لابد من الإقرار بأن المخرج الأميركي أليكس غيبني ينتقي ثيمات
حسّاسة لأفلامه الوثائقية التي لا تدور في فلك الموضوعات السائدة،
فثمة شيء مختلف على الدوام، ليس على صعيد المعلومات حسب وإنما على
صعيدي المعالجة والرؤية الإخراجية. ولعل فيلم "ستيف جوبز: الرجل في
الآلة" هو دليل دامغ يؤكد صحة ما نذهب إليه.
كثيرة هي الكتب والروايات والسِيّر التي صدرت عن حياة ستيف جوبز
بوصفه شخصًا حالمًا، ومُخترعًا، وعبقريًا، وباحثًا عن الكمال.
وكثيرة أيضًا هي الأفلام التي تناولت نجاحاته واخفاقاته ورحيله
المفجع الذي هزّ الملايين من محبّيه في الجهات الأربع من كوكبنا
الأرضي الذي أصبح قرية كونية صغيرة بفضل جوبز وسواه من العباقرة
المنهمكين في علم الإليكترونيات الساحر، وتكنولوجيا المعلومات
المذهلة.
تتبّع غيبني ولع جوبز بالإليكترونيات منذ طفولته وصباه، ثم عرّج
على مرحلة شبابه حينما اخترع أول شريحة إليكترونية تؤكد شغفه بهذا
العلم الذي ينطوي على أسرار كبيرة لم تعد غامضة بالنسبة إليه فأخذ
يفكر بأول كومبيوتر شخصي محمول بدلاً من الكومبيوترات الضخمة التي
لم تُثر إلاّ شهية المختصين. لم يترك غيبني أيًا من مخترعات جوبز
التي أنتج معظمها مع مبتكرين ومصممين آخرين إلاّ وتوقف عندها خلال
مدة الفيلم الطويلة التي تجاوزت الساعتين بثماني دقائق فتعرفنا على
Apple 1،
و
Apple 2،
ونظام ماكنتوش، والآي بود، والآي فون، والآي باد قبل أن يُصاب
بسرطان البنكرياس ويخضع لعملية جراحية لم تستطع القضاء على هذا
المرض الغامض ففارق الحياة عن 56عاما.
ركّز غيبني على الجوانب الإيجابية في حياة جوبز لكنه لم يهمل
الجوانب السلبية في حياة هذا المُخترع المبدع فهو بالنتيجة كائن
بشري ضعيف لا يصمد أمام مغريات الحياة على الرغم من محاولته
المستميته في الوصول إلى الصفاء الروحي الذي ينشدهُ البوذيون
تحديدًا، فقد تحوّل جوبز إلى البوذية وظل مُعتنقًا لها حتى وفاته
لكنه لم يفلح في القضاء على حُب الشهوات ولم ينتصر على أناه
المتضخمة التي كانت تختطفهُ دائمًا من دروب الاستنارة الروحية.
يمكن الاستدلال على نجاح أي فيلم وثائقي إذا توفر على آلية "الرأي
والرأي والآخر" والمتلقي في هذه الحالة لا ينظر إلى نصف الكأس
المملوءة فقط وإنما يتوجب عليه أن يتطلع إلى النصف الفارغة التي
يقول فيها المخرج كل ما هو محجوب أو مسكوت عنه، أو مغيّب عن قصد.
لعل أبرز ما يتبادر إلى ذهن المُشاهد هي الاختراعات والإنجازات
العلمية التي حققها جوبز مع عدد غير قليل من أصدقائه المُبتكرين
والمهندسين والمصممين الذين عملوا معه في شركات أبل وبيكسار ونيكست
وتعاملوا معه كشخص مثالي لكن واقع الحال يكشف بأنه كان مُدمنًا على
تعاطي المخدرات التي تسبب الهلوسة، وتثير الإحساس بجنون العَظَمة.
لم يتورع جوبز عن الكذب والاحتيال فلقد خدع صديقه المقرّب جدًا
وزينياك عندما كان يعمل في شركة "أتاري" التي أبرم معها عقدًا
قيمته 5000 آلاف دولار لكنه ادعّى أن قيمة العقد هي 700 دولار
فكانت حصة وزينياك هي 350 دولار لا غير، وقد اكتشف هذه الخدعة بعد
عشر سنوات!
لم يعترف جوبز بأبوّته لابنته الأولى "ليزا" التي أنجبتها صديقته
كريسان برينان عام 1978 فقد تخلّى عنها لسنوات طويلة قبل أن يعترف
لها بإبوّته البيولوجية.
لا يجد جوبز ضيرًا في مخالفته للقوانين المتبعة فهو يُوقف سيارته
الشخصية في الأمكنة المخصصة لذوي الاحتياجات الخاصة. وإذا كان
الضرر محدودًا في مثل هذه التجاوزات الشخصية فإن المتلقين لهذا
الفيلم لا يمكن أن يغفروا له الانتهاكات الصارخة لشركة أبل في
الصين، والظروف السيئة للعاملين فيها بسبب جشعه واستغلاله اللذين
أفضيا إلى العديد من الكوارث التي لا تغادر ذاكرة المتلقي أبدا.
لم يُشر جوبز إلى سرقة أفكار وتجارب المخترعين والمصممين في
الشركات الأخرى إلا لماما لأنه لم يكن يؤمن بمبدأ الأمانة العلمية
التي تحترم حقوق الآخرين، وتحافظ عليها من اللصوص، وسرّاق الأفكار
الذين يقترفون جرائمهم في رابعة النهار من دون خجل أو وجل.
الغريب في الأمر أن جوبز قد كذّب حتى في مرضه، فحينما كشف له
الطبيب أنه مُصاب بسرطان البنكرياس الذي يتعذر علاجه وأن سوف يعيش
من ثلاثة إلى ستة أشهر، وعليه أن يتهيأ للموت ويخبر أهله وشركاءه
في العمل بهذا الأمر الجلل، قال ببساطة أنه أجرى عملية جراحية
وتماثل للشفاء من هذا المرض الخطير. بينما كشف الرأي الآخر أنه كان
يعرف إصابته بهذا المرض قبل تسعة أشهر، ورفض إجراء العملية
الجراحية، وطلب من الطبيب أن يعالجه بالأدوية والحبوب كي يتفادى
مخاطر التداخل الجراحي.
لا يمكن الوقوف عند كل الأكاذيب ونقاط الضعف التي تنطوي عليها
شخصية جوبز النرجسية التي تحاول الاستحواذ على كل شيء تقريبا. فهو
مُروّج جيد لبضاعته، ويعرف الشخصيات العلمية والإدارية التي يجب أن
يستدرجها لشركته، لكنه ليس مديرًا ناجحاً في معظم الأحوال طالما
أنه يريد أن "يجيّر" نجاحات الآخرين لمصلحته الشخصية.
تنطوي شخصية جوبز الإشكالية على منعطفات كثيرة تؤهلها لدور البطولة
في هذا الفيلم الوثائقي المثير للجدل. فشخصيته دائرية، ووعرة إلى
حدٍ ما، ومتضخمة بشكل مرَضي، لكنها تعرف كيف تستقطب نجاحات الآخرين
وتمررها عبر بوابته الشخصية المليئة بالغرائب والمفاجآت. ولعل
المفاجأة الأبرز في هذا الفيلم الوثائقي هي تحوّل جوبز إلى البوذية
لتحقيق السكينة والانسجام والاستنارة الروحية. فقد ذهب مرات عديدة
إلى الهند واليابان وربما تكون هذه المَشاهد هي خلاصة الفيلم من
الناحية الجمالية وهي لا تندرج في إطار التوثيق، وإنما في إطار
التجليات البصرية التي تتيح لنا كمتلقين مساحة واسعة من التأمل
وإطالة النظر في الأفكار التي ينتجها الإنسان حينما يسكن في قلب
الطبيعة النابضة.
كثيرة هي الشخصيات التي تستحق الاهتمام في هذا الفيلم، بل ليس هناك
شخصية فائضة عن الحاجة لكن تظل شيري تيركل، أستاذة الدراسات
الاجتماعية للعلوم والتكنولوجيا في
MIT
هي الأكثر أهمية لجهة ثقافة الحاسوب وقد أصدرت كتاب "الذات
الثانية" هذا الجهاز الذي لا يعمل ما لم تضع جزءًا من عقلك فيه.
وبهذا المعنى فالحاسوب ليس لك وإنما هو "أنت نفسك"! وقد نجح جوبز
في تحقيق هذه الفكرة الواضحة التي كانت تدور في ذهنه بينما ظلت
مشوّشة في أذهان الآخرين من المخترعين والمصممين في حقل
الإليكترونيات.
كتب غيبني قصة الفيلم وأخرجها بهذه الطريقة المُحايدة التي تعتمد
على آلية الرأي والرأي الآخر التي تضيء الجانبين المشرق والمعتم في
شخصية ستيف جوبز التي هزّت العالم وشغلت الناس صغيرهم وكبيرهم
لأنهم كانوا يرون أنفسهم حقاً في أحدث المنجزات الإليكترونية
الحميمة الذي نجحت في أن تكون ذاتًا ثانية لحاملها.
تجدر الإشارة إلى أن غيبني يحتل مكانة مرموقة في المشهد السينمائي
الوثائقي، بل أن مجلة
Esquire
الأميركية اعتبرته "من أكثر المخرجين الوثائقيين أهمية في الوقت
الراهن". وقد أنجز خلال رحلته الفنية أكثر من ثلاثين فيلمًا أبرزها
"تاكسي إلى الجانب المُعتم" الذي فاز بجائزة الأوسكار عام 2008.
فيلم "ترامبو".. يزيح الستار عن صفحة سوداء عاشتها هوليوود
ترجمة: أحمد فاضل
من خلال فيلم "ترامبو" الذي يجسد حياة كاتب السيناريو الأمريكي
المعروف دالتون ترامبو (1905 – 1976) ، تستعيد هوليوود ذكرى
القوائم السوداء التي قادت إلى تدمير بعض الأسر الفنية والكتاب
الموهوبين بجعلهم يختارون المنافي على أن يعيشوا خلف قضبان السجون
في أمريكا . هذه القوائم السوداء التي انتشرت في هوليوود هي أحد
الفصول الأكثر إثارة للجدل في تاريخ الولايات المتحدة الحديث حيث
منعت الكثير منهم العمل في صناعة السينما بسبب تعاطفهم مع الشيوعية
أو انتمائهم لها ، الفيلم يعيد ذكرى تلك الأوقات العصيبة في واحدة
من فصول الحرب الباردة بين الاتحاد السوفيتي سابقا وأمريكا
.
والفيلم يروي لنا كيف تم استهداف ترامبو وعشرة من السينمائيين معه
للمثول أمام لجنة التحقيق الحكومية للنشاطات غير الأمريكية
(HUAC)
في واشنطن عام 1947 بعد ادانتهم بازدراء الكونغرس والترويج لمؤلفات
مفترضة للدعاية الشيوعية وجهت لهم بعدها عقوبات مختلفة بالسجن .
وبعد انقضاء محكوميته التي استغرقت أحد عشر شهرا لم يجد ترامبو
مجالا للعودة إلى عمله فقد كانت هناك تعليمات مشددة بذلك حيث وضع
اسمه في القائمة السوداء فعمد إلى استخدامه لأسماء مستعارة عديدة
بمساعدة صديقه ايان ماكليلان هنتر الذي سهل عليه العمل في كتابة
بعض سيناريوهات الأفلام التي أنتجتها هوليوود في خمسينات القرن
المنصرم فكتب سيناريو الفيلم الكوميدي الرومانسي " عطلة رومانية "
عام 1953 وهو من بطولة أودري هيبورن وغريغوري بيك الذي حاز على
جائزة الأوسكار آنذاك ، كما فاز فيلم آخر كتب السيناريو له بجائزة
الأوسكار تحت اسم مستعار عرض في عام 1956 قال انه ليس قادرا على
تسلم جائزته بنفسه للأسباب نفسها التي انتهت مع كتابته سيناريو
فيلم "سبارتاكوس" الذي اضطلع ببطولته كيرك دوغلاس
.
ومع أن الفيلم لم يروِ القصة بكاملها ، إلا أن التمثيل هو بالتأكيد
كان جيدا جدا إضافة إلى إخراجه الذي تميز به جاي روتش في محاولة
منه الابتعاد عما عرفت به أفلامه السابقة من كوميديا ضاحكة
والتركيز على ترامبو وما مر به من معاناة هو وأطفاله ولكي يضفي
المخرج شيئا من مصداقية أن الرجل كان محسوبا على الفكر الشيوعي
نراه يجسد ذلك في مشهد ترامبو
وهو يشرح معتقداته الماركسية اللينينية إلى واحدة من بناته حيث
يقول لها: "الشيوعية يعني أن تتقاسمي الساندويتش مع صديق المدرسة
الذي لا يوجد لديه المال لشرائه".
"ترامبو" للمخرج جاي روتش أمريكي المولد وهو كذلك منتج أفلام وكاتب
سيناريو بدأ مسيرته الفنية عام 1986 كما أنه من الفائزين بجائزة
إيمي المعروفة ، قام بأداء أدواره الرئيسية براين كرانستون ودايان
لاين وهيلين ميرين ولويس سي. كي وإيل فانينغ ، عرض الفيلم في قسم
العروض الخاصة لمهرجان تورونتو السينمائي الدولي عام 2015، وعرض في
صالات السينما الأمريكية والعالمية في 6 تشرين الثاني 2015 وقد حصل
الفيلم على مراجعات إيجابية عموما ومع ذلك فإنه قد تعرض لانتقادات
شديدة بسبب المغالطات التاريخية التي رافقت أحداثه.
عن: ديلي اكسبرس |