لم أكن بحاجة، ولكنها مؤسستي، وما أفخر به أنني درست على حسابي ولا
فضل لأحد علي، ولم أوفد مرة واحدة إلى مهرجان، ولم أكافأ ، ليس لي
تقاعد ولا ضمان صحي.. وبالرغم من كذب إعلان مدير عام المؤسسة عن
دعوته لي لصنع أفلام للمؤسسة، وهذا لم يحصل أبداً، ولديهم في
المؤسسة ثلاثة سيناريوهات لي منذ سبع سنوات لم تقرأ، فأقول له الآن
إنني لن أعمل مع المؤسسة بأي شكل من الأشكال ولست بحاجة إلى ذلك
أبداً. ولن أمنح هذه الإدارة شرف التعامل معي.
التمويل الخارجي
عملية الاستبعاد قلصت قناعة الآخرين بنا وخاصة المنتج السوري. ولكن
تأتينا العروض من الخارج، وأنا ضمن مشروعي لا أحب التعامل مع
التمويل الخارجي وعندما صنعت فيلم «وليمة صيد»، وهو إنتاج بريطاني
وسيخرج إلى الجمهور على أنه بريطاني ولكن هذا ليس ضمن مشروعي
الثقافي السوري.
·
وهل يتعارض التمويل مع مشروع ثقافي سوري؟
أفضل أن أتعامل مع مشكلة وموضوع وهمّ وتمويل سوري. إنها مسؤولية
وطنية سورية. أنا صاحب مشروع وأنا من بناته الأولين، ولكن لست ضد
أن يعمل الاخرون بتمويل أجنبي. حتى الآن الأسماء المشهر بها هي
الوحيدة المطلوبة في الجامعات ومراكز الأبحاث والنوادي السينمائية
حول العالم، والوحيدة المعروفة في السينما السورية.
وفيلم مثل الكومبارس هو ضمن المنهج المدرسي بكلية السينما بجامعة
ديوك في أميركا.
·
أين مشكلة التمويل؟ محمد ملص عمل فيلم «الليل» وجزء منه بتمويل
فرنسي وبقي مع ذلك فيلماً سورياً؟
هذه حالة فردية. أفضل أن أعمل فيلماً سورياً تماماً مع احترامي لكل
المحاولات. لا أحب الاتكاء على شيء.
بعيداً عن القضية
·
عملت مجموعة كبيرة من الأفلام التسجيلية إلى جانب أعمالك الروائية،
في أي سياق تضعها؟
لعلك تلاحظ أنه يبدو وكأن الفيلم الروائي الطويل مفتاح السينمائيين
السوريين. أتعجب من عدم اهتمامهم بالشأن العام عبر الفيلم
الوثــائقي. الموقف هو واحد لا يتجزأ، أنا عندما لا أصنع فيلماً
طويلاً أصنع أفلاماً تعنيني وتعني مجتمعي.
هناك شيء أعتبره من أهم منجزات حياتي، رغم ما يقال إن منجزي هو
بالأفلام الطويلة، ولكن من يعرف مسيرتي يرى أن اهتمامي بالشأن
العام الإنساني والمجتمعي والسياسي أكبر، وأعتــبر نفسي من
المجددين، ولي بصمات واضحة في تقديم ابتكارات بالشــكل والتعبير،
وكان هذا متاحاً بالأفلام القصيــرة والتجــريبية لأنها تحتمل
المغامرة.
أحب أن أرى الأشياء التي أحبها في سوريا، ولكن لدي كم كبير من
الأفلام عن الأشياء التي لا أحبها في سوريا، فأنا لست مروجاً. مع
الأسف ليس هناك تأريخ للمنجز السينمائي في سوريا وكذلك لا توثيق
لشغلي. مهرجان السينما على مدى تاريخه أصدر أكثر من 200 كتاب ولم
ينتج كتاباً واحداً تحليلياً وحقيقياً بكتابة مسؤولة عن السينما
السورية. صرنا نعرف ماذا يجري في الكونغو لكننا لا نعرف ماذا يجري
في سوريا.
ما حصل في سوريا أن هناك فصلاً بين المشروع الثقافي، الذي يحمله
عدد من السينمائيين السوريين، وبين المشاريع الشخصية المتناثرة،
والتي لسوء الحظ لم تترك بصمة سينمائية أو ثقافية، وهذا يعود بنا
إلى ما يسمى حرفة فن السلطة والإبداع. هذا هو الفرق.
·
لكن بعــض أفلامــك التسجيلــية كــان ممولاً بأموال رسمية؟
لا أنكر أن مجموعة من الأفلام الإبداعية الجيدة كانت منتجة بأموال
رسمية، وهذا يعطي فخراً للجهة المنتجة. وكان من أجمل ما أنجزت في
السنوات الخمس الأخيرة مجموعة من الأفلام الوثائقية لمصلحة «الهيئة
السورية لشؤون الأسرة»، التي تناولتُ فيها المرأة، المجتمع،
الهجرة، الطفل، تزايد السكان، بأفلام فيها مسؤولية وطنية وهامش
إبداعي. عدد هذه الأفلام يتجاوز 17 فيلماً. بالإضافة إلى حوالى 50
سبوت عن مواضيع ساخنة وحقيقية. هذا يقودنا للتساؤل عما يشغل بال
السينمائيين؛ أنا أعرف أن شروط إنتاج فيلم روائي طويل في مؤسسة
السينما معقدة ومشخصنة وتخضع لشرط إعجازي من التنازلات، خاصة لأن
القرار فيها قد يعود إلى شخص واحد مشكوك في الأساس بمشروعية مشروعه
ومشروعية وجوده على رأس المؤسسة، وبالتالي جاءت الأفلام على قياسه.
«الهيئة» كان لديها مشروع واضح على المستويين المجتمعي والثقافي،
كما لديها الجرأة والشجاعة للدخول ومعالجة وفهم القضايا المجتمعية
من دون تلفيق أو تزوير، وأنا وجدت هناك المساحة الإبداعية المسؤولة
إلى حد بعيد جداً، وهذا ما ساعد على صنع مجموعة من الأفلام التي
أفخر بها.
نحن نعيش في عالم مكشوف في عالم الرقميات والإنترنت. وبصراحة، بعكس
الكثير من المسؤولين، أنا لا أخجل من موقعنا وترتيبنا وتصنيفنا في
تقرير التنمية البشرية الصادر عن الأمم المتحدة. لا أخجل من أن
لدينا فقراً وبطالة، ولكنني أخجل أن أكذب وأن أصبغ الحقائق الحزينة
بألوان زاهية، أنا أفخر اليوم بأن السلطة لا تحاول أن تخدع نفسها
وتخدع الآخرين بل إنها تحاول أن تجابه بشجاعة كل المعوقات التي تقف
في وجه ارتقائنا. وهذا هو دور السينما، لا نستطيع أن نغير إلا
بالمعرفة. والمؤسف أن دور مؤسسة السينما كان سلبياً في هذا الجانب،
كان سلبياً في وعي أن أهم منتج لدينا هو الثقافة، وهي إبداع وشجاعة
ورؤيا، ومن حسن الحظ أن هذه العناصر تحققت في الفنون الأخرى.
أفلام تسجيلية
·
من الواضح أنك لم تعان من رقابة عندما صنعت أفلامك التسجيلية، في
حين يعاني آخرون؟
عليّ أن أعترف أن كثيراً من هذه الأفلام لم يعرض.
·
لماذا أردت أن تنأى بالفيلم التسجيلي عن موضوع القضية الفلسطينية؟
ابتعدت عن موضوع القضية الفلسطينية في الفيلم التسجيلي مع أنني أول
من عالج القضية الفلسطينية في «إكليل الشوك» و«رجال تحت الشمس» و«نابالم»،
لكننا لا نستطيع اللحاق بمستجدات القضية الفلسطينية في السينما،
وواحدة من الأشياء التي جعلتني أبتعد هو هذا الشرخ القاتل داخل
الفلسطينيين، فبعد أن كنا نتحدث عن النضال الوطني الفلسطيني أصبحنا
نتحدث عن الصراع الفلسطيني الفلسطيني.أنا لا أفهم كيف يمكن الحديث
عن فلسطين وأنا أرى أمامي في الحين نفسه أن المشروع الصهيوني يتحقق
يوماً بعد يوم على يد العرب، ليس بفضل ذكاء الإسرائيليين بل بفضل
غبائنا.
·
ماذا حذف من أفلامك؟
لا أنسى ما تعرض له فيلم «الفهد»، الذي منع من التصوير قبل أسبوع
واحد من الموعد المحدد عام 1969، ولم نعد إليه إلا عام 1971. كذلك
جاءت إدارة للمؤسسة ومنعت فيلم «السيد التقدمي» ولم يعرض إلا بعد
ذهاب المدير، لأنه بشكل ما كان يشير إلى شخصية فاسدة معروفة. ثم
قطع ربع ساعة من «بقايا صور»، وحرق فيلم «المدرسة» وهو ما يمكن
تسميته بالوثائقي النقي، ولم أتدخل فيه بكلمة.
ما أتمناه الآن إطلاق الأفلام التي أنتجتها لصالح «الهيئة السورية
لشؤون الأسرة»، مثل «شهرزاد»، «ضوء معاكس»، «الكريستال المقدس»، «ع
الشام»، ومجموعة من أفلام العنف ضد المرأة.
تمنيات
·
ماذا تفعل لو كنت مديراً لمؤسسة السينما؟
هذا ما لا أريده حتماً حتى للعدو، ولكن لو حدث لفكرت بطريقة
استراتيجية. أولاً أن أعيد المشاهدين إلى الصالات، وأعتقد أنني
سأصرف على صالات سينمائية صغيرة في مختلف الأحياء، وأعيد الطقس
السينمائي للمجتمع بدلاً مما يصرف على مهرجان دمشق السينمائي، الذي
لا أنكر أهميته، ولكن الصالات أهم، فهي باقية لنا. وبالمناسبة منذ
أيام فقط افتتح مهرجان للسينما في موريتانيا وعرض فيه 60 فيلماً،
من بينها 48 فيلماً موريتانياً.
ثانياً أتوقف عن استجداء التمويل، وأقترح قانوناً يفرض على الشركات
الخاصة والعامة أن تدفع جزءاً من ضرائبها كتمويل لصندوق ثقافي عام،
الأمر الذي هو مفتاح نجاح السينما الأوروبية والأميركية.
ثالثا أفكر بشكل استراتيجي بجيل جديد من السينمائيين، فلقد استطاع
القطاع الخاص عبر الدراما أن يرتقي بأسماء شابة هامة، مثل الليث
حجو، سامر برقاوي، المثنى صبح، وغيرهم.
رابعاً أحدد سقفاً قدره 15 مليون ليرة وأطلب من السينمائيين التقدم
بمشاريع في إطار هذه الميزانية، وبذلك يتم إنتاج أكبر عدد ممكن من
الأفلام.
خامساً ألغي القوائم السوداء والحمراء والخضراء من منظومة العمل،
وأسعى لأن تبقى السينما بأفلامها الطويلة والقصيرة مساحة حرية
وشجاعة وابتكار في الشكل والمضمون.
سابعاً العمل على تصدير الثقافة من سوريا، والتعامل معها كصناعة
استراتيجية، مثل السياحة.
ثامناً أن لا أكذب، حيث البعض يكذب جيئة وذهاباً.
·
باعتبارك أشرت إلى أسماء تلفزيونية، ألا تجد أن هناك جيلاً من
السينمائيين الشباب يمكن أن يشار إليه؟
هناك أسماء مثل سامر برقاوي، وألفوز طنجور، ونضال حسن.. وأسماء
أخرى لا أتذكرها الآن، وهناك بالتأكيد مواهب خفية لم تتح لها
الفرصة ولا الحرية. أكبر جريمة يمكن أن نرتكبها حيال المبدعين
الشجعان هي أن نقولبهم. صناع المشاريع الكبرى يتعاملون مع أصحاب
الأفكار الكبرى وهذا ما لا يحصل غالباً.
أفلام منفصلة
·
ماذا تحب من الأفلام السورية؟
سؤال محرج جداً. لأنني قد أحب أشياء فيها، ولا يعني ذلك بالضرورة
أن أحبها بكاملها.
أما الفيلم الذي أشعر بأنه ظلم فعلاً فهو فيلم «اليازرلي» لقيس
الزبيدي، يعجبني كفيلم بكامله، أما البقية فأحب منها أجزاء ومشاهد.
مثلاً مقاطع من «رسائل شفهية»، ومن «أحلام المدينة» ومن «نجوم
النهار».
قصص كافكا
·
سبق أن أعلنت موت السينما في سوريا؟ فهل المؤسسة وحدها المسؤولة؟
لا، ولكن طالما أنها المرجعية فأي أحد لديه فيلم سيذهب إليها. لو
كان لدينا صندوق وطني للسينما خارج عن الرقابات التقليدية
والجماليات الرسمية يملك الحرية والشجاعة لاختلفت الأمور بشكل
جذري.
المحزن في القضية كلها أنني عندما أنظر 40 سنة من العمل أكتشف أن
السينما هي الفن الوحيد الذي وصل إلى ما وصلت إليه اليوم بينما
ارتقت كل الفنون الأخرى بشكل تصاعدي مدهش سواء في الدراما،
الموسيقى والفن التشكيلي، وهذا مؤشر إلى أن هناك خطأ ما، وهو موزع
على طرفين؛ إذا كانت هناك عشر سنوات من الفشل فلا يمكن أن نحملها
للأفراد، فكل السينمائيين حالمون يحاولون أفضل ما لديهم، يتبعون
ويبحثون ولكن قد تختلف النتائج تبعاً للموهبة والطموح والرؤية.
إذاً هنالك خطأ في المنظومة. لماذا نجحت الدراما التلفزيونية
السورية، وكذلك الموسيقيون، التشكيليون؟ لأنهم بالكامل يعملون بدون
عملية الوصاية، كل فنان يعمل بشكل فردي، والمحصلة منتج ثقافي ارتقى
بصورة سوريا وصنع نوعاً من التنافس الخلاق والمجزي.
·
أنجزت هذا الكم من الأفلام في الوقت الذي لم يعمل أكثر المخرجين
السوريين نشاطاً سوى بضعة أفلام؟
أنا نشيط ولا أتوقف عن العمل، وعندما لا أجد جهة منتجة أخرج
بالكاميرا لوحدي بيدي وأصور أفلاماً. أعرف كيف أصنعها ولا أعرف كيف
أسوقها، ولا أن أسوق نفسي.
لكنني في النهاية لا أريد إطلاقاً شخصنة الأمور، فأنا أتحدث عن
حالة وطنية عامة. ما أزعجني وجرحني فعلياً هو أنه عندما كان البعض
يشهرون لم يقف المثقفون ولا الصحافة، ولم ينبر أحد لنقد أو كشف هذه
الحالة العوجاء والمشوهة، في ما عدا قلة ممن نشروا خارج الوطن.
أشعر بأن الجميع قد باعنا وباع نفسه. فجأة اكتشفت، بالإضافة إلى
إحساسي بالخيانة من الوسط الثقافي الذي لم يتخذ موقفاً شريفاً
وقبِل كلام محمد الأحمد وتركه على غاربه، أكتشف أن لا أحد لي في
البلد. اكتشفت أنني أعزل، ليس ورائي لا مسؤول ولا ضابط ولا مثقف،
وكنت أعتقد أن تاريخي يمنحني الحصانة. ولكني في محيط يشبه قصص
كافكا فيه الكثير من اللامعقول والنتن.
أحزنني أكثر أنني أشعر أنني في مرحلة من تاريخ سوريا فيها محاولة
لتصحيح الأخطاء المتراكمة وصنع دولة عصرية، وأنا أريد أن أكون
جزءاً من هذا الارتقاء ولكن حكم علي بالشلل، وهم مدينون لي بعشر
سنوات لا أعرف كيف أستعيدها.
(دمشق)
حوار مع المخرج السوري نبيل المالح من أرشيف "السفير"، نشر بتاريخ
3 كانون الأول 2010، ويعاد نشره بمناسبة وفاة المالح اليوم
الأربعاء، في 24 شباط 2016، عن عمر 78 عاما.