عندما أطل “عبد الملك زرزور” من عليائه، مكتمل الهيئة والهيبة،
بلحيته البيضاء وقلنسوته الصوفية، ممسكا بسلاحه الآلي، مطلقًا
صيحته الشهيرة “حد ليه شوق في حاجة” في فيلم “إبراهيم الأبيض”
(2009)، كان وضع محمود عبد العزيز قد استقر تماما في قلوب وعقول
المشاهدين – من كافة الفئات والأطياف والأعمار – كصانع وجدان من
الطراز الأول، بعد أن اجتاز بنجاح مراحل الممثل والممثل الكبير..
وبقى السؤال: كيف صعد إلى قمة هذا الجبل من نفترض أنه لا يملك سبل
وأدوات الصعود؟ ومن كنا نتصور أن وسامته، وبداياته، لا تؤهله سوى
للبقاء على السفح، مكتفيًا بأدوار العاشق الرومانسي أو “الجيجولوه”
الانتهازي؟
قبل 18 عامًا من هذا التاريخ، كان قد أعطانا الإجابة، كان قد بدأ
رحلة الصعود، كان قد أتم تغيير جلده ليحول” الشيخ حسني” إلى أسطورة
من لحم ودم على الشاشة في “الكيت كات” (1991)، لكن لم يتلق أحد
الرسالة، وأجبرته ظروف السوق وقصر نظر القائمين عليها على أن يعود
لتقديم أفلام وأدوار لا تعكس موهبته الفريدة، ولا تتناسب مع
المرحلة التي كان قد وصل إليها، ليظل “الشيخ حسنى” قابعًا داخله
وداخل عشاقه إلى أن انفجر محدثًا قنبلة “عبد الملك زرزور”.
وقبل نحو 18 عامًا أخرى، كان قد عرف بدايته الحقيقية على الشاشة
الكبيرة في “الحفيد” (1974): شابا وسيما قد تتوقف عنده العين لكن
لا يتوقف القلب أو العقل.. الآن، بعد رحيله الحزين مساء السبت
الماضي عن 70 عامًا، أضع الصور الثلاث إلى جوار بعضها البعض
وأتساءل: كيف تحول “جلال” إلى “الشيخ حسني”؟ وكيف أصبح “الشيخ
حسني” “عبد الملك زرزور”؟
ليست المسألة مجرد مهارة ممثل، ولكنها قدرة على تحدي ومجابهة الذات
والظروف والسوق الجاهلة المستغلة، فمن أين جاءته هذه القدرة؟ وكيف
تحققت تحولاته بهذه السلاسة وبتلك النعومة؟
يمثل محمود عبد العزيز خلطة ساحرة ربما كانت السبب الحقيقي في
تسميته بـ”الساحر”، وليس فقط فيلمه الشهير مع الراحل رضوان الكاشف
(2001)، فهو الوسيم، “السمارت”، الجدع، ابن البلد، الأفندي،
المعلم، الساخر، المرح، الحزين، في آن واحد. يمكنه أن يعشق
برومانسية، ويمكنه أن يكون قاتلا مخيفًا أو شريرًا مختلًا. قادر
على تفجير الضحكات دون تشوه خلْقي أو خُلُقي، وقادر على إسالة
الدموع دون نعيق أو نحيب. هو ابن البلد دون جلباب، والباشا دون
سيجار، والنذل دون حاجب مرفوع. خليط مدهش لا يخضع لأي تصنيف أو
قولبة، وكيمياء ناجحة لا يعرف أحد سرها، وتركيبة مصرية صميمة
وأصيلة لا يمكن أن تتشكل سوى من طين هذا البلد.
لكن، هل تكفى هذه الإجابة؟ بالطبع لا. من المؤكد أن الإجابة
الحقيقية تكمن في تلك الفاتنة الراقدة بدلال في حضن البحر،
الإسكندرية التي لا تعرف حدودًا سوى الأفق.. هو ابن الأمواج، وتعلم
منها كيف يهدر ويهمس، كيف يثور ويهدأ، وكيف يغضب ويحنو، وهو ابن
المدنية الكوزموبوليتانية التي لا تعرف أعراقًا أو أجناسًا أو
أديانًا، وتصهر الجميع في بوتقة الحضارة والفن والجمال التي علمت
العالم التعايش والتسامح والسمو عن الصغائر.
هو أيضًا ابن قصور ثقافة الإسكندرية، حين كانت – في ستينيات القرن
الماضي – حضَّانة حقيقية للمواهب والأحلام، ومزرعة منتجة للفنانين
والمثقفين.. تشكل وعيه في فورة وذروة حلم مصر عبد الناصر القومي،
حين كانت مختلف المجالات الفنية والثقافية منهمكة في رسم ملامح مصر
الجديدة الحرة.
وعندما بدأ مشواره في أوائل السبعينيات، اكتمل الحلم بانتصار
أكتوبر 1973، فسعد به وشارك في التعبير عنه (“حتى آخر العمر” –
1975)، لكن سرعان ما تم تطبيق سياسة الانفتاح الاقتصادي، بكل ما
رافقه من فساد سياسي واقتصادي واجتماعي، لينتفض محمود عبد العزيز
مع غيره من الفنانين والمثقفين الحقيقيين ويدين تضخم ثروات القطط
السمان، واتساع الهوة بين الفقراء والأغنياء، والتلاعب بأقوات
الناس في أفلام مثل ” السادة المرتشون” (1983).
واللافت أن اشتراكه – بقوة – في سينما الثمانينيات الواقعية بأفلام
صارت من علامات تلك الفترة ومن علامات السينما المصرية بشكل عام –
مثل “بيت القاصرات” (1984)، و”الصعاليك” (1985) و”البريء” (1986)،
و”يا عزيزي كلنا لصوص” (1989) – لم يمنعه من المشاركة في العديد من
النوعيات الأخرى شديدة الاختلاف والتباين، من الأعمال التجارية
البحتة، مثل “البنات عايزة إيه” (1980)، و”وكالة البلح” (1982)،
و”تزوير في أوراق رسمية” (1984)، إلى الأفلام التي جعلتها خصوصيتها
من الكلاسيكيات رغم صبغتها التجارية، مثل “العار” (1982)، و”الكيف”
(1985)، و”جري الوحوش” (1987)، إلى أفلام الجاسوسية (“إعدام ميت” –
1985 و”فخ الجواسيس” – 1992)، إلى الفانتازيا في أفلام مثل “السادة
الرجال” (1987)، و”سمك لبن تمر هندي” (1988)، و”سيداتي آنساتي”
(1989).
ويؤكد ذلك قدرته الكبيرة، غير العادية في الحقيقة، على التنوع
والتلوّن رغم ملامحه التي كان من الممكن أن تسجنه – كما أسلفت – في
أدوار محددة ومحدودة، بما يتجاوز إتقان حرفة التمثيل إلى امتلاك
ثقافة واسعة ومرونة فنية قل أن يتمتع بهما ممثل آخر.. وأكثر ما
يعكس ذلك – في رأيي – هو خوض تجربة الفانتازيا مع الكبير الراحل
رأفت الميهي، بعد أن كان محمود عبد العزيز قد حقق النجومية
والجماهيرية في النصف الثاني من الثمانينيات، وكان لديه ما يفترض
أن يخشى خسارته إذا أقدم على هذا التحول الكبير من الأفلام
والأدوار الكلاسيكية – بكل أنواعها – إلى نوع مختلف تمامًا وغير
مأمون العواقب، لكنه امتلك الجرأة الكافية وخاض التجربة وكسب
الرهان، وحقق النجاح الذي اعتاد أن يحققه في معظم ما قام به في
حياته.
ورغم هذا النجاح، فقد تعرض كثير من الأفلام الجيدة، بل الممتازة،
التي قام ببطولتها، للظلم، سواء في التقييم النقدي، أو في التوزيع
وظروف العرض السينمائي، مما أعاقها عن تحقيق الشهرة والنجاح
الجماهيري اللذين كان من المفترض أن تحققهما، مثل “إكس علامة
معناها الخطأ” (1980)، وهو تجربة مختلفة للمخرج سمير نوار، الذي
كان عائدًا من الخارج وقتها وكان يتبع أسلوبًا خاصًا وجديدًا في
الإخراج، و”المعتوه” (1982) للمخرج الكبير الراحل كمال عطية،
و”فقراء لا يدخلون الجنة” (1984) للمخرج الراحل مدحت السباعي،
والفيلم المتميز جدًا “الحدق يفهم” للراحل أحمد فؤاد، والذي كان من
أوائل الأعمال الفنية التي نبهت لخطورة الاتجار بالدين والنصابين
الذين يعيّنون أنفسهم وكلاء لله على الأرض، و”القبطان” (1997) لسيد
سعيد، و”هارمونيكا” لفخر الدين نجيدة عام 1998.
ويوضح ذلك كله كيف كان محمود عبد العزيز داعمًا للتجارب الجادة
المختلفة، سواء من المخرجين الراسخين أو من المخرجين الجدد الذين
وقف إلى جوار العديد منهم في أفلامهم الأولى ولم يخش على نجوميته
وجماهيريته من مغامرة العمل معهم.
وكما عرف النجاح في السينما، فقد حققه في المسرح في أعمال مثل “خشب
الورد” (1986)، والأهم: في التليفزيون، في العديد من المسلسلات،
خاصة المسلسل الجميل “البشاير” (1988)، للمخرج سمير سيف، والذي أدى
فيه باقتدار دور الفلاح الأريب، وملحمة “رأفت الهجان”، التي قدمها
المخرج الراحل يحيى العلمي في ثلاثة أجزاء بدءًا من 1987، والتي
كانت من أهم الأعمال التي أكدت مكانة محمود عبد العزيز كصانع
وجدان، حيث تماهى المشاهدون مع شخصية البطل الوطني التي أداها
بمهارة وحميمية عبر العديد من المراحل، وصارت تعبيراتها و”لزماتها”
وحركاتها جزءًا لا يتجزأ من وجدان وذكريات المصريين، تمامًا كما
صار الممثل القدير الذي أداها، وسيظل، جزءًا من حياتهم لا يغيِّبه
أي موت.
محمود عبد العزيز.. رحيل القبطان ”زوربا” المصرى
بقلم
:صلاح
هاشم
هل تصنع الأفلام فى غرفة المونتاج وأن أهم عامل من عوامل نجاح فيلم
ما هو مونتاجه، كما كان المخرج الايطالى الكبير أنطونيونى صاحب
فيلم “الخسوف“ و“الصحراء الحمراء“ و“المغامرة“ يحب أن يردد..
أما أن “الممثل “ هو وحده الذى يصنع عظمة الفيلم، كما كان يقول
المخرج الأمريكى العظيم دافيد جريفيث صاحب فيلم “ ميلاد أمة” الذى
أسس لفن السينما لغته وأجروميته، وكذلك المخرج الأمريكى الكبير
أورسون ويلز صاحب فيلم “ المواطن كين“.
أيقونة لكل العصور
وعلى اعتبار أن الممثل هو الذى يحقق للفيلم تألقه وتوهجه ونجاحه،
عندما يبرز فيه الممثل بطل الفيلم، ويشمخ بتمثيله، فيجعلنا نتعاطف
مع الشخصية التى يلعبها، ونتماهى معها، حتى نكاد نستشعر لفح
أنفاسها- أنفاسه – فى وجوهنا..
كما فعل بنا الفنان الممثل القدير محمود عبد العزيز عندما جسد
شخصية البطل فى فيلم “ القبطان “ لسيد سعيد، وكما لخص فلسفة الشعب
المصرى فى اشتهاء التهام الحياة
..
من خلال شخصية “الشيخ حسنى “ – زوربا المصرى كما أحب أن أسميه-
التى جسدها محمود عبد العزيز على الشاشة باقتدار رائع وصعد بها الى
قمم عالية، جعلت منه “ أيقونة “ من أيقونات السينما المصرية، ولكل
العصور
..
حزنت كثيرا جدا عندما بلغنى نبأ رحيل الفنان الكبير محمود عبد
العزيز الذى أعتبره “علامة“ من علامات التمثيل فى “ السينما
المصرية الواقعية الجديدة” التى كان يصنعها فى مصر جيل الستينات
الذى أنتمى اليه من المخرجين الشبان الجدد من أمثال عاطف الطيب-
ويحضرنى الآن محمود عبد العزيز بتمثيله شخصية مركبة فى دور ضابط
السجن فى فيلم “ البريء “ لعاطف الطيب
..
وعلى بدرخان- الذى اضطلع محمود عبد العزيز بدور البطولة فى فيلمه
البديع “الجوع“ المأخوذ عن رواية لنجيب محفوظ..
وداود عبد السيد الذى حضر محمود عبد العزيز فى فيلمه “الصعاليك“
الى جانب نور الشريف، وربما كان محمود- بالتواطؤ طبعا مع مخرج
الفيلم داود عبد السيد دون وعى – يؤسس فى هذا الفيلم أو يضع “ بذرة
“ شخصية الشيخ حسنى الأعمى الكفيف، التى لعبها فيما بعد فى فيلم “
الكيت كات “، ويرسم بعضا من ملامحها فى صورة الولد الصعلوك الضائع
الصايع الشقي..
وكان من الطبيعى أن يمضى الكثير من الوقت، وتتغير ظروف مصر بلدنا،
قبل أن تنضج شخصية الشيخ حسنى وتكتمل، لتكون معبرة عن”فلسفة حياة“
كاملة لشعب مصرى عريق، وأن يعبر محمود عبد العزيز، من خلال كل تلك
الشخصيات الكوميدية والدرامية التى لعبها فى سلسلة من الأفلام..
يعبر تلك المسافة الزمنية التى تفصل بين الظروف الاجتماعية
والاقتصادية والسياسية التى صنعت الولد الصعلوك الشقى فى فيلم “
الصعاليك”، والظروف الاجتماعية – خلال فترة الانفتاح الاقتصادي-
المغايرة التى خلقت شخصية الفيلسوف الأعمى الكفيف الحكيم الشيخ
حسنى فى فيلم “ الكيت كات “ وحققت لمحمود عبد العزيز نجوميته،
وجعلت منه بطلا شعبيا يصعد الينا من قلب الحارات الشعبية فى بر مصر
العامرة بالخلق والناس الطيبين..
شاعرية تسخر من مأساة الواقع
ليس “الكيت كات “ فيلما – هكذا كتبت تحت عنوان “شاعرية تسخر من
مأساة الواقع“ بعدما شاهدت الفيلم الذى صنع مجد “ القبطان“ محمود
عبد العزيز – إنه أكبر من ذلك بكثير
..
إنه “ شمس “ تطلع على مصر، بعد أن كنا فقدنا الأمل فى أن تخرج أمنا
الكبرى من محنتها بعد كوارث الانفتاح فى نهاية النفق المظلم حتى
قال البعض وهو يضرب كفا بكف : “ خلاص، لا سينما ولا يحزنون، عليها
العوض “، ثم فجأة يطلع علينا داود عبد السيد المخرج المصرى الكبير
برائعته السينمائية هذه، فإذا بها بمثابة “عودة الروح “ للسينما
المصرية
..
ليس “الكيت كات “ فيلما، إنه “ قصيدة سينمائية “ باهرة مطرزة
بالحنين، إذ يصور الفيلم الحياة فى حى شعبى بالقرب من إمبابة،
فيدلف بنا الى “ ألفة “ مصر المتوهجة بحب الحياة والبشر، بإحباطات
كل يوم ومشاكل النهار والليل، ويجعلنا نعيش مع كفيف يحتال على
العميان، ويركب الموتوسيكلات فى الحوارى ويعشق السينما، ثم اذا
بهذا الكفيف الموسيقار العازف، الشيخ حسني، وكأنه أحد فلاسفة
وحكماء عصر ولى، يحقق لنا فى الحياة وهو فاقد البصر، ما لا نستطيع
نحن المبصرون أن نحققه..
إنه ببساطة “ درس “ فى السينما المرتبطة بواقع مصر، ومنجز بحرفية
متأنقة يتمتع بها مخرج سينمائى قدير، استطاع أن ينطلق من واقعية
أستاذه صلاح أبو سيف، ليطورها ويعمل فيها عمله مثل السحر، محطما
ذلك الجمود الكلاسيكى الواقعى الصلب الذى تميز به عمله الأخير “
المواطن مصرى “، لكى يطل بنا بفيلمه هذا “ الكيت كات
“ ..
على سحر الحياة، وسحر “ الروح “ “ المصرية التى تضحك فى قلب
المأساة، وتفلسف وجودها بإنسانية عميقة، تعانق فيها كل الموجودات
والكائنات، لكى تصل مباشرة وببساطة الى القلب..
“ ..
ولولا وجود هذا القبطان الممثل الساحر محمود عبد العزيز فى دور
الشيخ حسنى – أو “زوربا المصري” كما أحب أن أسميه – لما كان لتلك
الروح المصرية المتوثبة الجبارة التى تولد مثل العنقاء فى قلب
دراما ومآسى الحياة الكبرى- عصر الانفتاح “ الساداتى “ المدمر
وويلاته- أن تنهض من عثرتها و كبوتها، لتجدد فينا الأمل فى اشتهاء
التهام الحياة فى “ بر مصر “ من جديد.
“محمود
عبد العزيز”.. الأشجار تموت واقفة
!
لم يتخل عن روح المغامرة وواصل «التجريب» ودعم
الشباب .. ولم يُصب بأمراض النجومية
بقلم
:مجدى
الطيب
عرفت الفنان محمود عبد العزيز أثناء تصوير فيلم «أبو كرتونة»
«1991»؛ إذ كنت مسئولا عن باب «العرض القادم» فى مجلة «فن»
اللبنانية، وذهبت إلى موقع التصوير، وأذكر أنه كان فى شركة بمنطقة
السواح، وسألته إن كان يسمح لى بإجراء حوار معه فأذن لى غير أنى
فوجئت به يقول لى : «اكتبه وأنا موافق عليه»، ولم أفهم فعدت
لأراجعه : «يعنى مش حنتحاور مع بعض؟» فنظر لى بدهشة قائلا : «هو
انت فاكر انى بأعمل كل الحوارات اللى انت شايفها فى المجلات
والجرائد دى ؟ دى معظمها من خيال صحفيين أعرفهم وأثق بهم لكننى لم
أتكلم معهم !» وذكر لى بعض الأسماء التى كانت تجرى تلك الحوارات
التى تتصدر أغلفة أشهر المجلات الفنية
!
يومها صُدمت، وانزعجت، وبنزق الشباب قلت له : «لكنى لن أفعل هذا»،
ورمقنى بنظرةٍ لن أنساها ما حييت، وقربنى إليه بأبوة طاغية وهو
يقول : «عاوزنا نتكلم عن ايه ؟» . ومن بعدها توطدت علاقتى به؛
خصوصا أننى لم أفوت فيلما من الأفلام التى كان يصورها فى تلك
الفترة «مطلع التسعينات من القرن الماضي»، بوصفه النجم المتوج الذى
تتهافت شركات الإنتاج للحصول على توقيعه «فى عام 1991 عُرضت له
ثلاثة أفلام هى : «أبو كرتونة»،«قانون إيكا» و«الكيت كات» والفيلم
الأخير عشت أيام تصويره فى حارة استديو جلال بحدائق القبة،
وأذهلتنى قدرته الفائقة على تقمص شخصية الشيخ الضرير «حسني»، وشاءت
الأقدار أن أتواجد فى الحارة أثناء تصوير مشهد قيادته الدراجة
البخارية، وهو كفيف، والفزع الذى أصاب أهل الحارة، قبل أن يصطدم
بأقفاص «الفراخ»، وأشهد أن ما رآه الجمهور على الشاشة، من حركة
وحيوية وسعة واتساع لم يكن سوى مساحة محدودة فى الاستديو لا تتجاوز
البضع مترات لكن المخرج داود عبد السيد بموهبته وحيلته وبراعته فى
التقطيع، واختيار الزوايا، والموسيقى التى بدأها متأخرا عن عمد،
جعل منها أفق رحبة،وفضاءات دون حدود، وجعل من المشهد أجمل مشاهد
السينما المصرية، وأكثرها صخبا وسحرا.
فى تلك الفترة تابعته وهو يجسد شخصية الصول «عبد الجبار»، الذى
ترشحه هيئته المهيبة، وشاربه الكث، ليكون «عشماوي» فيما يحمل بين
ضلوعه قلب طفل بريء، وهو الدور الذى أخلص له شكلا وموضوعا لكن فيلم
«دنيا عبد الجبار» «1992» الذى أخرجه عبد اللطيف زكى لم يحقق
النجاح الذى كان ينتظره محمود عبد العزيز، وهو الأمر الذى تكرر فى
فيلم «فخ الجواسيس» «1992»، الذى أخرجه أشرف فهمي،وسعى من خلاله
إلى تقديمه فى دور ضابط الاستخبارات لكن الجمهور لم يرض بديلا عن
شخصية الجاسوس «رأفت الهجان»، التى جسدها قبلها بسنوات، وحققت
نجاحا منقطع النظير.
هنا يمكننا أن نتوقف عند روح المغامرة التى كان يتحلى بها محمود
عبد العزيز، وتتناقض مع مفهوم النجومية كما يراها البعض؛ فالأمر
المؤكد أنه لم يتخل عن جرأته، ولم تصبه عقدة الخوف من الفشل فآثر،
كآخرين غيره، أن يكرر نفسه، وإنما استمرأ «التجريب»، ودخل المغامرة
تلو الأخرى، كما فعل مع المخرج محمد كامل القليوبى فى فيلم «ثلاثة
على الطريق» «1993»، الذى لم يكن مجرد فيلم عن سائق لورى يتنقل
بعربته ما بين الأقصر والمحلة، بل كان رصدا لأحوال مصر ومتغيراتها،
وهو ما قدمه بشكل آخر فى الفيلم الفانتازى «خلطبيطة» «1994»، الذى
اتبع النهج «الكافكاوي»؛ حيث الموظف البسيط الذى يسير بجانب الحائط
لكن جهة أمنية مجهولة تتعقبه، وتلقى القبض عليه، وبعد أن توجه له
اتهامات عدة يهرب، ويظل مُطاردا، ثم يُحاكم بشكل عبثي، وهى تجربة
سينمائية صعبة تثير هلع «النجم التقليدي» لكن محمود عبد العزيز
جارى فيها المخرج مدحت السباعي، وأغلب الظن أنه دفع ثمنها راضيا،
كما فعل فى تجربته مع المخرج منير راضى فى فيلم «زيارة السيد
الرئيس» «1995»، الذى جسد فيه شخصية رئيس مجلس القرية التى تنتظر
القطار الذى يقل رئيس الجمهورية وضيفه الرئيس الأمريكى، وقيل إنه
سيتوقف فيها، ثم واصل المغامرة بشجاعة فى فيلم «البحر بيضحك ليه»
«1995»، الذى عاد فيه للتعاون والمخرج محمد كامل القليوبي، وقدما
فيلما استعصى على فهم الكثيرين وقت عرضه قبل أن يتم اكتشاف أهميته
فيما بعد
!
بالطبع غازل «عبد العزيز» الجمهور بأفلام مثل : «الجنتل» «1996»
و«النمس» «2000» من تأليف عصام الشماع وإخراج على عبد الخالق
و«رحلة مشبوهة» «2001» تأليف مصطفى محرم وإخراج أحمد يحيى لكن شيئا
لم يحل دونه والمضى فى طريق التجريب؛ كما فعل فى «القبطان» «1997»
مع المخرج سيد سعيد، وكان لى الحظ فى متابعة التجربة عن قرب عندما
سافرت إليهم فى بورسعيد، ورأيت كيف كان يحتوى ويحتضن الوجوه
الحديدة، ويُقدر ويحترم وجهة نظر المخرج سيد سعيد، رغم أنه لا
يفهمها أحيانا، كما قال لي، وعلى نفس النهج وقف مع المخرج الشاب
فخر الدين نجيدة فى فيلمه الأول «هارمونيكا» «1998»، وكان شديد
التواضع وهو يمتثل لتعليماته، وكأنه يقف أمام كاميرا المخرج سمير
سيف فى فيلم «سوق المتعة» «2000»، الذى لم ينظر إليه بوصفه فيلما
يجمع بين الإثارة ومخاطبة الغرائز، حسبما رآه البعض، بل كان سعيدا
به،لإدراكه أهمية طرح الكاتب الكبير وحيد حامد فيما يتعلق بثلاثية
القهر والظلم والفساد .ومع وصوله إلى محطة «الساحر» «2001» تأليف
سامى السيوى وإخراج رضوان الكاشف يكشف محمود عبد العزيز عن موهبة
استثنائية، وقدرة خرافية على الأداء السلس، كما يؤكد من جديد أنه
صاحب مدرسة «السهل الممتنع»، بعد أن سحر الجميع بنظرته الكاشفة،
ورؤيته الثاقبة، وأبوته الحانية، وتمكنه من إشاعة البهجة فى أى
مكان يحل به «اسمه فى الفيلم منصور بهجت» رغم ما يعتمل فى صدره
وقلبه من خوف وحزن يكفى الدنيا بأسرها
!
لا أعرف الظروف التى دفعت النجم محمود عبد العزيز للموافقة على
المشاركة فى بطولة فيلم «ليلة البيبى دول» «2008» لكنى أذكر أن هذا
الفيلم أعاده إلى الشاشة الكبيرة بعد ما يقرب من سبع سنوات اختفى
فيها لظروف خاصة، وإن تردد وقتها أنه اتخذ قرارا بالاعتزال، ويُحسب
لهذا الفيلم، رغم شحوب دوره فيه، وهزاله الذى لا يتناسب وموهبته
المعهودة، أنه شجعه على الظهور على الشاشة الكبيرة مُجددا فى فيلم
«إبراهيم الأبيض» «2009» تأليف عباس أبو الحسن وإخراج مروان حامد؛
حيث استعاد الكثير من بريقه، وجاءت شخصية «عبد الملك زرزور» لتبرهن
على أن السنين زادته نضجا ورصانة، لكن صناع السينما المصرية – جريا
على عادتهم – تجاهلوه، ولم يستثمروا ما وصل إليه من حنكة وخبرة
ودراية، ولم يكن من السهل عليه، بشخصيته العنيدة، ومثابرته غير
المحدودة، أن يستسلم ويرفع الراية البيضاء، وإنما قاوم وصمد وواجه،
وفى شهر رمضان الماضى هزم الشائعات، وفاجأ الجميع ببطولة مسلسل
«رأس الغول»، وكما الأشجار.. مات واقفا
!
باحثٌ أكبر من الحياة
بقلم
:أحمد
شوقي
قبل لحظات كان الكل منشغلا فيما يهمه، السعيد بحادث شخصى والناقم
على مديره، المنخرط فى السياسة والباحث عن نكات مضحكة، المترقب
لمباراة المنتخب والمستمر فى مناقشة تبعات انتخاب ترامب. كان مجرد
يوم آخر من أيام القاهرة حتى جاء الخبر التعيس ليتغير العالم. فى
غضون لحظات توقف كل شيء، هدأت هذه الموجات المتضاربة من المشاعر
والأفكار لتصب فى مجرى واحدٍ حزين: القاهرة ومصر بل العالم العربى
أجمعه ينعى محمود عبد العزيز.
آلاف العبارات الرثائية، بعضها مصاغ بإحكام والبعض الآخر متوتر
مبتور بفعل الصدمة. صور ومقاطع فيديو واسترجاع لأفلام ومسلسلات
وشخصيات حفرها الساحر فى قلوبنا. فتاة تكتب بسماجة المراهقة (بوست
مش عن محمود عبد العزيز) دون أن تعى أن ما كتبته هو الآخر عن محمود
عبد العزيز، عن هذه الموجة الدافقة من الحزن التى جعلت صوتا وحيدا
وسط الملايين لا يرثى الغائب يمنح صاحبته شعورا بالاختلاف.
وإذا كان الدعاء الشائع هو أن يحسن الله خواتيمنا، فلا أجد أحسن من
خاتمة كهذه. أن يكون موتك حدثا جللا تتوقف فيه الأرض عن الدوران،
تنقطع فيه أفكار ومشاعر جيوش من البشر فلا يبقى منها سوى الأسى
عليك، سوى تذكر لحظة خاصة عاشها كل منهم مع الشيخ حسنى ورأفت
الهجان وعبد الملك زرزور وعشرات الشخصيات التى نفخ فيها الساحر من
روحه وتلبس روحها.
من هو الممثل إلا باحث عن الحياة وما بعدها؟ باحث عن الحياة فى
شخوص يجسدهم فيعيش مرتين وثلاث ومائة، يصير الشيخ الأعمى الحالم
والنصاب الذى يتحوّل بطلا قوميا والمنجّد الذى يبيع فصا من مخه
والصحفى الذى تنقلب زوجته رجلا ومأمور المعتقل صاحب القلب الحجرى
مع مساجينه الهش مع أسرته، يضع ألف وجه ويجرب كل الأحاسيس الممكنة
وغير الممكنة أحيانا.
هو باحث عن الحياة فى عيون تشتعل فرحا عندما تراه، فى ملايين كان
مصدرا لضحكتهم وشريكا لأساهم، فى مئات الصور التى وضعها أصحابها
على حساباتهم فى ظرف دقائق، فى اعتراف جماعى بأن هذا الرجل كانت
صحبته حدثا يستحق التوثيق. صحفيون وممثلون ومخرجون ومشاهدون جميعهم
أرادوا الإمساك بلحظة الوجود فى حضرته. ولنا أن نتخيل كم وجه قد
أشرق وكم ابتسامة قد رُسمت بفضله خلال أربعين عاما ظل خلالها فى
الصدارة متربعا على عرش القلوب.
الممثل أيضا هو باحث عما بعد الحياة، عن الخلود، عن سيرة تبقى
وحضور لا يخفت ولو فارق صاحبه الحياة. تاركوفسكى وصف السينما بأنها
نحت فى الزمن، استيلاء على بضع لحظات تظل إلى الأبد ملكا لصاحبها.
على هذا الصعيد نحت محمود من اللحظات ما يكفيه للبقاء حتى أبد
الآبدين. وإذا كان سر اللعبة هو الصدق فى الضحكة والدمعة على حد
سواء، فإنه من الصعب العثور على من يجارى محمود عبد العزيز فى هذه
اللعبة.
كان من الممكن أن نتحدث فى هذه السطور التى كُتبت بعد ساعات معدودة
من الرحيل عن مسيرته المبهرة فى السينما والمسرح والتليفزيون، أو
عن اختياراته الملونة بألوان الطيف من الرومانسية إلى كوميديا
الفارص، أو نتعرض لموهبته التى ظلت أربعة عقود غير مروضة، وحشية
فيما قد تسفر عنه فى أى لحظة خارج التوقعات، على النقيض من الأداء
الاحترافى المنضبط لنور الشريف، والتقمصى المتماهى لأحمد زكي. كان
بالإمكان أن نتكلم عن عشرات الموضوعات النابعة من حياة بألف حياة
عاشها طولا وعرضا.
غير أنه من ضمن ميزات الخلود هو تأكدك أن الحديث لا بد أن يأخذك
مرات ومرات لكل هذه الأمور، أما الفرادة والآنية فهى رصد لحظة
الوداع المبهرة، لحظة إجماع الملايين على أنه لا شيء فى العالم يهم
الآن سوى توديع ساحرنا. لحظة كهذه يحلم بها الزعماء والقادة
والرياضيون والشهداء وكثيرون غيرهم، لكن لا ينالها حقا إلا قلة من
بنى البشر، قلة نجحت فى أن تكون أكبر من كل شيء، أكبر من الخلافات
السياسية والمذهبية والفنية ومن أى مصدر للشقاق، فمن يتوقف العالم
لوداعه هو بالقطع رجل أكبر من الحياة ذاتها. رجل يدعى محمود عبد
العزيز.
“الغول”
حينما تجتمع الموهبة والمهارة
بقلم
:محمد
سيد عبد الرحيم
أحيانا ما ينسى أو يتناسى الممثل أن عمله الأساسى هو التمثيل ليغيب
عن التمثيل أو ينشغل بمهام أخرى إلا أن محمود عبد العزيز كان
نموذجا للممثل الذى يعرف تماما أنه خلق لهذه المهنة وأن عمل الممثل
– وهو أمر بديهى – هو أن يمثل. هذا الممثل الغول لا الكتيان (وفقا
لشخصيات مسلسله الأخير “رأس الغول”) طور من أدائه منذ بدايته فى
الدراما التليفزيونية ثم السينما عبر قفزات مهنية واسعة حولته من
مجرد شاب وسيم يستعين به المخرجون فى أدوار ثانوية إلى نجم جماهيرى
فى الدراما التليفزيونية والسينما أثر فى أجياله من الشباب عبر
أدواره المختلفة ووحش تمثيل بقادر على أداء أى دور بسهولة ولكن
ليست بالسهولة التى تمكن أى ممثل آخر من أن يقوم بنفس هذا الدور
بمثل هذا الأداء المتميز.
السهل الممتنع هو ما يمكن أن نصف به الأداء التمثيلى لمحمود عبد
العزيز فنادرا ما تجد انفعالاته زائدة عن الحاجة بل دائما ما يضبط
أداءه فى تمثيل الشخصيات المختلفة بداية من “العار” 1982 إخرج على
عبد الخالق الذى يعتبر نقطة تحول رئيسية فى أداء محمود عبد العزيز
التمثيلى فى دور الأخ الأصغر دكتور عادل ونهاية بفيلم “إبراهيم
الأبيض” 2009 إخراج مروان حامد الذى يعتبر الوهج الأخير فى أدائه
التمثيلى بدوره الأسطورى كحاكم فعلى للمنطقة الشعبية عبد الملك
زرزور الذى له رموز سياسية وميتافيزيقية أداءها محمود عبد العزيز
بفهم عميق واقتدار.
كان بطل مسلسل “رأفت الهجان” يؤدى أدواره بمزاج رائق فينقل هذا
المزاج إلينا ليسعد المشاهدين بأدائه وبالتالى بأعماله التى يقدمها
ولهذا يتطابق تمام التطابق مع اسم “مزجانجي” الذى ناله من دوره
المحورى فى مساره المهنى ككمثل فى فيلم “العار” الذى أخرجه أيضا
على عبد الخالق. ويتضح أيضا هذا المزاج فى تباين الأداء وضبط
إيقاعه مع ما تتطلبه الشخصية وحالة العمل الفنى بشكل عام حيث نشهد
هذه السمات التى لا يتميز بها سوى الممثلين العظام فى قدرتهم مثلا
على تمثيل أدوار مختلفة تماما فى أعمال مختلفة مثل دوره فى أجزاء
مسلسل “رأفت الهجان” بداية من عام 1987 حيث يقوم بدور جاسوس تزرعه
المخابرات المصرية فى قلب تل أبيب حيث استطاع أن يقوم بدور البطولة
بكفاءة يحسد عليها ليصبح واحدا من أهم نجوم الشاشة الصغيرة فى
تاريخها بمصر بالإضافة إلى أدواره الكوميدية التى تميز بها مشواره
الفنى فى أفلامه ومسلسلاته المختلفة بداية من أفلامه مع المخرج على
عبد الخالق مرورا بأفلامه مع المخرجين رأفت الميهى وعاطف الطيب
وداود عبد السيد وأخيرا أفلامه مع المخرجين رضوان الكاشف ومروان
حامد.
أيضا نشهد هذا الأداء المتميز فى تمثيل أدوار مختلفة فى نفس العمل
الفنى مثل قيامه بدورين فى فيلم “إعدام ميت” 1985 إخراج على عبد
الخالق وهما دورا الجاسوس البدوى “منصور مساعد الطوبي” وضابط
المخابرات المصرى “عز الدين” أو حتى فى فيلم “البريء” 1986 وبنفس
الشخصية ولكن فى أماكن مختلفة حيث شخصية العقيد “توفيق شركس” غليظ
القلب والمتوحش والهمجى فى السجن والأب “توفيق شركس” رقيق القلب
والمحب والعطوف فى البيت وبين عائلته أو فى “الدنيا على جناح
يمامة” 1989 فى دورى سائق التاكسى “رضا رشدي” والمجنون “بلحة” ولقد
استطاع فى هذا الفيلم والرغم من كونه ليس البطل أن يجذب إليه أعين
وقلوب المشاهدين بأدائه الحيوى والمختلف والمتميز فى كلا الدورين
ليتذكر الجميع دور “بلحة” على الرغم أنه ظهر فى مشهد واحد فقط فى
الفيلم.
القبطان الذى غادر سفينة السينما والتليفزيون
وهذه النماذج وغيرها تبين أن هذا الغول فى التمثيل لم يكن يرتكن
فقط إلى موهبته التى نشأت على مسرح الجامعة بكلية الزراعة لتأخذ
فرصتها فى الظهور على يد المخرج الكبير نور الدمرداش فى التليفزيون
لتتحرر بعد ذلك كالفرس الذى يعرف طريقه جيدا نحو القمة. بل ان
محمود عبد العزيز فهم منذ البداية أن الموهبة لا تكفى وأنه يجب أن
يعمل ويطور من هذه الموهبة ومن أدائه التمثيلى وهو ما قام به
بالفعل وما نشهده فى أعماله منذ السبعينيات وحتى النهاية وكأنه
بذلك يتقصى أثر البيت الشعرى الرائع الذى كتبه الشاعر الفلسطينى
محمود درويش حينما قال “الوحى حظ المهارة إذ تجتهد”. فهذا القبطان
الذى يعتبر مدرسة فى التمثيل احتذى بها مئات الممثلين بعده اجتهد
كثيرا على موهبته التمثيلية ليصبح واحدا من أفضل الممثلين الذين
خلدوا السينما المصرية فى أعمالهم المختلفة.
وهذا الاهتمام بالموهبة يعكس مدى ذكاء محمود عبد العزيز وهو أيضا
ما نجده فى أمرين مهمين للغاية فى مسيرته الفنية وهى اختياره
للأعمال التى يقوم بها واصراره على التعاون مع المخرجين المتميزين
الذين عمل معهم وهو ما نجده فى أفلام كثيرة اختارها بعناية مثل
فيلم “الطوفان” 1985 تأليف وإخراج بشير الديك وأفلامه مع داود عبد
السيد مثل “الصعاليك” 1985 و”الكيت كات” 1991 وأفلامه مع المخرج
على عبد الخالق مثل “الكيف” 1985 و”جرى الوحوش” 1987 وفيلم “الشقة
من حق الزوجة” 1985 إخراج عمر عبد العزيز و”الجوع” 1986 إخرج على
بدرخان وأفلامه مع رأفت الميهى مثل “السادة الرجال” 1987 و”سمك لبن
تمر هندي” 1988 و”سيداتى آنساتي” 1989 وأفلامه مع عاطف الطيب مثل
“أبناء وقتلة” 1987 و”الدنيا على جناح يمامة” 1989 وأفلامه مع
المخرج محمد كامل القليوبى مثل فيلم “ثلاثة على الطريق” 1993
والفيلم “البحر بيضحك ليه” 1995.
غادرنا يوم السبت الماضى القبطان محمود عبد العزيز بعد أن أثرى
السينما المصرية بأكثر من 90 فيلما منذ السبعينات حتى عام 2009
والعديد من الدرر التليفزيونية والمسرحيات والمسلسلات الإذاعية
تاركا وراءه عدد من المشاريع التى لم يمهله القدر لإكمالها ولم
يمهلنا القدر للاستمتاع بها وبأدائه الذى سيظل دائما خالدا فى
أعماله التى لن ننساها طالما وجدت السينما والتليفزيون.
«محمود
عبد العزيز»..
المشاهد الخالدة والوجوه التى خرجت للحياة
ابن حى الورديان السكندرى فارس الطبقة المتوسطة
يُغادرنا على جناح يمامة
بقلم:
مُصطفى طاهر
تركيبة استثنائية نادرة فى تاريخ الفن المصرى ابن حى الورديان
المولود غرب الإسكندرية «محمود عبد العزيز» فارس الطبقة المتوسطة،
الذى تعلم فى مدارس الحى الساحر المشبع بأصالة مصر قبل أن ينتقل
للدراسة فى كلية الزراعة جامعة الإسكندرية وهناك بدأ كل شيء..
عندما مارس هواية التمثيل مع فريق المسرح بكلية الزراعة.
حصل محمود عبد العزيز على درجة البكالوريوس من كلية الزراعة ثم
واصل الدراسات العليا ليحصل على درجة الماجستير فى تربية النحل..
بعدها بدأت مسيرته الفنية من خلال مسلسل «الدوامة» فى بداية
السبعينات حين أسند له المخرج نور الدمرداش دورا فى المسلسل مع
محمود ياسين ونيللي، ومع السينما بعدها من خلال فيلم «الحفيد» إحدى
كلاسيكيات السينما المصرية «1974»، قبل أن تبدأ رحلته مع البطولة
منذ عام 1975 عندما قام ببطولة فيلم «حتى آخر العمر».
لم يولد فتى الإسكندرية إلا بطلا فقدم محمود عبد العزيز 84 فيلما،
قام فيها بدور البطولة بينما أخرج فيلما واحدا هو «البنت الحلوة
الكدابة».. وقد تنوعت هذه الأفلام ما بين الرومانسية والكوميدية
والواقعية.. نجح فى حجز موقعه منذ اللحظة الأولى كملك متوج فى قلوب
المحبين.. وارتكزت أسلحته للتربع على عرش البطولات السينمائية
والتليفزيونية على بساطته وتلقائيته الساحرة المغلفة بتركيبة ابن
البلد الأصيل القريب من قلوب المصريين.. انتصر المصريون لمحمود عبد
العزيز وأفلامه دوما تحت تأثير أنهم كانوا دائما يرون فيه أنفسهم
بخفة الدم المصرية والقدرة على التحايل على الحياة.. فنجح محمود
عبد العزيز طوال مشواره الحافل مع النجومية أن يكون موقعه وسط
الناس فشعور المشاهد الدائم بانتماء محمود عبد العزيز له ولعوالمه
وإدراكه لمشكلاته عاملا حاسما فى نمو مساحة الثقة والمصداقية بين
النجم الكبير وجمهوره فقد عاش ابن الورديان وسط الناس دائما.
كيف صاغ مع «رأفت الميهى» تقاطعات علاقة الرجل بالمرأة فى مصر
صاغ محمود عبد العزيز موقعه فى السينما بشاعرية وفلسفة واقتدار ندر
أن نشاهدها من نجوم السينما العربية.. وساعده على ذلك ثقافته
وشخصيته الواثقة التى لا تتوقف عن التعلم ولا تخجل من التجريب
والتى اكتسبها من نشأته فى وسط أسرة متوسطة فى المدينة الساحلية
الساحرة فخرج الفتى منذ البداية متأملا على مشاهد ناصعة للحياة
المصرية.. وهى المشاهد التى حملها معه للمشاهد خاصة فى أيقوناته
السينمائية التاريخية بصحبة المخرجين الكبيرين «رأفت الميهي»
و«داود عبد السيد».. يرحل محمود عبد العزيز وسط كل مشاعر الحزن
والأسى التى تغمر كل عشاق الفن والسينما ولكن «الشيخ حسني» و«رأفت
الهجان» وعشرات الوجوه التى عاشت معنا خلف الشاشات لن تموت أبدأ
وستبقى شاهدة على إبداع فتى الورديان سفير الطبقة الوسطى المصرية
فى عالم النجومية.
وجوه ومشاهد لا تُنسى
1 –
الشيخ حسنى «فيلم الكيت كات»
صورة الشيخ حسنى الخالدة فى الذاكرة الجمعية للمصريين بعد أكثر من
عقدين على خروج الفيلم المأخوذ عن رواية مالك الحزين للروائى
الكبير إبراهيم أصلان تكفي.. لكن أهم ما يُقال عن الفيلم والشخصية
بعد كل ما قيل عنها طوال تلك السنوات هو نجاح داود عبد السيد فى
الاستفادة من القدرات الفنية لمحمود عبد العزيز بطريقة لا تصدق..
مشهد قيادة الشيخ حسنى الضرير للموتوسيكل يكاد يكون أعظم مشاهد
السينما المصرية.
2 –
عبد الملك زرزور «فيلم إبراهيم الأبيض»
ترك محمود عبد العزيز علامة بارزة فى آخر أدواره وأحد أنجح الأفلام
فى تاريخ السينما المصرية من حيث الإيرادات بدور استثنائى لشخصية
الرجل الكبير «عبد الملك زرزور» والتى جسدت ملامح ومشاهد مواجهاته
جميعها مع «أحمد السقا» و«هند صبري» مشاهد لا تنسى تفوق فيها
الساحر على نفسه بالمغامرة بخوض شخصية فى منتهى الصعوبة لكن محمود
عبد العزيز نجح أن يفعلها بسلاسته المعهودة.
3 – «محمود»
«فيلم سيداتى آنساتى»
الفيلم من بطولة محمود عبد العزيز، معالى زايد، عبلة كامل، عائشة
الكيلاني، صفاء السبع، وأخرجه الكبير رأفت الميهي، حيث «محمود»
الذى يعمل كساعى ومشرف بوفيه فى المصنع بالرغم من حصوله على
الدكتوراه فى الطبيعة تحت اضطرار الاحتياج إلى المال.
لتقرر الأربع صديقات درية وعزيزة وآمال وكريمه الزواج برجل واحد
حتى يتجنبن مشكلة الشقة عندما تكون العصمة فى أيديهن، فيكون
«محمود» الذى يعمل معهم بنفس المصنع العريس المنتظر فيوافق على
الزواج لتنهال المفارقات حيث يترك محمود العمل ويقوم بالأعمال
المنزلية، ويطرح «الميهي» من خلال الفيلم وحكاية محمود وزوجاته
الأربعة السؤال المتكرر حول تبادل الرجل الدور مع المرأة فى هذا
المجتمع.
4 –
رأفت الهجان
الدور الأبرز عبر تاريخ الشاشات المصرية المأخوذ من ملفات
المخابرات العامة المصرية لحكاية البطل المصرى «رفعت الجمال»
الشهير برأفت الهجان فى أحداث المسلسل التليفزيونى الذى حقق أصداء
نجاح واسعة لسنوات طويلة.. نجح «محمود عبد العزيز» باقتدار فى
تجسيد قصة الجاسوس المصرى الذى زرعته المخابرات المصرية فى قلب
إسرائيل.. كان مشهد معرفة «رأفت الهجان» بخبر العبور المصرى لقناة
السويس فى نصر أكتوبر 73 وهو وسط دموع الإسرائيليين مشهدا خالدا لن
يسقط من الذاكرة الجمعية للمصريين.
5 –
أحمد «فيلم السادة الرجال»
بصحبة شريكته الفنانة «معالى زايد» التى شكل معها عبد العزيز
ثنائيا فريدا جاءت حكاية أحمد وزوجته فوزية «معالى زايد» التى تقرر
أن تجرى عملية جراحية نتيجة الخلافات القائمة بينها وبين زوجها
فتستغل سفر زوجها وتقدم التجربة الغريبة التى تمكنها من التحول إلى
جنس الرجال لتبدأ فى العيش داخل عالم الرجال محاولة الاحتفاظ
بأمومتها لطفلتها وزواجها من أحمد «الذى يبدع فى أداء دور الرجل
المصرى المغلوب على أمره» فى فيلم من أجمل حواديت الفانتازيا
المصرية.
فيديو
من فيلم الكيت كات – موسيقي راجح داوود – بسكاليا
في وداع الفنان الكبير “محمود عبد العزيز”
فيديو
فيلم “الكيت كات” عن رواية مالك الحزين لإبراهيم أصلان
#HD |