سينما 2016 تقدمها: خيرية البشلاوى
نوارة.. وأخواتها
"السينما
الوطنية" تنجح في إنتاج أفلام محترمة
في بداية الفيلم تواجهنا "نوارة". شابة في مقتبل العمر.. مكدودة
الوجه. نحيفة القوام. متواضعة المظهر. تحمل جراكن ماء ثقيلة. هكذا
في تقديم واضح "للبطلة" وأشارة لبؤس الطبقة وفقر البيئة الاجتماعية
التي تنتمي إليها.
وتباعاً وعلي مهل تتوالي باقي تفاصيل الهوية الاجتماعية ومحيطها..
الحارة التي لا تشبه أي حارة وردت في الأدب المصري ولا علي الشاشة
السينمائية أو كما تصورها مهندسو المناظر وذلك رغم أن ما نراه
مألوفاً وواقعياً بملامحه البارزة مثل مئذنة الجامع وما ترمز إليه
التي تطل عليها الجدة "توحة" "رجاء حسين" السيدة العجوز التي تحلم
بماسورة مياه وصنبور. وتخشي إلي حد البكاء أن يفاجئها الموت فلا
تجد ما يكفي لتغسيلها!
وفي مشهد مرح وسريع الايقاع يتحدي الظروف الاقتصادية البائسة يقود
"علي" دراجته علي طريق صلاح سالم وخلفه "نوارة" تتشبث به والاثنان
"نوارة" و"علي" زوجان علي الورق فقط فمنذ أن عقد قرانهما من خمس
سنوات مضت لم يتمكنا من الحصول علي حجرة تضمهما حتي بات الحلم
البسيط مستحيلاً أو بعيد المنال!
أمثال "نوارة" الفقيرة ظهرن في طبعات متنوعة في أفلام الأبيض
والأسود وفي زمن الألوان.. فقد ظلت بضاعة الجوع والحرمان والفقر
المدقع والمهمشون وسكان العشوائيات في الحقب الأخيرة. ظلت بضاعة
جذابة تتاجر بها السينما بابتذال وسوقية في كثير من الأفلام وفي
أفلام قليلة جادة تسعي إلي إلقاء الضوء علي قضايا اجتماعية جديرة
بالالتفات ومنها هذا الفيلم الأخير "نوارة" من إخراج وتأليف هالة
خليل وبطولة منة شلبي والوجه الجديد "أمير صلاح" إلي جانب شيرين
ومحمود حميدة وأحمد راتب ورجاء حسين.
ولكن ما يميز "نوارة" عن أفلام الفقراء والمهمشين أنه يعتبر من
أفلام ما بعد ثورة يناير 2011 وتحديداً وكما تقول العناوين "ربيع
2011" أي في توقيت ارتفعت فيه وتيرة الحلم بالتغيير والخلاص من
نظام كان قد شاخ وترهل وترهلت معه وشاخت أجهزته بل وحياة معظم
المصريين حتي بات الأمل في ازاحته بعيد المنال وحين اطلت الثورة
والثوار وامتلأت الميادين ولم يتبدل شيئ.. هكذا ينتهي بنا الفيلم
"!!".
عموماً الفيلم لا يتناول أحداث الثورة ولا الحشود التي زحزحت حكم
مبارك فقط اختار "نوارة" التي لم تشارك فيها ولكنها مثل ملايين من
الفقراء غيرها استبشرت خيراً بخروج مبارك واستسلمت لحلم استعادة
الأموال التي هربها ونصيبها من هذه الأموال!
وبحسبة زمنية سريعة نستطيع القول إن ما نراه علي الشاشة يحدث ابان
حكم المجلس العسكري زمام الحكم ورؤية المخرجة والمؤلفة وتقييمها
لجوهر ما جري من خلال مصير "نوارة" البائسة وما جري "لإسيادها"
الذين ظلت تخدمهم بعد وفاة أمها. وهم: أسامة بك "حميدة" الوزير
السابق والنائب وزوجته شاهندة هانم "شيرين رضا" الذي فروا هاربين
حتي لا يطولهم ما طال غيرهم من أبناء ورجال مبارك.
التاريخ الذي بدأ به الفيلم "ربيع 2011" والحدث المأساوي الذي
أنهاه والذي تعرضت له "نوارة" حيث تم اقتيادها داخل بوكس الشرطة
وفي صحبة أحد أفرادها مع وكيل النيابة اللذين جاءا لمصادرة الفيلا
في غياب سكانها.
وهكذا اختفت آخر نقطة ضوء بالنسبة لـ"نوارة" و للناس المحرومة من
المياه وضاع الحلم بالزواج والخروج من مستنقع الفقر والعلاج من
السرطان.
فهذه النهاية المأساوية لشابة مظلومة طيبة القلب والتي لم ترتكب
اثماً اطاحت حتي بلحظات النشوة الشحيحة التي سرقتها في غباب أهل
الفيلا وقد عاشت فيها كخادمة تأتي في الصباح في ــ ميني باص ــ ضمن
خادمات أخريات يخدمن المحظوظين من سكان المجمع السكني "الكومباوند"
الفاخر ثم تعود في المساء إلي حيث تسكن وسط حصار من الفقر وانعدام
ابسط مقومات الحياة!
بولاق والزمالك
في أفلام الأبيض والأسود لعبت السينما المصرية علي موضوع الهوة
الاجتماعية والاقتصادية الكبيرة التي تفصل بين سكان بولاق
والزمالك.. وقتئذ كان ثمة كوبري يمكن عبوره لكن ما بين "عالم
"نوارة" وعالم السادة الفاسدين سكان الكومباوند بحور عميقة وأسوار
عالية وبوابات حديد وكلاب متوحشة.. وفي تلك الأفلام القديمة لعب
الحب دوراً وشكل جسراً عاطفياً وحل السينمائيون المشكلة الطبقية
بأحكام القلب وقوانينه.
ولكن في هذا العالم الجديد الجبان ولاوحشي لا توجد قلوب. فقط
زنازين وبوابات حديد وعبيد وأسياد وبوكس للشرطة وكلابشات لمساجين
أبرياء ومنهم "نوارة".
المخرجة- المؤلفة وهي من المحظوظين سكان الكومباوند قدمت أحلي
الأوقات وها هي تعود بفيلمها الثالث للكشف عن اسوأ الأوقات وأكثرها
كآبة حسب وجهة نظرها.
التضاد والتماثل
الخيط الرئيسي البارز في نسيج الفيلم وبالذات في نصفه الأول
والأكثر اتساقاً وإحكاماً في هذا التضاد الفج بين الفقراء
والأثرياء.. والمقارنة المتكررة الرئيسية أحياناً بين من يملكون كل
شئ ومن لا يملكون حتي "بق المية" ومن يحلمون بحجرة لها جدران وباب
ومن يمتلكون القصور وحمامات السباجة والسيارات الفارهة وامكانيات
الهروب السريع الي خارج مصر عندما يستشعرون الخطر. أصحاب الجنسيات
المزدوجة الذين لا يحتاجون إلي تأشيرة دخول تعوق هروبهم السريع مثل
أسرة "أسامة بك" وفي الزمن الذي اختارته المخرجة المؤلفة أصبح
الجميع ضمن جرحي الثورة: اللصوص والكلاب والخدم.
تتميز هالة خليل بحساسية وحس اجتماعي يقظ وعين لاقطة تلتقط عشرات
التفاصيل الصغيرة وتعيد صياغتها داخل إطار فني محمل بالدلالات
الاجتماعية المباشرة.. واستخدام عنصر التضاد والتماثل والتدقيق في
رصد ملامح الأمكنة من دون ان تفقدها جوهرها وما تنطوي عليه من
اشارات.
بدا ذلك في التأكيد اللحوح علي الفوارق بين العالمين عالم غارق في
الأبهة والرفاهية واليسر المادي وآخر يصارع من أجل حياة آدمية بين
حياة الكلب "بوتشي" الذي توفرت له وجبات يومية تعدها له "نوارة"
نفسها بحب وفي أوان أنيقة تناسب قيمة الفيلا وأصحابها.. وبين أقراص
الطعمية التي تبيعها الجدة وتعيش علي عائدها علماً بأن خدم السادة
أمثال هؤلاء "سادة".
التشخيص
وبرغم الفوارق يلفت النظر عنصر التشخيص الذي أجده أفضل عناصر
الفيلم وبالذات شخصية "نوارة" التي تبدو طيبة نقية القلب متواكلة
ومتحررة من الحقد حتي قبل انتهاء الفيلم بوقت قصير ودخول "علي"
زوجها الي الفيلا عندما تبدأ الشعور بالحرمان وتتسلم لرغبة علي
وتمنح القصر "شاهندة" وابنتها "خديجة" التي في نفس عمر "نوارة".
الشخصيات في معظمها شخصيات واقعية. "شاهندة" التي تعاني من القلق
وتعش علي المهدئات. رغم حياة الرفاهية. وأسامة بك الثابت ظاهرياً
الحريص علي عدم تسلل المشيب الي رأسه المقاوم لفكرة الهروب حتي
يضطر الي الاستسلام لها قبل ان تطوله تداعيات الثورة.
الشخصية الغريبة والشاذة والمفروضة علي السياق هي شخصية "حسن" شقيق
أسامةالتي ظهرت فجأة بعد هروب شقيقه في مشهد أكشن مفتعل ومثير
يعتدي فيه علي "نوارة" ويقتل الكلب "بوتشي" بالرصاص ويصيح مهدداً
"نحن أسياد البلد وسوف نظل أسياده" في تأكيد مباشر لرؤية المخرجة.
ثورة عبر الإعلام
تجسدت الثورة "صوتياً" عبر أجهزة الإعلام في خلفية المشاهد. ومن
خلال الأخبار السياسية التي تتكرر مراراً في تلك الفترة. فقد رافقت
المشاهد المرئية شريط صوت وصورة علي شاشة التليفزيون لرموز إعلامية
ارتبطت بالثورة مثل: ريم ماجد ودينا عبدالرحمن والضيوف المقررين
حينئذ أمثال عمرو حمزاوي ولم تظهر المظاهرات باستثناء واحدة مصنوعة
يتقدمها الثائر محمد العدل والمخرجة شخصياً هالة خليل التي لملمت
التفاصيل وأعادت إنتاجها بما يوفر حالة جدلية بين ما كان وما جري
وما كان ينتظره الفقراء الذين انتهي بهم الحال إلي مزيد من الإفقار
"!!".
"نوارة"
الشخصية والفيلم بتفاصيله من إفراز حقب متتالية لأنظمة جائزة
ومستبدة و"الربيع" العاصف وثورته في يناير 2011 لا يمكن بديهياً أن
يحقق "لنوارة" ما تصبو إليه في خلال شهور والثورة إذا افترضنا أن
الفيلم عن "ثورة" أو تعليقاً عليها لن تعالج أحوال المستشفيات التي
استعرض الفيلم أحوالها بواقعية شديدة وأحياناً بأسلوب شبه تسجيلي
يكشف عورات اجتماعية نعرفها جميعاً. وباستخدام نماذج ممرضات تجردن
من الإنسانية. وكذلك يرصد نموذج لحالات البطالة التي يعاني منها
"علي" الذي يدير محلاً لإصلاح التليفزيونات ووالده الذي يعاني من
السرطان ولا يجد علاجاً ولا أمل فيه.
إنه "الجحيم" الذي يحرق أي أمل ويتسيد فيه أمثال "حسن" "عباس
أبوالحسن" المستعد للفتك بأمثال "نوارة" وكذلك بتسيد هؤلاء المنوط
بهم تطبيق القانون الذين قبضوا علي "نوارة" في نهاية الفيلم ووضعوا
في يدها الكلابشات.
"نوارة"
الفيلم عمل خال من البهجة وبالتأكيد لم يوفر أي وقت حلو للمشاهدين
لأنه من الأفلام التي تضعنا أمام "حارة سد".
لقد شاهدته في قاعة خالية في سينما رينسانس بأكتوبر. كنت وحدي
تماماً أثناء خروجي سألني مدير السينما: لماذا لا تنجح هذه الأفلام
علي عكس أفلام السبكي؟!.. الإجابة طويلة! ولكن يكفيها أنها تنجح في
المهرجانات أحياناً. فجمهورها ليس الجمهور المصري العاشق لأفلام
السبكي وفيهم عشرات بل آلاف النماذج التي تشبه "نوارة".
الراحة التي تتوفر لأمثالي عند مشاهدة هذا النوع من الأفلام
المحبطة سببها قدرة السينما الوطنية علي إنتاج أفلام محترمة أياً
كان توجهها. والأكثر قدرة الممثل المصري علي المنافسة والأداء
المتميز مثل منة شلبي ومحمود حميدة في دوره المحدود وحتي شيرين رضا
التي وصلت إلي مستوي من الأداء لافت. أيضاً قدرتها علي التجديد
والإضافة وأشير إلي الوجه الجديد "أمير صلاح" في دور "علي" الشاب
النوبي الذي يأتي عن عمد تعزيزاً لفكرة النسيج الواحد لأبناء الوطن
ومعاداة التعصب وهو الأمر الذي يحسب للمخرجة.
وقد سألني المدير أيضاً عن سبب اختيار شاب نوبي ببشرة "سوداء" لهذا
الدور.
لا يمكن إغفال التفوق اللافت في عنصر الموسيقي "ليال ؟؟" التي كانت
تتدخل في توقيت معين من السياق لتعميق المحتوي الشعوري للمشهد
وتأكيد حالات الأسي والشجن أو المرح الشحيح أحياناً أيضاً عنصر
التصوير "زكي عارف" وهي أسماء لم تختزن بعد في الذاكرة ومن الواجب
حفظها.. فالأجيال الجديدة والشابة تجدد الأمل في سينما تحقق
المعادلة الصعبة والتي مازالت صعبة.. وأتمني المصالحة بين الفيلم
الجاد الذي يعالج قضية والجمهور دافع التذكرة الباحث عن البهجة. |