لطالما كانت الأفلام تبدأ فى ذهن محمد خان بلمحة، بمشهد أو شخصية
أو حدث يتطور لاحقا. خلال الفترة الأخيرة من حياته سيطر عليه هذا
المشهد، رواه لى خلال جلستنا الأسبوعية وطلب منّى أن أكتبه
لنناقشه، كان اقتراحه الأول أن يكون هو افتتاح كتاب المحاورات الذى
كنا نعدّه، باعتباره مثالا على كيفية تحرك الأفلام فى ذهنه، لكنّى
أثرت حماسه بان افتتاحية الكتاب لا تزال أمرا بعيدا، وان هذا
المشهد يستحق أن يكون افتتاحية فيلم لا كتاب. عندما قرأ المشهد مال
أكثر لاقتراحي، لكن القدر لم يمهلنا أن نكمل أيا من الكتاب أو
الفيلم. هاهو آخر مشهد دار فى ذهن خان.
مشهد 1 نهار/ خارجى
شارع مزدحم
فى الشارع المزدحم تسير السيارات ببطء.. من الخارج نشاهد أتوبيس
نقل عام يدخل الكادر.
من الباب الأمامى للأتوبيس تصعد سيدة أربعينية يبدو أنها قد خرجت
من عملها، والزحام يوحى بأن معظم من فى الأتوبيس مثلها.
نشاهدها تتحرك داخل الأتوبيس بحثا عن مكان للجلوس أو حتى الوقوف،
حتى يقوم عيد (شاب ثلاثينى يجلس فى الكرسى الخارجى لأحد مقاعد
منتصف الأتوبيس وجواره رجل فى الكرسى الداخلي) بالإشارة للسيدة أن
تجلس مكانه، السيدة تشكره ممتنة.
عيد يتحرك سريعا مع تقدم الأتوبيس حتى يصل للباب الخلفى ويهبط منه.
الأتوبيس يسير حتى يخرج من الكادر والطريق يتحرك شيئا فشيئا.
قطع
مشهد 2 نهار/ داخلى
داخل الأتوبيس
السيدة تجلس على المقعد الذى أعطاه لها عيد.. تأخذ أنفاسها ويبدو
عليها الإرهاق والحر الشديد.
تخرج الموبايل من حقيبتها وتبدأ فى اللعب بأزراره دون هدف.
تبدأ كتف الرجل الجالس جوارها فى الكرسى الداخلى فى الميل عليها
تدريجيا ليلقى ثقله عليها.. السيدة تتأفف لشعورها بأنه يحاول
التحرش بها.. تتحاول الابتعاد فى الكرسى قليلا لكنه يقترب منها
أكثر.
تدير وجهها له وكلها غضب.. لتكتشف أن الرجل مغمض عينيه وغائب عن
الوعي.. تنظر للأسفل فتجد جانبه الملاصق بها غارقا فى الدماء.. فقد
طعنه عيد طعنة قاتلة قبل أن يغادر الأتوبيس.. السيدة تطلق صرخة رعب.
قطع
مشهد 3 نهار/ خارجى
مقهى شعبى
–
فى مقهى مواجه للمكان الذى نزل فيه من الأتوبيس يجلس عيد يدخن
سيجارة بهدوء وينظر للأتوبيس الآخذ فى الابتعاد بحيث نكاد لا نراه
فى عمق الكادر.
قطع
التأريخ على الطريقة السينمائية .. ملف محمد خان
هند جعفر
رحل محمد خان رحيلا مباغتا بلا مرض تصاحبه رقدة طويلة، ولقاءات
تليفزيونية تُعد خصيصًا عند معرفة مدى سوء الحالة الصحية، واحتفاء
يأتى متأخرًا، واستعجالا لتكريم مؤجل فى درج مسئول حكومى، إلى آخر
مراسم ما قبل الوداع التى تُقام للمبدعين على عجل فى مصر.. ولكن
خان خارج المنافسة دومًا ولذا كعادته فضل المباغته وإن كنت أظن
انه لم يتعمدها فى الرحيل.
كمؤرخ دؤوب عشق خان التوثيق والتقاط التفاصيل الصغيرة.. حرص فى
بداية أغلب أفلامه أن يكون المشهد الافتتاحى مشهدًا توثيقيًا
للفترة الزمنية التى يدور فيها الفيلم وغالبًا ما كان صوت الراديو
هو مُعينه فى هذه المهمة فيجعله يُفضى إلى المشاهد بتلك الأخبار
السريعة التى تصحو عليها القاهرة فى صباح يوم جديد، بينما تتجول
الكاميرا فى الأنحاء تلتقط ما يريد خان إبرازه وتؤرخ هى الأخرى
للمكان.
منذ “ضربة شمس” وحتى “قبل زحمة صيف” أخرج خان 23 فيلمًا لم يخذل
فيها جمهوره إلا فى تجربتين اثنتين لم تأتيا على نفس المستوى
المعهود من الإبداع الذى أصبح علامة مميزة لأعماله وإن لم تكونا
أيضًا تجارب سيئة فى كل الأحوال. ففى النهاية محمد خان مخرج لديه
ما يقوله. يُحسب له نضاله المتواصل لإخراج مشاريعه إلى النور فى ظل
أزمة صناعة عاصفة،لم يستسلم لحال سوق راكد تفرض شروطه رغبات
التوزيع الخارجي، فكون مع سعيد الشيمى ونادية شكرى وعاطف الطيب
شركة للإنتاج وعندما وجد الأمر يفوق احتمالهم المادى ناضل مع
فنانين اتجهوا للإنتاج بأموالهم رغبة فى تقديم تجارب جادة، ثم طرق
أبواب التقنيات الرخيصة نسبيًا فجاءت تجربة التصوير الديجيتال فى
“كليفتي” وما إن بدأت الانفراجة الشبابية بعد “اسماعيلية رايح جاي”
حتى استطاع خان التواجد والمنافسة بقوانينه الخاصة فقدم فيلمين
جمعا النجاح النقدى والجماهيرى “بنات وسط البلد” و”شقة مصر الجديدة”.
ظل خان مهمومًا بحال الطبقة الوسطى وفيًا لها ولتكوينها الاجتماعى
الذى أخذ يتآكل بعد حرب أكتوبر 1973 وهو الهم الذى شاركه فيه أغلب
مخرجى جيله؛ جيل الثمانينات. برز اسمه مع عاطف الطيب كأهم مخرجين
فى جيلهما استطاعا تسجيل المنحنيات التى مرت بها هذه الطبقة
بواقعية لم يغلب عليها التغريب الذى مارسه البعض الآخر وتمادى فيه،
برع عاطف فى نكأ الجروح وإظهارها رغبة فى التطهير بينما اختار خان
المداواة بهدوء والرهان على الغد وإن كان غامضا ومشوشًا، ففارس فى
“الحريف” يختار اللعب بحرفنة لمرة أخيرة وتعديل النتيجة لصالح
المهزومين رغم اعترافه لابنه ان زمن اللعب راح، وفى “عودة مواطن”
يقف شاكر حائرًا بين الهروب للخارج أو العودة لأخوته لإنقاذهم
وإنقاذ نفسه.. وفى “سوبر ماركت” يقبل الجميع ببيع نفسه وتبديل
مبادئه فى السوبر ماركت إلا رمزى الفنان يظل يراقب بحسرة رافضًا كل
المحاولات الرخيصة التى عُرضت عليه، يظل مخلصًا لفنه غير متقبل
للزيف، ويبقى باب الأمل مواربًا لدى خان رغم كل الضغوط التى
يعانيها أبطاله.
يعشق مخرجنا شخصيات أبطاله يتعاطف معهم ويلتمس لهم العذر رغم
أخطائهم التراجيدية، ثنائية الزوج والعشيق فى موعد على العشاء
ملتبسة تحتار فى موقفك من كليهما كلاهما مدان وكلاهما ضحية، هشام
فى زوجة رجل مهم محكوم بخطئه حتى النهاية يتماهى معه ولا يرى فى
سلوكه مشكلة من الأساس هو ضحية لنظام كامل مهزوم قبل أن يكون ضحية
لذاته المتعجرفة، يضرب فارس فى الحريف زوجته ويكاد يقتل مدربه
ولكنه فى النهاية لم يكن ليقبل لنفسه بالذل الذى ارتضاه الجميع،
يبذل محمد خان مجهودًا فى توجيه الممثل يجعله يختلف كثيرا أمام
كاميرا خان عن أى تجربة أخرى له، ورغم تعاونه مع أحمد زكى ونور
الشريف وسعاد حسنى والفخرانى وغيرهم من نجوم الصف الأول إلا أن
تأثيره ظهر جليًا مع عدة أسماء أولهم نجم الشباك الأول لفترة كبيرة
عادل إمام والذى غير جلده كليا فى الحريف وقدم أفضل أدواره
التمثيلية على مدار تاريخه، ونجلاء فتحى فى أحلام هند وكاميليا
بالإضافة لميرفت أمين فى فيلمين زوجة رجل مهم وعودة مواطن وغادة
عادل “فى شقة مصر الجديدة” هؤلاء مع خان قدموا أدوارًا مغايرة لما
قدموه من قبل فمن سوى خان كان ليغامر باختيار نجلاء ذات الملامح
الارستقراطية الهادئة لدور شغالة تخدم فى البيوت وتقاتل فى دنياها
من أجل لقمة العيش! كان الأمر يحتاج لعين مخرج مغامر كان يحتاج إلى
خان.
أحمد رشوان:
عينه كالكاميرا ترصد المكان وتغيراته .. ملف محمد خان
حوار: أحمد ليثي
أحمد رشوان مخرج سينمائى مصري، وكاتب سيناريو، تخرج فى المعهد
العالى للسينما بالقاهرة عام 1994، وقام بإخراج العديد من الأفلام
التسجيلية والقصيرة، عرضت فى عدد من المهرجانات الدولية، وحاز
جوائز عدة، كما أنتج عددا من الأفلام التسجيلية والقصيرة، وعمل
كمنتج فنى لعدد من الأعمال الأجنبية التى تم تصويرها بمصر، شارك فى
العديد من لجان تحكيم الأفلام القصيرة والتسجيلية فى مصر وتونس
وإيطاليا ولبنان، كما شارك فى تنظيم عدد من المهرجانات وبرامج
التكريم فى المهرجانات السينمائية المصرية والتونسية. عمل كناقد
سينمائى فى عدد من الجرائد والمجلات العربية والمحلية منها جريدة
الحياة اللندنية، أخرج وألف أول أفلامه الروائية «بصرة» 2008 والذى
عرض بعدد من المهرجانات الدولية والمحلية وحاز على عدة جوائز، يقوم
حاليا بالإعداد لتكريم المخرج المصرى «محمد خان» فى مهرجان «قابس»
بتونس فى الفترة من 24-30 سبتمبر، وتتولى رئاسة المهرجان الشرفية
الفنانة «هند صبري».
·
كيف تعرفت على محمد خان؟
كنت أحب السينما منذ سن صغيرة، تحديدًا فى المرحلتين الاعدادية
والثانوية، ومن ضمن الأفلام التى أثرت بى أفلام الأستاذ محمد خان،
كان لدى رغبة فى دراسة السينما فى البداية لكن اعتراض والدى حال
دون ذلك، لكن الحلم لم يخب، وبعدما أنهيت دراسة الحقوق، التحقت
بمعهد السينما. أثناء الدراسة الجامعية فى أواخر الثمانينات كنت
أشترك مع مجموعة من أصدقائى فى إصدار مجلة متواضعة جدًا، كنا
نطبعها فى مكاتب تصوير المستندات، وأسميناها «سينما الفراعنة».
أرسلت المجلة بالبريد من الإسكندرية إلى الأستاذ محمد خان، فأعجبه
نشاط المجلة وتحمس لها، فطلبنا منه أن يدعمنا بالكتابة فى المجلة،
وبالفعل أرسل إلينا مقالًا اسمه «مخرج على الطريق»، الاسم الذى كان
عنوانًا لأعمدته التى كان يكتبها فى الصحف، وهو نفسه عنوان الكتاب
الذى صدر له مؤخرًا. بعد ذلك طلبنا إجراء حوار معه، وافق فورًا،
وأتذكر أننا سافرنا من الإسكندرية إلى القاهرة لإجراء الحوار،
عزمنا على بسبوسة، وأجرينا الحوار، وفى النهاية أوصلنا لمحطة
رمسيس، وقد ذكر هذه الحكاية فى آخر ندواته، وبالفعل نشرنا الحوار
واطلع عليه وأعجبه جدًا.
·
ما الانطباع الأول الذى أخذته عنه؟
انه انسان بسيط جدا، مبهج، بشوش، دمه خفيف، ملاحظاته لاذعة، محب
للسينما ومتابع دائم، ومهتم بكل تفصيلة، حتى أنه أعطانا صورًا
لفيلم «أحلام هند وكاميليا» فى لحظات تصويره، كنا شبابًا مبهورًا
بالسينما، تخيل انك شاب منبهرًا بأفلام محمد خان، وفجأة تجد نفسك
أمامه وجها لوجه، استمر التواصل مع خان بعد ذلك، وشجعنى عندما علم
أنى أريد دراسة السينما.
·
ما أول عمل شاركت فيه معه؟
عندما التحقت بمعهد السينما، كان خان يسجل أفلامًا قصيرة لبعض
المؤسسات، وكان أول عمل هو فيلم تسجيلى قصير اسمه «سلوى وأخواتها»
من إنتاج هيئة الاستعلامات، وأيضًا فى فيلم «مستر كاراتيه»، كنت
مخرجا تحت التدريب حينها، لكنه رأى أنه بإمكانى أن أكون مساعد مخرج
ثان، ووضع اسمى بهذه الصفة، والطريف أنى اشتركت فى تمثيل مشهد صغير
فى الفيلم، لأن الرجل الذى كان من المفروض أن يقوم بأداء مشهد عابر
لم يرق له، فطلب منى أداءه، وبالنسبة لى كانت ثانى خبرة عملية بعد
فيلم «شمس الزناتي» مع الأستاذ سمير سيف. أما ثانى تجاربى مع خان
كانت كسكريبت فى فيلم «يوم حار جدا».
·
ماذا أضاف لك العمل مع خان؟
محمد خان من المخرجين القلائل الذين لديهم كم هائل من المشاهد
الخارجي، والجرأة فى التعامل مع الشارع، هناك مخرجون كثيرون
نحترمهم ليست لديهم تلك الجرأة، ويفضلون تصوير تلك المشاهد فى
الاستوديوهات، لكنه عندما كان يريد التصوير فى الشارع فإنه يحتاج
لشارع حقيقي، على مدار 25 فيلمًا أخرجها خان، كان من النادر أن
يدخل الاستوديو، مشهد واحد فى فيلم «موعد على العشاء»، مشهد آخر فى
فيلم «أيام السادات»، وبالطبع أخذت من خان تلك الجرأة فى التعامل
مع المشاهد الخارجي، كما أن لديه اهتمام دقيقا جدا بالتفاصيل، لديه
اهتمام دقيق جدًا بالتحضير، واهتماما كبيرا بفريق العمل مهما كانت
الأدوار صغيرة، على العكس من مخرجين آخرين، كما شاركت معه فى فريق
عمل كبير فى المهرجان القومى عام 95 مع أسماء كثيرة مثل سعد هنداوى
وهانى خليفة وهالة خليل وهالة جلال. وعملت معه بعد ذلك كمساعد مخرج
أول فى فيلم «أيام السادات»، حينها زادت المسئولية، كنا نبحث عن
ممثلين يشبهون الشخصيات الحقيقية، التى كانت حول السادات، وعملنا
على ذلك لوقت طويل، كنت أتحمل مهمة فريق العمل بالكامل، التجربة
كان بها بعض المشاكل بين أحمد زكى ومحمد خان، لكنها فى النهاية
ممتعة، عملت معه أيضًا كممثل فى دور صغير فى فيلم «كلفتي»، وسافرنا
معًا فى مهرجانات كثيرة، داخل وخارج مصر، كمهرجان دبى وسوسة. كان
دائم التشجيع لى خاصة فى تجربتى الروائية الأولى «بصرة»، كنت أهتم
برأيه جدا، ولم يكن يبخل على بأى نصائح، الأستاذ ليس فقط ما تتعلمه
منه فى موقع التصوير، الأستاذ معايشة، كان حريصًا على حضور كل
المناسبات الاجتماعية، سواء زواج أو ميلاد طفل، وطوال استمرار
علاقتنا الانسانية كنت أتعلم منه، كان لديه الجرأة فى أن يغامر،
ويتيح الفرصة للشباب.
·
ما آخر مشاريع اتفقتما على العمل عليها معًا؟
كنت أحضر مشروعًا لفيلم تسجيلى عنه، عرضت عليه الفكرة، تحمس ووافق
على الفور، كنا طوال الوقت، لدينا مشاريع مشتركة، وأجريت معه
العديد من الحوارات، عن السينما، والسينما المستقلة، وصورت معه فى
بداياتى حلقة عن فيلمه الأول «ضربة شمس» ضمن برنامج «الحلم الأول».
·
كيف كان يتعامل مع فريق العمل فى موقع التصوير؟
–
كان مثل الأطفال، عصبى جدًا فى موقع التصوير، لكن بعد دقيقتين أو
ثلاث يهدأ وكأن شيئًا لم يكن، وهذا إن دل على شىء يدل على أنه
إنسان قلبه أبيض، من ضمن المواقف التى حدثت لنا معًا، عندما كنا فى
مهرجان الإسكندرية العام الماضي، ذهبنا للمطعم الذى صور فيه مشهد
بين «ميرفت أمين» و«أحمد زكي» فى فيلم «زوجة رجل مهم»، ولم يكن قد
ذهب للمطعم منذ ذلك الحين، لكن العاملين الذين استمروا فى العمل
منذ ذلك الوقت تذكروه، ورحبوا به، والمالك الحالى للمطعم، وهو فى
الثلاثينات من عمره، كان يأتى مع والده ليشاهدوا التصوير عندما كان
عمره 8 سنوات، وكان سعيدًا جدا لذلك الاهتمام. كمان أن زوجته مدام
«وسام»، أصرت على أن يريها الكوافير الذى صورت فيه سعاد حسنى مشهد
من فيلم «موعد على العشاء» لتستخدم المكان نفسه.
·
ما اهمية المكان عند خان؟
كان مرتبطًا بالمكان، عينه كالكاميرا ترصد الأماكن والتغيرات التى
تصيبه، منذ فيلمه الأول «البطيخة» و«ضربة شمس»، وحتى فيلم «فتاة
المصنع» كان يهتم بالمكان، أفلامه خارج القاهرة كانت قليلة، منها
الفيلم الأخير «قبل زحمة الصيف» منها «يوسف وزينة» فى جزر
المالديف، أما «خرج ولم يعد» صور جزء كبير منه فى الريف، لكن
أفلامه طوال الوقت عن المدينة، والشخصيات أغلبها من المدينة حتى
عندما يكون الفيلم خارج المدينة.
·
كيف كان يدعم السينما المستقلة؟
كان دائم الاطلاع على كل جديد فى السينما العالمية، كان يسافر
كثيرًا ليتعرف على ذلك، متابع للموجات السينمائية، وكان دائمًا ما
يقول لنا ويقول فى ندواته ان الديجيتال هو المستقبل، وكان يريد خوض
تلك التجربة، وينصحنا كشباب تجربة تلك التقنيات الحديثة، وأن
الديجيتال هو ما سيعطينا الجرأة والبراح فى أن نصنع أفلامًا
مختلفة، لأن التكلفة أقل فى هذه الحالة، وكان أول فيلم يستخدم فيه
تلك التقنية «كلفتي»، وكان دائم النقاش معنا حول تجارب المخرجين
الآخرين فى الديجيتال مثل خيرى بشارة ويسرى نصر الله، ودائم الرصد
لتجارب السينما المستقلة، يشارك فى ندوات، كان لافتًا للنظر أن
يخوض الجيل الأكبر سنًا تجربة الديجيتال، بينما جيلنا لا يزال على
حاله، كان سابق عصره. كان من عاداته أن يشاهد فيلمًا يوميًا، كان
قبل أن يسافر لأى مهرجان، أجده قد اطلع على كل الأفلام المعروضة،
وكتب فى مفكرة صغيرة الأفلام التى ينوى مشاهدتها، وويخطط جدول
بأماكن ومواعيد عرضها.
·
هل كان لديه مشكلة تجاه عدم منحه الجنسية المصرية؟
لم يكن يهتم بمثل تلك الشكليات، هو مصرى مئة فى المئة، لكن بعض
النقاد، وهم ليسوا نقادًا برأيي، قادوا حملة ضده، بأنه ليس مصريًا،
ويشوه سمعة مصر لأنه يعرض مشاهد الفقراء المسيئة لصورتها فى
الخارج، واتهموه أنه – ضمن مخرجين آخرين – السبب الأساسى فى بعد
الجمهور عن السينما.
بعد أيام السادات، كرم الرئيس الأسبق مبارك، فريق عمل الفيلم، طلب
خان حينها منحه الجنسية المصرية، لأنه ولد فى مصر، ولم يقض خارجها
غير فترة الدراسة فى انجلترا، لكن الموضوع لم يبت فيه.
وطرح الموضوع مرة ثالثة بعد ثورة 25 يناير، إذ شاركت مع المخرج
«سعد هنداوي» والصحفية «دعاء سلطان»، فى إطلاق حملة لمنحه الجنسية
المصرية، بدأنا فى جمع توقيعات من الكتاب الكبار والفنانين
والممثلين، وبالفعل تمت اتصالات على أعلى مستوى من الرئاسة ومجلس
الوزراء، لكنهم نسوا الموضوع.
نوقش الموضوع مرة أخيرة فى عهد الرئيس السابق «عدلى منصور»، لكنه
فوجئ بجدية الأمر هذه المرة، ذلك عندما أعلن المتحدث الرسمى لرئاسة
الجمهورية بمنح المخرج «محمد خان» الجنسية المصرية، كان سعيدا
للغاية حتى أنه اتصل بى فى وقت متأخر من الليل ليخبرني، وبدأ ينشر
صوره حاملًا جواز السفر والبطاقة الشخصية المصرية، وكان مهتمًا
بالمشاركة فى الانتخابات العامة.
لكن لأصارحك القول، محمد خان لم يكن يحتاج لورقة ليثبت أنه مصرى
الجنسية، عندما يشارك محمد خان بفيلم له، فى أى مهرجان خارج مصر،
يكون معروفًا للجميع أنه مصري، أو حتى كعضو لجنة تحكيم، يكون
معروفًا لدى الجميع أنه مخرج مصري، لم يكن معروفًا أنه بريطانى أو
باكستاني، بالاضافة إلى أنه كرم من قبل المهرجان القومى للسينما
الذى تقيمه وزارة الثقافة المصرية عام 2008، والذى لا يكرم غير
المصريين، كما أنه حاز على عضوية نقابة المهن السينمائية، ولذلك
عندما منحته الدولة الجنسية المصرية، لم تكن تمنَ عليه، لكنها كانت
تعطيه حقه الذى تأخر كثيرًا، هو جزء من رد الاعتبار.
مشهد الصخب والسلام .. ملف محمد خان
حاتم حافظ
كنت فى الرابعة عشر من عمرى حين دخلت السينما لأول مرة بمفردي. كنا
كأسرة متوسطة نذهب للمسرح كل خميس تقريبا ونذهب للسينما مرة كل
شهر. الأفلام التى شاهدتها صغيرا كانت كلها إما أمريكية وإما لعادل
إمام. حين ذهبت السينما وحدى وجدت أفيشا يحمل صور أحمد زكى «كنت
أعرفه من مسلسل الأيام» ونجلاء فتحى «وكنت أعرفها من أفلام الأبيض
والأسود» وعايدة رياض التى لم أكن أعرفها. قرب نهاية الفيلم كنت قد
اتخذت قراري، سوف أعمل حين أكبر بالحكي. أحد أهم أسباب اتخاذى هذا
القرار فى هذا السن هو الطريقة التى كان محمد خان يحكى بها
الحكاية. فى الأفلام الأمريكية وأفلام عادل إمام كنت أشاهد فيلما،
فى فيلم محمد خان كنت أشاهد فيلما يُحكى بطريقة مقصودة. مشهد
النهاية المبنى كقصيدة ختامية فى فيلم أحلام هند وكاميليا كان
افتتاحية لتتبعى أفلام خان ثم خيرى بشارة ورأفت الميهي. محمد خان
كان صاحب أكبر نصيب من الأفلام التى أحبها «خرج ولم يعد»، «مشوار
عمر»، «ضربة شمس»، «زوجة رجل مهم»، «شقة مصر الجديدة»، «الحريف»
وصاحب أكبر نصيب من الأفلام التى لم أستطع أن أحبها «بنات وسط
البلد»، «مستر كاراتيه»، «كليفتي» «فتاة المصنع».
حتى الآن لم يسحرنى فيلم قدر ما سحرنى ضربة شمس. بالنسبة لى فيلم
ضربة شمس هو فيلم محمد خان. هو فيلمه الذى استولده فى أفلامه كلها.
وأكثر ما كان يسحرنى فيه شريط الصوت. لم يهتم مخرج قدر اهتمام محمد
خان بالمشهد الممتلئ صوتيا. فى ضربة شمس يظل صوت الراديو مصاحبا
لشمس طوال الوقت فى شوارع القاهرة. فى «خرج ولم يعد» لن يكتمل
المشهد «وأنا هنا أتحدث عن المشهد باعتباره وحدة بصرية بالأساس»
إلا بالصوت، صوت خشخشات الحقول صوت العصافير على الشجر حيوانات
الريف وحتى أصوات ارتطام الملاعق بالأطباق المعدنية. فى أحلام هند
وكامليا صوت كاسيت الميكروباص صوت راديو الجيران صوت كلاكسات
السيارات. فى «زوجة رجل مهم» أغان عبد الحليم التى لا يمكن حذفها
أبدا من الفيلم. فى شقة «مصر الجديدة» صوت الراديو والصوت الغامض
الذى يطارد يحيى. فى فيلم الحريف صوت الأغانى الشعبية صيحات جمهور
الكرة فى الساحات الشعبية ركلات الكرة. فى مشوار عمر سوف نتنقل من
أصوات كاسيت سيارة عمر وأغانيه الأجنبية وبين ضجيج الشارع وصوت
دوران عجل السيارات على الأسفلت والطرق المتربة.
الملاحظ ليس فحسب فى زحام الأصوات فى تلك الأفلام، ولا فى توظيفها
دراميا، ولكن فى كون شريط الصوت لا يتم توظيفه تقليديا كخلفية
للمشهد، بل فى رأيى يكون هو المشهد نفسه، ليس المشهد فحسب بل
الحكاية نفسها. فى كل هذه الأفلام يتم زرع مفارقة الدراما/ الحكاية
فى التناقض بين الضجيج الذى نسمعه طوال الفيلم وبين مشهد نهاية ما
يتوقف فيه الضجيج وتنزلق الحكاية بخفة نحو الشاعرية. فى فيلم أحلام
هند وكاميليا مشهد النهاية شديدة الحساسية. فى فيلم زوجة رجل مهم
يتوقف الصخب كله فى لحظة فى مشهد الانتحار. فى فيلم موعد على
العشاء نستسلم لشاعرية مشهد العشاء الأخير. فى فيلم خرج ولم يعد
تتسرب إلينا الطمأنينة مع قرار البطل البقاء. فى فيلم مشوار عمر
نأسى على عمر فى لحظة وصوله لسيارته المعطلة.
كما لو كانت الحكايات التى يحكيها محمد خان كلها هى حكاية واحدة،
حكاية محاولة الإفلات من الضجيج، من الصخب، الوصول للحظة سكينة،
حتى ولو كانت لحظة السكينة تلك هى لحظة لا مستقبل لها «أحلام هند
وكاميليا»، حتى ولو كانت لحظة السكينة تلك هى لحظة الموت نفسها
«زوجة رجل مهم»، هى لحظة اكتمال اليأس «موعد على العشاء» . هى لحظة
ساخرة «مشوار عمر». المهم أن ثمة لحظة فى شريط الحياة «أو شريط
الحكاية» سوف تمنح الإنسان السلام، حتى ولو كان سلاما أخيرا
ونهائيا. صحيح أن أفلام محمد خان تتنوع حتى فى نهاياتها بين
النهايات السعيدة «خرج ولم يعد، وأحلام هند وكاميليا» وبين
النهايات غير السعيدة «زوجة رجل مهم وموعد على العشاء»، ولكن فى
النهاية تبقى كل النهايات سعيدة كانت أم غير سعيدة هى نهايات
السلام الأخير. هى نهايات الإفلات من الصخب الذى لا يثير أعصابنا
فحسب ولكن الذى يشوش رؤيتنا طوال الوقت.
رحلة «البطلة» فى سينما محمد خان
جايلان صلاح
عالم محمد خان شديد الخصوصية والاحتفاء بالمرأة والحب والجسد، تم
وطؤه كثيرا من أقدام الرجال؛ ناقدين ومفحصين ومدققين فى تفاصيله
الثرية، والتى لم يبخل هو على مشاهديه بها؛ حلق منى فى «زوجة رجل
مهم»، لقطات القبلات المقربة فى «بنات وسط البلد» و«فتاة المصنع»،
مشاهد الحسية ما بين هند وكاميليا، والتى تكاد تقترب من المثلية فى
تدفق مشاعرها فى «أحلام هند وكاميليا»، كعب حذاء أميرة فى «سوبر
ماركت» ونوال فى كل مشهد تظهر فيه؛ دموعها بينما يصفف شكرى شعرها،
ملامحها الميتة وهى أسفل عزت الذى يغتصبها بعنف، ومشهد التهامها
للطعام المسموم، وكأنما تلهتم نفسها فى «موعد على العشاء».
بعيدا عن الشعارات الرنانة، ودون أن يعلنها بأعلى صوته، كان محمد
خان نصيرا للمرأة، نسويا أكثر من نسويات كثيرات مبدعات تشدقن
بالحرية والجرأة بينما لم يساهمن ولو بمشهد أو لوحة فى التعبير عن
هذه المعاناة الجسدية الروحية التى تعانيها المرأة المصرية، أو حتى
فى علاقتها المعقدة بجسدها. ومن براعته، تكاد تشك بأن امرأة حبيسة
روح خان هى التى تبدع هذه التفاصيل. يعرف جيدا كيف يكون المشهد
كتالوج كاملا من المشاعر؛ فمن ينسى ياسمين وهى تركب الدراجة وراء
والدها فى «بنات وسط البلد» وتسأله عن زوجته الجديدة، أو رقصة هيام
(سالومي) على شرف رأس يوحنا المعمدان المقطوعة (فرح المهندس الذى
بنى على روح هيام المذبوحة) فكأنما وهب خان الحياة لرأس يوحنا
المعمدان، وهو جسد هيام الذى حاولت هى تدميره، ومنحه حق الرقص على
أنغام الموسيقى، تاركا هيرودس (المهندس) مذهولا من فشل خطته فى قتل
الصدق والنبوة. هذا المشهد الختامى العظيم أفضل من مائة خطبة عن
الفيمينزم وحرية المرأة.
التفاصيل التى عذبت خان طوال حياته، هى سر عبقريته، هى ما جعلته
يتسلل إلى مخادع النساء، متلصصا لا بشهوانية لكن بفضول طفل يستكشف
جنسانيته لأول مرة؛ خاصة عند نساء الطبقة المتوسطة المنسيات دوما
وسط سباق اللهاث وراء النساء المعدومات، والنساء اللاتى يرتدين
نظارات ماركة جوتشي. فى صراع نوال «موعد على العشاء» وأميرة «سوبر
ماركت» ومنى «زوجة رجل مهم» ونجوى «شقة مصر الجديدة» هو يعرف جيدا
من أى زوايا ينقل هذا الصراع، وباختلاف تام عن خوخة ابنة الفلاحين
ذوى الأملاك فى «خرج ولم يعد» وهالة ابنة المجتمع المخملى فى «قبل
زحمة الصيف»، وباختلاف جذرى عن هند وكاميليا فى «أحلام هند
وكاميليا»، أو نجاح فى «مشوار عمر».
على اختلاف تأثير العنصر النسائى فى السرد، نجد براعة محمد خان فى
العبث بمفهوم البطل؛ ففيلم مثل «زوجة رجل مهم» يمكن رؤية السرد من
منظور منى البطلة وكون زوجها هشام أحد العناصر المؤثرة فى الحكي،
وشخصية مساعدة للبطل – وأحيانا مضادة – ويمكن رؤية الفيلم على أنه
تجسيد لرحلة البطل الذكر المعتادة، والمرأة هنا هى عامل مساعد
ومؤثر فى سرد الأحداث، أو عامل ضد فى بعض الأحيان. ويختلف هذا عن
فيلم مثل «موعد على العشاء» حيث الرحلة الدون كيشوتية لامرأة،
والبطولة بمراحلها المختلفة يدخل فيها عامل الذكر من حبيب – شكرى –
وعدو – عزت – كأحد عناصر ومكونات رحلة البطلة المنفردة، الباحثة
عما هو أكثر من تلك الحياة التى وجدت نفسها فيها، وعندما تقرر
البطلة التمرد على هذه الحياة، وكسر نهر النمطية الراكد، تتغير
حياتها رأسا على عقب، وتقابل ما يقابله البطل الذكر التقليدى عندما
يقرر تغيير إيقاع السرد والشروع فى الرحلة، فيُقتل حبيبها وتنتهى
حياتها وحياة الفيللين بيدها.
الحسّيّة فى التعامل مع المرأة والتخلص من عقدة الجسد سمتان
ملازمتان لسينما خان، فبالرجوع لمقالة لورا ملفى السردية «المتعة
البصرية والسرد» عن حامل النظرة المخرج الذكر والطريقة التى تصوَّر
بها المرأة على الشاشة، نجد خان تخلص كليا منها فى تناوله للشخصيات
النسائية من منظور حسّيّ وليس احتفائيّ ذكوري، تختلف بطلاته عمريا
وشكليا واجتماعيا، ومع هذا لا يخجل خان من تمثيلهن على الشاشة
بحرية، ودون التفات لمنظومة عقدة الجسد التى أخذت تتسلل للسينما
المصرية رويدا رويدا مع دخول الألفية الجديدة. فى طريقة إدارته
للممثلات، تكتشف إمساكه بالتفاصيل حتى أصغر واحدة منهن؛ تأمل معى
طريقة تدخين هالة الواثقة المغرية فى «قبل زحمة الصيف»، وطريقة
تدخين منى بتعاسة واستسلام للأشباح الداخلية فى «زوجة رجل مهم»،
وطريقة تدخين ياسمين المتحدية قليلا، الناتجة عن القلق من نظرة
المجتمع الممزوجة بالرغبة فى التمرد فى «بنات وسط البلد». هذا
الوعى الكامل باختلاف نفسية المرأة حسب طبقتها الاجتماعية فى
تفصيلة بسيطة كتدخين سيجارة، تكشف عن نفاذ فى قلب المرأة ليس ككيان
آخر
autre
غامض وملتو، لكن كانسان له دوافع مختلفة ومكبَّل بعقد اجتماعية
وانسانية وشعورية كثيرة.
لن تجد المرأة فى سينما محمد خان تفصيلة زائدة أو وردة جميلة فى
عروة جاكتة البطل، كل دور نسائى له وجوده وأهميته فى السرد،
فاعليته تكمن من كونه شخصية مكتوبة من لحم ودم ووعى بالأبعاد
النفسية والاجتماعية، وليس مجرد «شخصية نسائية» صُنعت لجذب مزيد من
الذكور لقاعة السينما، العاهرة نجاح فى «مشوار عمر» لم تتكرر فى
فيلم آخر، والزوجة التعيسة منى فى «زوجة رجل مهم» ليست هى نفسها
فوزية بطلة «طائر على الطريق»، والفتاة الصغيرة ياسمين التى يتفتح
قلبها بالحب والرغبة فى «بنات وسط البلد» أبعد ما تكون عن نجوى «فى
شقة مصر الجديدة» أو هيام «فتاة المصنع».
من نساء محمد خان، تبرز نوال «موعد على العشاء»، ربما لهذا أهدى
لها الفارس الراحل الفيلم، وهى تفصيلة لم تتكرر فى أى من أفلامه
الأخرى، لكن هالة فى «قبل زحمة الصيف» تبرز أيضا كأيقونة للجمال
والشبق والكبت، كما تلمع ياسمين الثرثارة المتمردة فى «بنات وسط
البلد» ونجوى الحالمة المتحفظة «فى شقة مصر الجديدة»، بينما تظل
العلاقة الحسّيّة الشاعرية بين هند وكاميليا فى «أحلام هند
وكاميليا» أكثر علاقات بطلاته تعقيدا وعمقا، يتخللها فهم عميق
لتعلق النساء ببعضهن البعض فى عالم الرجال فيه غائبين أو أشباه
غائبين.
ما يقدمه محمد خان للمرأة هى عصا سحرية، تلمس أوتارها فتجعلها تنظر
للعالم بطريقة أخرى، حتى نظرتها لنفسها تتغير، هناك لحظة ما تجعلها
تقف أمام نفسها وتقرر التغيير؛ ياسمين تقص شعرها فى «بنات وسط
البلد» وكأنما تحسم جدل علاقتها المعقدة مع أنوثتها ومحاولتها
فهمها لنفسها؛ هى ليست تلك الفتاة الصايعة كما يصفها الجميع، ونجوى
تحل رباط شعرها «فى شقة مصر الجديدة» وتكتشف أنوثة مختفية وراء
تربية محافظة ورومانسية يوتوبية زرعتها فيها مدرستها تهاني، ونوال
تقرر الزواج بشكرى فى «موعد على العشاء» معاندة القدر والدنيا
المرسومة لها حتى وإن كان الثمن حياتها.
محمد خان فيمينست أكثر من جلوريا ستاينم نفسها، وعلى روحه الطاهرة
السلام.
خان.. صانع الوجدان
بقلم : أسامة عبد الفتاح
فى عام 1997، أصدرنا العدد التجريبى الأول من مجلة «الفن السابع»
بتمويل من النجم محمود حميده، وكنا سعداء متحمسين، نريد معرفة
مختلف الآراء فيما صنعنا.. وفى أحد العروض الخاصة، لمحت الصحفى
والسيناريست الراحل أحمد صالح، فاتجهت إليه لأعطيه نسخة، وكان يجلس
بجواره مخرج من المفترض أنه كبير، فكان من الطبيعى أن أعطيه نسخة
هو الآخر.. تصفحها بسرعة، ثم أعادها لى غاضبا وقائلا: «خلاص كده
بانت.. متشكرين»!
نظرت إليه مندهشا ومستفسرا، فأكمل: «انتوا بقى من بتوع سينما
الصراصير، وبالنسبة لكم احنا خلاص راحت علينا، احنا ما بنعرفش نعمل
سينما، مش كده؟».. طلبت منه ألا يقول هذا الكلام، وأكدت له أننا
نحترم أفلامه لأننا تربينا عليها وتعلمنا من بعضها، وأننا لا ننفى
ولا نستبعد أحدا، فأنهى الحوار بحسم قائلا: «لا.. لا.. خليكم فى
الصراصير والبلاعات»!!
لم أفهم إلا بعد أن رجعت إلى العدد وأعدت قراءته، وقدّرت أن موضوعا
محددا عن الجماليات فى سينما محمد خان هو الذى أثار غضب «الأستاذ»،
حيث يتناول بالتحليل فيلم «أحلام هند وكاميليا» الذى يتضمن مشهدا
يتكرر يوميا فى آلاف البيوت المصرية، وهو قتل صرصار بالشبشب، ويبدو
أن «الأستاذ» يعيش فى بيئة معقمة وليس معنا، وينتمى إلى من يغسلون
– ويريدون أن يغسل غيرهم – كل شيء بالماء والصابون قبل تصويره فى
أفلامهم.
لم أتوقف عند عدوانية وصلف الرجل ومنطقه الخاطئ بقدر ما شغلنى
البون الشاسع بيننا، فمن يعتبره هو رائدا لسينما الصراصير ويشمئز
منه، أعتبره أنا «صانع وجدان» من الطراز الأول لم يكن ارتباط جيلى
بمبدعين مثله كباقى المتلقين، فقد ساهمت أعماله – وغيره من
الفنانين الذين بدءوا مسيرة التألق فى النصف الثانى من سبعينات
القرن الماضى والأول من ثمانيناته – فى تشكيل وجداننا حين تفتح
وعينا فى تلك الفترة المعقدة التى تلونت فيها مصر بأصباغ الانفتاح
الاقتصادي، وعانت احتقاناته، وكان خلالها خان أحد الذين «أخرجوا»
حياتنا، وأحد الذين أضاءوا لنا الطريق طوال المشوار.. ليس رحيله
إذن مجرد غياب لمبدع كبير، بل افتقاد لجزء لا يتجزأ منا، ومن الوطن
ذاته.
عندما بدأ مشواره السينمائى فى أواخر السبعينات، ووجد غيره يكتفى
بالكلاسيكيات الرومانسية وقصص التأثيريين والانطباعيين، أو بأفلام
المقاولات البائسة، قرر – ومعه جيله من المخرجين والمؤلفين
والفنيين – النزول إلى الشارع للتعبير عنه، وعن المصريين الحقيقيين
الذين لا تشغلهم قصص الحب والهزل عن صراعهم اليومى مع حياة قاسية
قررت وضعهم فى المرتبة الثانية بعد قيم المادة والاستهلاك
والانفتاح على غرب لا يراهم سوى سوق لبضائعه.
من 1979 إلى 2015، مسيرة طويلة من النضال الوطنى السينمائى لم
يشغله خلالها سوى الإنسان البسيط بأحلامه وطموحاته، وهذا البلد
بهمومه وآماله، لذلك كان من المدهش – قبل أن يكون من المؤسف – ألا
يحصل على الجنسية المصرية إلا قبل رحيله بعامين فقط، رغم أنه وُلد
فى مصر لأم مصرية، لمجرد أن والده باكستاني.
من المؤكد أن آراء ومواقف أناس وفنانين مثل المخرج المذكور فى
بداية هذه السطور، كانت وراء تأخر قرار منحه الجنسية إلى عام 2014،
وهو فى الثانية والسبعين، بعد سنوات طويلة جاهد خلالها الوسط
الثقافى بشكل عام، والسينمائى بشكل خاص، من أجل حصوله عليها، فيما
كان هو هادئا وواثقا ومتأكدا من مصريته أكثر من أى مصرى آخر.
لم يقدم نفسه أبدا – داخل وخارج مصر – على أساس أنه أجنبي، رغم أنه
يحمل الجنسية البريطانية التى يتكالب عليها كثير من المصريين
ويفعلون أى شيء للحصول عليها وعلى غيرها من الجنسيات الغربية، وكان
يمكنه أن يعيش فى بريطانيا حيث الحياة بشكل عام أفضل وصناعة
الأفلام بشكل خاص أيسر وأكثر تحقيقا للربح، لكنه اختار أن يعيش فى
مصر، ويصنع أفلامه فيها، ويجعل منها توثيقا للمجتمع المصرى فى
النصف الثانى من القرن العشرين والأول من القرن الحادى والعشرين،
ويحوِّلها إلى أدوات لتشريح هذا المجتمع وتحليله وبيان أسباب
ومظاهر أوجاعه ومعاناة من يعيشون فيه.
من يعرفون قيمة خان كمخرج لن يشعروا بالفقد، لأن أفلامه موجودة،
وستبقى، ولأن مثله يموت بجسده فقط.. ظنى أن من سيفقد، من سيبكي، من
سيتألم، هو من اقترب من الإنسان الساحر الآسر وعرفه كطاقة حب،
ومصدر سعادة لكل من حوله، الإنسان الذى عاش يشيع البهجة فى كل مكان
يحل فيه، ونال مكافأته – التى يستحقها – بالرحيل الكريم السريع،
قبل أن يتمكن منه المرض، فقد كان آخر شخص يصلح لمصاحبته.. غيابه
انتقاص من بهجة الحياة، وإضافة على كآبتها، فقد كان عاشقا من
عشاقها، ومرادفا لها، ورمزا من رموزها.
عشرة مشاهد لا تنسى في سينما محمد خان
أحمد شوقى
هذه المشاهد وليدة استطلاع رأى بسيط قمت به قبل أعوام على موقع فيس
بوك عندما كنت أعد دراسة لتكريم محمد خان فى مهرجان الاسكندرية،
مجرد سؤال بسيط عن مشهد لخان لا يُمحى من الذاكرة، انهالت بسببه
مئات التعليقات، من سينمائيين ونقاد ومحبين للسينما. عدد مشاهد
وعدد معلقين مذهل جعلنى أدرك قدر هذا الرجل فى قلوب الجميع كل على
طريقته وحسب ذوقه. هذه هى القائمة التى اختارها أكثر من 25 شخصا،
من بينهم على سبيل المثال لا الحصر المخرجون نادين خان وأمير رمسيس
ومحمد العدل ويوسف هشام، المؤلفون محمد أمين راضى وتامر حبيب ومحمد
سليمان عبد الملك، الممثل وليد فواز، والنقاد رامى عبد الرازق
ومحمد عاطف وأسامة عبد الفتاح ورامى المتولي.
(1)حوار
بالعيون وطائران – طائر على الطريق
بعد أن تحمل سخافات زوجها الإقطاعى العصبي، واستمع لتحذيرات السائق
العجوز وهو يصر على الذهاب مجددا ليحضرها بسبب قوة تدفعه لا يمكنه
فهمها، وبعد أن حاولت هى التملص من الذهاب معه لعلمها بأن شيئا ما
يتحرك داخلها تجاهه، وبعد أن تم حجز الزوج للعلاج فى القاهرة، يجد
فارس نفسه لأول مرة وحيدا مع فوزية فى سيارته. يمد يديه ليستخدم
الأداة الدرامية الأهم فى المشهد وفى الفيلم ككل: المرآة، يعدل من
وضع مرآة السيارة الجانبية والداخلية، ليوجه الاثنين نحو عينى
الزوجة الجميلة والحزينة، ليدور بينهما حوار بالعيون، ليصله عذابها
وحياتها التعيسة، فما يكون منه إلا أن يبدأ حديثه معها بأغرب جملة
ممكنة: أنا آسف.
فارس تأسف لفوزية على حزنها، على الهم الذى تحمله رغما عنها، وعن
حياتها مع رجل متسلط عسير المعاشرة كزوجها، ليتزامن الأمر مع تخطى
فارس لجنديين يشيران له بالوقوف، معتبرا الأمر احتراما للسيدة،
ولكن هذا التصرف يثير فيها الذكريات، لتبدأ مع تصاعد موسيقى كمال
بكير الحزينة فى إلقاء تساؤلات تخيلية، لا يمكن إلا أن تكون عن
حبيب قديم حُرمت منه لصالح زيجتها التعيسة، لتخرج الكاميرا وترصد
السيارة من الخارج، تقطع الطريق قطعا، وداخلها طائران: أحدهما
الطائر على الطريق الذى وجد حبه أخيرا، وثانيهما طائر حبيس فى قفص
ذهبي، دفعته الظروف للتعاسة، ودفعه الحب للثورة.
(2)قتل
وانتحار ومسقعة – موعد على العشاء
انتهى كل شيء لدى نوال بموت حبيبها وزوجها الثانى شكرى بأوامر
زوجها الأول عزت، هى الوحيدة التى تملك اليقين بأنه القاتل، لكنه
أمّن موقفه جيدا. تطلب نوال من السكرتيرة أن تجعله يتصل بها فور
عودته. الطلب يشعر الرجل المهووس بالامتلاك أنه قد انتصر، كيف لا
وقد حصل على كل شيء من قبل بالقوة دون حساب؟
تحدد نوال موعدا للقاء فى منزل الزوجية، وتذهب للتسوق فتشترى
باذنجان وخضراوات، وعلبة من السم! ليبدأ التتابع البديع الذى يستمر
لاثنتى عشرة دقيقة كاملة. بهدوء ممزوج بالحسرة واللذة تعد نوال
المسقعة التى يحبها عزت، مرتدية فستانا داكنا يوحى بحداد مكتوم،
تخلط كل شيء وترش السم ثم تضعه بالفرن، ودقات البيانو المتثاقلة
تنقل لنا شعور الترقب. تغير ملابسها لترتدى تاييرا يعطى انطباعا
باستقبال شخص عزيز، وتخرج لعزت الذى فتح الشقة بمفتاحه ودخلها
بأريحية. التايير يسعد عزت فهو من اشتراه لها، ولونه الأزرق الصاخب
يجعل صاحبته لامعة داخل المشهد وهى تعترف لزوجها السابق بأنها قد
استسلمت له، لتأخذه الجلالة ويظهر ما يبطنه من استحالة استغنائه عن
ملكية زوجته الجميلة، وعندما يرغب فى تقبيلها بشغف من لا يعرف
مصيره، لكنها تصر على العشاء قبل أى شيء.
الثقة والغرور يجعلانه يأكل باطمئنان، ولكن ذكره لشكرى يصيبها
بالاضطراب فيبدو عليها القلق، يتسرب قليل من الشك لعزت فيصر على أن
تأكل أمامه من المسقعة، تتردد للحظة واحدة قبل أن تمد يدها لتغترف
من الأكل وعينيها فى عينيه، ثم تصعد الكاميرا بهدوء لتتابعها وهى
تأكل دون تردد، الصمت يخيم على كل شيء ويجعل المشاهد جالسا على
أعصابه، أما نوال نفسها فلم تعد بنفس القلق، قد حسمت أمرها وانتهى
الأمر: حياتها ثمن بخس مقابل الانتقام ممن دمر هذه الحياة. تأكل
بنهم يدفع عزت للاطمئنان فيأكل هو الآخر مبديا إعجابه بالطعم،
وعندما تتأكد نوال من أنه أكل كمية كافية لتحقيق هدفها، تخبره
بهدوء شديد بوجود السم فى الطعام.
عبقرية المشهد تنبع فى الحفاظ من اللحظة الأولى وحتى النهاية على
هذه الشحنة العاطفية المركبة، والتى تجمع بين منتهى التوتر ومنتهى
الهدوء، والتى تتوج بعد اعتراف نوال بثبوت وضع البطلين، ثم القطع
على زاوية ترصدهما من مكان أبعد، ثم أبعد، ثم ترصد صورة زواجهما
على الحائط بعدما صارا بالفعل مجرد ذكرى.
(3)المباراة
الأخيرة – الحريف
لم يعد من الممكن أن يبقى الحال كما هو عليه، فارس تمكن أخيرا من
كسر جبل الجليد بينه وبين دلال بقبلة المطبخ التى لا تنسى، ويستعد
لوظيفة انفتاحية ستغير حياته للأبد، شاهد ماضيه فى الحريف الجديد
الذى يستعد لتدشين موهبته، وشاهد مستقبله لو استمرت حياته على
وضعها السابق فى الكابتن القديم مورو وحكاية يرويها له عن حريف آخر
تحول لمدمن. فيقرر أن يكون اليوم التالى هو يوم التغيير.
يأخذ دلال وبكر ووالده وزوجته لرحلة للاسكندرية، ولكن قبلها يجب أن
يلعب مباراة الوداع. يسخر منه سمسار المباريات الأعرج متحدثا عن
الحريف (القديم والجديد)، وفارس يقرر ألا يترك الساحة مهزوما فى
الملعب، ولا يترك الحياة مهزوما بالاستسلام لمصير الكباتن
السابقين. يعلى من قيمة التحدى عندما يصر على اللعب مع الفريق
الخاسر ضد الحريف الجديد، وصيحات المشجعين تتصاعد لتملأ ميدان عبد
المنعم رياض، بينما تتنقل الكاميرا لرصد أطفال يأكلون فى الشارع،
ربما يصير أحدهم بعد سنوات حريف المستقبل الذى يستلم الراية. يبدأ
فارس اللعب وفى الخلفية موسيقى «الشوارع حواديت»، ليسجل هدفا تلو
الآخر حتى يدرك التعادل.
السمسار يصرخ مطالبا الحكم بإنهاء المباراة، ولكن الحكم يتواطأ
بمنح الحريف فرصته الأخيرة، نسمع صوت لهاثه يتصاعد، لننتقل من موقع
الراصد لنصبح داخل فارس نفسه، نشعر بأنفاسه وهو مقدم على آخر
تسديدة فى حياته، يمر من لاعب تلو الآخر حتى يسجل الهدف الأكثر
إهانة للخصم: يدخل المرمى بالكرة، يحتضنه بكر ويسأله عما إذا كان
سيلعب من جديد، فيرد فارس «خلاص يا بكر.. زمن اللعب راح»، فمن هذه
اللحظة لم يعد فارس الحريف، ولكنه نضج أخيرا وقرر خوض لعبة الحياة
بقواعدها الجديد.
(4)هذه
ليست أمريكا – مشوار عمر
فى منتصف الفيلم بالضبط، وبعد أن تمكن عامل البنزينة القروى الساذج
من إنقاذ عمر الثرى الذى لم يعتد أن يرى العالم إلا من وراء زجاج
سيارته الفارهة، ليكتشف أن هناك من هم مستعدون لقطع أطرافه فقط
ليسرقوا خاتما ذهبيا من اصبعه. عمر يكتشف أنه هش رغم كل مظاهر
القوة البادية عليه، أنه معدوم الخبرة يحتاج لمن يحمى ظهره فى هذه
البيئة القروية الموحشة، ولكنه يحتاج أيضا وهو الأهم لشخص كعامل
البنزينة، واسمه عمر أيضا، ليمارس عليه ألاعيبه البرجوازية. عمر
بحاجة فى ضعفه النفسى لشخص يجلس بجواره منبهرا بكل ما يفعله، شخص
ترتفع حواجبه للسماء عندما يفتح الثرى سقف سيارته، ولهذا يعرض عليه
أن يعمل معه، مساعدا أو سكرتيرا أو أيا كان المسمى، المهم هو تواجد
هذا الإنسان ليلعب دوره فى إنقاذ البقية الباقية من انضباط عمر
النفسي.
خلال عرض الوظيفة على العامل يتصاعد صوت راديو مونت كارلو بأغنية
دافيد بوى الشهيرة «هذه ليست أمريكا»، موسيقى دالة على تكوين البطل
النفسي، وكلماتها التى تقول «جزء صغير منك وسلام صغير بداخلي..
سيموتان»، تعبر بأفضل صورة ممكنة عن حال عمر وعمر. يصلان للبنزينة
فينزل العامل لمواجهة رئيسه الغبي، الذى لا ينتبه ويكيل له السباب،
فيرد عليه عمر برمى دراجة العمل فى وجهة والرحيل، بينما يتصاعد من
راديو محطة البنزين صوت سعاد حسنى يغنى «الدنيا ربيع والجو بديع»،
وبتطابق لالالالالا التى تقولها سعاد مع
Sha-la-la-la-la
التى يقولها دافيد بوي، نعرف أن طريق العمرين قد أصبح واحدا، ولو
بشكل مؤقت.
(5)سيارة
معطلة وثمرة يوسفى – خرج ولم يعد
ماذا تفعل لو كنت سائرا بسيارتك وتعطلت فجأة؟ هناك العديد من
الاحتمالات الممكنة، لكم ما لا يمكن تصوره هو أن تقوم بهدوء بفتح
باب السيارة واستخدامه ككرسى تجلس عليه تأكل ثمرة شهية من اليوسفي.
التصرف الذى قام به كمال بك بتلقائية وخفة ظل يعكس بهدوء طبيعة
العالم الذى وجد عطية نفسه واقعا فيه، قبل أن يصبح واقعا فى هواه.
عطية الذى تعلم فى المدينة أن تكون كل التصرفات منطقية بشكل
براجماتى لا يتخيل مثل هذا التصرف، وعندما يأتى ليسأل البك عما حدث
يأمره الأخير بأن يفتح الباب الخلفى ويجلس ليتحدث معه.
لا مكان هنا لحسابات الوقت التقليدية، ولا لتبديل السيارة العتيقة
بأخرى أحدث لن تفيد صاحبها بشيء سوى التظاهر، وليس البك بحاجة لطلب
المساعدة لأنه يعلم أن أحدهم سيمر بالتأكيد خلال دقائق بجرار ليسحب
العربة، لذلك فبينما يفكر عطية فى عمر السيارة وكيفية إصلاحها، وفى
موعد بيع الأرض وقبض المال ليعود للقاهرة التى لم يعش خارجها،
يحدثه كمال بك عن أمور أخرى، عن السعادة فى الريف التى لا تقارن
حتى بالعيش فى أوروبا، وعن رغبته فى وجود صديق بجواره، ليطلب من
عطية البقاء ليومين أو ثلاثة فقط، ولكنه يختم حديثه بأنه سيجعله
يتذوق أفضل خوخ فى مصر خلال الصيف القادم، فهو يعلم جيدا أن
اليومين اللذين سيوافق عطية على قضائهما مجبرا، سيتحولان لفترة
أكبر بكثير مما يعتقد!
(6)غرف
خاوية – عودة مواطن
بعد أعوام من الغياب فى الخليج عاد شاكر إلى أشقائه الأربعة حاملا
الكثير من الأحلام، واهما أنه لا يزال مؤثرا فى حياتهم كما كان قبل
أن يهجر البلاد، دون أن يتصور أن الغياب الجسدى يصاحبه غياب معنوي،
وأنه صار فى أذهانهم مجرد غريب أتى لحياتهم ليس من حقه التدخل
فيها، أو مصدر للمال اللازم لبدء مشروع ما، أو رفيق ثرثرة لتفريغ
بعض الإحباطات والرغبات المكبوتة. الأمر لا يقتصر على المنزل، بل
يجد شاكر نفسه منتزعا من كل شيء، عمله السابق تحول لكباريه،
وحبيبته السابقة تزوجت بصاحب الكباريه، والمقاول الذى اشترى منه
شقة اتضح كونه نصابا أخذ منه المال وهرب.
شاكر المصدوم فى كل من حوله يحاول أن يلوذ بفكرة الصحبة، يتمسك
بمنزل العائلة ويرغب فى مشاهدة شقيقيه وشقيقتيه حوله، ولكنه حلم
مستحيل فى ظل امتلاك كل منهم لحياته الخاصة التى اكتشف الأخ الأكبر
أنه لا يعلم عنها شيئا. فوزية تأخذ منه المال لتؤسس مشروعها وتستقل
بحياتها، ونجوى تتزوج بحبيبها بعد أن أجرا معا شقة وقاما بتأثيثها
دون أن يضعا موافقة شاكر أو عدمها فى اعتبارهما، وابراهيم يدخل
مصحة للعلاج من الإدمان الذى تحول إليه بسبب البطالة والإحباط،
وحتى مهدى الذى كان يراه مصدرا للأمل والتفاؤل، يدخل السجن بعد
اكتشاف عضويته فى تنظيم سياسى سري.
الضربات المتتالية لتصور شاكر عن العالم تنهى حتى الصحبة المزعومة
فى منزل العائلة، ليجد نفسه لأول مرة منذ عودته وحده تماما فى
المنزل الكبير. يدخل شاكر المنزل الخالى الذى يسيطر عليه الظلام
على العكس من حالته السابقة، ينير شاكر الردهة ثم يفتح باب غرفة
الفتيات، يمسحها بعينيه ليمر على صورة فوزية ونجوى فى الطفولة
المعلقة على الحائط، يتجه لغرفة الأولاد فيمسحها من جديد ليشاهد
لوحات مهدى ورقعة شطرنج ابراهيم والسرير الذى كان يقضى جل وقته
نائما عليه. ثم تبدأ الكاميرا عملية مسح ثالثة لغرفة الوالدين التى
صارت غرفة الابن الأكبر، التليفزيون العتيق وصورة الزفاف الآتية من
زمنٍ ماض وكل ما فى الغرفة يؤكد أن الوقت قد فات. ليلقى شاكر نفسه
على السرير فى استسلام للوحدة التى لم يكن يتوقعها.
(7)الخروج
الأخير – زوجة رجل مهم
كل الأقنعة سقطت عن بكرة أبيها، ولم تعد هناك أى مساحة للخداع أو
للتواطؤ أو حتى للتعاطف بين منى وزوجها هشام الذى كان رجلا مهما.
العالم كله صار يعلم أن هشام تم فصله من الخدمة بسبب تعامله الوحشى
مع انتفاضة يناير، ومحاولاته اليائسة للتظاهر بأن أمرا لم يكن فشلت
بجدارة، وحتى الحد الأدنى من احترام الموقف الذى حاولت منى أن
تتمسك به، انتهى أمره عندما وقف هشام يتظاهر بالغضب لأن زوجته تأخذ
مالا من والدها، لتصدمه بالحقيقة التى ينكرها، وهى أن معاشه الشهرى
لا يكفى احتياجات المنزل وأنها تستدين لتطعمه، ثم تقرأ له الجريدة
بحيثيات الحكم التى تؤكد تورطه فى تلفيق التهم وتنهى فرص عودته
للعمل، وعندما يبدأ فى ضربها لا تجد ما تفعله إلا اللجوء لجارتها.
التتابع يبدأ بهشام مهندما يرتدى حلة أنيقة ويصفف شعره، يدق باب
الجارة ويطلب منها إبلاغ منى باعتذاره ودعوته لها على العشاء،
يأخذها ليشترى لها حذاءً جديدا ثم لمطعم يتناولان فيه وجبة من
اللحم تعيد ذكريات خطوبتهما عندما كان يحاول إبهارها بقدراته.
الموسيقى تنذر بوقوع شيء ما خاصة وأنهما لا يتبادلان أى جملة حوار
فى الخروج الذى يفترض أن يرآب الصدع بينهما. تطفئ منى سيجارتها
لنرى انعكاسها فى زجاج نظارة هشام الذى ينظر لها نظرة من يقوم
بالانتقام، فشهوة الشعور بالسطوة أصبحت مرضا يفوق أى تعاطف إنساني.
تكتشف منى ما حدث عندما يعودان للمنزل لتجد شقة جارتها وقد أغلقت
بالشمع الأحمر، لتعلم أن دعوة هشام لها كانت لإبعادها عن الشقة
التى أبلغ عن كونها وكرا للقمار، فقط لينتقم من المرأة التى فتحت
بابها لتنقذ زوجته من براثنه.
التتابع المصنوع بعناية وظفت فيها أحجام اللقطات وتكوينها
والموسيقى التصويرية بأفضل صورة ممكنة لبناء شحنة من الترقب والقلق
تتناقض مع مضمون المشاهد نفسها التى تبدو كخروجة عادية، يعد بمثابة
تمهيدا مثاليا لمشهد النهاية الذى يليه، والذى يقوم فيه هشام
بإنهاء حياته منتحرا بعدما قاده جنونه للمزيد من الجرائم.
(8)سيجارة
للماضى – أحلام هند وكاميليا
بعد أن قضى عمره بالكامل صعلوكا بلا جذور ولا التزام وقف عيد لأول
مرة على أرض صلبة، لأول مرة يشعر بالالتزام وأن حياته يجب أن تتغير
فعليا بعدما صارت الرضيعة أحلام مسئولة منه، فلم يعد من الممكن أن
يظل هائما يعيش اللحظة بلحظتها ولا يكترث لأى شخص آخر كما اعتاد
طوال السنوات الماضية، وعليه أن يحاول العيش بصورة أو بأخرى مثل
البشر الطبيعيين، وهو ما يظهر عندما يتنازل لأول مرة عن أحد
مكتسباته الشخصية لغيره طواعية، فيصر أن تبقى كاميليا لتقضى الليلة
فى غرفة الزوجية مع هند لترعاها بعد الولادة، متطوعا بالنوم فوق
سطح المنزل.
الدهشة التى ظهرت فى عينى عيد منذ أن شاهد ابنته الرضيعة واستمرت
خلال وجوده فى مشهد القهوة، والذى أظهر فيه أول ملامح رغبة فى
تأمين المستقبل، تستمر بادية عليه وهو صاعد للسطح المظلم، والذى
يستخدم المخرج دلالته المكانية لتوضيح موقف عيد الذى انتقل أخيرا
من العيش كالفأر الذى يتحرك فى المتاهة بلا بوصلة، إلى النظر
للعالم من أعلى والتفكير فى نمط جديد للحياة، شريط الصوت يمزج
بعبقرية كالعادة أغنية «الدور الدور موعودة ياللى عليكى الدور» مع
سارينة سيارة شرطة مع أصوات الشارع والحديث بين الجيران. ابتسامة
مشفقة ترسم على وجه عيد عندما يرصد شابا يشير لحبيبته التى تقف له
خلسة فى الشباك ليضرب لها موعدا، تم تتسع ابتسامته عندما يلمح طفلا
مشاغبا يسرق بطة ويهرب بها فتهبط البطة على رأس العاشق المنتظر.
اللص الصغير يختبئ وراء سيارة تقف أمام عيد بالضبط، يخرج سيجارة من
جيبه ليشربها، يبحث يمينا ويسارا عن عود ثقاب ليشعلها فلا يجد،
وبمنتهى التلقائية يلقى عيد سيجارته المشتعلة للصبى الذى وجد
النجدة آتية من السماء، وعندما ينظر الصبى لأعلى ليرى صاحب
السيجارة يسرع عيد بالتراجع حتى لا يراه، مرددا بصوت خفيض عبارته
الأثيرة «مسيرها تروق وتحلى».
عيد رأى ماضيه متجسدا فى هذا اللص الصغير الوحيد، فألقى له
السيجارة وكأنه يرسلها للماضى كمساعدة تحنو عليه وتغير من مساره،
لكنه رفض أن يراه الفتى ويشعر بأن لأحد فضل عليه. علاقة كثيفة
ومعقدة بالماضى والحاضر ينقلها خان دون أى حديث أو صوت عال، وموقف
كامل من الحياة تعلنه سيجارة مشتعلة ملقاة من سطح بناية قديمة.
(9)صدمة
بمائة دولار – سوبر ماركت
وجود أميرة فى حياة رمزى لم يكن مجرد صداقة أو جيرة قديمة، ولكنه
كان دافعا يجعله يؤمن أنه ليس وحيدا أو مجنونا، وأن هناك من هم
مثله، لديهم ما يتمسكون به ويؤمنون بأنه أهم وأكثر قيمة من سحر
المال وبريق الاستهلاك. وفى لحظات يأسه كان رمزى مستعدا للتنازل
أخلاقيا كما أخبره الدكتور عزمى حالما بالثروة، لكنه رفض بشكل قاطع
أن يصل هذا التنازل إلى تسهيل وصول الطبيب العجوز إلى أميرة، مؤكدا
أنه لا يمكن أن (يجلب له عصافير) كما أخبره عزمى أيضا. ولكن يبقى
السؤال الصادم: ماذا لو صار العصفور نفسه مستعدا للذهاب طواعية
للصياد العجوز؟
رمزى الذى رأى أميرة بالصدفة تركب سيارة فارهة وضع فى ذهنه عشرات
الاحتمالات الممكنة للأمر، لكن الاحتمال الوحيد الذى لم يفكر فيه
هو أن تكون قد ذهبت لعزمي. وعندما تلقى دعوة كى يعزف فى الفندق
الفاخر مجددا، وافق على العودة حتى لو قابل عزمى من جديد،
فصداقتهما انتهت ولكن بقى ود قديم لن يمنع تواجدهما فى مكان واحد،
بل ان رمزى فى بداية المشهد أخذ يدور بعينيه بحثا عن رفيقه القديم،
فى لقطات يستغل فيها المخرج مستوى نظر العازف المنخفض ليخفى عنه
الحقيقة، والتى تبدأ فى الاتضاح عندما ترتفع من وراء الرءوس يد
عجوز، ليرسل عزمى ورقة بمائة دولار كتحية لرمزي، الذى يبتسم ويغير
النغمة الكلاسيكية ويعزف «تعاليلى يا بطة» كمداعبة للطبيب.
أصابع رمزى تتثاقل على البيانو عندما يهم بالقيام ليغير مستوى بصره
فيكتشف المفاجأة: أميرة التى أصبحت سيدة مجتمع ثرية أنيقة، تجلس
بجوار عزمى الذى تركه العازف حتى لا ينزل لمستوى إخبار صديقته بأنه
يريدها. الصدمة تظهر على عينى رمزي، بينما يخفى المخرج باقى وجهه
وراء البيانو. تقوم أميرة فينكسر كعب حذائها، فتسير وهى تحجل بجوار
الرجل الذى اشتراها، يدخلان المصعد ويستديران ليجدا رمزى جالسا على
السلم ينظر لهما والصدمة لا تزال مسيطرة عليه، عزمى ينفث دخان
سيجاره فى فخر الزاهى بانتصار، وباب المصعد يغلق فى وجه الفنان
الشاب معلنا هدم حصنه الأخير فى مواجهة عالم السوبر ماركت.
(10)نهاية
بطعم البداية – فى شقة مصر الجديدة
واحدة من أكثر نهايات أفلام محمد خان تفاؤلا، ربما لأنها الأكثر
إشباعا، أو لأنها أقرب للبداية منها للنهاية، بداية تأجلت كثيرا
بسبب اختلاف الثقافات وسوء الفهم والحظ السيء، سوء الحظ يلعب لعبته
الكلاسيكية أثناء بحث يحيى ونجوى عن بعضهما البعض، حتى تفقد هى
الأمل وتقرر اللحاق بالقطار الذى سيعيدها لمدينتها لتعيش على أمل
اللقاء بالحبيب، تماما مثل أستاذتها ووالدتها الروحية أبلة تهانى
التى قضت حياتها فى انتظار. ولكن المخرج قرر أن يكون أحن عليها من
هذا الانتظار الطويل، بل وأحن على تهانى كذلك، لتأتيها مكالمة من
صديقة تخبرها بوصول خطاب من تهاني، وتقرأ لها لتعرف أن معلمتها
وصلت أخيرا لحبيب عمرها، خبر سعيد يتأتى بعد مداعبة صوتية معتادة
من المخرج الذى جعل السائق العجوز يفتح راديو السيارة على وردة
تدعو الفتاة «خليك هنا خليك بلاش تفارق».
الخبر يتزامن أيضا مع مشهد أكثر سعادة، يحيى وقد تمكن أخيرا من
اللحاق بالتاكسي، لنراه فوق دراجته البخارية يحاول اللحاق بنجوي،
فهو من يحاول فى هذه اللحظة أن يكون (جنبها.. مش وراها)، حتى لا
تضيع الفرصة منه للأبد. الحوار الذى يدور بينهما يشبه الكلمات
الأولى بين أى محبين: متردد، متلعثم، مبتور، لكنه ملىء بالمشاعر.
يمهد للمشهد التالى فى محطة القطار، والذى تترك فيه نجوى القاهرة
مرددة رقم هاتف يحيى الذى حصلت عليه أخيرا، لينتهى الفيلم وهو يبشر
الجميع ببداية قصة جديدة أكثر بهجة.
“محمد خان” وداعا مُخرج على الطريق
هاشم النحاس
عندما علمتُ بخبر رحيل محمد خان اغرورقت عيناى بالدموع، وشعرت بغصة
فى حلقي، توقفت عن الكلام وغمرنى الصمت، قطعته بعد فترة غير قصيرة،
لاقوم بهدوءٍ وفى صمت متصل لارتدى ثياب الخروج، وطلبت من مساعدى
«ميلاد» التوقف عن العمل لمصاحبتى الى جنازة المخرج محمد خان.
ولم تكن المسافة قريبة، وحتى اضمن سرعة الوصول من العجوز إلى مكان
الجنازة إلى منطقة زهراء المعادى «مسجد الكويتي»، سألت سائق
التاكسى أولا إن كان يعرف المكان فاعتذر سائق التاكسى الاول بعدم
معرفته، بينما أكد لى الثانى أنه يعرف المكان جيدًا. طلبت منه ان
يسرع حتى نلحق بصلاة الجنازة بعد صلاة الظهر. لكن سائق التاكسى
اخذنا – انا وميلاد – إلى زهراء مصر القديمة! وعبثا ان نحاول معرفة
الطريق الصحيح الى زهراء المعادي، خرجنا الى كورنيش المعادى على
أمل ان نصل إليه بسؤال أحد المارة أو بعض السائقين، نادرًا ان يقول
احدهم «انا لا اعرف»، معظمهم يدّعى المعرفة ويدلنا على الطريق
الخطأ. وعندما اشفق علينا سائق تاكسى بعد ان ادرك خيبة سائقنا،
تطوّع بأن يقودنا إلى المكان المقصود.. سرنا خلفه.
لم يعد نظرى قادرًا على متابعة الطريق. بعد فترة اكتشفت ان السائق
الذى بجانبى يسير على غير هُدى. سألته عن سيارة التاكسى التى
نتابعها ونسير خلفها، اعترف سائقنا بإنه فقد متابعته لها، وعدنا من
جديد نسأل عن الطريق.. وعدنا إلى التوهان.
وما ان ضاق صدرى وقررت العودة إلى المنزل يائسًا حتى تكشف لنا اول
طريق شارع زهراء المعادى وعلمنا ان الجامع فى آخره. حين وصلنا، كان
المصلون قد انتهوا من صلاة الجنازة ورحلوا عن الجامع، الذى بدا
مهجورًا فى مكان غير مأهول. فوجئت بقدوم الصديق مهندس الديكور
الفنان «أنسيّ ابو سيف» الذى كان تائها ايضًا وجاء متأخرًا مثلنا،
وجاء خلفه صديق قديم هو «أحمد قاسم» ومعه فى سيارته الصديقة
المخرجة «عرب لطفي»، وقررنا البحث عن المدفن. علمنا انه فى منطقة
القطامية بـ«القاهرة الجديدة». بعد عملية توهان اخرى وصلنا الى
الطريق الترابى الضيق المؤدى إلى المدفن. تركنا السيارة عند
البوابة وترجلنا فى اتجاه المدفن.
بقايا من الاصدقاء القدامى أمام المدفن يعزون بعضهم البعض. اعرف
معظمهم، نتبادل التعزية. بعضهم يرى ضعف جسدى وخطواتى الثقيلة،
فيشفق عليا لحضورى إلى هذا المكان البعيد، لكن مكانة محمد خان فى
قلبى وألم الحزن عليه كانا أقصى على نفسى من مشقة ووعورة الطريق،
وكان لابد لى أن أودعه، بعد أن ودعنا وترك حياتنا ولكنه ترك خلفه
تراثًا كبيرًا من الأعمال السينمائية التى لن تُنسى. وترك فى نفسى
حزنًا عميقًا على فقدانه.
طوال فترة التوهان وانا فى طريقى إلى القبر، وقبله منذ لحظة معرفتى
للخبر صباحًا، تتوارد فى ذهنى ومضات سريعة من الذكريات مع محمد خان.
محمد خان زميل فى لجنة قراءة النصوص السينمائية التى شكلها المخرج
صلاح ابو سيف (1963) عندما كان يرأس الشركة العامة للانتاج
السينمائي، وكانت فترة قصيرة حيث تركنا محمد خان وسافر إلى لبنان
ثم عاد بعدها إلى لندن.
قبل ان يتركنا ترك لنا فيلمًا قصيرًا من افلام الهواة «16 مم»،
أخرجه من انتاج جمعية الفيلم، بعنوان «البطيخة»، موظف يخرج بعد
نهاية الدوام فى وظيفته، ليشترى بطيخة يحملها على صدره ويجوب بها
شوارع القاهرة متجهًا إلى بيته. من كان يدرى ان الشارع فى القاهرة
سيكون احد أهم الملامح الاساسية فى افلامه فيما بعد؟!
بعد عشر سنوات تقريبًا حضرت مهرجان ليبتزج، واقترح سعيد شيمى على
بعض المصريين من الاصدقاء أن نمرّ على محمد خان فى لندن ونحن فى
طريقنا للعودة، وكان ضمن هذه المجموعة الراحلان أحمد راشد وسامى
السلاموني، استقبلنا محمد خان فى بيته على مشارف لندن وكان كريمًا
فى استضافته لنا عدة أيام.
وعندما عاد خان إلى مصر بتشجيع من مدير التصوير سعيد شيمى
والمونتيرة نادية شكري، ابتهجنا بفيلمه الاول «ضربة شمس» عام 1980.
وتوالت أفلامه التى احضر افتتاحها احيانا او اتابعها بعد ذلك وكان
كل منها يثير اهتمام النقاد والمشاهدين، ومنها ما يأخذ طريقه إلى
المهرجانات العالمية «طائر على الطريق، الحريف، خرج ولم يعد، عودة
مواطن، زوجة رجل مهم، أحلام هند وكاميليا، سوبر ماركت، بنات وسط
البلد، شقة مصر الجديدة، فتاة المصنع…».
لم اكن صديقًا لصيقًا لمحمد خان، مثل صديق عمره وصديقنا المشترك
سعيد شيمي. لكن اللحظات التى كانت تجمعنا معًا كثيرة بحكم المهنة،
وفى كل مرة التقى به اشعر ببهجة حقيقية. فقد كان خان دائمًا صاحب
ابتسامة مبهجة تعبر عن اقباله وحبه للحياة.
كثيرًا ما قام سعيد شيمى بترتيب بعض اللقاءات الحميمة فى بيته
بالمعادي. يجمع فيها بعض الاصدقاء ويدعوهم على الغداء الذى يعده
بنفسه، وكانت لقاءات غاية فى المتعة النفسية، يشيع فيها جو الحب
بين المجموعة، ومنهم محمد خان الذى يتحفنا دائمًا ببعض فكاهاته
فضلا عن بعض تعليقاته الساخرة.
كثيرًا ما التقيت به فى ميدان التحرير أيام ثورة 25 يناير 2011،
ومعه زوجته الرقيقة وسام سليمان أحيانا، فنتبادل التحية وبعض
الكلمات القليلة، ثم يواصل كل منا حركته فى الميدان، حيث كنت أرافق
الصديق عليّ الغزولى وهو يصور أحداث ثورة 25 يناير واعتمد على ما
صوره فى إخراج فيلمه التسجيلى «الشهيد والميدان».
كان آخر لقاءاتى به قبول دعوته لمشاهدة فيلمه الأخير «قبل زحمة
الصيف» (2016) الذى رأيت فيه نزهة ذهنية وراحة نفسية. وفى كل
افلامه السابقة لا تجد فيها فيلمًا كئيبًا او تخرج منه نادمًا على
وقتك الذى قضيته فى مشاهدته.
علاقتى الروحية بمحمد خان من خلال افلامه كانت هى الأقوى وهى
الباقية. حيث كنت أرى فى نجاح كل منها نجاحًا شخصيًا اهنئه عليه
كلما اتيح لى فرصة اللقاء به، فقد كنت وما زلت أرى فى أفلامه ما
يحقق لى ولكل الزملاء فى المهنة الاحترام ويضفى الكرامة على أصحاب
السينما المصرية، وقد نجح محمد خان فى ان يجعل من السينما المصرية
فنًا يعترف به العالم ويسعد به كل المصريين.
محمد خان مقاتل ضد القهر بالخروج من الشوارع والخروج للنهار
روبير الفارس
محمد خان مدرسة اخراج خاصة ومتميزة فى السينما المصرية والتجول بين
ملف افلامه المبهرة بدءا من العناوين غير المعتادة وحتى مهارة
التصوير فى الشوارع وكراهية الكادرات الداخلية سمة ظاهرة فى كل
اعماله التى لا تجد بينها فيلما ضعيف او غير مهم على الاطلاق
فالرجل كان يملك حرفية تكسير القواعد السينمائية لينتج اعمالا تحمل
اسمه وتعرف به ومن ذلك فيلم «ضربة شمس» بطولة نور الشريف والذى
كتبه الراحل فايز غالى ومثل تحديا كبيرا بتصويره بالكامل فى شوارع
القاهرة وغامر خان بانتاجه واخراجه ليقدم تحفة سجلت عملا روائيا
رائعا ووثقت بكاميرا السينما شوارع القاهرة ونفس التحدى على مستوى
السيناريو والتصوير الخارجى نجده فى الفيلم الذى لا ينسى «فارس
المدينة» بطولة محمود حميدة. لقد امتلك خان حرفية الكلام بلغة
السينما لدرجة ان كل مشهد من افلامه يحمل رسائل كثيرة بلغة مدهشة
فالازمة الحقيقية فى فيلم فارس المدينة هى افلاس شركات توظيف
الاموال ولا ينتبه المشاهد لذلك الا فى مشهد عابر جدا يتضمن مكالمة
تليفون لا تستمر دقيقة لخصت كل شيء دون الحديث فى تفاصيل مملة
وبذلك عبر بالسرد السينمائى عن قضايا كثيرة ففى فيلمه العلامة
«زوجة رجل مهم» يقدم مستويات متعددة لمعنى القهر والتسلط فهناك
القهر الذى يمارسه رجل الامن على الابرياء وتلفيق التهم ومستوى اخر
من القهر يمارسه الضابط «احمد زكى» على زوجته «ميرفت امين» مما
يمثل قهر المراة التى لم يكن حتى من حقها الحزن على مطربها المفضل
«حليم» وقهر الضابط لذاته الامر الذى ادى الى انتحاره. والموت هنا
هو خروج اخر يشبه الخروج من الشوارع ولكنه هنا خروج الى نهار اخر!!
صور اخرى من القهر نجدها واضحه فى فيلم «موعد على العشاء» حيث تقهر
المراة مجددا – سعاد حسنى – ولا تستطيع العيش مع من اختارته وعشقته
– احمد زكى – لتأتى النهاية مزدوجة تحمل انتحار الذات وقتل القاهر-
حسين فهمى – فى نفس المشهد العبقرى. وتظهر صور القهر ايضا للمراة
والطبقات الفقيرة ويكون القهر هذه المرة للاحلام البسيطة فى «احلام
هند وكاميليا» حيث البحث عن الزواج والحياة الكريمة و«مشوار عمر»
البحث عن عمل يخرج ممدوح عبد العليم من قهر وظلم اصحاب الاعمال لمن
يشقى يوما بيوم و«بنات وسط البلد» ارى انه تنويعة احدث على تيمة
احلام هند وكاميليا حيث البحث عن زوج وحياة كريمة ليصل الى «فتاة
المصنع» حيث قهر المجتمع والقهر المتسلط على جسدها وكأنها عورة
تمشى على قدمين وهو ذنبها الكبير وايضا سطوة العمل على المراة فقد
نجح محمد خان فى تطويع ادوات الواقعية الجديدة ليقدم فنا يحمل
رائحة العرق المصرى وشجن الشوارع واحباطات الواقع. ومع كل الانبهار
والتقدير لاعمال المخرج القدير محمد خان الا انى ارى ان فيلم «ايام
السادات» وبعيدا عن اداء احمد زكى فيلم يقدم تبريرات لسيرة حياة
السادات اكثر من تقديم سيرته بالفعل وهو عيب يتحمله السيناريو
والاخراج.
“محمد خان” واقعية رجل حالم
أمجد جمال
لعل الخطيئة الأساسية، التى تمّ توارثها، فى حق المخرج «محمد خان»
كانت احتسابه على ما عُرف فى مطلع ثمانينات القرن الماضى بتيار
الواقعية الجديدة، نفس التيار الذى نُسب إليه باقى أبناء جيله
أمثال داود عبد السيد وخيرى بشارة وعاطف الطيب وغيرهم. وهو تيار
مثير للجدل والالتباس فى تعريفه ويضعنا أمام كثير من الأسئلة، منها
مثلا: السبب الذى يجعل من تلك الواقعية «جديدة»، هل لأنها قدمت
الواقع من منظور جديد عمن سبقوها؟ وما هو إذن؟ أم لأنها قدمت
الواقع الجديد؟ أليس الواقع دائما جديدا وإلا فهو تاريخ أو مستقبل؟
أم فقط لأنها تبعت واقعية صلاح أبو سيف «القديمة»؟ وهنا فالكلمة
تتحول لمجرد توصيف تزامنى لا يضيف. والأهم هل هى بالفعل واقعية؟
باستثناء أفلام الطيب التى أراها أكثر قُربا لتوصيف واقعية عن باقى
زملائه، فأفلام مثل «البحث عن سيد مرزوق» لداود أو «أيس كريم فى
جليم» لخيرى أو «موعد على العشاء» لخان، لا تنتمى بصلة للواقعية
بتعريفها السينمائى، والأمثلة تمتد لتشمل أفلاما أخرى.
بالتأكيد هناك ما يجمع الأسماء السابق ذكرها، لعل هذا الشىء هو
الجدية، أو الهمّ الاجتماعى المشترك، والذى تم تحويره إلى لفظ
واقعية كانعكاس لفكر منتشر، يرى فى «الواقع» قيمة فى حد ذاتها يجب
اقترانها بالفن كى يكون جادا وهادفا وله القدرة على محاربة فن
الطبقات البرجوازية الخالص، الهروبى، الهادف للتسلية فقط، والذى قد
يُغيّب الشعوب عن دورها المزعوم فى إنقاذ العالم ويُفقد الفن صفته
التعبوية. لكن لا شك أن ما جمع خان بداود بالطيب، فيما يخص
الواقعية، أقل بكثير مما جمع روسيلينى بدي سيكا بفيسكونتى مثلا،
كقياس مع الواقعية الإيطالية التى استحقت نعتها، فعلا، بـ «التيار».
إشكالية اقتران لفظ الواقعية بأعمال جيل سينما الثمانينات، أنه
يُعد انتقاصا للزخم والتنوّع الكبير فى هذه الأعمال وفى ذاتيتها،
خاصة «خان»، موضوع هذا المقال، والذى رحل عن عالمنا قبل أيام قليلة
تاركا وراءه إرثا سينمائيا قيّما، يتميز عن إرث ما قدمه باقى رموز
السينما المصرية فى أنه من الصعب حصره داخل نوع فيلمى أو قالب فنى
جاهز، فهو ليس بتشويقية كمال الشيخ أو واقعية صلاح أبو سيف، أو
شخصانية يوسف شاهين، أو فلسفية داود عبد السيد. أفلام خان من الصعب
اختزالها فى صفة مُعدة مسبقا، لأنها أفلام لا تشبه أكثر من نفسها.
أفلام خان ليست نسوية، لكنها تحب الأنثى، تحتفى بها وتنتصر لها
أينما وكيفما كانت. ليس ضروريا أن تكون الأنثى هى الشخصية
الرئيسية، كما غلب على أفلامه، لكن حتى مع الشخصيات الثانوية
للأبطال الذكور: فاستقلالية وتحرر الأخت فى «عودة مواطن»، وقوة
وصمود طليقة «فارس» فى «الحريف» تؤكدا هذا الأمر. إن النسخة التى
قدمها خان للأنثى فى أعماله هى الأكثر صدقا وتركيبا فى تاريخ
السينما المصرية، قاهرية كانت أو صعيدية، متحررة أو محافظة،
رومانسية أو عملية. هى الأنثى بنفس الملامح والهواجس والأحلام
والواقع الباطش الذى عليها دائما مواجهته وحيدة.
أفلام خان ليست موسيقية، لكن من النادر أن تجد من أحسّ الموسيقى
سينمائيا مثلما أحسها خان، لم يقتصر احتفاء خان بالموسيقى على
مجموعة التكريمات التى قدمها لرموز هذا الفن على تترات أفلامه، لكن
بتوظيف تلك الرموز داخل الدراما نفسها، أفلام خان كانت قادرة على
إزالة التراب عن أغنية لفرقة «المصريين» موضوعها الزواج فى «بنات
وسط البلد»، وعلى إعادة اكتشاف البهجة بأغنية بوب راقصة، من النوع
الذى يذاع على الراديو لمدة شهرين ثم يذبل، مثل أغنية نوال الزغبى
فى فيلم «فى شقة مصر الجديدة».
لم تكن الموسيقى الفن الوحيد الذى احتفى به خان، فالسينما نفسها
نالت نصيبا كبيرا من هذا الاحتفاء.. فمن قُبلات الأفلام الكلاسيكية
التى راقبتها «هيام» بهيام فى «فتاة المصنع»، إلى صفارات احتجاج
هند وكاميليا على الرقيب المتعسف لأنه قام بحذف مشهد حُب مُلتهب من
أحد الأفلام الهندية، وصولا للتفصيلة التى لا تُنسى، وهى طقس
الفُرجة داخل عائلة «كمال بك» فى «خرج ولم يعد»؛ حيث تعطيل الصوت
والاكتفاء بالصورة، للأسف لم تعلم «خوخة» وهى تشرح، ببراءة، هذا
الطقس الغريب لعطية بأنها مسّت قضية سينمائية لطالما تعارك عليها
مُنظرو وصانعو السينما الأوائل، وأن موقف العائلة ليس شديد النشوز،
بل يتوافق مع مقولة هيتشكوك الشهيرة: « لو كان الفيلم جيدا، لأصبح
من الممكن تعطيل الصوت وسيظل المتفرج على دراية مثالية بما يدور».
أخذ هذا الاحتفاء بالسينما شكلا آخر من قِبَل خان، فقد حاكى وكرّم
ما أحبه من السينما العالمية داخل أفلامه، بداية من «ضربة شمس»
بألفته الشديدة مع فيلم
Blow-Up
لعرّابه السينمائى والمخرج الأكثر حضورا فى حواراته «أنتونيونى»
مرورا بـ«الحريف» بألفته أيضا مع أسلوب وحكايات أعمال الموجة
الانجليزية فى الستينات خاصة فيلم «مساء السبت وصباح الأحد»، الذى
عشقه خان واختار تقديمه بنفسه فى إحدى الفعاليات السينمائية
الكُبرى بالقاهرة. ووصولا إلى «مستر كاراتيه»، بتحية سينما الأكشن
الآسيوية رغم افتقادها التقدير الفنى الكافى، لكن من كان يُتابع
مدونة خان على الإنترنت يعرف أن الرجل كان شَرِها فى ذوقه
السينمائى، وليس مُنغلقا على نوعية بعينها من الأفلام.
جرعة السياسة فى أفلام خان لم تكن مُركزة مقارنة بالطيب أو شاهين
أو وحيد حامد، لكنها كانت أكثر نعومة فى انسدالها تحت الجلد دون أن
تصفعنا على وجوهنا لندركها، فيكفى أن يقف فارس فى «الحريف» أعلى
سطح المنزل بعد أن ساءت به الأحوال، ثم ينظر بضعف وقلة حيلة نحو
لافتة إعلانية ضخمة لأحد مُنتجات الشركات الكُبرى، تسيطر أضواؤها
على جنبات العاصمة، وقتها ندرك دون شرح لماذا انتهى زمن اللعب،
ومَن المسئول؟
لم تكن أفلام خان واقعية، وإن بدأت أحيانا من نقطة الواقع، فقط
فعلت لتلفظ هذا الواقع، أو بأضعف الإيمان تقاومه. تارة بـ«أحلام»
هند وكاميليا، أو بـ«لعب» الحريف، أو بسيادة صوت الكروان على صوت
أحمد عدوية الذى خرج فى بداية الفيلم ولم يعُد. لم تشبه أفلام خان
أى شىء سواه، هذا الرجل الذى عشق الطعام، ومن يعشق الطعام يعشق
النساء، فكلاهما لذة.. ومن يعشق النساء يعشق الفن، وكلاهما بِدَع..
ومن يعشق الفن يعشق الحياة، والأخيرة هى الإكسير الحقيقى الذى بث
الروح فى سينما خان.. الروح التى ستبقى حتى وإن رحل الجسد.
منة شلبي تكتُب..
أستاذ محمد خان “ميمي حبيبي و صديقي العظيم”
معلم الإصرار وحب السينما والحياة.. مذاق خاص وعين أخص.. كسينمائى
أعماله تتحدث عنه.. تتحدث عن تنويع فريد وإخلاص شديد للحلم
والسينما والعالم.. تاريخ طويل من الأفلام المختلفة، ورغم تعدد
جنراتها إلا أن مذاقه يتغير طبقا لنوع الحلم ليصبح عادة دافئا
ومثيرا وحرا وعميقا.
مهما تحدثت عن لغته السينمائية لا استطيع أن أعطيه حقه، ونظرا أيضا
إلى أن هناك متخصصين فى تحليل الأفلام جديرين أكثر منى بإعطاء هذا
الطفل العبقرى حقه، وأكرر الطفل العبقري، الغضوب الحنون المعطاء
المتأمل الصادق، شرفت بالعمل معه، وعادة حينما تعمل مع مخرج كبير
فى دور فأنت تعطيه جزءا من روحك، تصبحان صديقين وقريبين من بعضكما،
لأنك تكون من أهم أدوات تنفيذ حلمه.. أحببته وصدقته واحترمته
وبقينا أصدقاء.
أعجز عن التعبير عن حزني.. ولكن سعادتى بأننى شاركته حلم من أحلامه
تهدينى وتقول لى بفخر وبصوت فيروزى حزين: أنا وخان حلمنا سوا.
البقاء لله
منة شلبى
فيونكتين الملايكة
لراحلٍ فذ اسمه «محمَّد خان»
شعر/ عبد الرحيم طايع
هند وكاميليا بيبكوا ع الحَرِّيف.. الموت وِقِع في الغسيل.. بَقَّع
قُمَاشنا النِّضيف.. مين فينا ربَّى السّوس في قمح الرِّغيف.. مين
اللي سمَّى الهجرة حلم لطيف.. هيَّ اللي كانت مَحْض رَسْمِة
كابوس.. راحت قيمتها الفلوس.. والعتمة بالعة الفانوس.. والظلم
سَاوَى الحرّ بالمحبوس.. والصَّبر باخ على جِتِّة الصَّابرين.. يا
تدوَّقونا الحياة يا نموت بداء الحنين.. هند وكاميليا بِيِشْطُفُوا
المواعين.. دمع العيون يا مُعِين.. كانوا النُّجوم لامعين.. كان
الإله موجود.. كان الجدع مولود.. خطفوه من المصارين في غيم
سِكَّة.. مسكين بيندب حَظه على دِكَّة.. ولا حَدّ قلبه «رحيم»
واساه بترانيم.. ولا حَدّ ساعة فَجْرُه قام «طايع».. فجأة انفجرت
يا دَمّ في الشَّارع.. داعش بتدبح صليب.. هند وكاميليا نحيب مصاحب
نحيب.. والدُنيا داخلة النَّار بدون تفكير.. داخلاها متبسِّمة مش
لابسة توب تكشير.. الحُبّ يعمل كتير والعِنْد يعمل كتير..
والجَنَّة مش شرط بعمايل الخير.. ممكن بشات للتَّعَارُف أو
بذِكْرَى ف بوست.. ممكن بشوق للهُرُوب من فكرة الهولوكوست.. ممكن
بروح الموسِيقَى أو بريحة الشِّعْر.. مددين يا سِيدنَا الخِضْر..
مدد يا عبد الرِّحيم مدد يا عبد المسيح.. الجامدة لازم بإيدنا
نفُكَّها وتسيح.. بكُلّ دَقِّة حقيقة ع الطبُول الصَّفيح..
قُدَّامنا فرصة بجَد نغيَّر الألوان.. هند وكاميليا هُمَّ كَسْبا
الرَّهان.. وفيونكتين الملايكة ولعبتين الجِنَان.. ووصفهم صفوهم
أبدع ما صاغ إنسان! |