كتبوا في السينما

 

 
 
 
 
 

ملفات خاصة

 
 
 

أحوال العالم على شاشات غاضبة في «كان»

إبراهيم العريس

كان السينمائي الدولي

الدورة الحادية والسبعون

   
 
 
 
 

من جديد، وكما كانت الأحوال خلال الدورات الفائتة لمهرجان كان السينمائي، يبدو البون شاسعاً بين ما يدور في المدينة الفرنسية الفاتنة وما يدور على شاشات الصالات التابعة للمهرجان. ثمة تفاوت كبير هو نفسه التفاوت بين عالم الرفاهية والجمال والأناقة والسيــــــارات والمطاعم الفاخرة الذي يموج في مدينة الجنوب الفرنسي، والعالم كما تعكسه الشاشات في أفلام آتية من أنحاء الكون. ولئن كان في إمكان بعض الأفلام أن تصف حياة وديعة تكاد تكون عادية، مع استثناءات لولاها لما كان هناك سينما وحكايات أفلام، فإن الغالبية العظمى من الأفلام تأتي هذه المرة لتقول لنا «آخر أخبار العالم» وأحياناً عبر المرور بـ «أخبار» قديمة قد يعتقد كثيرون أن الزمن عفا عليها لكن السينمائيين يعرفون كيف ينبشون قبورها للقول كم أنها لا تزال معاصرة.

يصعب حصر المواضيع التي تتوزعها أفلام هذه الدورة، نعني هنا المواضيع التي تستجيب إلى المعايير التي نشير إليها. ولكن ثمة علامات يمكن الإشارة إليها لتتضافر جميعها قائلة كم أن السينما لا تزال، بل باتت أكثر فأكثر، تشكل ضمير العالم الجريح و«المختبر» الذي يكاد يكون وحيداً في تشخيصه أمراض زمننا. وطبعاً لن يمكننا هنا الحديث في الموضوع من دون أن نتوقف بداية عند الفيلم الذي يبدو الأبرز في هذا السياق: فيلم جان- لوك غودار «كتاب صورة» الذي يغري بأن نعتبره الأقرب إلينا كعرب، بالتحديد لأنه يتحدث أكثر من أي فيلم معاصر عن... العرب وأين صار ربيعهم وكيف «جنى الغرب عليهم» وما إلى ذلك من قضايا ترتبط بالراهن العربي عرف غودار بعبقريته المعهودة كيف يؤلف بينها في سينما ليست كالسينما، وتحديداً في قدرته على «إعادة اختراع السينما» من جديد.

ولكي نظل في الدائرة العربية لا بد أن نقوم هنا بنقلة «نوعية» إلى أدنى كثيراً من غودار في سلم التقييم، لنتوقف عند فيلمين يضعهما موضوعاهما مباشرة إلى جانب فيلم غودار من دون أن تكون لهما قيمة تبرر هذه المجاورة. هما فيلمان عن منطقتنا الملتهبة، من تحقيق سينمائيتين، الأولى سورية هي غايا جيجي («قماشي المفضل») التي نقلت الحرب السورية ولو مواربة إلى «كان»، والثانية هي الفرنسية إيفا هوسون صاحبة ما اعتبر «أردأ فيلم في المسابقة الرسمية»، الفيلم الذي أمن حضور «داعش» والإرهاب من خلال حكاية ساذجة عن مجموعة كومندو نسائية كردية وايزيدية تتصدى للإرهاب الداعشي. وفي المقابل إذا كانت القضية الإيرانية حاضرة في سياسات العالم من خلال ضجيج الرئيس ترامب حول الاتفاق النووي الإيراني، فإن فيلم جعفر باناهي المتسابق «ثلاثة وجوه» أعطى القضية الإيرانية حصتها ولو جزئياً من خلال موضوع يدور في مناطق الأقليات الأذرية في إيران. ونعرف أن هذا الدنوّ في حد ذاته يمثل هرطقة بالنسبة إلى الملالي!

مافيا وسياسة

بعد هذا يمكن الإشارة إلى مواضيع تبدو أكثر ابتعاداً عن الهموم المباشرة لمنطقتنا، لكنها تمس عالم اليوم. ولئن كان الإيطالي ماتيو غاروني عاد في فيلمه الجديد «دوغمان» إلى العلاقة بين المافيا والسياسة في بلاده مشاركاً في هذا الموضوع، ومن بعض الجوانب، زميله الصيني جيا جانكي في فيلمه «الرماد هو الأبيض الأكثر نقاءً»، فإن السينما الأوروبية الشرقية التي حضرت بقوة، على الأقل من خلال ثلاثة أفلام أتت تباعاً من روسيا وبولندا وأوكرانيا، أثبتت حضور سياسات تلك المنطقة وأحياناً ما يتعدى الزمن الراهن. فمثلاً، الروسي «الصيف» لكيريل سيريبرينيكوف، عاد من خلال الموسيقى الغورية (الأندرغراوند) إلى لينينغراد زمن الجمود البريجنيفي ليذكرنا بحكاية موسيقي طليعي أبدع فناً هرطوقياً أزعج السلطات حقاً، في وقت غاص زميله البولندي بافيل بافليكوفسكي أبعد قليلاً في الزمن ليقدم في فيلمه «الحرب الباردة» حكاية حب مستحيلة تحت ظل ستالين الذي كان حاكماً مطلقاً على القلوب والعقول في طول «المعسكر الاشتراكي» وعرضه. وفي المناسبة يمكن اعتبار الفيلمين مرشحين جديين لجوائز أساسية. وفي المقابل يمكن التوقف عند تحفة ثالثة من أوروبا الشرقية يمثلها فيلم «دونباس» للأوكراني سيرغاي لوزنيتسا المرشح بدوره لجائزة أساسية في تظاهرة «نظرة ما». صحيح أن هذا الفيلم هو الوحيد ذو الموضوع المعاصر الآتي من العالم الاشتراكي السابق (لكنه على أي حال الأكثر إشارة إلى تواصل وجود العقليات القديمة وكأن شيئاً لم يتغير في ذلك العالم الذي أحدث «تغيّره» زلزالاً قبل عقود)، لكن الأفلام الثلاثة تتضافر لتقول لنا كم أن الجمود كان سيد الموقف ولا يزال سيده في تلك المنطقة من العالم.

في المنقلب الآخر من العالم، إذا كان كثيرون يرون أن العنصرية الأميركية المتجددة كانت هي ما خلق «أسطورة ترامب» منحدرة بالسياسات الأميركية إلى مستويات دنيا لا سابق لها في التاريخ الحديث لهذا البلد، ها هو سبايك لي حامل لواء قضايا الأميركيين الأفارقة في السينما الهوليودية يحاول أن يقلب الآية ليصور حكاية لا تصدق عن أسود تمكن من اختراق تنظيم الكوكلاكس كلان، ليصور لنا من خلال ذلك خلفية تلك العنصرية البيضاء الكأداء في بلد الحلم الأميركي الجديد. ومن الواضح أن سبايك لي الذي يصخب أكثر كثيراً مما يبدع سينمائياً، حقق هذا الفيلم - الكاشف وبشكل صائب عن جزء من العقلية الأميركية - كنوع من الرد الموارب على الردّ الذي كان كلينت إيستوود أفحمه به قبل سنوات حين احتج لي على كون فرقة الجنود الذين رفعوا العلم الأميركي فوق جزيرة إيوجيما اليابانية كانوا كلهم من البيض ولم يضع ايستوود بينهم ولا جندياً أسود. يومها أجابه ايستوود بكل بساطة: الفيلم وهو «رسائل آبائنا» ينطلق من الصورة التاريخية التي التقطها روبرت كابا للجنود الحقيقيين وليس بينهم واحد أسود. إذاً، بالنسبة إلى لي إذا كان السود قد غابوا عن الصورة، وبالتالي عن فيلم إيستوود، فلنقحم واحداً منهم في أوكار العنصريين البيض. والنتيجة تذكير بالقضية العنصرية... لم تضف إلى السينما نفسها ما يغنيها!

«سارقو الحوانيت»

أما ما يغني السينما حقاً، فقد أتى هذه المرة من اليابان، على المستوى السينمائي بالتأكيد ولكن على المستوى الفكري أيضاً. نتحدث هنا عن فيلم «سارقو الحوانيت» للكوري إيدا هيروكازو، فإذا كان هذا المبدع أن عالج سابقاً قضايا العائلة ودورها الاجتماعي وانعكاس تكوينها على حياة الأفراد في أفلام غالباً ما عرضت في دورات سابقة لمهرجان «كان» وتوجت بجائزة من هنا وأخرى من هناك، فإنه في تحفته الجديدة هذه - والتي يمكن المراهنة على نيلها يوم الختام جائزة أساسية وربما السعفة الذهبية أيضاً-، يعمل على إعادة النظر في مفهوم العائلة نفسه فهل السعادة والانسجام في الانتماء إلى عائلة بيولوجية أم أن تكوين عائلة باختيار أفرادها من مشارب هامشية متنوعة أضمن للانسجام والسعادة العائليين. صحيح أن كور إيدا لا يصل إلى جواب قاطع مع نهاية فيلمه، ولا يدنو من موضوعه من خلال عائلة عادية، بل من خلال مجموعة من المهمشين، غير أنه يصل بجرأة مطلقة إلى حدود التحريض على نسف الفكرة العائلية نفسها، ما يجعل فيلمه، الذي قُدّم فرنسيّاً بعنوان «قضية عائلية»، واحداً من الأفلام الأكثر تخريباً في هذه الدورة الكانيّة. ولنضف إلى هذا أن لغته السينمائية المدهشة تتضمن إدارة للممثلين وقلبات مسرحية وتصويراً للأجواء والمشاهد اليابانية واشتغالاً على الحوارات، تجعله واحداً من الأفلام الأكثر إثارة للمتعة السينمائية.

ليس من السهل هنا التوقف عند كل الأفلام التي تحفل بمثل هذا النوع من القضايا الشائكة، والتي تبدو في وقت واحد منتزعة من علم الاجتماع والسياسة والاقتصاد المعولم وما إلى ذلك من أصناف فكرية لتنصبّ على الشاشات تحليلاً أو غضباً أو تذكيراً، لكن في مقدورنا أيضاً أن نتوقف عند أعمال تؤكد ما نرمي إليه.

فمثلاً بالنسبة إلى قضية العنصرية قد يكون لافتاً أن يؤتى على ذكرها من خلال استعادة حكاية محاكمة وسجن الراحل نيلسون مانديلا من خلال عمل بالشرائط المصورة يركز على أنه لم يكن وحده في محنته بل كان آخرون معه ومنهم زوجته ويلي التي رحلت عن عالمنا قبل إنجاز الفيلم بأسابيع، والفيلم عنوانه «الدولة ضد مانديلا وآخرين». أما قضية الدكتاتورية فيتولاها فيلم شديد الراهنية هو «عشرة أعوام في تايلاند» حققه أربعة مخرجين تايلانديين. أما للإحاطة بهذا كله - وبغيره مما سنعود إليه في مقالات لاحقة - فلدينا طبعاً ذلك الحوار - البورتريه الشيق الذي أجراه المخرج الألماني فيم فندرز مع البابا فرانسيس وشكل إحدى أجمل مفاجآت المهرجان كما سبق أن أشرنا. والحقيقة أن هذا كله يكاد يجعل من دورة «كان» هذا العام الأكثر تسيساً وانفتاحاً على أحوال العالم. وهو ما سوف نعود إليه طبعاً من خلال استعراض الأفلام فرادى، لا سيما بعد صدور أحكام لجنة التحكيم ومعرفة كيف تلقى أفرادها هذه السينما الغريبة والغنية والمفاجئة أحياناً.

####

حكايات من ... مهرجان «كان»

إبراهيم العريس

إيمكس في السعودية: صالات عملاقة وعولمة للسينما المحلية

لا يمضي يوم في مهرجان كان إلا وتتصدر أخبار السينما السعودية الصفحات الأولى في مطبوعات المهرجان التي تتساءل يومياً عما إذا كانت السعودية في طريقها إلى أن تحلّ بديلة عن معظم البلدان العربية في الصناعة السينمائية، وصولاً إلى إقامة المهرجانات التي تلهث متعبة أو تتوقف عملياً في غيرها من البلدان... الخليجية على الأقل. وآخر الأخبار السعودية في هذا المجال هي تلك التي تتحدث عن إعفاءات ضريبية تعطى لأية أفلام أجنبية تُصوّر في هذا البلد، وتشمل تخفيضات على الضرائب التي تُدفع مقابل استخدام كل فنان أو تقني سعودي في واحد من تلك الأفلام.

ومن ناحية ثانية أعلنت شركة إيمكس الكندية المتخصصة في الشاشات العملاقة والدائرية أنها قد عقدت اتفاقات مع الهيئة العامة للثقافة السعودية تتعلق بتوزيع الشركة العالمية لأية أفلام سعودية تصوّر بتلك المقاسات العملاقة، و «ذلك بهدف مساعدة المبدعين والشركات السعوديين على توزيع أفلامهم المتوافقة مع تلك المعايير في العالم الخارجي وإيصالها خاصة إلى الأسواق غير العربية» ومن ناحية ثانية أعلنت مجموعة إيمكس أنها في طريقها لإنشاء ما بين عشرين وثلاثين صالة من هذا النوع في مناطق عدة من السعودية.

العراق والهند والبرازيل والسنغال في تكريم قرطاجيّ

في مؤتمر صحافي عقده المنتج التونسي نجيب عيّاد، المدير العام لمهرجان قرطاج السينمائي الدولي، في الجناح التونسي بالقرية العالمية في «كان»، أعلن أن الدورة المقبلة وهي التاسعة والعشرون وستعقد بين الثالث والعاشر من شهر تشرين الثاني (نوفمبر) المقبل بدأت باختيار ما ستعرضه في المسابقة الرسمية وغيرها من التظاهرات الجانبية. وأكد عيّاد أنه تم اختيار 12 فيلماً روائياً طويلاً من البلدان العربية والأفريقية للتباري على جوائز المسابقة الرسمية إضافة إلى 12 فيلماً قصيراً ومتوسط الطول لمسابقة السينما القصيرة. وذلك إضافة إلى عروض تظاهرات مثل «سينما العالم» وتظاهرة «قرطاج في السجون». وإلى هذا هناك تظاهرة «وعود قرطاجية» و «نظرات على السينما التونسية».

أما من ناحية البلدان التي ستستضاف للتعريف بسينماها، فستكون هذه المرة أربعة: العراق والهند والبرازيل والسنغال... ومن يعرف سينما بعض هذه البلدان، لا سيما منها السينما البرازيلية والهندية يمكنه أن يتصور منذ الآن الغنى السينمائي الذي لا شك ستحمله هذه التظاهرة في إضافة خلاقة إلى مهرجان كان جلّ اهتمامه في سنواته السابقة منصباً على السينمات العربية والأفريقية.

10 سنين على رحيل شاهين: معرض ومصير ونسخ مرممة

حتى الطقس البارد لم يمنع الهواة الذين أحبوا أن يتذكروا يوسف شاهين وسعفة خمسينية «كان» الذهبية التي فاز بها في دورة العام 1997 للمهرجان عن مجمل أعماله، وذلك لمناسبة مرور عشر سنوات على رحيل المخرج الكبير، لم يمنعهم من التجمع قبل أيام على الشاطئ الرملي «الكانيّ» كي يستعيدوا في الهواء الطلق ذكريات فيلمه الكبير «المصير» الذي عرض في نسخة مرممة. وللمناسبة أُعلن في «كان» أن معرضاً كبيراً سوف يقام بدءاً من أواسط تشرين الثاني (نوفمبر) المقبل وحتى الثامن والعشرين من تموز (يوليو) في غاليري مانحي متاحف السينما في باريس، تعرض خلاله أوراق ومخطوطات ومشاهد وجملة من وثائق أخرى تتناول مصادر إلهام صاحب «الأرض» و«العصفور» والالتزامات التي قطعها في حياته، إضافة إلى علاقاته بالثقافة والسينما الفرنسيتين. وذلك إلى جانب العديد من الملابس التي استخدمت في بعض أفلامه ورسوم متنوعة وملصقات وصور والعديد من المخطوطات المتعلقة بمشاريع لم تنجز. وإضافة إلى هذا، أعلن عن الانتهاء من ترميم أفلام شاهينية باتت متوافرة للبيع لأفلام كبيرة له مثل «المصير» و«وداعا بونابرت» و«الإسكندرية/ نيويورك» و«سكوت حنصوّر»...

معهد العالم العربي يستعيد مهرجانه: جوائز وتكريمات وترحيب بالسعودية

في مؤتمر صحافي عقد على هامش الدورة الحالية لمهرجان كان، أعلن معهد العالم العربي الواقع على الضفة اليسرى لنهر السين في باريس، عن عودته إلى إحياء ذلك المهرجان السينمائي الذي كان حقق في الماضي حضوراً كبيراً للسينمات العربية في العاصمة الفرنسية قبل أن يتوقف طوال أكثر من عشر سنوات «لأسباب مالية». وأعلن أن الصيغة الجديدة للمهرجان الذي سيبدأ فعاليات دورته «الأولى» بعد أيام قليلة، ستكون برئاسة الممثلة الفلسطينية المقيمة في فرنسا هيام عباس، ويعرض خلالها نحو سبعين فيلماً تتراوح بين الجديد والأقل جدة على أن يتبارى ثلاثة عشر من بينها للفوز بجوائز الدورة. ومن بين هذه الأفلام المتبارية «تقرير عن سارة وسالم» لمؤيد عليان و «صوفيا» المعروض في «نظرة ما» الكانيّة لمريم بن مبارك، و «قماشي المفضل» للسورية غايا جيجي، المعروض بدوره في «نظرة ما». أما لجنة التحكيم فتتألف من السينمائي المغربي فوزي بنسعيدي والممثلة السعودية فاطمة البناوي والمنتج المصري، الرئيس الجديد لمهرجان القاهرة، محمد حفظي. ونذكر للمناسبة أن الدورة الجديدة لمهرجان معهد العالم العربي سوف تكرم السينمائيين العربيين الراحلين في العام الفائت، اللبناني جان شمعون والجزائري محمود الزموري بعرض فيلم لكل واحد منهما. كما سيكون هناك تكريم ترحيبي بدخول المملكة العربية السعودية معترك السينما.

استعادة «فهرنهايت 451» في نسخة أميركية... بعد تروفو المقارنة الغائبة

يمكن لمحبي سينما الفرنسي الكبير الراحل فرانسوا تروفو أن يطمئنوا بخاصة بعد أن وضعوا أيديهم على قلوبهم طوال الأيام المنقضية من هذه الدورة لمهرجان «كان» خوفاً على سمعة فيلمه الكبير «فهرنهايت 451» (1966). ونعرف أن سبب القلق كان يتعلق بالاقتباس الجديد لنفس رواية الأميركي راي برادبري على يد الأميركي من أصل إيراني رامين بحراني الذي عاد بعد تروفو بأكثر من خمسين عاماً ليحقق فيلماً جديداً له عن ذلك العمل الخيالي العلمي الذي يغوص في السياسة غوصاً عميقاً. أما الداعي إلى الطمأنينة فليس كون الاقتباس الجديد أقل قوة من القديم على رغم تطور التقنيات واستخدام بحراني ممثلين أقل أسطورية من أوسكار وارنر وجولي كريستي اللذين أبدعا في نسخة تروفو. بل لكون العمل الجديد قد أتى تلفزيونياً خالصاً حيث أن المخرج قد حرص على جعل لغته مناسبة للشاشات الصغيرة بالنظر إلى أن الفيلم لن يُعرض مبدئياً في الصالات بل في البيوت إذ توزعه شركة أتش بي أو بدءاً من يوم التاسع عشر من أيار (مايو) الجاري. مهما يكن، ربما تكون هذه النسخة الجديدة من العمل الذي يتحدث عن مجتمع مستقبلي دكتاتوري يحظر على المواطنين قراءة الكتب واقتناءها، ما يجبرهم على حفظ نصوصها عن ظهر قلب قبل العثور عليها وإحراقها من قبل إطفائيّ السلطات، حافزاً للعودة إلى مبدَع تروفو الذي يبقى فريداً في فيلموغرافيته وربما في السينما الفرنسية ككل.

سينمائيون معاصرون «يؤفلمون» أسلافهم الكبار

من أورسون ويلز إلى جين فوندا، ومن أليس غي/ بلاشيه - إحدى رائدات السينما العالمية المنسيات- إلى إنغمار برغمان، كان لافتاً عدد الأفلام الوثائقية التي خصصها مبدعون سينمائيون معاصرون للحديث عن أسلافهم، غير أن اللافت كان حصة برغمان السويدي الكبير الراحل قبل أكثر من عشر سنوات إذ أتت مزدوجة وذلك عبر فيلمين كبيرين أولهما حققته السويدية جين ماغنوسون بعنوان «عام في حياة برغمان» والفيلم، على رغم عنوانه الحصري والمتعلق بفيلم «الختم السابع» أتى ليتناول عدة أعوام من حياة المخرج المبدع (1957-1963) هي تلك التي أطلقته عالمياً وكانت الأكثف في حياته إبداعاً سينمائيّاً ومسرحياً وكتابةً ومن الناحية العاطفية كذلك. أما الفيلم الثاني عن المبدع نفسه فأتى من إخراج الألمانية مرغريتا فون تروتا بعنوان «بحثاً عن إنغمار برغمان» وفيه حاولت رفيقة فولكر شلوندورف السابقة، أن تكثف في أكثر قليلاً من ساعة ونصف الساعة نظرتها إلى الإرث السينمائي الكبير الذي تركه صاحب «بيضة الثعبان» و«همس وصراخ» و«الفريز البري»، وذلك لمناسبة مرور مئة عام على ولادته (1918).

####

«المصير» الشاهيني مرة أخرى بعد 21 سنة

أمل الجمل

في الوقت الذي كانت طيور الظلام من الجماعات الأصولية والمتشددين المتأسلمين يُواصلون مساعيهم لمنع ومصادرة فيلم «المهاجر»- المستوحي من قصة سيدنا يوسف وأخوته، والذي رُفع بالفعل من دور العرض السينمائي بعد عدة جلسات ومحاكمات قضائية - راح يوسف شاهين ينحت أدق تفاصيل سيناريو شريطه السينمائي «المصير» مؤكداً في إحدى أغانيه: «ولو في يوم راح تنكسر لازم تقوم، واقف كما... النخل باصص للسماء... ولا انهزام... ولا انكسار، ولا خوف ولا... ولا حلم نابت في الخلا...» وعندما انتهى منه عُرض الفيلم في المسابقة الرسمية بمهرجان «كان» سنة ١٩٩٧ وفي تلك الدورة نال شاهين أهم جائزة فازت بها مصر، منذ أن فاز نجيب محفوظ بجائزة نوبل للآداب عام 1988، وهي جائزة اليوبيل الذهبي للمهرجان عن مجمل أعماله.

هذا الأسبوع، وبعد مرور نحو ٢١ عاماً على العرض العالمي الأول لـ «المصير» بالمهرجان الكاني، أُعيد عرض الفيلم مجاناً للجمهور العام على شاطئ الريفيرا- بحضور بطلته ليلى علوي والمنتجين ماريان وغابي خوري- ضمن قسم كلاسيكيات المهرجان العريق في دورته الحادية والسبعين، بنسخة جديدة أُعيد ترميمها بالتعاون بين المركز السينمائي الفرسي وبين شركة أفلام مصر العالمية، وذلك في إطار إحياء ذكرى مرور عشر سنوات على رحيله وهي المناسبة التي ستمتد إلى نحو ستة أشهر موزعة بين فرنسا، وعدد من محافظات مصر والتي تتضمن إقامة عروض للأفلام- بعضها أيضاً بنسخ جديدة تم ترميميها حديثها- ومناقشاتها مع الأجيال الجديدة، وإصدار بعض الكتب عن يوسف شاهين بعضها يتعلق بموسيقى أفلامه، والبعض الآخر يتضمن ما كُتب عنه سواء بالعربية أو باللغات الأخرى، إلى جانب أفكار أخرى من أبرزها وأهمها عرض نسخة «اليوم السادس» بصوت داليدا مُدبلجاً باللغة الفرنسية فترى كيف يستقبلها الجمهور المصري، خصوصاً أن الفيلم كان قد هاجمه النقاد المصريون- على رغم أهميته الكبيرة فنياً وفكرياً وموسيقياً- بسبب إسناد البطولة للمطربة العالمية الإيطالية من أصول مصرية بعد أن كانت نجمات في قامة سعاد حسني وفاتن حمامة مرشحات للدور، لكنهن عندما طلبن من «جو» إجراء تعديلات على السيناريو ذهبت البطولة إلى داليدا، التي قيل وقتها إنها انتحرت بسبب فشل الفيلم والهجوم عليها.

من دون أن ننسى، أنه في ذلك العام تم إعلان عرض فيلم «المصير» في البرنامج الرسمي خارج المسابقة، لكن في المؤتمر الصحفي فوجئ الجميع بإدراج الفيلم ضمن المسابقة الرسمية. لماذا؟ قيل وقتها إن السبب يرجع إلى انسحاب كل من إيران والصين، ففيلم «طعم الكرز» للمخرج الإيراني عباس كياروستامي اعترضت عليه السلطات الإيرانية ومنعت الرقابة هناك خروج نسخة الفيلم من إيران، وذلك بعد الهجوم الذي تعرض له الفيلم بسبب مضمونه حيث رجل يرغب في الانتحار ويحاول البحث عن شخص لمساعدته في هذه المهمة، فاعتذر كياروستامي للمهرجان العريق، كذلك تعرض المخرج الصيني زانج يمو لموقف مشابه مع سلطات بلاده، وكان أحد الحلول هو ضم فيلم «المصير» إلى المسابقة الرسمية عام 1997. وفي ذلك العام حصل شاهين على السعفة الذهبية كجائزة تكريمية عن مجمل أعماله في أعقاب عرض الفيلم، وإن كان البعض ومنهم بطل الفيلم «نور الشريف»- في حوار مع كاتبة هذه السطور- قد صرح أن الفيلم كان مرشحاً بقوة للجائزة لكن انخراط شاهين في الحديث السياسي والرد بقسوة على أحد المشاركين الإسرائيليي، كان السبب في النتيجة النهائية واستبعاد الفيلم من الجوائز، وعلى رغم أن بعض الصحف أشادت بالشريط السينمائي لشاهين ومنهم ناقد «الفيجارو» «كلود باتريه» الذي كتب قائلاً: «الفيلم لا يُرضي الدارسين، لكنه يُشحذ جمهوره للدفاع عن الحرية، وهذا ما أراده «شاهين» بغض النظر عن مدى الدقة في التعامل مع التاريخ». مثلما كتبت ديبورا يونج في ”فارايتي»: «إن الفيلم هو أشجع هجوم على الأصولية في السينما العربية». لكن الناقد السينمائي اللبناني إبراهيم العريس اختلف مع الفنان الراحل نور الشريف، ورسم صورة عامة توضح كيف كان الاستقبال غير العربي للفيلم قائلاً: إن «النقاد الفرنسيين والأجانب قيّموا «المصير» سياسياً وليس فنياً، ومن هنا منذ عرضه الأول كان واضحاً أنه لن يفوز بأية جائزة».

أما عن استقبال المصريين للفيلم، فعلى رغم الاحتفاء الكبير بحصول يوسف شاهين بسعفة كان التكريمية عن مجمل أعماله، لكن النقاد والكتاب والمثقفين اختلفوا في استقبالهم للفيلم في ذلك الوقت واعتبره البعض- على رغم قيمته وصدقيته الكبيرة التي تتأكد كلما مرت السنوات- أنه «رسالة دعائية ضد سيطرة الأصوليين على تفكير الناس في مصر، وأن «ابن رشد» كان مجرد رمز وقناع يخوض به المخرج المعركة ضد الأصوليين، لكنه لم يقدم وجوهاً أخرى لابن رشد، ولم نعرف منه، هل كان فيلسوف قرطبة مثقف سلطة تحركه أهداف سياسية؟ وهل كانت كل جهوده بدافع من الحاكم، ولتحقيق استقراره السياسي»؟

وفي تقديرنا أن الرأي السابق به مغالاة، فالتاريخ قابل للتأويل، وقابل للاستلهام والإجتزاء منه، لإسقاطه على الحاضر خصوصاً حينما تشتد الرقابة، ويكفي قدرة شاهين ومهارته الفنية على توظيف حادثة محاولة اغتيال نجيب محفوظ وتوظيفها في السيناريو، كاشفاً بواقعية كبيرة محاولات تجنيد الشباب بمعسكرات التطرف والإرهاب، إلى جانب حادثة حرق كتب ابن رشد التي استدعاها «جو» من التراث ليُشير بها إلى حالات المطاردة والمصادرة للفكر والإبداع.

####

يوسف شريف رزق الله يحصل على جائزة الإنجاز النقدي

القاهرة – «الحياة

أعلن مركز السينما العربية عن تقديم جائزة الإنجاز النقدي إلى الناقد والإعلامي يوسف شريف رزق الله، والتي تسلمها في حفل تكريم أقيم قبل يومين على هامش الدورة الـ71 من مهرجان كان السينمائي، حيث تم في الحفل نفسه الإعلان عن الفائزين بالنسخة الثانية من جوائز النقاد السنوية.

وعلق مسؤولو مركز السينما العربية على الجائزة بقولهم: «شخصيات نادرة هي التي تساهم في تشكيل وعي أجيال والتأثير فيهم فيما يتعلق بالتعامل مع الثقافة السينمائية، يوسف شريف رزق الله هو النموذج المثالي في هذا الأمر، هذا رجل محارب، حمل على عاتقه مهمة أن يصبح مصدراً للثقافة السينمائية في وقت كان تداول المعلومات فيه ليس بالسهولة الحالية، كان يسافر إلى المهرجانات ويسجل اللقاءات ويمهد فيما بعد الطريق لمن يرغب في الثقافة السينمائية، جائزة الإنجاز النقدي احتفاء بسيط بهذا الرجل ذي المسيرة الأكثر ثراءً وأهمية في صناعة السينما».

جائزة الإنجاز النقدي يستهدف بها مركز السينما العربية جذب الأضواء إلى مهنة النقد، عبر تكريم أحد النقاد العرب أو الأجانب سنوياً في مهرجان كان السينمائي.

واحتفت مجلة السينما العربية في عددها الجديد بالإعلامي السينمائي المصري المخضرم، عبر تخصيص موضوع كامل عنه يستعرض مسيرة «يوسف شريف رزق الله الثرية» في النقد والإعلام بمجال صناعة السينما المصرية، وكونه مصدر المعلومات الرئيس والملهم لجيل كبير في مصر والعالم العربي، فيما يتعلق بما يحدث في صناعة السينما في كل أنحاء العالم، فطوال 3 عقود قدم رزق الله للجمهور المصري أخبار صناعة الترفيه، من خلال برامجه على التلفزيون أو كتاباته في الصحف والمجلات، وهو ما يجعله في زمن بلا إنترنت، موسوعة سينمائية تمشي على الأرض.

يوسف شريف رزق الله لا يمكن التعريف به فقط من زوايا نشاطاته السينمائية كناقد وإعلامي، أو كرئيس ومدير فني لبعض المهرجانات المصرية المهمة وخبير في التعاون الدولي، فلقد ترك رزق الله تأثيراً عميقاً في الكثير من الأجيال الشابة الآن، من السينمائيين والمشاهدين العاديين، من خلال جهوده المستمرة في إتاحة الفرص لهم لتذوق ألوان السينما المختلفة من كل أنحاء العالم.

قام رزق الله بتأسيس برنامج نادي السينما على التلفزيون المصري عام 1975، وبرنامج أوسكار في 1980، تلا ذلك العمل في تقديم البرامج المتخصصة في السينما العالمية، مثل برنامج تيليسينما (1981- 1995)، ستار (1986- 1994)، سينما x سينما (1994- 2004)، الفانوس السحري (2008- 2010)، وسينما رزق الله (2008- 2010).

انضم رزق الله لعضوية لجان تحكيم العديد من المهرجانات السينمائية حول العالم، ومنها ستراسبورعام 1987، ميلانو 1993، روتردام 2006 ومونبلييه 2012، كما يتولى حالياً مهام المدير الفني لمهرجان القاهرة السينمائي الدولي.

الحياة اللندنية في

18.05.2018

 
 

"السارقون" لهيروكازو كوريدا: مفهوم الأسرة

محمد هاشم عبد السلام

بعد عرض غالبية أفلام "المسابقة الرسمية"، في الدورة الـ71 (8 ـ 19 مايو/ أيار 2018) لمهرجان "كان" السينمائي الدولي، يمكن القول إن الفيلم الياباني "السارقون" (2018) لهيروكازو كوريدا يُعتبر، بالفعل، من أهمّ الأفلام وأقواها، لغاية الآن. ولا يُستبعد فوزه بجائزة من جوائز المهرجان، إنْ لم يُمنح "السعفة الذهبية". 

"السارقون" (العنوان الأصلي: "أسرة السرقة من المتاجر") عودة قوية للمخرج هيروكازو كوريدا: فهو تجاوز الإخفاق الملحوظ لفيلمه السابق "الجريمة الثالثة" (2017)، الذي انتقل فيه إلى عالم الجريمة والتحقيقات البوليسية. ورغم تناوله الموضوع بأسلوبه المُميّز، إلاّ أنّ غلبة الحوار والتحقيقات وجلسات القضاء والتداخل غير المفهوم للواقع والشخصيات أدّت كلّها إلى إفساد الفيلم، الذي تنافس على "الأسد الذهبي" لـ"مهرجان فينيسيا السينمائي الدولي" عام 2017. 

والفيلم من أعمق أعمال الدراما الاجتماعية له في الأعوام الـ10 الأخيرة، وتحديدًا منذ فيلمه البديع "لا أحد يعرف" (2004)، و"لا يزال يمشي" (2008)، ثم فيلمه الإنساني البسيط "شقيقتنا الصغيرة" (2015)، المعروض في المسابقة الرسمية لمهرجان "كان"، من دون حصوله على أية جائزة. 

مُقارنة "السارقون" بغيره من أفلام هيروكازو كوريدا ـ بما فيها تلك الدرامية التي تناولت جوانب مُتعلّقة بالمجتمع الياباني، خاصة الأسرة ـ تصبّ في مصلحة فيلمه الأخير. فهو، كعادته، لم يكتف بطرحٍ مُختلف أو تناولٍ مُغاير للقضايا أو الأسئلة التي يتناولها. صحيحٌ أنها، في النهاية، مندرجة في إطار الدراما الاجتماعية، لكن لا يمكن التوقف عند هذا التوصيف المُخلّ لتلك الأفلام. 

من الخطأ وصف "السارقون" بأنه مُجرّد دراما عن الظروف المعيشية القاسية والعوامل الاقتصادية الطاحنة في اليابان، وتأثير هذا على المُجتمع الكبير وصورته المُصغّرة، المُتمثلة في الأسرة بأفرادها جميعهم. كما أنه يصعب تناوله كانتقاد بالغ الصدق والجرأة والقسوة ضد المُؤسَّسات الرسمية للدولة اليابانية، لإخفاقها الواضح والمُدمِّر (وليس فقط لتجاهلها) لتلك الفئات المُهمَّشة، التي تعيش في الدرك الأسفل من المجتمع، ولا تدري المُؤسّسات عنها أي شيء. ذلك أن هيروكازو كوريدا تجاوز الانتقاد أو الهجوم إلى إعادة صوغ مفاهيم أو مُصطلحات عديدة راسخة، ليس فقط في المجتمع الياباني، بل أيضًا بصفة عامة، كالمعنى الذي استقرّ عليه المفهوم العام للأسرة، في كلّ زمان ومكان: فهل من الضروري أن ينطبق مفهوم الأسرة على المعنى البيولوجي، أي الأب والأم والأشقاء؛ أم أنه قادرٌ على تجاوز هذا إلى ما هو أكبر وأعمق، وإلى ما هو خاضع لاختيار الفرد الانتماء إلى أسرة بعينها، وإنْ تألّفت الأسرة من اللصوص؟ 

في 121 دقيقة، سرد هيروكازو كوريدا قصّة بالغة الروعة والجدّية، وإن كانت بالغة القسوة والمرارة أيضًا. الروعة والجدّية لا ترجعان إلى خيطه الرئيسي، الذي يتناول استغلال الأطفال في أعمال السرقة، وأغلبها سرقات صغيرة لمتاجر ومحلات. هذا موضوع تناوله الأدب والسينما منذ زمن بعيد، حتى السينما العربية. الأمر مُتعلّق بكيفية استغلال كوريدا هذا الخيط وتطويره وتعميقه، وإثراء هذه التيمة السينمائية، إلى درجة يصل معها الأمر إلى حزنٍ شديد على فراق تلك الأسرة، وتشتّت شمل أفرادها. وذلك على خلاف الأعمال الأخرى التي تناولت الموضوع هذا. 

لا جدال في أن أوسامو شيباتا (ليلي فرانكي) مُجرم بكل معنى الكلمة. أخطأ في حقّ الصبي شوتا (جيو كايري) بتعليمه السرقة، واستخدامه للتغطية عليه في عمليات السطوّ. لم يقف في وجهه عندما بدأ يُعلّم الطفلة يوري (ميو ساساكي) السرقة والتغطية عليها. اكتفى فقط بإخباره أنها لا تزال صغيرة. لكن، من ناحية أخرى، فإن شيباتا بالغ الحنان والرقة تجاه الصبي والطفلة. يتمنى لو يُناديه شوتا بكلمة "أبي". يرقّ قلبه عندما يرى يوري ترتجف من البرد، وفي جسدها آثار جروح قديمة جراء التعذيب، فيضمّها إلى أسرته، التي بالكاد تسدّ رمقها. 

في البداية، ترفض نوبويو (ساكورا أندو)، زوجة شيباتا، ضمّ الطفلة إلى الأسرة، رغم عقمها. لكن التواصل الحميم بينها وبين الطفلة يدبّ تدريجيًا، وتكون هي "الجدة"، كما يُطلقون عليها، بمثابة أم لها. "الجدة" الطاعنة في السن تمارس بدورها الغشّ والاحتيال والنصب في أكثر من طريقة. يتضح أن شيباتا ونوبويو ليسا متزوّجين رسميًا، وأن لهما ابنة أخرى تُدعى آكي (مايو ماتسوكا)، وهي طالبة جامعية، تصرف على نفسها عن طريق العمل في محلات الاستعراض، مُحافظة على عدم انزلاقها في عالم الدعارة. هذه أسرة تبدو، لوهلة أولى، باردة، إذْ يكمن القاسم المُشترك بين أفرادها في الحديث عن المشاكل المالية والعمل والطعام والتدفئة إلخ. لكن، مع تطوّر الفيلم، ينكشف مدى انصهارها وتجانسها وعمق علاقات أفرادها بعضهم مع البعض، وتشابكها. 

بسبب تغطيته سرقة بسيطة تقوم بها الطفلة، يضطر شوتا إلى زجّ نفسه في مُشكلة أدّت، أخيرًا، إلى هروبه، ثم قفزه من فوق أحد الجسور. هنا، تكتشف الشرطة حقيقته، وتدرك ما يدور منذ أعوام في ذاك المنزل البسيط، وبين أفراده. تُلقي الشرطة القبض على شيباتا ونوبويو، وتودع شوتا في الإصلاحية، وتُعيد الطفلة إلى والدتها القاسية. يُستخرج جثمان "الجدة"، إذْ دُفنت تحت المنزل بعد وفاتها المفاجئة، نظرًا إلى تعقيدات قانونية كثيرة تحول دون التصريح بدفن رسمي لها. يخرج شيباتا سريعًا، وتبقى نوبويو أعوامًا عديدة، لارتكابها جريمة قتل بحقّ زوجها السابق. 

عمليًا ورسميًا، أعادت الشرطة الأمور إلى نصابها مرة ثانية. لكن للواقع الملموس كلمته هنا. فالواضح أن هذه الأسرة السعيدة، رغم قسوة وفظاعة كلّ شيء حولها، تبدّد شملها إلى الأبد. تحطّم أفرادها، وصاروا أكثر تعاسة عن ذي قبل، وباتوا أكثر وحدة ويُتمًا. سعادة أفرادها، بين حين وآخر، خاصة في مشهد ذهابهم إلى البحر والاستمتاع على الشاطئ معًا، لن تتكرّر ثانية في حياة أي واحد منهم. لن يحظ أي واحد منهم بأسرة ينتمي إليها ويعيش في كنفها. قبل ذلك، كانوا يعيشون في سعادة ودفء، وبتراض ضمني تام بينهم. الآن، باتوا مُجبرين على الانفصال. 

هذا كلّه يطرح أسئلة كثيرة عن التعاضد والعطاء والأنانية، لكن أساسًا، عن معنى الأسرة والأمومة والأبوة. فهل يقتصر المعنى على البيولوجي، أم أنه يشتمل على أكثر من هذا، كالروابط بين أفراد الأسرة، القانونية أو البيولوجية؟ هذا كلّه نسجه سيناريو الفيلم ببراعة مُدهشة، وعلى نحو تدريجي مُقنع للغاية، تجنّب معه أي ميلودرامية أو سقطات أو ثغرات أو نبرة زاعقة. الشخصيات كلها، حتى الطفلة، شديدة الثراء والعمق والتميز، وستبقى طويلاً في الذاكرة. أما الاختيار المُذهِل للمُمثلين، والإدارة الإخراجية لهم، وتنفيذ مشاهد كثيرة من جانب هيروكازو كوريدا، فمهمّة للغاية.

####

"وقائع سنوات الجمر": ثورة شعب

محمد بنعزيز

كلّما نوقشت المشاركة العربية في مهرجان "كانّ"، ذُكر "وقائع سنوات الجمر" للجزائري محمد الأخضر حامينا (1930)، الحاصل على "السعفة الذهبية" في دورته الـ28 (9 ـ 23 مايو/ أيار 1975). فيلمٌ سياسي تاريخي، عن رجال يهربون من الأرض القفر للانخراط في جيش الاحتلال، ويُقدّم محاكاة ساخرة للتعبئة في مقبرة. حكاية كثيفة، فيها قدرة هائلة على تركيب وتشبيك خطوط أنتروبولوجية واقتصادية وسياسية، بدءًا من قاع سحيق، فيه صورة مريعة عن فقر الشعب. طيلة 3 ساعات، يرتفع الإيقاع ويزداد عمق الحكاية، في عرض المسيرة الدموية للشعب نحو الحرية، وتفسيرها. 

بسبب الحفر العميق، احتاج حامينا إلى 90 دقيقة، لإظهار الوعي السياسي لبطله أحمد (اليوناني يورغو فواياجيس) في لحظة الحسم بين النضال السياسي والنضال المسلّح. لمعت المغربية ليلى الشنا بتأدية دور الزوجة، في صمتها وقلقها. ممثلة كبيرة، ظهرت في "جدران من طين" (1971) للفرنسي جان ـ لوي برتوتشيلي، وبما أنها مُقرَّبة من جنرال حاول الانقلاب على الملك الحسن الثاني عام 1971، فقد طردت من المشهد الفني المغربي. 

قويت الحركة الوطنية في شمال أفريقيا أثناء الحرب العالمية الثانية. انتهت الحرب، فبدأت الشعوب المستعمَرة تطالب بالحرية، كالجزائريين المطالبين بها من فرنسا التي استعمرتهم. كانت هناك صفقة مفادها أن مساعدة فرنسا ضد النازية ستعود بالنفع عليهم. لذا، قاتل آلاف الشبان من شمال أفريقيا في ثلوج أوروبا. حينها، كان صوت فرانز فانون يدوّي في جزائر تمثِّل حالة مقاومة فريدة، لأن فرنسا افترضت أن الجزائر فرنسية "إلى الأبد"، فسحقت كلّ من وما وقف في طريقها. 

في هذا السياق ـ الذي تغذّى بصوت أبي القاسم الشابي ومطلع قصيدته المشهورة "إذا الشعب يومًا أراد الحياة" ـ بدأ الفرز بين خصوم الاستعمار وأنصاره. حصل الذين عاشوا الذلّ على رزق وفير، وتعرّض المقاومون لعنف مريع. 

عرض الفيلم صوَرًا توثيقية لـ"مجزرة سطيف" (1945). هنا تحدّد الخيار: نضال سياسي يضيّع الوقت، أو نضال مسلّح، لأن الاستعمار دخل بالسلاح ولا بُدّ من أن يخرج بالسلاح. قدّم الفيلم فصيلين سياسيين متصادمين أحدهما مع الآخر، لكن سيلان الدم وحّدهما. هنا، يتطابق الفيلم مع الرواية الجزائرية الرسمية. 

قبل الوصول إلى هذه اللحظة المضيئة، عرض محمد الأخضر حامينا الفجيعة الاقتصادية والاجتماعية للشعب، الذي يُسيِّل دمه بنفسه في النزاع على الماء. بعدها، يقصد الشعب قبر الولي الصالح "لينوب عنه ويتوسط له عند الله كي يسقيه". يهاجم الإمام تزايد شرب الخمر، الذي يُسبّب غضب الله والجفاف. هذا واقعٌ ألهم مالك بن نبي فكرة "قابلية الشعب للاستعمار". 

في هذا الوضع، يستمرّ "مُعذّبو الأرض" في العيش رغم أن الطعام نادر. لذا يتمّ مضغه بطقوس مريرة، فتُظهر طريقة الأكل صعوبة الحصول عليه. تمّ تقديم الأنتربولوجية القروية سرديًا لا وصفيًا. ففي لحظة غضب، يفر أحمد من الحقل، بينما يبقى المتردّدون وهم يستظلّون بالحضور الهائل لسلطة شيخ الضريح كقوّة حامية وموحَّدة. 

يرحل أحمد إلى المدينة مُسلَّحًا بدعاء شيخ الضريح. وعند وصوله، يقوده مجنونٌ ـ يخطب في مقبرة ـ إلى غايته. مع هذا العبث، يبقى مرور الزمن وأثره واضحين بين اللقطات. فقد تسبّبت الهجرة إلى المدينة في تحوّل ديموغرافي أثّر على الوضع السياسي والاجتماعي. في المدينة وباء وحظر تجوّل ورجل يراوغ الموت عبر الدروب. هذا المشهد عاشه فرانز فانون كطبيب وخلّده ككاتب طليعي في هجائه الاستعمار وتمجيده نضال الشعوب المضطهدة. يبدو أنه الوباء نفسه الذي ألهم ألبير كامو (نوبل الآداب، 1957) لتأليف روايته "الطاعون" (1947). 

تحالف الجهل وغضب الطبيعة فتعمّقت فجيعة الشعب. لوصل مطلع الفيلم بوسطه، جعل حامينا من الماء سبب التحوّل. اتّضح أن ما يتقاتل عليه الجزائريون متوفر، لكنه محتَكَر من المُسْتَعمِرين الفرنسيين. يظهر القتال على الماء أن الشعب غير موحّد بل أنه قبليّ. تم تفجير السدّ للحصول على الماء. عامل التفرقة صار عامل وحدة. 

"وقائع سنوات الجمر" فيلم تاريخي يمجّد الثورة وينتهي بتفاؤل: طفلٌ يجري نحو أفق مفتوح، نحو المستقبل. لكن ذلك لم يشفع لمحمد الأخضر حامينا، فتم وقف تمويل أفلامه رغم "السعفة الذهبية". واضحٌ أن الرفاق في "جبهة التحرير" أحبوا "السعفة" وخجلوا من صورة الشعب غير الاشتراكي في أفلام حامينا. 

هو فيلم عن جزائر فلاحية لا جزائر صناعية ثورية، كما حلم الرفاق الذين ظنّوا أن الشعب موحّدٌ منذ الأزل، كحالة طبيعية. الأفلام التي تسوق مثل هذا الوهم لا تحصل على "سعفة ذهبية". 

يُروى الفيلم بصوت الراوي المجنون وعينيه (محمد الأخضر حامينا نفسه)، مالك الحقيقة التي يشيعها مجانًا، لكن لا أحد يسمعه. إنه بديل الأب المناضل المسلح. يتكرر الضريح كرمز للنبع مصدر الطاقة الروحية. أي عار هذا؟ 

يريد الرفاق إلهامًا ثوريًا حداثيًا. لكن البطل مجذوب لا يناسبهم ولا يشبههم. وتأكيدًا على خجل النخبة الثورية من الشعب الذي تجمعه الأضرحة، أنه بالتزامن مع نجاح فيلم حامينا وتتويجه، هدم الرئيس الجزائري هواري بومدين زوايا وأضرحة عديدة. 

الفيلم متوّجٌ في "كان" لأن فيه حضور تاريخ فرنسا وأنتروبولوجية قروية عميقة غير مشرفة للرفاق. لذا، واجه محمد الأخضر حامينا صعوبات في تصوير أفلام جديدة. يلاحظ أن معظم الأفلام العربية التي تصل المهرجانات الدولية تجري في خرابة أو قرية بائسة.

العربي الجديد اللندنية في

18.05.2018

 
 

ماتيو غاروني... هل يفوز بالسعفة هذه المرة؟

رسالة كان -  عثمان تزغارت

كانبالرغم من أنّه لم يسبق أن نال «السعفة الذهبية»، إلا أنّ المعلم الإيطالي ماتيو غاروني (49 عاماً) يعدّ واحداً من السينمائيين الأكثر شعبية على الكرازويت. مشاركته الأولى في «كان»، عام 2008، كان لها وقع القنبلة. فقد خطفت رائعته «غومورا»، التي تحدّى فيها شبكات المافيا في نابولي (عن رواية شهيرة للصحافي روبرتو سافياني)، «الجائزة الكبرى». جائزة نالها ثانية، عام 2012، عن فيمله Reality ، الذي كان أوّل عمل سينمائي تصدّى لظاهرة تلفزيون الواقع ودورها في إفساد الذوق العام

السؤال الذي بات على كلّ الألسن، بعد العرض الرسمي لجديده Dogman، أمس: هل يتعثر غاروني، هذه السنة أيضاً، على عتبة «الجائزة الكبرى»، ثانية أهم المكافآت في «كان»؟ أم أنّه سيشق طريقه، أخيراً، نحو النادي المغلق لأصحاب السعف الذهبية. نادٍ رأى كثيرون أنّه كان جديراً بالانضمام إليه في كل مرّة حطّ فيها الرحال على الكروازيت. وخاصّة أنّه، بعد فيلمَيْه المذكورَيْن، اللذين أحرزا «الجائزة الكبرى»، عاد ليبهر الجمهور والنقاد، عام 2015، برائعته «حكاية الحكايات». لكنّ لجنة التحكيم، التي ترأسها آنذاك الأخوان كوين، كان لها رأي مخالف، إذ خرج الفيلم بخفي حنين من سباق الجوائز.

بعيداً عن التهويمات الغرائبية لـ «حكاية الحكايات»، وعن النبرة النضالية لـ «غومورا»، غرف ماتيو غاروني هنا من إرث «الواقعية الجديدة» الإيطالية. شخوص Dogman المسحوقة، التي تتخبّط في أجواء قاتمة من العنف العدمي، تبدو كأنّها خرجت للتوّ من أفلام فيسكونتي («العشاق الشيطانيون»، «روكو وإخوته»…)، أو روسيليني («روما، مدينة مفتوحة»، «رحلة في إيطاليا»…)

في خضمّ هذه الدورة التي هيمنت خلالها على الكروازيت الأفلام التي تحمل رسائل قوية، سواء على الصعيد السياسي أو في مجال الدفاع عن حقوق الأقليات والنساء والمستضعفين، اختار غاروني التغريد خارج السرب. بطله «مارشيللو»، عاشق الكلاب الذي يمتلك محلاً للعناية بها وتنظيفها، شخصية مهزومة وانطوائية تفتقر إلى أي كاريزما. والأمر ذاته بالنسبة إلى شلّة رفاقه، الذين يقاسمونه الحياة الرتيبة ذاتها في حي شعبي يعاني من هيمنة شاب أزعر يُرهب الجميع، من دون أن يجد من يمتلك الشجاعة الكافية للتصدّي له. إلى أن تنقلب جدلية الجلّاد والضحية، في المشاهد الأخيرة من الفيلم، إذ يخطّط «مارشيللو» للانتقام من أزعر الحي وقتله، أملاً في استعادة صداقة واحترام شلّة رفاقه. لكن الفيلم ينتهي بعبثية وسوداوية تذكّر بالعوالم العدمية ذات المنحى العبثي في أفلام الأخوين كوين («حلاق اللحى»، «لا بلد للمسنين»…)

يبقى السؤال: هل سينجح رهان ماتيو غاروني على المغايرة في منحه «السعفة الذهبية» التي يستحقها من دون شك؟ يتوقف ذلك على مدى جسارة خيارات لجنة التحكيم، التي تترأسّها الأوسترالية كيت بلانشيت. وهل ستمتلك الأخيرة الجرأة على التغريد بدورها خارج السرب، لتخالف السمة الغالبة على هذه الدورة، أي الأفلام ذات النبرة السياسية والنضالية؟

الأخبار اللبنانية في

18.05.2018

 
 

«الشرق الأوسط» في مهرجان كان السينمائي 9: لارس فون ترايير يتعمد الإساءة إلى المرأة في عامها

عودة المخرج المشاغب... وغير التائب

كان: محمد رُضـا

مات ديمون ومات ديلون من جيل واحد. الأول (47 سنة) نجم معروف مثّل أول فيلم له سنة 1988 بعنوان «ميستيك بيتزا». الثاني (54 سنة) ممثل معروف معين ظهر في أول فيلم سنة 1979 بفيلم عنوانه «فوق الحافة» (Over the Edge). كلاهما مثّلا للأسطوري فرنسيس فورد كوبولا. ديمون في «صانع المطر» سنة 1997 وديلون في فيلمين متعاقبين هما «المنبوذون» (The Outsiders) و«رامبل فيش» (Rumble Fish)، وذلك في عام واحد هو 1983.

كلاهما جيد، لكن الأول محظوظ أكثر من الثاني ويمكن أن يلعب سوء الاختيار دوراً كبيراً في هذا المجال. ديمون ليس لديه فيلم هنا في «كان»، لكن ديلون لديه فيلم يجسد سوء الاختيار في شكل مثالي.

الفيلم هو The House That Jack Built («المنزل الذي بناه جاك») للمخرج لارس فون ترايير تكسّرت موهبته على صخور سنة 2000 عندما قدّم آخر فيلم يستحق حيزاً كبيراً من التقدير هو «راقصة في الظلام».

بعد ذلك التاريخ حقق جولات غير مفيدة في طي أفلام لا معنى لها أو ذات قيمة سينمائية فعلية منها «دوغفيل» و«نيمفومانياك 1و2». الجزء الثاني من «نيمفومانياك» شهد عرضه في «كان» سنة 2013 وبعد العرض قام، خلال المؤتمر الصحافي، بإبداء إعجابه بهتلر فأثار ضجة كبيرة (سلبية) أدت إلى قيام المهرجان بشخص مديره العام تييري فريمو بإصدار قرار بمنعه من حضور «كان»، وبالطبع منع أفلامه كتحصيل حاصل. هنا أيضاً إشارات لهتلر وموسوليني وماووتسي تونغ كما لو أنه يرفض الاعتراف بالذنب.

- توازن مفقود

هذا المنع انتهى مع قبول عرض فيلم فون ترايير الجديد (والأول له بعد ذلك الفيلم الغير اللائق) «المنزل الذي بناه جاك»، ويا ليته لم يفعل. الفيلم، الذي يدور حول قاتل مسلسل (يؤديه مات ديلون الذي ربما اعتقد أنه سيساعد مهنته عالمياً) له حسنة فنية واحدة تكمن في التصوير (للتشيلي مانويل ألبرتو كلارو) ولا شيء يُذكر عدا ذلك باستثناء أن ديلون يؤدي المطلوب منه جيداً كونه موهوباً وصادقاً في ممارسة مهنته كممثل. للأسف، لا الشخصية التي يقوم بها قادرة على تجسيد تلك الموهبة طوال الوقت، ولا الدور الذي يؤديه كقاتل لا يرتدع عن قتل النساء والأطفال بعنف واضح يمكن له أن يمنحه أي عذر إذا ما أراد ذات يوم تبرير قبوله تمثيل هذا الفيلم.

فون ترايير اختار للفيلم لونه ونبرته ومنهجه ودرجة عنفه. هو من كتب السيناريو وحمل فيه على المرأة والعائلة والأطفال أيضاً وتييري فريمو هو من اختاره في سنة احتلت فيه القضايا النسوية العادلة (حركة «مي تو» وخط هاتفي مباشر للشكوى ضد المتحرشين، وكايت بلانشيت وحملتها المطالبة بتوازن الاختيار الجنسي للمهرجان)؛ ما يجعله متهماً بسوء الاختيار في أسوأ الأحوال.

جاك (ديلون) يقتل طفلين ثم يجبر والدتهما على ركوب سيارته، وعندما لا تتوقف عن النحيب لما حدث لطفليها يرفع مسدسه ويطلق النار عليها أيضاً. ما لا ينجزه المخرج هنا هو أي قدر يُذكر من الرهافة. فعندما قام سام بكنباه بتحقيق أفلامه العنيفة (والتي بدورها لم تكن رقيقة المعالجة حيال المرأة) لم يتخل عن قدر لافت وضروري من الفن المحلّـى بشعرية المكان أو الحدث الماثل.

الحبكة تكتفي، على مدى 155 دقيقة قاتلة، باثنتي عشرة سنة من حياة قاتل يستند إلى نفسه الداكنة والمعقدة ويرتكب جرائم متوالية في مواقع ساحلية غير مسماة، ولو أن الأحداث تدعي أنها أميركية خلال تلك «الدزينة» من السنين سنتابع جاك وهو يرتكب نصف «دزينة» من النساء اللواتي يتعرضن للقتل على يديه وبطرق مختلفة. القبعة ترتفع للفيلم المنسي «أميركان سايكو» للمنسية (بدورها) ماري هارون (2000)، ليس فقط لإتقان كرستيان بايل دوراً مماثلاً لما يؤديه هنا مات ديلون، بل لقدرة ذلك الفيلم على الفصل بين تشخيص الجريمة ودوافع مرتكبها بحيث تنسج عملاً نقدياً لمجتمع غير متكامل، وإلا لما أدّى إلى وجود مثل هؤلاء القتلة أو سواهم.

- كرهه للمرأة

فيلم فون ترايير يتيح لبطله جاك أن يكره من دون تردد، وأن يقتل من دون الشعور بالذنب، ولا يفيد كثيراً أن يقوم الألماني برونو غانز بتوفير طاولة البينغ بونغ بينه، كمرشد اجتماعي (على ما أظن) وبين القاتل جاك. في الجدال الساخر القائم بينهما يقوم تاريير بتوفير معلومات إضافية حول البواعث وبعض التحليل النفسي الذي قد يكون صائباً أو لا يكون.

خلال ذلك يحاول المخرج منح عمله بعض الصدى الواقعي والنقد لأميركا عبر مشاهد تذكّر ببعض العنف الذي ساد (ويسود من حين لآخر) مثل مقتل شارون تايت على أيدي جماعة تشارلز مانسون (الذي مات أخيراً في سجنه)، أو مثل حادثة السحل التي قام بها عنصريون بيض في بلدة تكساسية سنة 1998 لشاب أسود.

لكن ذلك لا علاقة له بالماثل هنا ولا يستطيع أن يشكل تبريراً لا لجاك ولا لوجود ذلك الكره الشديد صوب المرأة.

هذا الكره ساد أفلام تاريير السابقة. فقط الذين فاتهم التمعن في الشخصيات النسائية وأدوارها في أفلام هذا المخرج الدنماركي هم الذين لم يلحظوا أن دور نيكول كيدمان في «دوغفيل» كان معادياً للمرأة. كذلك دور المغنية بيورك في «راقصة في الظلام». أما تعاونه مع تشارلوت غينزبيرغ فحدّث به من دون حرج. «نيمفومانياك» (الذي قامت ببطولته) لا علاقة له بسينما الفن، ولا برغبة المخرج تقديم فيلم يحتل مكاناً خالداً في قائمة أفضل أفلام التاريخ.

هنا يسأل، من بقي في الصالة التي شهدت خروج نحو 100 متفرج، أن يتمتع بمشاهدة سوء أفعال جاك. هذا المراد كان من مفاتيح أفلام ألفرد هيتشكوك التي مارسها بسخريته السوداء وبأسلوبه المنظم والمنضوي تحت شروط التهذيب. هنا هو مجال مفتوح (ومنشود) لجعل البعض يشعر بما يشعر به بطل الفيلم من اللامبالاة لأفعاله، وفي الوقت الذي يتابع فيه ما يحدث للنساء من دون أي شعور بالشفقة.

في حفلة «جمعية مراسلي هوليوود الأجانب» التقيت بتييري فريمو ودار بيننا حديث عابر كان من بينه سبب قبول الفيلم ومخرجه بعد سنوات المنع. لم يكن الفيلم قد عُرض بعد؛ لذلك لم يشمل الحديث شيئاً عن تداعياته. قال: «ما قاله فون ترايير قبل سبع سنوات كان لا يغتفر وقد دفع ثمنه ممتنعاً عن العمل طوال تلك الفترة. والآن لا بد من إعادة الاعتبار إليه كفنان».

يا ليته بقي ممتنعاً.

سنوات السينما

Bicycle Thieves (1984)

> الواقعية الجديدة بدأت هنا

في مطلع «سارقو الدرجة» تصل حافلة إلى مرآب بجانب مبنى من طابقين. وعندما تتوقف يخرج منها عدد من الرجال المتجهين فرادى إلى مدخل المبنى. قبلهم وصل رجال آخرون ووقفوا بانتظار خروج من سيوزّع على بعضهم أعمالاً.

كون إيطاليا خرجت من الحرب منكفئة اقتصادياً وخاسرة سياسياً، وتشهد الآن بطالة مستشرية يتبلور أمامنا من هذا المشهد التمهيدي. هؤلاء الرجال يأتون كل يوم إلى هذا المركز الاجتماعي بغية الحصول على أي عمل يعتاشون من ورائه. أحدهم اسمه أنطونيو (لامبرتو ماجيوراني) محظوظ هذا اليوم؛ إذ يتم اختياره لوظيفة بسيطة: لصق إعلانات ورقية على جدران المدينة.

أنطونيو متحمس لعمله. نتعرّف على عائلته المدقعة فقراً، ونلم بأنه عانى من البطالة لفترة طويلة وأن الدراجة التي يملكها الآن للانتقال بها في شوارع المدينة للصق الإعلانات لم يكن ليستطيع استخدامها لولا أن زوجته باعت حوائج البيت لكي تساعده على استردادها من دكان رهونات.

هو الآن على رأس السلم يلصق إعلاناً لفيلم جديد. صورة الممثلة الأميركية ريتا هايوورث تعلوه. دراجته عند أسفل السلم. لص يمد يده إليها ويسرقها منه. ينزل أنطونيو من السلم سريعاً ويلحق به، لكنه يفشل في القبض عليه.

هذا هو مطلع محنة أنطونيو الصعبة التي صنع منها المخرج الإيطالي فيتوريو دي سيكا عملاً إنسانياً رائعاً خطف مشاعر مشاهديه وتأييدهم الكبير لبطل الفيلم ولابنه الصغير؛ إذ ينطلقان باحثين عن الدراجة لعلهما يجدانها ويستردان الدراجة وينقذان الوظيفة أيضاً.

رغم أن أفلاماً إيطالية سبقت «سارقو الدراجة» في المنحى الواقعي ببضع سنوات، فإنها لم تسجل حضورها بالقوّة والتأثير ذاتيهما. لذلك؛ يمكن اعتبار أن هذه الواقعية التي تركت تأثيرها على سينمات أخرى غير إيطالية، بدأت هنا.

التقط دي سيكا حكاية ألّفها لويجي بارتوليني وحافظ على بساطة فكرتها؛ معززاً ذلك بالاستعانة بممثلين غير محترفين من بينهم لامبرتو ماجيوراني وإنزو ستيبلا الذي يلعب دور الصبي. وهناك ما هو أبعد من التماثل أو الكيمياء بينهما. هناك جدل واقعي المعالجة لحياة مدقعة يتحملان وزرها.

في أحد المشاهد يصفع الأب الملوع بسرقة سبيل رزقه ابنه. ليس في يد الابن من شيء يفعله سوى البكاء وإعلان الرغبة في العودة إلى البيت. لكن ما أن ترتد يد الأب عن وجه ابنه حتى يدرك خطأه، وكيف أن الحاجة المعيشية الصعبة والرغبة المستحوذة عليه لاسترجاع تلك الدراجة الهوائية لا يمكن لهما أن يعوضا حبه لابنه البريء من كل ذنب.

هذه لحظات قلّ تصوير مثيلها في السينما بالصدق ذاته وبالمضمون الاجتماعي نفسه. هذا المضمون يواكب الفيلم من دون أي قدر من الهوان. يسايره كالظل. وكلما اقترب أنطونيو من إلقاء القبض على اللص (مرتين) تباعدت المسافة بينه وبين أمله في استعادتها. في أحد المشاهد يعرّض نفسه وابنه للخطر عندما يحيط به رجال يدافعون على اللص ويمنعون أنطونيو من القبض عليه.

في نهاية الفيلم يبدأ أنطونيو التفكير في سرقة واحدة من دراجات كثيرة منتشرة. الرسالة واضحة؛ إذ حتى يُـطعم أنطونيو عائلته على القانون والعدالة أن يسودا. الطريقة الوحيدة الباقية هي أن يسرق كما سُرق.

بقي هذا الفيلم العمل من بين القلة الأهم لفيتوريو دي سيكا من بين 34 فيلماً حققها في حياته. الفيلم صنع من بطله لامبرتو ماجيوراني الذي لم يسبق له الظهور على الشاشة من قبل، ممثلاً حتى عام 1970.

شاشة الناقد

«سبيفاك»

> إخراج: أنطوني أبرامز، أدام لارسون برودر

> دراما | الولايات المتحدة – 2018

> تقييم: وسط

فيلم صغير ومستقل عن كاتب روائي قصير القامة كئيب الهيئة ومحبط بعد ثلاث سنوات ونصف من محاولة الخروج بفكرة يصنع منها رواية جديدة. اسمه وولي سبيفاك، ويقوم به مايكل باكول الذي سبق له أن كتب أفلاماً ولعب بعض الأدوار المتفرقة. نتعرف عليه وهو يشطب صفحة من كتاب يقرأه في مكتبة عامّـة، ثم وهو يجلس إلى مكتبه في منزله محاولاً الكتابة بلا فائدة تذكر.

المكتب الذي يجلس إليه غير منظم، والحيز الوحيد المتاح لكي يكتب ضيّق ومحاط بملفات وأوراق ربما للتأكيد على أن الرجل يمر بمحنة وجودية من دون أن يعرف ذلك بعد. لسبب ما، ما زال لديه صديقان ودودان، هما كيفن (إلدن هنسن) وروبي (مايكل سيرا) وهذان يقتحمان غرفته ويقنعانه بالتوجه معهما إلى مطعم لعلهم يمضون ليلة جميلة.

هذا لا يحدث، أو لا يحدث سريعاً. وها هم داخل سيارة روبي من جديد. سبيفاك نائم في المقعد الخلفي بينما يتفق الصديقان على مواصلة الرحلة وصولاً إلى لاس فيغاس. هنا يدخل الثلاثة نادياً اعتقدوا أنه سيكون مليئاً بأسباب السعادة: موسيقى ورقص. لكن ما يكتشفونه هو مكان يعج بالموسيقى فقط من دون زبائن. ها هو سبيفاك جالس ممعناً في لا شيء عندما تتقدم منه امرأة جميلة (ماجي لوسون) وتسأله إذا ما كان يود مصاحبتها.

يقبل الدعوة وهو مبهور بجمالها الفاتن، وأكثر ذهولاً بمبادرتها المفاجئة ليفاجأ في الصباح بأنه كان صيداً ليوم واحد، وأن لديها صديقاً ستتزوج منه. في تفسير الفيلم المتوعك أنها وصديقها اتفقا على هذه الطريقة الغريبة لتوديع حياة العزوبية.

هذا كله يقع في ثلث الساعة الأولى من الفيلم، وبعده تستمر الأحداث لتتحدث عن صداقته مع المرأة وصديقها اللذين يعرفانه على امرأة جميلة أخرى. كل ذلك وسواه والممثل، غير الجذاب أساساً، يتابع حالة واحدة من الاندهاش لما يحدث معه. عندما لا تقع هذه الحالة، فإن ملامح وجهه تعود إلى الكآبة التي طالعنا بها الممثل منذ البداية.

هناك نجاح محدود لفيلم يحاول الابتعاد عن ناصية الأفلام التي تستعير منحاها الاستقلالي جزئياً فقط. تعمد إلى حكاية مستهلكة وأسلوب عمل سهل الوصول إلى الجمهور السائد (وإن لم تنجح في هذا المضمار أيضاً) وتنتجها بميزانية محدودة. هذا الفيلم ينتمي فعلاً إلى فصيل نادر من الأفلام المستقلة، ذلك الذي لا أمل له بالنجاح على الرغم من أن مخرجيه لديهما أسلوب سرد سلس ولافت.

على ذلك: «سبيفاك» من النوع الذي يبدأ جيداً، ويتخلى عن حسناته مرّة تلو المرّة. مشكلة بطله التي تثير الاهتمام في البداية والمحاطة بمواقف كوميدية لطيفة تفقد زخمها وفاعليتها بسبب من تكرار الحالة من دون تطوير.

المشهد

مهرجان يرحل وآخر يعود

> حديث المهرجانات لا ينتهي. كل مهرجان يطفو قلما يكون إضافة لما سبقه وهو، إن استمر، فإن ذلك فعل نيّـر وشبه نادر هذه الأيام في مواجهة قيام مهرجانات عليها أن تبقى صغيرة لكي تستمر، تبعاً لميزانيات محدودة، أو أن تتوقف بعد حين.

> في «كان» سطا خبر إيقاف مهرجان «دبي» عن النشاط على وسائط الإعلام المختلفة الغربية قبل العربية. المنارة التي كانت تضيء الحياة السينمائية العربية بكاملها، والتي كان شعاعها يغطي ساحات عالمية قدّر لها أن تتوقف عن العمل. صحيح أن متحدثين ذكروا أنه توقف مؤقت هذا العام وسيعود المهرجان في العام المقبل، لكن نقاد «فاراياتي» و«ذا هوليوود ريبورتر» و«سكرين» من بين آخرين أجانب يميلون كثيراً للاعتقاد بأنه توقف.

> وسط ذلك، هناك شائعات قوية تقول إن مهرجان «أبوظبي» السينمائي الذي كان بدوره شعلة ثقافية وفنية مهمّـة في المنطقة سيعود. إنه المهرجان الذي توقف في عام 2015 تاركاً المجال لمهرجان إماراتي كبير واحد هو مهرجان «دبي».

> مهرجان جديد آخر يعود إلى نشاطه السابق هو «مهرجان معهد العالم العربي في باريس». هذا كان في مقدّمة المهرجانات العربية المقامة خارج دنيا العرب وتوقف قبل أكثر من عشر سنوات، ويعود الآن بإدارة جديدة بحوافز قوية ومختلفة.

> في مصر آل مهرجان القاهرة السينمائي إلى المنتج محمد حفظي الذي عليه عبء إخراج المهرجان من متاهة مادية وإدارية تعاقبت عليه منذ عشرين سنة وشهدت تولي مسؤولين مختلفين، بعضهم بنجاح وبعضهم الآخر كمنوال وظيفي لا أكثر. مهمة ليست سهلة، لكن حفظي من الشجاعة بحيث قبل القيام بها.

> وبينما قرطاج التونسي يعد العدّة لتقديم دورة جديدة ضمن اهتمامه بالسينما العربية والأفريقية، يعد مهرجان مراكش المغربي العودة إلى العمل بعدما توقف لعام واحد. لا حديث مؤكداً حول إذا ما ستحمله هذه العودة من جديد.

> وكان مهرجان «الغونا» الذي أقيم لأول مرّة في العام الماضي أنجز نجاحاً كبيراً كسب به ثقة السينمائيين المصريين محلياً، ولفت انتباه الأجانب عالمياً. هذا المهرجان ينوي العودة بدورة ثانية في هذه السنة خلال الموسم المزدحم بالمهرجانات العربية المذكورة أعلاه.

الشرق الأوسط في

18.05.2018

 
 
 
 
 
 

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك
  (2004 - 2018)