مهرجان البندقية محطةَ انطلاق موسم الجوائزالسينمائية الدولية:
الأفلام العربية خارج السباقات وحضور قوي للمكسيك
حسام عاصي
البندقية – «القدس العربي» : مهرجان فينسيا
السينمائي «البندقية» افتتح فعاليات دورته الخامسة والسبعين يوم
الأربعاء الماضي بالعرض الأول لفيلم « أول رجل»، الذي يتناول قصة
اولِ إنسان يسير على سطح القمر عام 1969.
الفيلم من اخراج داميان شازيل، الذي حضر المهرجان
قبل عامين بفيلمه الأخير «لا لا لاند»، وذهب ليحصد ثماني جوائز
أوسكار، ومن ضمنها أوسكار أفضلِ مخرج له. ولن يستبعد النقاد تحقيقه
أوسكارا أخر عن «أول النقاد» الذي لقي إعجابهم وخاصة أداءات
غازلينغ وفوي.
فضلا عن كونه أقدم مهرجان سينمائي، يعتبر مهرجان
البندقية مؤشرا مهما لجوائز الأوسكار، ففضلا عن «لا لا ند»، معظم
الأفلام التي عُرضت فيه في الأعوام الأخيرة فازت بأوسكار أفضل فيلم
على غرار «شكل الماء»، و»الرجل الطائر» و»جاذبية» و»سبوتلايت».
وهذا العام تحول الى أهم مهرجان عالميا لأنه جذب
أفلام شركات البث الألكتروني «نيتفليكس» و»أمازون»، التي رفض
مهرجان «كان» الفرنسي عرضها في دورته الأخيرة، بعد اعتراض أصحاب
دور السينما الفرنسية.
الفونسو كوارون يفضل الشاشة الكبيرة
أحد الأفلام، التي رفضها «كانّ» وعُرضت في
«البندقية» كان تحفة المخرج المكيكسي الفونسو كوارون، «روما»، التي
يعود فيها الى بلده مكسيكو سيتي ليسرد قصة مستلهمة من طفولته عن
خادمة في بيت عائلة ثرية، يعالج من خلالها الواقع الاجتماعي
والسياسي في المكسيك في بداية السبيعينيات والحزازات بين الطبقات
الاجتماعية المختلفة والأعراق والجنسيين.
وفي حديث معه أكد لي أنه يفضل الشاشة الكبيرة لطرح
أفلامه، ولكن عليه أن يأخذ بالحسبان التغيير على ارض الواقع. «بلا
شك أن الشاشة الكبيرة تمنح المشاهد نقائية عالية للصوت والصورة.
ولكن في الأعوام الأخيرة طرح الأفلام في دور السينما قصّر من حياة
الفيلم. بينما حياة الفيلم عبر مواقع الأفلام تستمر الى الأبد».
«روما» يتسم بجماليات بصرية رائعة ومبهرة، صورها
كوارون بنفسه بالأبيض والأسود، ولم يستخدم الألوان أبدا. وذلك
خلافا لفيلمه السابق، «جاذبية»، الذي ابتكر فيه تقنية تصوير حديثة
من أجل تصويره، وطرح كوارون ذلك الفيلم أيضا في المهرجان عام 2013
وفاز لاحقا بثماني جوائز أوسكار.
«إن تصوير «روما» بالأبيض والأسود هو جزء لا يتجزأ
من سرد القصة»، يوضح كوارون. «أنا لم أستخدم التصوير الأبيض
والأسود الكلاسيكي، بل استخدمت نوعا حديثا منه من خلال التصوير
الرقمي، الذي يكون أكثر نقاء. لهذا هو انشطار، لدينا اللون المعاصر
للتعبير عن الماضي».
«نيتلفكس» وخمسة أفلام
إضافة لروما، حضرت شركة «نيتلفكس» بخمسة أفلام
أخرى، من إخراج وبطولة نجوم عالميين تألقوا على البساط الأحمر
وأشعلوه باضواء الكاميرات، التي كانت خافتة في مهرجان كان
السينمائي، بسبب شح النجوم. ومن ضمنهم الأخوان كووين، اللذان حضرا
بفيلم الويسترن «ذي بالاد أوف باستر سكراغز»، الذي يطرح خمس روايات
مختلفة في الفيلم. والبريطاني بول غرينغراس، الذي يتناول عواقب
مقتل 77 نرويجيا عام 2011 برصاص متطرف يميني. وفيلم المخرج الراحل
أورسون ويليز «الجانب الآخر من الريح».
ومن النجوم الذين عادوا الى البندقية الأمريكية
إيما ستون، التي فازت بجائزة أفضل ممثلة قبل عامين عن دورها في «لا
لا لاند»، وذهبت لتحصد جائزة الأوسكار عن الدور نفسه. وحضرت هذا
العام مع فيلم المخرج اليوناني يورغوس لانثيموس «المفضلة»، الذي
تدور أحداثه في القرن السابع عشر، وتلعب فيه دور خادمة تنجح في كسب
ثقة ومحبة الملكة آن، التي تؤدي دورها أوليفيا كولمان، وتقنعها
بطرد أقرب صديقة حميمة ومستشارة لها من القصر (راتشيل وايز) لتحل
محلها.
خلافا لستون، فNن
كولمان ووايز عملا مع المخرج السريالي من قبل في فيلم «سرطان
البحر». «صحيح، لكنني استمتعت جدا بالعمل معه، لأنه لا يطلب منك
الالتزام بالشخصية الواقعية، ويحثك على استخدام خيالك في بناء
الشخصية وهذا كان محررا جدا لي كممثلة».
«المفضلة» هو أول فيلم واقعي للمخرج السريالي
لانثيموس، المعروف بأفلامه الغريبة الأطوار، مثل «سرطان البحر»
و»مقتل غزال مقدس». ولكنه يصر على أن الفيلم لا يختلف سينمائيا عن
أفلامه السابقة «هدفي من صنع هذا الفيلم كان تجربة تطبيق منهجي
السينمائي في هذا النوع من الأفلام التاريخية».
أفلام خارج المسابقة الرسمية
الفيلم الذي كان محور اهتمام رواد المهرجان كان
«ولادة نجم»، الذي عرض خارج المسابقة، وذلك بفضل بطلته نجمة الروك،
ليدي غاغا، التي أشعلت صراخ المعجبين عندما وصلت البساط الأحمر مع
المخرج وشريكها في بطولة الفيلم، الممثل برادلي كوبر.
«ولادة نجم» يحكي قصة فتاة تحلم أن تصبح مغنية
محترفة وتحقق ذلك عندما تلتقي بنجم روك شهير، يدعوها للغناء معه
على المنصة ثم يتزوجها، وسرعان ما تصعد الى قمة مهنتها بينما يخفت
نجم زوجها بسبب إدمانه على الكحول.
الفيلم لقي اعجاب جمهور المهرجان، الذين صفق بحرارة
لمدة 15 دقائق بعد نهاية العرض الأول، بينما كانوا يهتفون بإسم
ليدي غاغا، التي ردت عليهم بالقبلات والثناء.
أفلام وثائقية
كما يعرض المهرجان إثني عشر فيلما وثائقيا خارج
المسابقة الرسمية. ومن الأفلام الوثائقية، «داعش غدا: أرواح ضائعة
في الموصل»، الذي يقدم فيه مخرجوه الإيطاليان فرانشيسكا مانوشي
واليسيو رامينزي واقعا مأساويا لعائلات عناصر تنظيم ما يسمى الدولة
الإسلامية وضحاياهم من سكان الموصل في العراق بعد استعادة السيطرة
عليها من قبل القوات العراقية وحلفائها. وفي حديث معهما قالا إنهما
صنعا هذا الفيلم عندما سمعا أن الحكومة العراقية تخطط للقضاء على
أطفال ونساء عناصر داعش.
ورغم أن الأطفال والنساء الذين معهم يخبرون بأن
حلمهم هو قتل الأوروبيين إلا أنهما يصران على أنهم ضحايا «لم
يرتكبوا جرائم مثل آبائهم»، تقول مانوشي «وعلى الحكومة أن تدمجهم
في المجتمع وإلا سيتحولون مثل آبائهم ويعودون في تنظيم إرهاب ربما
أخطر».
أفلام عربية
غابت الأفلام العربية في منافسة المهرجان الرسمية،
التي تضم واحدا وعشرين فيلما. ولكن هناك سبعة منها تشارك في فئات
أخرى من المهرجان. اثنان يشاركان في مسابقة «آفاق»، وهما: «تل ابيب
تحترق» للمخرج الفلسطيني سامح زعبي والثاني «يوم أضعت ظلي» للمخرجة
السورية سؤدد كعدان، وفي فئة «أيام فينيسيا» يشارك «مفك» للمخرج
الفلسطيني بسام جرباوي، بينما يتنافس فيلمان سوريان وهما «ما زال
يسجل» من المخرجان سعيد البطل وغيث أيوب و»دشرة» للمخرج عبد الحميد
بوشناق وفيلم سوداني وهو «أكاشا» للمخرج حجوج كوكا في فئة «أسبوع
النقاد». كما تعرض المخرجة السعودية هيفاء المنصور فيلما قصيرا وهو
«عرس إبنة المغني» في قسم العروض الخاصة.
وعُرض فيلم الفلسطيني سامح زعبي وهو «تل أبيب
تحترق»، الذي يدور حول كاتب سيناريو فلسطيني، يتعاون مع ضابط حرس
حدود إسرائيلي، أوقفه على نقطة تفتيش، في كتابة سيناريو مسلسل
تلفزيوني شعبي لكي يتفادى تحرشه به.
الفيلم أثار إعجاب رواد المهرجان وحاز على مدح
النقاد. ولكنه أيضا أشعل الجدل عربيا لكونه من انتاج اسرائيل
بالاشتراك مع لوكسمبورغ وبلجيكا وفرنسا، ولكن زعبي يصر على أن
التمويل هو من حقه لأن الحكومة الإسرائيلية تفرض الضرائب على
فلسطيني 48 «ليس لنا خيار آخر. هذه هي أموال ضرائبنا ومن حقنا أن
نحصل عليها».
أفلام الواقع الافتراضي
مثل غيره من المهرجانات الكبرى، يقدم
hgمهرجان
فينيسيا زاوية لأفلام الواقع الافتراضي، التي لا تعرض في قاعات
السينما، بل في مكان خاص بها لأن مشاهدتها تتطلب نظارات خاصة تمكن
المتلقي من رؤية مئة وعشرين درجة من محيطه.
ومن ضمن تلك الأفلام «إصرخ» للمخرجة ماي عبدالله،
الذي يتناول مطالبة النساء البريطانيات بحق التصويت في بداية القرن
العشرين.
يستمر المهرجان بعرض أفلامه حتى الثامن من الشهر
الجاري عندما يعلن عن جوائزه وعلى رأسها جائزة الأسد الذهبي. ولكن
الأهمَ من جوائزه هو كونُه محطةَ انطلاق موسم الجوائز السينمائية،
الذي ينتهي بمنح جوائز الأوسكار بداية العام المقبل.
####
«بيترلو»
للبريطاني مايك لي…
خيل السلطة لا تقوى على إخراس المطالبين بالحقوق
البندقية ـ «القدس العربي» من نسرين سيد أحمد:
للدراما التاريخية دور بارز في مهرجان البندقية
السينمائي في دورته الخامسة والسبعين (29 أغسطس/آب إلى 8
سبتمبر/أيلول)، ولعل أفضل ما شاهدناه في المهرجان من هذه الأفلام
فيلم «بيترلو» للمخرج البريطاني مايك لي.
«بيترلو»، المشارك في المسابقة الرسمية للمهرجان،
فيلم ضروري ويأتي في لحظة نحتاجه فيها تماما، كما لو أنه يثبت أن
الماضي يعيد نفسه في الحاضر. فيلم سياسي خطابي، ولا يخفي ذلك، يقدم
رسالته السياسية المطالبة بالحقوق والديمقراطية بوضوح وجلاء لا
يخفت له صوت. فيلم ممتد ملحمي، تفوق مدته الساعتين ونصف الساعة،
فيما يشبه صيحة ممتددة غاضبة ترددها جموع سُلبت حقوقها، وليس في
يدها سلاح سوى الخروج بالآلاف للمطالبة بالحقوق والحق والعدل. يصور
الفيلم الأحداث التي أدت إلى التدخل القامع للشرطة وخيالتها ما أدى
إلى مقتل عدد من المتظاهرين من الكادحين والفقراء المطالبين
بحقوقهم في بيترسفيلد في مانشستر في إنكلترا عام 1819، في مذبحة
يعرفها التاريخ باسم مذبحة بيترلو.
الفيلم يحيي ذكرى من قضوا في هذه المذبحة، في الوقت
الذي يشير فيه إلى التشابهات بين ما جرى في السابق وما يجري في
وقتنا الحالي من أحداث.
يبدأ الفيلم بساحة القتال في معركة ووترلو، بعد أن
حققت بريطانيا انتصارها على نابليون والفرنسيين، وبينما يحتفل
القادة ويطالب البرلمان بإغداق العطايا على القادة العسكريين الذين
قادوا الجيش للنصر، نرى جنديا نحيلا يبدو عليه الذهول. الجندي هو
جوزيف (ديفيد مورست)، ابن أسرة كادحة من العاملين في صناعة النسيج
في مانشستر. يتابع لي في عدد من المشاهد رحلة الجندي المنهك
المصدوم من ساحة القتال، حتى ينهار في حضن أمه في بيت الأسرة في
مانشستر. ليست قصة جوزيف القصة الوحيدة أو الرئيسية في الفيلم،
ولكنه واحد كغيره من آلاف الفقراء والكادحين الذين لا يجدون قوت
يومهم، والذين سُلبوا حقوقهم.
عبر عدد من الشخصيات والمواقف يصور لي الإحساس
بالغبن والظلم الذي يعتمل لدى الكثيربن، والإحساس بالغضب لدى
الفقراء والمهمشين الذين تجبى منهم ضرائب باهظة، ولا يحصلون على أي
حقوق. الغضب يمور في الصدور، ويقرر الناس الاحتشاد في بيترزفيلد في
مانشستر في مظاهرة حاشدة للمطالبة بحقهم في التصويت في الانتخابات
وللمطالبة بإصلاحات سياسية وبرلمانية.
الفيلم يحفل بالخطب السياسية، الخطب التي تشحذ همم
الناس للتظاهر وللمطالبة بحقوقهم، خطب أحيانا يتعالى أصحابها من
المتعلمين الذين يرون أنهم وعي الأمة على الفقراء الذين يرونهم
كتابعين يجب توعيتهم. خطب صادقة تأتي من قلب يشعر حقا بالظلم
والقهر، وخطب معتدلة في مطالبها، وخطب تقطر غضبا تطالب بحمل
المتظاهرين للسلاح. يبدو لنا كما لو أن لي، المعلم اليساري الكبير
والمخرج صاحب المسيرة العظيمة، قرر أن يضمّن فيلمه دليلا حيا على
قدرة الكلمات أن تحدث تغييرا، وأن تلهب الحماس. يؤكد لي على مكانة
الكلمة في الفيلم، ليس في الخطب السياسية فقط، ولكن في الصحف. يكفي
أن لي ينهي أحداث مظاهرة بيترزفيلد بعد المذبحة، بالصحافيين الذين
وقفوا وسط جثث القتلى ليكونوا شهودا على الواقعة ولينقلوا ما شهدوه
إلى القراء.
يخشى أصحاب النفوذ في لندن على مصالحهم ونفوذهم
وأخشى ما يخشونه هو أن تمتد الاحتجاجات لتصبح ثورة عارمة تقضي
عليهم، مثلما جرى في فرنسا المجاورة. يدفع ذلك السلطات إلى قمع
المتظاهرين بلا هوادة أو رحمة. يصور لي البون الشاسع بين حياة
الحاكم والمحكوم، بين ترف الحاكم وشظف عيش المحكوم. يقدم لي فيلما
ملحميا يحتفي بكفاح المطالبين بحقوقهم ويعلي سعيهم. يبدو الفيلم
كلوحة فسيسفاء ضخمة ممتدة، لا يمكن أن تلتحم أو تكتمل إذا انتزع أي
من أجزائها. ما يدور في أروقة البرلمان، وما يدور بين الساسة، وما
يجري في القصر الملكي، وما يجري في المحاكم وأقبية الشرطة، وما
يدور في الحياة اليومية للأسر المطالبة بحقوقها في مانشستر يتكامل
ليكون معزوفة ممتدة متكاملة.
«بيترلو» فيلم صادق في غضبه وصادق في مطالبه،
ونستشعر صدقه في كل كلمة ومشهد والتفاتة. هو فيلم قبل كل شيء عن
الرغبة في إحقاق الحق، وعن التظاهر كسبيل سلمي لإحداث تغيير.
المطالبة بالحقوق والرغبة في إعطاء كل ذي حق حقه هي صاحبة اليد
العليا في الفيلم الذي لا يبرز لي أيا من شخوصه على حساب شخصية
أخرى ولا يعلي حدثا فوق آخر. حتى الخطيب المفوه هنري هانت (روي
كنير) لا يطغى على غيره من الشخصيات. يبدو لنا هانت مزهوا بحاله
كصاحب مال وثقافة يباهي بدعمه لحقوق الفقراء وللإصلاح السياسي،
ولكنه في نهاية المطاف لا يمثل إلا جزءا صغيرا من اللوحة الكبيرة
التي يرسمها لي. |