فيلم 'كومبارس' يؤكد أن مخرجه لم يعش حياته كـ'كومبارس'
العرب/ علي العائد
يموت سالم في فيلم “الكومبارس” للمخرج السوري الراحل نبيل المالح،
حسب طلب مخرج المسرحيات التي اختص فيها بأدوار الكومبارس، كما يموت
الآلاف يوميا وهم على قيد الحياة بين دراسة في الجامعة، وعمل في “كازية”،
واشتغال ككومبارس في المسرح القومي.
نستحضر فيلم “الكومبارس” للمخرج السوري الراحل نبيل المالح تعبيرا
عن صدمة الموت التي هزت مشاعرنا حين فارقنا مؤخرا دون أن يرى سوريا
المستقبل التي حلم بها، وبعيدا عنها، حيث يأتي الموت في الفيلم
كمفردة تتكرر -وليست هي المركزية- إلاّ كمعادل للخوف الذي لم يذكر
على لسان سالم (بسام كوسا)، وندى (سمر سامي)، لكنه يبرز في كل لقطة
من لقطات فيلم “الكومبارس” (إنتاج المؤسسة العامة للسينما سنة
1993)، العمل الأشهر للمالح الذي توفي، الأربعاء 24 فبراير الماضي،
في دبي بالإمارات العربية المتحدة، ودُفن فيها.
يعيش سالم في الفيلم حياة كومبارس، مثل ملايين الشباب العرب، لكنه
أُجبر أيضا على أن يحلم مثل كومبارس، وهو طالب بكلية الحقوق يقضي
فيها ما يتبقى له من وقت بعد كل انشغالاته، يتأتئ في الكلام، لكنه
يجد فسحة للتفكير في الخروج من فقره وفقر أسرته التي يعيش أفرادها
السبعة في شقة من غرفتين.
علاقة سالم بندى لم يرسم لنشأتها المالح مسارا في السيناريو، هما
يعرفان بعضهما مسبقا، وكانا يلتقيان في الحدائق والشوارع، لكنهما
في الفيلم يلتقيان لأول مرة تحت سقف وبين جدران يُفترض لها أن تحمي
خصوصيتهما.
سالم وندى خائفان من جسديهما، فهو جديد على عالم المرأة، إلاّ من
الصور التي تمثُل في خيالاته أو في المجلات الجنسية التي يخبئها
تحت وسادته، بينما تبدو ندى كامرأة مطلقة في مجتمع شرقي خائفة من
الجنس، كما ينبغي لمثيلاتها، وخوفهما هذا يتعدّى كذلك إلى رقابة
المجتمع عموما والأهل خصوصا، الخوف من العار الذي لم تهدّئه حتى
فكرة سالم أن تردّد ندى وراءه “زوَّجتك نفسي.. على الصداق
المسمى…”.
تتشابك خطوط الفيلم بكثافة، فالفقر قمع، والخوف قمع، والكبت قمع،
ورجال الأمن عنوان لكل أنواع الخوف والقمع.
المعادل السياسي طاغ في الفيلم، رغم أن المالح حاول المزاوجة بينه
وبين معادل فني، في حدود ما تتيحه ميزانية متقشفة للفيلم يبررها
الحديث عن الفقر
يخلي عادل، صديق سالم، شقته لساعتين كي يلتقي فيها سالم بندى. جار
عادل الذي يعرفه سالم موسيقي أعمى متهم بمعرفة شخص مطلوب من الأمن،
ويصادف أن يبحث رجال الأمن عن الأعمى في نفس الوقت الذي يتزامن فيه
وجود سالم وندى بالشقة، وعند القبض على الأعمى، كان رجاؤه فقط ألّا
يهينوه، فطلب من سالم أن يتوسط له عند رجال الأمن لأجل ذلك، لكن في
النهاية يعتقل ويهان، وتلحق الإهانة بسالم كذلك أمام حبيبته.
لم يكن سالم متأكدا من اكتشاف ندى لما تعرض له من رجال الأمن، خاصة
أنها حاولت أن توهمه بأنها لم تر المخبر وهو يصفعه عندما حاول
التدخل لصالح الجار الموسيقي.
ثيمة الكومبارس عند المالح مختزنة في ذاكرتين؛ ذاكرة شخصية لكونه
سافر في الستينات إلى تشيكوسلوفاكيا قصد دراسة الفيزياء النووية،
فصادف أن لعب دور كومبارس في فيلم تشيكي، اكتشف من خلاله عالم
التمثيل، فدرس الإخراج السينمائي بدلا من الفيزياء. وذاكرة عامة
لكونه يعيش في العالم العربي المبتلى بالدكتاتوريات التي حوّلت كلّ
شعب من شعوبها كتلة وأفرادا إلى كومبارس.
حاول المالح في سيناريو الفيلم أن يقول إن عوامل عديدة تجعل من
المواطن السوري كومبارس؛ تبدأ بالفقر وتنتهي به، فالفقير عاجز عن
التقرب من السلطة إلاّ كمخبر، وعاجز عن الابتعاد عنها لأنها ابتلعت
دولته ومجتمعه، وبالتأكيد لا يستطيع أن يتحالف معها لكونه لا يملك
المال الذي يبادله بسلطة ممنوحة من السلطة. أراد نبيل المالح أن
يقول كل ذلك وأكثر، فالفقير عاجز حتى أن يحبّ كما يريد، ولذلك ليس
أمامه سوى تأسيس أسرة، ليتناسل وينجب “كومبارسات” تعيش في ظل
السلطة.
المعادل السياسي طاغ في الفيلم، رغم أن المالح حاول المزاوجة بينه
وبين معادل فني، في حدود ما تتيحه ميزانية متقشفة للفيلم يبررها
الحديث عن الفقر، حتى أن الكاميرا لم تخرج من شقة في بناية مؤلفة
من عشرة طوابق، لكن العالم الخارجي كان يرسل أصواته إلى العشيقين
المذعورين من كل ما هو آت من خارج جدران الشقة. وينتمي المالح إلى
الجيل الذي تأثر بالأفكار الاشتراكية، وواقعيتها التي توظف الأسماء
في الأدب والفن لخدمة الفكرة، ومن المستبعد أن يكون اسم سالم في
لقطة الشاهد من دون توظيف، حين لم يسلم سالم من صفعة المخبر،
وصديقه عادل، طالب الهندسة، يعيش في بيت قذر وفي منتهى الفوضى.
ربما كان اسم ندى غير واضح التوظيف، لكن دموعها التي حبستها قهرا
على حبيبها الذي شردت الصفعة رجولته أمامها تجعل من توظيفنا غير
تعسفي بالضرورة، فندى هنا حاولت جبر عثرة حبيبها سالم، كما جبرت
نساء كثيرات في شرق المتوسط والعراق عثرات أحبائهن وأزواجهن
وأبنائهن، عندما حاول عسس الدكتاتور اغتيال كرامة هؤلاء.
حاول المالح ألاّ يعيش حياته كـ“كومبارس”، فقدّم أكثر من 150 فيلما
روائيا وقصيرا وتسجيليا، عدا مشاريع كثيرة كانت جاهزة للتنفيذ،
لكنه مات قبل أن يرى سوريا المستقبل التي حلم بها، وبعيدا عنها. |