محمد خان
أنجز أفلامه مثل رسّام يستمتع برسم لوحته (1942 - 2016)
هوفيك حبشيان
في دبي قبل نحو أربع سنوات، التقيتُ الراحل محمّد خان للمرة
الأولى. كان ضيفاً على مهرجان الخليج السينمائي بصفته أحد الأعضاء
الذين أشرفوا على سوق سيناريو الأفلام الخليجية القصيرة. لكون
المهرجان في مول وفندق، الواحد قريب من الآخر مسافة أمتار، كانت
هذه فرصة لحديث متعدد الجلسات مع مخرج "زوجة رجل مهم" (1988)، الذي
بدأ حياته المهنية في العام 1978 مع "ضربة شمس"، فصار مع داود عبد
السيد وعاطف الطيب وخيري بشارة أحد رواد ما عُرف بالواقعية المصرية
الجديدة في الثمانينات.
كانت اللقاءات المتكررة تحصل مصادفة، وغالباً ما كان النقاش يدور
على السينما، تاريخاً وحاضراً ومستقبلاً، وخصوصاً ان خان ظلّ حتى
آخر يوم من حياته بئر معلومات في هذا المجال، يحلو الارتواء منها.
وهو، خلافاً لكثر من المخرجين الذين يتبدد شغفهم مع مرور الزمن،
كان لا يزال مشاهداً نهماً ومتابعاً رصيناً للحركة السينمائية حول
العالم؛ نراه يشارك في الندوات ويحضر الأفلام ويشدّ على أيدي
الأجيال الصاعدة.
أنجز خان نحو 25 فيلماً، أرّخ للقاهرة وناسها في أفلام تولي
الأهمية للتفاصيل والشخصيات والحبكة على السواء. كان ابن حرفة
وصنعة من الدرجة الأولى، طريف وعلى قدر من الهدوء حيناً وغضوب في
الكثير من الأحيان، يدخل القلب كأي طفل يحمل معه كماً هائلاً من
الرغبة في نيل الاعجاب والاهتمام. كان مخلصاَ للفنّ السابع الذي
مشى في دربه بعدما ترك الهندسة أيام الدراسة، يبحث عن الأفلام في
كلّ مكان يضع فيه قدمه. بحضوره المحبب وصوته المميز، كان خان طفلاً
في قالب رجل يلتهم الحياة والفنّ والطعام بشهية لا مثيل لها. أدار
سعاد حسني وعادل امام وميرفت أمين وغيرهم في أفلام لم تذعن الى
متطلبات السوق ومنطق "الجمهور عاوز كده". أما أحمد زكي، فأعطاه أحد
أهم أدواره في "زوجة رجل مهم"، وأداره ايضاً في "أيام السادات".
ساهم في اخراج الشخصيات المصرية من النمطية القاتلة التي كانت
اسيرة لها. أعطى المرأة مكانة متقدمة في سينماه، وظلّ يحمل قضيتها
عن اقتناع حتى فيلمه ما قبل الأخير، "فتاة المصنع"، الذي أطلق
الممثلة ياسمين الرئيس. كان يزعجه أن يكون وضع المرأة في العالم
العربي متردياً وبهذا السوء. وهب السينما المصرية بعضاً من أهم
أفلامها: "الحرّيف"، "أحلام هند وكاميليا"، "زوجة رجل مهم"، و"موعد
على العشاء" الذي كان أحد أفلامه المفضلة، كما أخبرني ذات مرة.
للأسف، لم تلق أفلامه الكثير من التقدير والاهتمام والرواج في
الغرب، ولم تتبنّه المهرجانات الكبيرة.
كثيرون يعرفون محمد خان من خلال أفلامه وتجربته السينمائية خلف
الكاميرا، لكن عدداً أقل هم الذين على تماس بأجواء السينيفيلي
النهم، العاشق الأبدي للشاشة ولصنّاعها الكبار، الذي كان يحفظ عن
ظهر قلب عناوين كلاسيكيات السينما، ولا تغيب عن باله أفلام الدرجة
الثانية التي طواها النسيان. يكاد اطلاع خان على السينما بكل
اتجاهاتها وتياراتها ومدارسها يتخطى اطلاع بعض النقاد عليها. عندما
يلتقي أصدقاءه القدامى، أولئك الذين قطعوا معه درب السينيفيلية
الطويل، نراه يتسابق واياهم على انعاش الذاكرة ولملمة فتات السينما
التي جرفتها الأيام البعيدة. لم يتوقف خان طوال حياته عن الاستزادة
من الشاشة وكل جديد يأتي من خلف البحار. هو لا ينتظر ان تُعرض
الأفلام في الصالة القريبة من مكان اقامته، انما يقبض عليها بشتى
الطرق. خلافاً لكثر من السينمائيين الذين يكتفون بما شاهدوه في
شبابهم، واصل خان متعة المشاهدة وبهجة الاكتشاف والنبش، إلى درجة
انك كنت تعتقده سيبدأ بتجارب جديدة وهو في السبعينات من عمره.
في الآتي، مختارات من حوارات عدة أجريناها سابقاً مع محمد خان
(1942 - 2016) ننشرها في مناسبة رحيله المفاجئ اثر وعكة صحية صباح
الثلثاء الماضي، بحيث تركت الكثير من محبيه في حالة صدمة.
■
كيف كنتَ تشاهد الأفلام في مصر؟ أمضيتَ صباكَ هناك، وليس في
بريطانيا التي تحمل جنسيتها قبل حيازتك الجنسية المصرية أخيراً...
-
أنا فردٌ وحيد في العائلة. لا أشقاء لي. مكثتُ في سكاكيني حتى سنّ
السابعة أو الثامنة. حينها قررنا الانتقال الى مكان آخر. وصلنا الى
أرض شريف التي تقع في وسط البلاد الى جانب العتبة. كنتُ هناك أمام
احتمالين لمشاهدة الأفلام: "الصيفي"، حيث كنتُ أرى رؤوساً كثيرة من
غير أن أرى الشاشة، وسينما "برادي". أحدّثك الآن عن حقبة
الخمسينات. كان يوم الإثنين موعداً مع فيلمين جديدين، أي أربع
دفعات من الأفلام في الشهر الواحد. كما شاهدتُ أفلاماً خارج الصيفي
أيضاً. 4 أو 5 حداً أدنى أسبوعياً. حينها كنتُ في الثامنة، أو
تقريباً في العاشرة. السينما أمرٌ شبيه بالتدخين.
■
ما نوع الأفلام التي كنت تشاهدها؟
-
الأميركي الهوليوودي بطبيعة الحال، الإنكليزي، والمصري في أحيان.
ثم رحتُ أهتمّ بالسينما الإيطالية. وكانت السينما الفرنسية حاضرة
أيضاً. مصر آنذاك، كانت مجالاً رحباً للسينما المتخصصة. السينما
كانت "الانترتينمنت" الوحيد. لا التلفزيون ولا الراديو، ولا أي شيء
آخر. سافرتُ الى لندن في سنّ السابعة عشرة. هناك، تغيّر كلّ شيء.
اكتشفتُ السينما من غير زاوية. حدث ذلك بين العامين 1959 و1960،
قبل "الموجة الجديدة" في فرنسا. تبدّل في تلك الحقبة مفهوم
السينما. شاهدتُ أنطونيوني، وتروفو، وغودار، وشابرول، وملفيل،
وساتياجيت راي. وجدتُ أنّ ثمة شيئاً يُسمّى الإخراج. لم أعرف قبل
ذلك سوى التمثيل. افتقدتُ الوعي الكافي لأدرك ماهية الإخراج. حتى
المجلات المتخصصة في مصر كانت تتطرّق إلى الفنانين والفنانات.
سافرتُ بغرض دراسة الهندسة. ذات مرّة، سألتُ شاباً سري لانكياً
يشاركني المنزل: "ماذا تفعل؟". أجابني: "أدرسُ السينما". "أدرس
السينما" هذه، غيَّرت حياتي! اكتشفت أنّ ثمة مكاناً تُدرَّس فيه
السينما. أعني هنا، "لندن سكول أوف فيلم تكنيك". كانت المدرسة
الوحيدة في انكلترا، عبارة عن شقتين في سوق خضر. لم تكن "ناشونال
فيلم سكول" قد وُجدت بعد.
■
لماذا لندن؟ هل لخياركَ صلة باللغة؟
-
لندن خيار والدي. عمله فرض السفر الى هناك. لنقل إني ابنه الوحيد،
وكان لا بدّ من الإذعان. من أجل تعلّم السينما، اضطُررت للعمل قبل
الظهر والدراسة طوال فترة بعد الظهر. ثم أدركتُ أنّ هذه المدرسة
أقرب الى تجربة عادية. أوكي، لقد تعلمتُ الاحتكاك بالكاميرا، بيد
أنّ القيمة الحقيقية كانت وجودي في لندن في الستينات. هذا الوجود
في ذاته مدرسة. الجوّ. الأفلام. الفنّ. الموسيقى والحركة. يستحيل
تجاوز أيٍّ منها، فتصبح مثل بعض أجزائك. في ذلك الحين، شهدت
القاهرة ولادة معهد للسينما، لكن تفكيري ظلّ في مكان آخر.
■
كيف كانت مشاهدة الأفلام في مصر الخمسينات؟ هل ارتبطت بطبقة
اجتماعية معينة، أم أنّ ارتياد السينما كان متاحاً لمن يشاء؟
-
كانت السينما للجميع حينذاك. ازدهرت سينما الصيفي، وارتادها الناس
من مختلف الطبقات. كان ثمن التذاكر زهيداً نسبياً. 14 قرشاً
أحياناً، أو 21 قرشاً...
■
إذاً، لم تعش حكاية على طريقة تروفو في فيلمه "الحياة الماجنة"،
كأن تهرب من المدرسة...
-
بلى! لطالما هربتُ من المدرسة! صدف، في مرحلة التعليم الثانوي، أنّ
مدرّس اللغة الفرنسية كان عاشقاً للسينما، حدّ أنه منحني الإذن
مراراً للهرب من حصّته التي تسبق استراحة الظهيرة، من أجل مشاهدة
فيلم! كنتُ أشاهد الفيلم وأهرع إليه أخبره ما جرى. أما في صفّ
"الإنشاء الشفهي"، فلطالما ألّفتُ لزملائي قصصاً من وحي الخيال على
أنها أفلام شاهدتها. كانوا يصدّقونني!
■
عائلتكَ، هل تركت فيك أثراً؟
-
في عائلتي الكثير من النواحي السينمائية، لكنني لم أحتكّ بها كما
ينبغي. والدتي تميل الى السينما، وإثنتان من خالاتي كانتا متزوجتين
من مديرَي تصوير. تزوّجت خالتي الكبيرة مدير تصوير مهماً جداً يدعى
جوليو ديلوكا. إن راجعتَ تاريخ السينما اللبنانية، تجده أخرج
وثائقياً عن بعلبك. كما صوّر أفلاماً عدة لفريد الأطرش وآخرين. عند
اندلاع الثورة في مصر، هاجر الى البرازيل ومات هناك. زوج خالتي
الثانية يدعى أمبرتو لانزانو. تدرّب على يديه، وصوّر، هو الآخر،
أفلاماً مصرية عدة منها أفلام مع فريد الأطرش. هاجر بعدها الى
ميلانو... في عائلتي الكثير لم أفد منه جرّاء الاحتكاك القليل.
■
مَن مِن الممثلين كان يجعلك تحلم؟
-
جيمس دين وإلفيس بريسلي...
■
(مقاطعاً)
كانت أفلاماً استهلاكية...
- "أسير
الماضي" مثلاً، كان مقرراً ضمن المنهج الدراسي. كنا نشاهده كل عام
الى أن حفظناه غيباً. أفلامٌ مثل
"سكاراموش"،
وأفلام روبرت تايلور، وسبانسر ترايسي... لم أكن أحبّ "ذهب مع
الريح" مثلاً. كان طويلاً. حين بدأتُ ادراك مفهوم السينما، لفتني
جيمس دين في "العملاق"، و"شرق عدن". استعمال كازان للسينما لا
يُصدَّق. انه لشيء مذهل!
■
أيهما كنت تفضّل، الأفلام التي تداعب أحلامك، أم تلك التي تحملك
الى واقع اجتماعي معين؟
-
مع بداياتي، كانت أفلام المغامرات هي المتعة. بعدها تعرّفتُ إلى
هيتشكوك. أحد أصدقائي الذي أصبح لاحقاً رئيس جمهورية المالديف،
عرّفني إليه. كان يدرس في مصر، ويهوى روايات أغاثا كريستي. عبره،
تعرّفت الى هيتشكوك. هيتشكوك أصبح "ماركة مسجّلة". شاهدتُ في لندن
العرض الأول لـ"سايكو". كانت الأولى بعد الظهر، وأمام صالة السينما
طوابير محتشدة. كنت ضمن هذه الطوابير، أراقب لافتة عليها صورة
هيتشكوك وكلمات تمنع دخول أيٍّ كان بعد بداية الفيلم. شاركتُ
الحضور صراخهم حيال مشهد الدوش. هذه اللحظات لا تُنسى!
■
عندما تمّ تحريك قضية مطالبتك بالجنسية المصرية [ولد خان لأب
باكستاني وأمّ ايطالية]، قلتُ في نفسي: ما حاجة محمد خان لهذه
الورقة، ما دام الوطن الذي يقيم فيه هو السينما...
-
في فيلم من افلامي الذي لم يشتهر كثيراً، طرحتُ ما هي فكرة الوطن.
انا لا أعتقد ان الوطن هو الأرض. الوطن هو الناس. أنا، اذا شعرتُ
ان الناس يرفضونني، فأعتبر ان المكان الذي أقيم فيه ليس وطني. لا
اعرف ماذا كنتُ لأفعل في مثل هذه الحال، لا اعرف اذا كنتُ بقيتُ أو
غادرتُ، لكن بالتأكيد سأكون مدركاً أن هذا ليس وطني. "انما ايه
حكاية الأرض دي؟"...
■
تستفزني عبارة "تراب الوطن"...
-
آه، طبعاً. أو يمكن عشان أنا بزرميط: أب اصله من الهند وعاش في
باكستان ودرس في انكلترا وجاء الى مصر وتزوج أمي، الايطالية
المولودة في مصر من أبّ كان قاضياً جاء من روما، الخ. كل هذه
الكوزموبوليتية لا بدّ أن تؤثر فيّ بطريقة أو بأخرى. واخد بالك؟
ولكن يعود الفضل الى والدي، الذي ربّاني تربية غير متجهة صوب الهند
ولا صوب ايطاليا ولا حتى صوب مصر. لم يعلّمني لغته الاوردو. تعلمتُ
الايطالية من امي. كان والدي يتضايق عندما اختلط بعائلة أمي. في
مصر، كان يتكلم معي بالانكليزية. وعندما نذهب الى انكلترا، كنا
نتكلم العربية. طلبتُ الجنسية لأنني كنتُ اعاني من حالات معينة.
كان هناك مهانة: مصر بلدي ومولود فيها وعلى الرغم من ذلك، كان عليّ
أن أعلم أولادي كأنهم "خواجات" (أجانب) وأدفع نفقة تعليمهم
بالدولار. شيء مهين فعلاً. في زمن والدي، كانت الاقامة مدتها عشر
سنين. ثم صار ينبغي تجديدها مرة كل سنة، ومرة كل ثلاث سنوات اذا
كنت متزوجاً. وعندما تتجاوز الخامسة والستين، يصير التجديد مرة كل
خمس سنوات. هذه الأشياء كلها جعلتني أحس بعدم الامان. كنتُ اشعر
بالظلم. حالياً، اولادي لديهم الجنسية المصرية والانكليزية، وأنا
لا املك الا الجنسية الانكليزية. ثم هناك شيء آخر: "لم أذهب يوماً
الى بلد لأقول لأصحابه أنا انكليزي. انا مصري والأفلام التي أصنعها
مصرية ايضاً.
■
هل أنت مع الذين يؤمنون بأن على بطن المُشاهد أن يكون مليئاً، كي
يستطيع أن يرى جيداً...؟
-
نعم. كي يقدر الفنّ، ينبغي له أن يكون شبعان. لم تقم ثورات في
العالم بسبب أفلام. ليس هناك من فيلم واحد صنع ثورة. الأفلام تنقل
حالات معينة وتعبر عنها. الأفلام تطرح. أما التغيير فقد يأتي نتيجة
التراكمات. الفيلم يثير قضية لكن لا يغير واقعا.
■
في لحظات مصيرية معينة، يعود بعض الفنانين الى مواطنيتهم البدائية.
ماذا عنك؟
-
في لحظات مماثلة، لا افكر. لا أفكر اذا كنتُ فناناً أو مواطناً.
اعيش اللحظة. استمتع بصناعة الفيلم. مثل الرسام الذي يستمتع برسم
لوحته.
■
ما رأيك بالاصوليات الصاعدة الآن والعداء تجاه السينما في مصر؟ هل
لديك قلق؟
-
بالطبع. قلقي تجاه المستقبل. لأنه، حتى لو حاولوا محو افلامي
الماضية، فهي في النهاية أفلام عُرضت والناس شاهدوا هذه الافلام.
لحسن الحظّ هناك التكنولوجيا التي تحتفظ بذاكرتنا الى الأبد. في
مصر، الرقابة كانت دائماً موجودة، ولكن كنا نعرف كيف نتحايل عليها.
هذه الرقابة نمّت فينا رقيبا داخليا. لكن الرقابة الدينية أكثر
تخلفاً من الرقابة المدنية.
■
لماذا الرقابة الدينية أسوأ؟
-
الرقابة الدينية مبنية على غسل الدماغ. وهي تتبنى قاعدة "تولدت كده
وتبقى كده"، وليس لك الحقّ في أن تفكر. يعني أنا مثلاً، الذي ولدتُ
مسلماً، لطالما اردتُ أن يتم حرق جثتي عندما أموت. لكن في الاسلام،
هذا ممنوع. "يعني ايه ممنوع؟" هذا جسمي انا يا أخي.
■
لا جسمك لك ولا عقلك لك...
هذا شيء غير معقول. هذه من الأشياء التي تجعلك لا تصدق. مبدأ
العلاقة بينك وبين الربّ، هذا اذا كان الربّ موجوداً، شيء خاص
جداً. التطرف هذا سبق أن حصل في اسبانيا في العصور الماضية، وفي
أوروبا كلها. هذا شيء مخيف. لذا، لا بدّ من القول انهم يظلمون
التيار الاسلامي قليلاً لأنه ليس الحركة الدموية الوحيدة عبر
العصور. كل التيارات الدينية حركات دموية. راجع التاريخ وستتأكد من
ذلك.
hauvick.habechian@annahar.com.lb |