سلام يا صاحبي.. حكايات سعيد شيمى عن محمد خان
نضال ممدوح
ليس هناك أفضل من سعيد شيمى ليحكى عن محمد خان، فى
الطفولة تربيا معًا، فى الصبا جمعهما الشغف بالأفلام والفرجة
واستهواهما ذلك السحر، وفى نضجهما حلما معًا بسينما جديدة يضعان
فيها نَفَسهما المختلف- رؤية وعدسة- ثم كان لهما هذا فصنعا معا عدة
أفلام من علامات الشاشة الصغيرة المصرية.
وبمناسبة الذكرى الثانية لرحيل «خان» فى ٢٦ يوليو
٢٠١٦، صدر كتاب «خطابات محمد خان إلى سعيد شيمى»، عن دار «الكرمة»،
ويشمل مراسلاتهما فى فترة الشباب من الستينيات وحتى السبعينيات،
أعدها وعلق عليها «شيمى» نفسه، وكتب لها المقدمة الناقد الفنى
محمود عبدالشكور.
«الدستور»
التقت مدير التصوير المخضرم الذى حمل الكاميرا على كتفه وجرى مع
صديقه فى الشوارع، ليجسدا أحلام وهموم الناس على الشاشة، ليكشف لنا
حكايات وتفاصيل ما قبل وأثناء وبعد هذه الخطابات.
تربيا معًا فى عمارة «الأوقاف» بالعتبة.. والمخرج
لم يجد نقودًا فى بعض الأوقات ليأكل
فى عمارة الأوقاف بميدان العتبة، تجاورت عيادة الطبيب سعيد شيمى
ومكتب حسن خان الذى كان يستورد الشاى من الهند وباكستان وسيلان
ويوزعه، كما كان يخصصه مقرًا للجالية الباكستانية فى مصر.
نوادر وذكريات كثيرة جمعت «شيمى» و«خان»: «كان فى
مكتب عم حسن ترابيزة بينج بونج وبلياردو كنا نلعب عليها. ومحمد من
صغره وهو يؤلف، كان عنده كراسة يكتب فيها قصص من خمس ست صفحات
ويقراها علينا، وكلها قصص مأساوية».
عندما سافر «خان» إلى لندن فى ١٩٥٩، لدراسة
الهندسة، احتك هناك بالسينما وبدأ يشاهد أفلامًا من كل الدنيا،
فنقل لـ«شيمى» رغبته فى دراسة الإخراج، وتصادف أن معهد السينما فى
مصر اُفتتح فى نفس العام، وكانت هذه مفاجأة لسعيد شيمى نفسه، فرغم
حبه للسينما لم يكن يعرف أنها تدرّس.
فى هذا الوقت توفى والد «سعيد» فأصبح منطويًا، لكن
ملاذه كان فى مكتبة خاله الذى كان مثقفًا. عندما حاول «شيمى»
الالتحاق بمعهد السينما رفض خاله الذى كان يريد أن يذهب ابن أخته
إلى كلية التجارة، فاختار الصبى حلًا ثالثًا هو كلية الآداب.
فى هذه الأثناء، التحق «خان» بدراسات ليلية لدراسة
السينما، فلما كانت الأمور المادية لوالده آخذة فى التدهور، وأصيب
بمرض فى القلب، هو نفس المرض الذى مات على إثره محمد، اضطر الشاب
للعمل نهارًا فى العديد من المهن للإنفاق على نفسه فى لندن.
«كنا
نتبادل الخطابات، ونتناقش فيها وكأننا موجودان معا. يحكى لى عن
الأفلام التى شاهدها فى لندن، وبدورى أخبره عن الأفلام المصرية
الجديدة التى تعرض وأخبار السينما فى مصر بوجه عام، ويرسل لى
مقالات أحاول أن أنشرها له».. استمرت علاقتهما على هذا النحو حتى
عام ١٩٦٢، عندما صدرت القوانين الاشتراكية، وبعدها بعام أممت
الدولة صناعة السينما وأنشأت شركة «فيلم تاج»، وشركة «كوبرو فيلم»
التى كان يرأسها صلاح أبوسيف.
نشرت «فيلم تاج» إعلانًا فى جريدة «الأهرام» عن
رغبتها فى شباب سينمائى مصرى، فأخذ «سعيد» الإعلان وأرسله لصديقه
فى لندن بخطاب مسجل، فأرسل «محمد» بدوره أوراقه وقصصًا من تأليفه
للشركة فى مصر، وبعد شهرين ردوا عليه بأنه ليس لديهم ما يمنع من
توظيفه شريطة أن يعود من لندن على نفقته الشخصية.
فرح «خان» للغاية بموافقة الشركة، إذ كان يعانى
وقتها مما يسميه شيمى «نوستولوجيا مصر»، كان لديه حنين لجذوره
وطفولته، وساعد على هذا كونه ولدا وحيدا لم يعرف حتى أهل والده ولم
يرهم يوما. عاد محمد خان من لندن وعيّن فى لجنة قراءة السيناريوهات
والموضوعات بـ«فيلم تاج»، وكان زملاؤه فى الشركة: رأفت الميهى،
مصطفى محرم، هاشم النحاس، أحمد راشد، حورية حبشى، فاروق سعيد،
وعايدة الشريف.
استمر «خان» فى العمل بهذه الشركة حتى وصلته أخبار
عن اشتداد مرض والده، فأخذ إجازة ليعود للندن، وهناك وجد الأمور
سيئة جدا، فعاد للعمل فى الصباح والمساء. وفى رأى «شيمى»، فإن
المهن التى عمل بها «خان» منحته خبرة كبيرة فى الحياة، انعكست على
أفلامه بعد ذلك. بعد أن اطمأن «محمد» على والده قرر العودة إلى
مصر، لكن للأسف كان قد صدر قانون جديد يمنع الأجنبى من العمل فى
مؤسسة حكومية إلا إذا كان خبيرًا، و«خان» وقتها كان صغير السن،
وبالتالى أخبره صلاح أبوسيف بأن الشئون القانونية لا تستطيع إعادته
للشركة. يتذكر سعيد شيمى: «محمد حس إن ربنا لا يريده أن يكمل فى
السينما التى يحبها، لكن صلاح أبوسيف نصحه بالسفر إلى لبنان التى
سافر إليها العديد من المصريين وقتها، وبدأوا فى إنشاء صناعة سينما
هناك».
بالفعل، عمل «خان» بنصيحة المخرج المخضرم وسافر
وبدأ فى العمل فى مهن «زى الزفت» فى السينما نفسها، كما يقول
«شيمى»، حتى إن الحال وصل به إلى أنه لم يكن يملك نقودًا ليأكل،
فأرسل له والده تذكرة عودة إلى لندن.
صنعا أفلامًا قصيرة فى بيوت أصدقائهما.. واستدانا
لتسلم جائزة «الإسكندرية السينمائى»
«كنت
قد تزوجت وهو تزوج وزرته أكثر من مرة فى لندن، فشعرت بضرورة عودته
إلى مصر لنشتغل معًا».. يحكى «شيمى» عن مرحلة أخرى من حياة
الصديقين، مشيرا إلى: قدمنا تجربتين معًا هما فيلم «ضائع» ٨ مللى،
وعندما كان فى بيروت جاء زيارة إلى مصر وأنتجت فيلم «الهرم» ١٦
مللى.
فى العام ١٩٧٢، استضاف «سعيد» صديقه فى منزله،
وصورا معًا فيلمًا قصيرًا اسمه «البطيخة»، من إنتاج شركة أسسها
«شيمى» مع زوجته بمشاركة أحمد متولى وأحمد راشد لإنتاج الأفلام
التسجيلية.
كل من عمل بهذا الفيلم كان متطوعًا: «لم نتكلف إلا
الخام فقط، بينما الأدوات والأماكن كانت فى بيوت أصدقائنا
ومعارفنا»، لكن أهمية هذا الفيلم- فى رأى «شيمى»- تكمن فى أنه يحوى
خلاصة فكر محمد خان سواء فى السيناريو أو الإخراج.
أعطى الفيلم أملًا ودفعة تشجيع لـ«خان»، الذى كان
دائمًا ما يقول لصديقه المصور: «أنت الوحيد الذى تثق فىّ.. إنت
الوحيد اللى فاهمنى وفاهم إنى مخرج كويس»، ومن شدة ولعه بهذا الفن،
كان يشرح فى خطاباته كيفية تحريك الكاميرا ويرسم المشاهد.
من كل هذا، وصل شيمى إلى قناعة بأن «خان»- الذى قرر العودة
والاستقرار فى مصر- قد يُصاب بمكروه لو لم يعمل فى السينما:
«أثنيته عن هذا القرار بسبب خوفى من المناخ السينمائى فى مصر
وقتها، وألا ينجح فى الحصول على فرصة، خاصة أننا كنا جيلا جديدا
بينما السينما التقليدية هى المسيطرة».
يقول «شيمى» إن هذه الفترة شهدت ظهور «جماعة
السينما الجديدة»، فى ظل سيطرة «الوسايط» على معهد السينما الذى
كان كل طلابه من أقارب العاملين بالسينما ويعملون معهم فور تخرجهم:
«كنا نتساءل: ما مصير من لا واسطة له وكان فنانًا حقيقيًا مثل على
عبدالخالق وعاطف الطيب ومحمد راضى؟.. وللأسف ما زال هذا الوضع
قائما إلى الآن».
عندما كانت المناقشات تشتد بينهما و«سعيد» يحاول
إقناعه بتأجيل العودة لمصر، يقول له «خان»: «إنت بتشتغل وقاعد قدام
الخروف تاكل ومبسوط وبتبعتلى الريحة فى رغيف»- كان محمد خان يحب
الأكل وذواقًا- فكنت أقول له: «أنا خايف عليك، نحن نعانى كثيرًا».
بعد وفاة والد «خان» بقى مع والدته وافتتح محلًا
لبيع «الجينز» أسفل منزله، وفى مرة أرسل «سعيد» له تسجيلًا مع
المونتيرة نادية شكرى التى كانت وقتها تعمل على مسلسل فى لندن، قبل
أن ينتشر الإنتاج الخاص للدراما.
عندما قابلت «نادية» محمد خان وجدته شخصًا مهووسًا
بالسينما، فسألته: لماذا لا تعود لمصر وتعمل فيها؟ كان معها مدير
إنتاج فى الزيارة، فأقنعا «خان» بأنهما يستطيعان مساعدته فى العمل
لو عاد لمصر.
كان «محمد» متلهفًا لكلام مثل هذا، فصدقه على الفور
وبعث لـ«سعيد» يقول: «أنا جاى، نادية قالتلى هاشغلك»، وبالفعل عاد
لمصر ومعه فكرة فيلم «قميص حرير»، وأقام عند خالته «كليليا».
قال سعيد شيمى لصديقه إن أى شركة إنتاج لن تسمح له
حتى أن يدخل من بابها بسيناريو فيلم «قميص حرير»، واقترح عليه:
«لماذا لا تنفذ فكرة الصحفى الذى يكتشف جريمة، التى أخبرتنى بها فى
خطاباتك، خاصة أن سوق الأكشن فى مصر رائجة؟».. من هنا وُلد فيلم
«ضربة شمس».
أعطى «خان» الفكرة لرأفت الميهى ليكتبها سيناريو،
لكن «الميهى» كان مشغولًا ورشح له فايز غالى الذى عمل عليها بالفعل.
بعد ذلك، أطلت المشكلة فى إنتاج الفيلم؛ كانت نقود
«خان» بدأت تنفد، وزوجته وابنه ما زالا فى لندن وهو هنا وحده:
«اقترحت عليه أن نذهب بالسيناريو إلى نور الشريف، خاصة أنه كان قد
عمل مع مخرج جديد قبلها بعام وهو سمير سيف وتبناه».
لم يكن «الشيمى»- ولا خان بالطبع- على معرفة
بـ«نور»: «حصلنا على رقمه واتصلنا بمكتبه وقابلناه. شرحنا له فكرة
الفيلم وتركنا له السيناريو، وبعدها بثلاثة أيام اتصل».
سألهما نور الشريف: «من سينتج الفيلم؟»، فرد «خان»
بمنتهى الثقة: «إحنا». صمت «نور» قليلًا وقال: «ممكن توافقوا إنى
أنا اللى أنتج الفيلم؟». يعقّب «شيمى»: «كأن باب السماء اتفتح لخان
وهو فى منتصف عمره وابتدى المشوار».
يحكى المصور المخضرم: «بذلنا فى الفيلم جهدًا لا
يمكن تخيله، وبعد عرضه عمل دهشة للناس، كل الفنيات كانت جديدة،
وأول مرة تظهر ممثلة لا تتحدث كلمة واحدة- ليلى فوزى- كانت تمثل
بملامح وجهها وعينيها فقط».
فى صيف ١٩٨٩، أخذ نور الشريف «ضربة شمس» وعرضه فى
مهرجان الإسكندرية السينمائى فى دورته الأولى، وفاز الفيلم بجائزتى
التصوير والإخراج: «كنا لا نزال فى القاهرة مفلسين معناش فلوس نروح
إسكندرية، واستلفنا وقطعنا ثلاث تذاكر لى ولخان ولنادية شكرى،
مونتيرة الفيلم».
كانت الفرحة كبيرة، وبسبب إرهاق الحفل قرر الثلاثة،
المخرج والمصور والمونتيرة، البيات فى فندق متروبول، ولم يكن معهم
ما يكفى أيضا، يتذكر سعيد شيمى: ««قلت لهم أنا معايا دفتر شيكات
بدون رصيد، هاندفع بشيك، ولما نرجع القاهرة هاحاول أضع فيه رصيد
يغطى».
حجزوا غرفتين، واحدة لنادية شكرى والأخرى لهما،
لكنهما لم يبيتا، خان وشيمى، فيها فى تلك الليلة: «نزلنا نتمشى على
الكورنيش من الفرح لغاية الصبح، ورجعنا القاهرة ودارت العجلة».
«الحريف»
اشتبك بالأيدى مع أحمد زكى فى «هند وكاميليا»
«ضربة
شمس» كان الفيلم السابع لسعيد شيمى، والأول لمحمد خان، وبعد أن
انتهيا منه كان على كل منهما مواجهة التصنيفات المعلبة التى توزعها
سوق السينما على المخرجين، بخلاف ما تفرضه عليهما صداقتهما من
أعباء فى الوسط الفنى.
فى سنة ١٩٨٠، جاء لـسعيد شيمى، سيناريو فيلم
«الرغبة»، لم يكن هناك اسم للمخرج على «الورق»، فاقترح محمد خان
لتنفيذ العمل، لكن وكالة الجاعونى المنتجة للفيلم رفضت ثم غيرت
رأيها بعد ثلاثة أيام ووافقت. مع ذلك، كان على «شيمى» إقناع صديقه
أولًا: «محمد رفض وقال هو أنا هاعمل جاتسبى العظيم اللى اتعمل ألف
مرة؟!»، فرد عليه «سعيد»: «انت متجوز وعندك طفل ومسئوليات».
كان «خان» جزءًا من أسرة «شيمى»، لدرجة أن الصديقين
عندما كانا يتشاجران كان «محمد» يشكو «سعيد» لشقيقته الكبرى، لذلك
فإنه بعد ضغوط من المصور وإخوته، وافق «خان» على إخراج الفيلم،
ونجح، وبعدها- كما يحكى المصور: «اشتغلنا فى أكثر من فيلم كلها أكل
عيش، منها (الثأر)».
لفيلم «الثأر» هذا حكاية أيضا، يقول «شيمى»: «كنت
اتفقت مع رأفت الميهى على تصوير فيلمه الأول (عيون لا تنام)، وقتها
عرض علىّ خان (الثأر)، وهو فيلم صعب، أكشن وجرى فى الشوارع، وعندما
عرف باتفاقى مع الميهى قال لى: «هاتسيبنى! ومين ها يعرف يصور
الفيلم ده»، بالتالى اعتذرت للميهى، ما تسبب لى فى مشكلة بالسوق،
وتردد فى الوسط السينمائى أن سعيد شيمى يترك أى أحد يعمل معه، من
أجل محمد خان».
بعد فترة، جلس «شيمى» مع صديقه وقال له: «يا محمد
إحنا كده بنضر بعض، ولازم كل واحد منا يشتغل لوحده».
من الحكايات التى يحملها سعيد شيمى، ملابسات إنتاج
فيلم «يوسف وزينب»، أحد الأعمال المجهولة لمحمد خان، يقول: «فى
مكتب والد محمد كانت تجتمع جالية جنوب شرق آسيا كلها، وكان من
بينهم مأمون عبدالقيوم، أول رئيس لجزر المالديف، الذى كان وقتها
يدرس فى الأزهر، وكان يعرف عن خان هوسه بالسينما فعرض عليه أن يصور
فيلمًا فى الجزر».
بالفعل، سافر محمد خان مصطحبا معه رءوف توفيق وسامى
السلامونى كصحفيين، وأخرج الفيلم وإن كان ليس أقوى أفلامه، لأن
حكايته غير صادقة عن مدرس يسافر لهذه الجزر ويقع فى حب فتاة من
سكانها، كما يقول مدير التصوير الذى يشير إلى أن كتابه الأحدث يضم
صورة تجمعهما بـ«عبدالقيوم» وهم يلعبون معًا.
ومن الشخصيات المميزة فى حياة «خان»، والتى كان
«شيمى» شاهدا على علاقتهما، أحمد زكى: «خان كان يعتز بشغله جدا،
وكذلك أحمد زكى، لكن كان هناك صدام لم يظهر فى بداية عملهما معا،
لكنه ظهر عندما اختلفت وجهات النظر بينهما وكل منهما تشبث برأيه،
حتى إنهما وصلا فى فيلم (هند وكاميليا) للاشتباك بالأيدى».
من جولات هذا الخلاف بالطبع فيلم «الحريف» الذى ذهب
لعادل إمام بعد اختلاف «خان» مع «زكى» على قصة الشعر المناسبة
للبطل «فارس».
لكن «عادل» ظهر بشكله العادى فى النهاية ولم يغير
فى قصة شعره! يرد «شيمى»: «صحيح، لكن محمد كان لا يقبل أن يفرض
عليه أحد شيئا»، ويحكى: «مثلا فى فيلم موعد على العشاء أرادت سعاد
حسنى أن تشاهد الفيلم فى غرفة المونتاج، فمنعها خان وقال لنادية
شكرى: متدخلش من باب الأوضة». يتذكر مدير التصوير الكبير هذه
الواقعة فيلملم كل الحكايات عن صديق عمره ورفيق دربه فى السينما:
«للأسف الشديد الآن نجد مخرجين هزؤ يتحكم فيهم ممثلون بلا قيمة». |