«نوارة»..
طموح الفكرة ومأزق الدراما
محمود عبد الشكور
أحمل تقديرا كبيرا للمخرجة وكاتبة السيناريو هالة خليل، بل إننى لا
أبالغ إذا اعتبرتها ــ هى وكاملة أبو ذكرى ــ من بين أبرز أسماء
مخرجى ومخرجات السينما المصرية خلال السنوات الأخيرة، ورغم أن
أعمالهما السينمائية معدودة، فإنها كافية لكى تؤشر إلى مواهب كبيرة
امتزجت بالوعى وإلى طموح واضح لا تنقصه مهارة الحرفة.
قدمت هالة خليل فيلمين روائيين طويلين يسبقان فيلمها الجديد «نوارة»؛
هما «أحلى الأوقات»، و«قص ولزق»، امتازا برصد التغيرات الاجتماعية
والاقتصادية، ولكن من خلال تفاصيل إنسانية بسيطة وعميقة معا،
وبنظرة متعاطفة للإنسان والمكان، كان الوعى واضحا، ولكن عبر الفن،
وبأدوات الفنان.
أما تجربة «نوارة» فإننى أعتبرها مهمة ومختلفة، ولكن هناك مشكلات
أساسية فى السيناريو، جعلت الدراما أقل بكثير من الفكرة. أشياءٌ
كثيرةٌ لم أبتلعها فى «نوارة» أفسدت تكامل التجربة، ونغصت على متعة
المشاهدة.
ليس سؤال فيلم «نوارة» هو: ما الذى فعلته ثورة يناير للفقراء
والغلابة؟ فالأحداث تدور زمنيا فى ربيع 2011، أى أن الثورة كانت لا
تزال فى شهورها الأولى، وهى فترة مضطربة لم تستقر فيها الأمور بعد،
لذلك أقول إن سؤال الفيلم الصحيح هو: ما الذى كان يتوقعه الغلابة
والفقراء من الثورة أو من أى تغيير؟ وهو سؤال مفتوح بل وراهن أيضا.
علاقة «الناس اللى تحت» بثورة طالبت بالعيش والعدالة الإجتماعية لم
تكن غائبة عن فيلمين مهمين عن ثورة يناير سبقا «نوارة» هما «بعد
الموقعة» ليسرى نصر الله، و«فرش وغطا» لأحمد عبدالله السيد، الفيلم
الأول يحلل لماذا حاول بعض البسطاء اقتحام ميدان التحرير لقتل ثورة
قامت من أجلهم، والثانى يبحث عن حقوق الإنسان عموما، وحقوق الإنسان
الفقير خصوصا، وسط مولد الثورة.
«نوارة»
يبدأ بالمقارنة المعتادة بين مصرين مختلفتين تماما، أو كما قال
عادل إمام فى «طيور الظلام» لوحيد حامد: «البلد دى اللى يشوفها من
فوق غير اللى يشوفها من تحت». من «تحت» سنشاهد نوارة (منة شلبى)
الخادمة البسيطة، وزوجها على (أمير صلاح الدين)، وجدتها البسيطة
توحة (رجاء حسين)، ووالد «على» الذى لا يجد مكانا فى المستشفى
لإجراء عملية، كلهم يعيشون فى منطقة تفتقد إلى المرافق والمياه،
تغزوها التكاتك، وترفع شعار الصبر، «نوارة» نفسها لا تجد شقة لكى
تضمها مع «على»، بعد سنوات خمس من كتب الكتاب.
من «فوق» سنشاهد أسرة رجل الأعمال أسامة (محمود حميدة)، وزوجته
شاهندة (شيرين رضا)، وابنتهما خديجة، يعيشون حياة مرفهة فى قصر
منيف، ولكنهم يعانون من القلق والخوف بعد الثورة، لا يخرجون خوفا
من الخطف، ويفكرون فى الهروب إلى لندن، خوفا من المساءلة والتحفظ
على الأموال.
هذا الجزء الذى تنتقل فيه «نوارة» بين منطقتها الفقيرة والقصر الذى
تعمل به، هو أفضل أجزاء الفيلم، رغم ما يشوبه من حوارات طويلة،
ورغم ذلك التكرار المستمر من خلال شريط الصوت؛ لأن الغلابة مهتمون
بالحصول على الأموال التى وضعها مبارك فى بنوك سويسرا. تكرر دوما
بشكل مزعج، أن كل شخص يحلم بالحصول على 200 ألف جنيه.
الحقيقة أن مشاهد الفيلم بنيت عموما بطريقة مشاهد المسلسلات
الطويلة، مما أثر على إيقاع السرد، الذى سرعان ما تعرض لاختبار
أصعب، وذلك عندما غادرت أسرة رجل الأعمال إلى لندن، فأوكلت شاهندة
مهمة الحفاظ على القصر إلى نوارة الفقيرة، ومعها عم عبدالله (أحمد
راتب) سايس السيارات.
منذ تلك اللحظة وضحت ثغرات الدراما: هل يعقل أن يكون هناك قصر منيف
بدون حارس واحد اكتفاء بكلب؟ وهل يكفى أن تكون نوارة مسئولة عن هذا
المكان الشاسع وفى ظروف اضطرابات عاصفة لمجرد أنها ابنة خادمة
الأسرة وجاءت للعمل فى سن صغيرة؟ منذ تلك اللحظة بدأ التعسف فى وضع
نوارة بمفردها تقريبا داخل القصر، إذ اكتفى عم عبدالله بغسل
السيارات، وتناول الشاى.
العجيب أن علاقة نوارة بالكلب بوتشى كانت أكثر ثراء وعمقا واتساقا
مقارنة بعلاقتها بزوجها «على»، فالرجل يكرر زيارتها، يرغب ذات مرة
فى ممارسة حقوقه معها فى القصر، يسرق ساعة ثمينة، ثم يعيدها، أما
هى فترفض أن تدخله القصر مرة، ثم ترفض أن ينالها كزوجة، ثم تستسلم
له تماما، دون أن نفهم سر هذه التقلبات.
أرادت هالة خليل على الأرجح أن تصنع صراعا يدفع الأحداث إلى
الأمام، ولكنها تناست أن طرف الصراع الأصلى غير موجود، وهو الأسرة
التى اختفت فى لندن، ما رأيناه هو صراع بديل مصطنع ومضطرب للغاية،
وزاد من اضطرابه موافقة نوارة على أن تعيش حياتها أخيرا كزوجة مع
«على» فى القصر، بينما كانت تنافس بوتشى منذ قليل فى الوفاء للأسرة
الغائبة، وفى الالتزام بتعليمات شاهندة.
يريد «على» عشرة آلاف جنيه لإنقاذ حياة والده بعملية، ويريد شقة
يمارس فيها واجباته كزوج، ستندهش أن يتم ذلك فجأة من خلال هبة
تقدمها شاهندة تليفونيا لنوارة كهدية زواج متأخرة (الزواج تم منذ
خمس سنوات). هكذا ببساطة ينقذ الأغنياء الفقراء تخلصا من الصداع.
ولكن الفيلم يريد أن يقول إن «قليل البخت فى الحارة هو نفسه قليل
البخت فى الكومباوند»، لذلك يجهز السيناريو كارثتين متتاليتين:
اقتحام شقيق أسامة الضابط للقصر، فيضرب نوارة فى صباحية شهر عسلها،
ثم يقتل الكلب بوتشى بالرصاص، وتكون المفاجأة الأخيرة بالتحفظ على
قصر أسامة، ومصادرة أمواله، والقبض على نوارة بتهمة سرقة 20 ألف
جنيه.
لم يكن الفيلم فى حاجة إلى كل ذلك، لسبب بسيط هو أن مشكلة الغلابة
الذين رأيناهم فى الحارة تتجاوز العشرين ألف جنيه، ولا يمكن بالقطع
أن يكون حلها بالهبات التليفونية، وبالذات بعد حديث الثورة
والانحياز لها، إنه حل لا يختلف كثيرا عن الحلم الساذج بأن يحصل كل
مصرى على 200 ألف جنيه (كاش) من أموال مبارك فى سويسرا.
حاول الفيلم أن يقول إن الغلابة مسحوقون ومطاردون ومنحوسون فى عصر
مبارك وبعده، ولكن الدراما خذلت الفكرة، أو بمعنى أدق لم تكن فى
قوتها، ولعل من الأمور اللافتة أن نوارة تقول إنها لم تنزل
التحرير، ولكنها فرحت بسقوط مبارك، طالما أن أحوال الفقراء ستتغير،
فإذا كانت نوارة ممثلة الغلابة لم تشارك، وإذا كان الأغنياء بالطبع
لم يقوموا بالثورة، فمن يا ترى الذى فعلها؟!!
إجابة هذا السؤال فى صميم معنى الفيلم؛ لأن الفئات التى قامت
بالثورة، هى التى ستعمل بالقطع على تحقيق مصالحها. هنا تبدو القضية
أعقد بكثير من حكاية نوارة البسيطة، والتى يتم التعبير عنها أحيانا
بشكل مباشر، مثل فتح الطريق لسيارة إسعاف وسط مظاهرة، باعتبار أن
ذلك هو التطبيق العملى لشعارت الثورة فى خدمة الغلابة.
منة شلبى كانت رائعة، ومحمود حميدة فى أفضل حالاته، وأمير صلاح
الدين اكتشاف عظيم فى دور «على»، وصورة زكى عارف نقلت لنا بقوة
حياة صادقة لعالمين مختلفين، وستايلست الفيلم «ريم العدل» مميزة
ومتفوقة.
مشكلة فيلم «نوارة» أن الإخراج والتصوير والتشخيص كانوا جميعا أقوى
من الدراما. |