في رحلة استدعت عند الجميع فيلم " ليلة ساخنة " لعاطف الطيب. يبدو أحمد عبد الله متشبسا بنماذج قوية من أفلام نجحت لمخرجين يحسبون على السينما الجديدة غالبا مقترنا بلفظ الواقعية دون أن ينسى حماسه لفيلم مختلف يمثله، وهو ما يقدمه عبر خط مواز لفيلم عن شاب من الصعيد قرر الهجرة ويمضي في طريق الهجرة غير الشرعية مودعا عروسه وآملا في الوصول إلى شواطيء الغرب. تتقاطع مشاهد فيلم الهجرة مع مشاهد فيلم الطريق مربوطة بخبرة أحمد عبد الله في المونتاج، وهذا التوازي يفرقه بشدة شريط الصوت الصاخب جدا في فيلم الطريق على الطريقة الشعبية، مع صمت تغلفه موسيقى لفيلم السينما الخاصة المنحاز لها مو ومخرجنا.

حين قدم حسين كمال فيلم أبي فوق الشجرة وعاتبه محبوه ، فكيف لصاحب المستحيل والبوسطجي أن يقدم فيلما خفيفا كهذ كان الجمهور يعدد فيه قبلات البطل مغني الجماهير عبد الحليم حافظ للفاتنة نادية لطفي، ودقوا الشماسي على البلاج يتراقص فيه حليم بالمايوه . كان رد حسين كمال أنه أراد أن يسلم على الجمهور، فهل أراد أحمد عبد الله أن يسلم على الجمهور في ليل خارجي فلجأ إلى نكات لفظية وتيمة شائعة عن لقاء رجلين مع عاهرة؟

حين تحمس محمد حفظي لضم فيلم " ليل خارجي" لمسابقة مهرجان القاهرة في دورته التي رأسها أثيرت شائعات أنه المنتج للفيلم، ثم عندما وضح أن الفيلم من إنتاج حصالة هالة لطفي، تغيرت الشائعة إلى أنه الموزع، وكيف يشارك فيلم من توزيع منتج لمهرجان هو رئيسه، مما اضطر حصالة إلى إصدار بيان تحكي فيه حكاية التوزيع والتراجع عنه . كنت عبرت لأحمد عبد الله عن عدم تفهمي للمنتج محمد حفظي واندهاشي من اختلاف نوعيات ما ينتجه، وسألته عن علاقته به فقال تقدم لي حفظي بعد هليوبوليس وقال إنه يريد أن ينتج لي فيلما، أخبرني أنه حابب التجربة وكان سمير فريد حاضرا ، فكان  فيلم ميكرفون الذي أنتجه بالكامل . شجع تجربة المزج بين الروائي والتسجيلي، فيه خضنا تجربة مختلفة، عايشت شباب الإسكندرية، أقمت مع فريقي تسعة أشهر ما بين تحضير وتصوير، وجدت حفظي منتجا يثق بالناس، شارك الفيلم في تورنتو ثم قرطاج حيث حصد التانيت الذهبي 2010 . ثم دخلت معه تجربة فيلم " فرش وغطا " بالشراكة مع مشروع " تكتل " آسر يس، هاني قصير منتج فني، ومدير تصوير طارق حفني، عمر شامة سيناريست بعد الموقعة، اتبعت نفس أسلوب ميكرفون في المزج بين التسجيلي والروائي، فخور بأني لم أحصل على دعم خارجي فكان الفيلم إنتاج رجل بيزنس واعي يثق في حدسه. أما ليل خارجي فهو من إنتاج هالة لطفي بشركتها الصغيرة حصالة وكانت أنتجت فيلم تسجيلي " النسور الصغيرة" ، كتبنا بيان " نحن قادرون على عمل أفلام في حالة لإثبات مكانة ) معنا هشام صقر الذي عمل معي مساعد مونتير ثم أصبح مونتيرا، وأخيرا يجهز لفيلمه الأول بدعم محمد حفظي، حفظي يدخل في المشروع غالبا في مرحلة ما بعد التصوير في منطقة التوزيع والمهرجانات، حقق سمعة عالمية وأصبح مصدر ثقة على مستوى العالم كله. لديه مهارة تشبه مهارة التوانسة في دعم  الإنتاج والتوزيع. وقد تنازل عن توزيع فيلمنا هذا ليتمكن من مشاركته بمهرجان القاهرة حيث كان يواجه تحدي عدم وجود أفلام مصرية مشاركة في المسابقة الدولية لأكبر مهرجان في مصر، وخاصة أن الفرصة أصبحت متاحة بعد توقف مهرجان دبي الذي كان يدعم الأفلام المصرية والعربية بشرط حجز عرضها الأول هناك.

وأخيرا فإنني أتمنى النجاح الجماهيري لفيلم تعاون فيه ثلاثة من صناع السينما المصرية الجديدة أولهم هالة لطفي صاحبة " الخروج للنهار " وثانيهم نجم السينما المهمشة شريف الدسوقي المشارك كل التجارب الجديدة على اختلاف أنواعها. وثالثهم أحمد عبد الله صاحب هليوبوليس وميكرفون وفرش وغطا وديكوروليل خارجي، الذي سألته عن النقاد وموقفهم من أفلامه؟ قال إن الصحافة كانت المحرك الأساسي وقت الواقعية، المصري يعطي الواقعية بهاء . تراجع دور الصحافة، لم تعد الجموع تصدق ما يكتب، أصبح النقد مهنة من لا مهنة له. لم تعد الكتابة في الصحف مهمة، المحرك الأساسي حاليا السوشيال ميديا ، تأثيرها أصبح الأقوى.

في جلسة الأسئلة والأجوبة التي تلت عرض الفيلم في تورنتو، تحدث عبد الله عن اهتمامه الراسخ بإنشاء فيلم من منظور امرأة. وقال إن المهمة أثبتت أنها أكثر تعقيدا بقليل مما كان يتخيلها في الأصل. " لا أعتقد أنني أستطيع أبداً ، أكثر من أي وقت مضى، أن أضع وجهة النظر الحقيقية لامرأة في القاهرة في أفلامي. لن أشعر أبدا بالضغط نفسه، ولن أشعر أبدا بما تمر به النساء كل يوم. لكن ما أستطيع فعله ، وما قررت فعله هو تكريس أفلامي القادمة لقول قصص النساء. ويستشهد بالمخرج السينمائي المصري المخضرم يسري نصرالله كمصدر إلهام ، الذي صرح، حسب عبد الله ، بأن السينما المصرية كائن ميتً عندما " تتخلّي عن رواية قصص النساء".

هذا الحديث يوضح لنا لماذا بدا الدور الأهم في فيلم " ليل خارجي" للسائق مصطفى وليس لتهاني توتو، ومع إجادة منى هلا لدورها ومعها بسمة إلا أنهما تظلان في مرتبة تالية لدور السائق والمخرج ومروج المخدرات ( كريم قاسم وشريف الدسوقي وأحمد مالك)  في عمل يفترض أن البطولة فيه للمرأة ضحية المجتمع الذكوري.

جريدة القاهرة في

10.12.2018

 
 
 
 
 

الخشبة التى فى عينه!!

طارق الشناوي

المنتج والمخرج أحمد عاطف درة أرسل ردا على مقالى (ماء النار)، الذى أدعو فيه الجميع إلى عدم استخدام سلاح الاتهام بالتطبيع، وهو ما يستفيد منه بالدرجة الأولى العدو الصهيونى.

أنا لم أتهم المنتج والمخرج (دُرة) بالتطبيع مع الكيان الإسرائيلى، فقط قلت إنه شارك عام 2014 بفيلمه (قبل الربيع)، فى مهرجان الإسكندرية، رغم تواجد فيلم إسرائيلى يتنافس على الجائزة، المنتج يؤكد فى رده أنه شارك فى المهرجان بعد أن علم أن الفيلم الإسرائيلى (فيلا توما)، لن يعرض، والحقيقة الدامغة أن الفيلم الإسرئيلى مشار إليه فى (كتالوج) المهرجان، وأن رئيس المهرجان الصديق الناقد والشاعر الأمير أباظة لم يعلن رسميا، منع عرض الفيلم، بل ظل يؤكد طوال فعاليات المهرجان، حتى آخر لحظة، أنه حتى وإن لم يستطع عرضه فى الافتتاح سيعرضه فى الختام، وبطلة الفيلم نسرين فاعور كانت من ضيوف المهرجان، وبالمناسبة لم- ولن- أتهم وقتها الأمير بأى اتهامات (حنجورية)، مثل التى نتابعها هذه الأيام، وكأن الوطن ملك فقط لأصحاب الصوت العالى، المتخصصين فى توزيع صكوك الوطنية على زيد وحجبها عن عبيد.

قلت ولا تزال هذه قناعتى إننى متعاطف مع الفلسطينى العربى الجذور الذى يحمل رغما عنه الجنسية الإسرائيلية، ويقدم فيلما، مدعوما من صندوق السينما الإسرائيلى، ولكن فى نفس الوقت لا نعرضه، فى أى مهرجان عربى، لأن القرار الذى تم اتخاذه عربيا قبل نحو 40 عاما، يحول دون عرض أى مصنف فنى إسرائيلى.

المنتج المخرج يعتب على أننى قلت إنه كان ينتظر جائزة، هل هذه تهمة تدعو للإنكار؟، أى إنسان يشارك فى مهرجان ينتظر قطعا جائزة، أما أنه لم يدرك أنه يتسابق مع فيلم إسرائيلى، فهو ما لم أقتنع به، بالمناسبة لا أتهمه بالكذب، ولكن بالغفلة، لأن الجميع كانوا يترقبون عرضه بين لحظة وأخرى وحتى موعد إعلان الجوائز.

المنتج والمخرج انتقل لمنطقه أخرى، وقال مثلا إنى فى اللجنة العليا لمهرجان القاهرة، ولا يحق لى الحديث عن المهرجان، اسم اللجنة والذى تعمد ألا يذكره كاملا (الاستشارية) وأنا عضو بها منذ أربع دورات، ونقدى للمهرجان موثق طوال تلك السنوات على صفحات (المصرى اليوم)، اللجنة لا تقيم المهرجان، ولا دخل لها بالتفاصيل، فقط فى بعض الأمور تستشار أو لا تستشار، ولهذا مثلا اعتبرت أن مشاركة فيلم (جريمة الإيموبليا) رسميا هذا العام جريمة ارتكبتها إدارة المهرجان، وانتقدت رتابة حفل الختام وغيرها، وفى نفس الوقت كنت مدركا أهمية الحفاظ على استمرار فريق العمل لأنه حقق قفزة نوعيه هذا العام.

(دُرة) ينتج ويكتب ويخرج أفلاما، ثم فى نفس الوقت ينتقد عددا من أفلام زملائه، رغم أنهم يمثلون حاليا الوجه الجديد المشرق للسينما، بين الحين والآخر يتقدم للدولة مثل غيره من المنتجين بمشروعات أفلام للحصول على دعم مادى من وزارة الثقافة.

وأظن، وليس كل الظن إثما، أنه المنتج الوحيد فى تاريخ (صاحبة الجلالة) الذى سمحت له الصحافة بالانضمام لصفوفها، نعم هناك كتاب سيناريو ومخرجون وممثلون ولكن منتج وصحفى ومنعا لتداخل المصالح فإن تلك هى السابقة الأولى.

ليته يتذكر قول السيد المسيح عليه السلام: (قبل أن تنظر للقشة فى عين صاحبك أخرج الخشبة التى فى عينك)!.

المصري اليوم في

10.12.2018

 
 
 
 
 

أفلام إحسان عبدالقدوس

حسام حافظ

مجهود كبير بذله الباحث السينمائي سامح فتحي في اعداد كتاب "إحسان عبدالقدوس.. بين الأدب والسينما" الصادر عن مهرجان القاهرة السينمائي هذا العام. وقبل سنوات أدرك العديد من نقاد الأدب عدم اهتمامهم بنقد روايات احسان وتقديمها للقارئ. والغريب أن هذا التجاهل امتد إلي الأفلام المأخوذة عن رواياته ولم نجد الدراسات النقدية الجادة عنها مثل أفلام نجيب محفوظ أو يوسف ادريس وغيرهما.

والسبب المعلن لذلك أن روايات وافلام احسان لديها من الشعبين والانتشار ما يكفي ولا تحتاج لتنبيه القارئ إليها. كما انها تبدو بسيطة وسطحية ولا تقدم النقد الاجتماعي والسياسي الذي يمنح الأعمال الأدبية والسينمائية المزيد من العمق.. وغير ذلك من الأسباب. ولكن الباحث سامح فتحي أراد أن يزيح ستار التجاهل ويقدم دراسة تعتمد علي التوثيق الأدبي والفني جمعت بين الحديث عن الرواية كعمل أدبي ثم بعد تحويلها إلي فيلم سينمائي وتقديم كافة بيانات الفيلم.. إلي جانب صورة لغلاف الرواية ثم صورة لأفيش الفيلم ولقطة منه ومختصر للرواية ورؤية نقدية للفيلم. هكذا فعل سامح مع 40 فيلماً من الأفلام المأخوذة عن روايات احسان. بداية من فيلم "أين عمري" للمخرج أحمد ضياء الدين عام 1956 وحتي فيلم "الراقصة والسياسي" للمخرج سمير سيف عام 1990.

عاش احسان عبدالقدوس بين عامي 1919 و1990 وهو ابن المهندس محمد عبدالقدوس الذي عشق الفن واتجه للتمثيل وأمه السيدة فاطمة اليوسف الشهيرة بروزاليوسف الممثلة وصاحبة المجلة السياسية الشهيرة. أما احسان فقد تخرج في كلية الحقوق عام 1942 وأحب كتابة القصص منذ شبابه المبكر لكن أمه أرادت له الاتجاه للصحافة حتي يرث المجلة ولم يجد مفراً من الجمع بين الأدب والصحافة. لذلك جاءت غالبية قصصه مسلسلة علي صفحات "روزاليوسف" و"صباح الخير" ثم تطبع في كتاب أو تتحول إلي فيلم وحققت شهرة كبيرة مثل روايات:" لا أنام" و"الوسادة الخالية" و"أنا حرة" و"في بيتنا رجل" و"النظارة السوداء" و"أبي فوق الشجرة" و"بئر الحرمان" و"الخيط الرفيع" و"امبراطورية ميم" و"الرصاصة لا تزال في جيبي" و"العذراء والشعر الأبيض" و"ياعزيزي كلنا لصوص".

يقول سامح فتحي في المقدمة: "قدمت السينما المصرية العديد من قصص احسان عبدالقدوس منها 49 رواية تحولت إلي افلام و5 روايات تحولت إلي نصوص مسرحية و9 روايات أصبحت مسلسلات اذاعية و10 روايات تحولت إلي مسلسلات تليفزيونية.. ويذكر سامح ايضا أن احسان كان علي عكس نجيب محفوظ. لم يكن يؤمن بأن صاحب العمل الأدبي الأصلي لا علاقة له بالفيلم المأخوذ عن روايته. لذلك شارك في كتابة حوار العديد من أفلامه مثل "لا تطفئ الشمس" اخراج صلاح أبوسيف و"امبراطورية ميم" مع المخرج حسين كمال.

كتاب الباحث السينمائي سامح فتحي يؤكد أن تاريخ السينما المصرية يستحق المزيد من اهتمام النقاد. فالسينما قدمت 49 ر واية من روايات احسان عبدالقدوس علي الشاشة. وما فعله سامح فتحي هو التوثيق لهذه الأعمال. ولكن المفترض أن يكون لدينا دراسات عديدة عن مضمون هذه الاعمال وتأثيرها في المجتمع في الفترة التي ظهرت فيها وأسباب شعبية أعمال احسان عبدالقدوس وانتشارها. وهي دراسات تحتاجها السينما المصرية التي تريد الحفاظ علي نجاحها السابق وهي ايضا تريد صناعة مستقبل لها.. تحية لسامح فتحي ولكل من يساهم في توثيق تاريخ السينما المصرية.

الجمهورية المصرية في

12.12.2018

 
 
 
 
 

المكان .. الحياة في مقهى صغير

أمل ممدوح

"إن القدر لا يغلق دفتر حساباته مع الإنسان أبدا"هكذا قال أوسكار وايلد، وحينما باع دكتور "فاوستوس" العالم الكيميائي روحه للشيطان "مفستوفيليس"موقعا معه عقدا بالدم في مسرحية كريستوفر مارلو الشهيرة "مأساة دكتور فاوستوس"؛ كان يحلم بالوصول للمعرفة والتمتع بالحياة، لكنه لم يخطر بباله أن لحظة بلوغه الموعد ستكون أسعد أوقاته، لم يكن يدرك فداحة الثمن .

يقترب بنا من هذه الحبكة المخرج والمؤلف الإيطالي “باولو جينوفيز” في فيلمه الأخير"المكان The place، بعد فيلمه الرائعPerfect strangers” “، تبطنه بنية مسرحية نموذجية ذات عمق فلسفي، لكنها متسقة كثيرا في تناولها مع الفكرة، في مقهى يقع في رأس طريقين تكتب لائحته بضوء نيون أحمر مثير للانتباه تلتقي مع الصورة الذهنية للملاهي الليلية، يتواجدفيه بشكل دائم رجل غامض متوسط العمر ببدلة رسمية يبدو عليه الوقار والهدوء لا يبتسم عادة، يجلس على طاولة ثابتة في مكان ثابت حتى وإن أغلق المكان وقلبت مقاعده المرقمة، يذهب الناس ويأتون ويبقى هو دون تفسير واضح، مما يفتح قوس الاستنتاجات الخارقة للطبيعة التي تتراكم معها التكهنات حوله على مدار الفيلم، أمامه كتاب ضخم ممتلىء بالكتابة اليدوية بهيئة تشبه الكتب المقدسة، لا يسمح لأحد بلمسه، ودون تفسير يأتي إليه الناس لتحقيق أمنياتهم التي عادة ما تكون مقابل مهمة خاصة يطلبها منهم تبدو مريبة أو شريرة غالبا، مما لا يتسق مع هيئته الوقورة الهادئة، يأتي إليه الناس لا يذهب إليهم، يطلبون فيحدد المهام بلا إلحاح أو إقناع، كموظف حكومي يدير قوانين صارمة، يعنيه أن يكونوا مكتملي الإرادة بالموافقة، تتردد عليه تسع شخصيات متنوعة العمر والجنس والرغبات، أغلبهم لديه رغبات مشروعة أو بريئة، فهناك الأب الشاب الذي يريد إنقاذ ابنه من السرطان أو المرأة المسنة التي تريد إنقاذ زوجها من الزهايمر والأب الذي يبحث عن ابنه والراهبة التي تريد أن تجد الله وهناك الميكانيكي الذي يحلم بليلة مع عارضته المفضلة، يطلب منهم في لقطات قريبة عادة متقابلة تعطي انطباع الخصومة أو الضدية؛ مهاما صعبة لكنها دائما غير مستحيلة، قد تتنافى مع مبادئهم أو تفضيلاتهم أو إنسانيتهم لكنهم يرضخون من أجل رغبة أقوى، يطلب سرقة وقتل واختطاف واغتصاب أو تفريق بين زوجين، وأحيانا مهام مسالمة، كلهم وافقوا وإن ترددوا باستثناء المرأة المسنة في النهاية، نراه متزن الأعصاب جامد التعبير، يثور عليه البعض لكنه ماض في عمله وهم ماضون في المهام .

يتصاعد سيناريو الفيلم بسلاسة مدهشة ومهارة، فرغم أن أحداث الفيلم تدور في هذا المقهى لا تخرج عنه، لكننا نرتبط بقصص الأشخاص وتطوراتها التي يقصونها عليه، فهو "يؤمن بالتفاصيل" كما كانت إجابته حينما سألته الراهبة "هل تؤمن بالله"؟، بتوالي سرد مستجدات الشخصيات نرتبط بتسع حكايات تخترق الكيان الإنساني بضعفه وقوته وطمعه وكبره وتردده ..خيره وشره، يسأله أحدهم عن سر طلبه لأشياء مروعة، فيجيب: "لأن هناك من هم على استعداد للقيام بها"، فالحوار الواقع عليه عاتق الفيلم مثير للتأمل ثري بالتفاصيل، يحوي شذرات تطرح أسئلة واستنتاجات، ويكشف عن مكنون الشخصيات، خاصة حين نجد خيوط حيوات الشخصيات الغريبة عن بعضها تتلاقى، مما يعطي صورة مصغرة للحياة ككل، وتحديدا صورة للميكانيزم الذي يديرها بشكل يتضمن رؤية عبثية ساخرة، لذا كان الأمر يقتضي التجريد وتمثيل الحياة أو عالم الأرض بهذا المكان الرامز لهما؛ تجريد الرؤية من الصور والتأثيرات الكثيرة لنرى هذا الميكانيزم الكامن وراءها ونرى أنفسنا بشكل أيضا مجرد، تتسع تأويلات الفيلم وتفسير ماهية الرجل، لكن فكرة القدر تظل الأقوى وكون الرجل يرمز له، والذي اختار الفيلم تصويره كموظف روتيني يجري الحسابات والمعادلات ويخطط بقلمه، يتحمل لعنات الناس ويظل يعمل في صمت، فهذا الدفتر الضخم وهذه الصرامة في الإجراءت وسؤالا يقابله بصمت عن المتحكم في الجانب الآخر، كلها ترجح رمزيته للقدر مع بقاء شكوك رمزيته لله أو الشيطان.

كثير من اللقطات نراه فيها من الخارج عبر زجاج المقهى، الذي يليه ستارة منسدلة ذات فتحات أفقية متتالية، بشكل يوحي بالتلصص الذي قد يعني أحد "على الجانب الآخر"، أو يعد تحريضا للمشاهد على التلصص برؤية تجريدية أيضا، فنرى من الخارج أو نرى الخارج عبر الزجاج من الداخل، كل ذلك في جو شاحب يغذي حالة من الغموض مع قطعات متكررة كفواصل زمنية بتكنيك عادة يغذي إحاساسا بالخفوت والشجن يعم الفيلم وموسيقاه الهادئة جدا أيضا، تتنوع الشخصيات والزمن وأحوال الطقس كحيل إيقاعية لم تجد دائما، فربما كان من الأفضل إيجاد حيل إخراجية تغذي بصرية الفيلم وإيقاعه مع تجمد المكان وكثرة الحوار، لكنه برغم ذلك وبرغم لحظات من الرتابة أو الإرهاق الذهني استطاع امخرج الفيلم أن يربطنا بعالمه حتى آخره، خاصة مع وجود أداء تمثيلي جيد وممتع من معظم أبطال الفيلم، وعمق رصين يسرب ما يراد بذكاء من بطل الفيلم "فاليريو ماستاندريا"، هذا الرجل الغامض الذي حرره حب لم يخطر بباله، دون مهام خاصة أو أمنيات ملحة ومعادلات صارمة.. حين أحبته امرأة كانت دوما تراقبه بينما كان ينشغل بأقدار الآخرين .

نشرة القاهرة السينمائي في

12.12.2018

 
 
 
 
 
 
 

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك
  (2004 - 2018)