حتى وإن كانت سعفة «كان» الذهبية قد أخفقت حتى الآن في الوصول الى
اليخاندرو غونزاليس اينياريتو، فإن هذا الأخير وجد تعويضاً كبيراً
له في تحقيق مأثرة سينمائية كبيرة لم يسبقه الى تحقيقها سوى اثنين
من كبار المعلمين في تاريخ السينما الاميركية: جون فورد وجوزف ل.
مانكفتش: الفوز عامين متتاليين بأوسكار «أفضل مخرج» في جوائز
الأكاديمية الأميركية. علماً أن مأثرته هو يمكن اعتبارها أهمّ
وأكثر جرأة. فسابقاه كانا أميركيَين من أساطين السينما الهوليوودية،
وحقق كل منهما مأثرته بعد عقود وأفلام كثيرة. أما هو فمكسيكي نال
أوسكاريه عن فيلميه الخامس والسادس لا أكثر. إي إنه اقتحم عالم
هوليوود وهو بعد في أول دربه. ولعل ما يزيد هذه الانتصارات أهمية،
كون اينياريتو «غزا» هوليوود قبل ان يصل حقاً الى أوروبا. والمعروف
عادة ان هوليوود لا تعترف بالأجانب إلا بعد ان يكونوا حققوا
انتصارات أوروبية وعالمية كبيرة. غير أن هذا لا يعني ان القارة
العجوز لم تكتشف هذا المخرج المكسيكي باكراً وتعطيه عدداً من
جوائزها عن أفلامه السابقة. فالحال ان نظرة على فيلموغرافيا
اينياريتو تكشف ان عدداً كبيراً من الجوائز أعطيت له، منذ بداياته،
في «كان» حين نال جائزة افضل فيلم في أسبوع النقاد في «كان» عام
2000 عن فيلم «غراميات كلبة»، الذي رشح عامها ايضاً لجائزة افضل
فيلم أجنبي في هوليوود ... ومنذ ذلك الحين لم يتوقف اينياريتو عن
الصعود، ليصبح مع جوائزه العديدة، لأفلامه الطويلة (ستة أفلام حتى
الآن) والقصيرة (نصف دزينة أخرى)، واحداً من «أفضل المخرجين في
عالم اليوم»، اذا ما استندنا الى ما يعنيه توجه الجوائز نفسها. لا
سيما منها هاتان اللتان نالهما في هوليوود هذا العام – عن «العائد
– وسابقه – عن «بيردمان».
تجديدات لا تتوقف
والحقيقة أن كل هذا التنويه السينمائي يبدو أكثر من مستحق،
وتحديداً في المجال الذي توجه اليه – دور اينياريتو كمخرج -، إذ
إنْ نحن استثنينا حفنة من مخرجين كان دأبهم خلال العقود الأخيرة
إحداث تجديدات اساسية في اللغة السينمائية لأفلامهم نفسها، جيم
جارموش في أميركا، بدرو المودافار في اسبانيا، لاس فون تراير، في
الدنمارك، وربما نوري بلجي جيلان في تركيا وعباس كيارستامي في
ايران، سنكتشف مع التراجع الزمني اليوم ان التجديدات الإخراجية –
وحتى على صعيد كتابة السيناريو – التي ما انفك اينياريتو يشتغل
عليها في أفلامه، يمكن اعتبارها واحدة من الثورات القليلة التي
عرفها الفن السينمائي اخيراً. ولئن كان من الصعب تطبيق هذا الحكم
على تحفة اينياريتو الأخيرة التي حققت له جائزة أفضل مخرج في
اوسكارات هذا العام، «العائد» الذي اتسم بكلاسيكية لا مراء فيها،
فإن من السهل القول، في المقابل، إن الشكل السينمائي المشترك الذي
ميز الأفلام الروائية الطويلة الأولى لإينياريتو – المكسيكي
«غراميات كلبة» (2000)، والأميركي «21 غراماً» (2003)، ثم المعولم
بقوة «بابل» (2006) -، هذا الشكل اعتبر تجديداً كبيراً في لغة
السينما، حيث في كل فيلم من أفلام هذه الثلاثية – التي شارك
اينياريتو في كتابة السيناريوات لها مواطنه غيارمو آرياغا -، ثلاث
حكايات (يمكن احتسابها أربعاً بالنسبة الى «بابل») تدور في أماكن
متفرقة ومع أشخاص مختلفين، وحول حبكات تبدو للوهلة الأولى غير
مترابطة في ما بينها، لكن الفيلم سرعان ما يكشف ترابطها في شكل
أخّاذ. واذا كان معروفاً عادة ان القوة التجديدية في لغة اي فيلم
من الافلام، تنكشف انطلاقاً من كونها سرعان ما تتحول الى «مدرسة»
سينمائية جديدة، وتغري سينمائيين آخرين بمحاكاتها، نعرف ان «بابل»
على الأقل قد مارس تأثيراً كبيراً على كثر من المخرجين في انحاء
عديدة من العالم، بما في ذلك مبدعو سينمات عربية وجدوا في الخط
الحكائي المتقاطع للفيلم، الهاماً لهم (أحمد عبدالله في مصر،
مثلاً، ولارا سابا في لبنان (قصة ثواني) وأخيراً محمد عبدالعزيز
السوري في فيلمه المميز «الرابعة بتوقيت الفردوس»). وفي هذا الإطار
قد يكون من الإنصاف على اية حال، التأكيد على ان اينياريتو وأرياغا
لم يكونا مبتكري هذه اللغة، بل أفضل من استخدمها، بعدما لجأ اليها
جيم جارموش، كحل فني مبتكر في فيلمه المنسي ظلماً «القطار
الغامض»... غير ان هذا موضوع آخر.
دور كبير للموسيقى
إذاً، كان «غراميات كلبة» في العام 2000، أول فيلم روائي طويل
يحققه اينياريتو، بعد قصير أول كان بمثابة عمل تجريبي له عنوانه
«الطابع» (1996). ولقد حقق «غراميات كلبة» نجاحاً كبيراً وعدداً من
الجوائز كما أشرنا. ومع هذا انتظر اينياريتو ثلاثة أعوام، قبل ان
ينتقل من المكسيك الى هوليوود التي استقبلته بترحاب و «أعارته»
عدداً من نجومها الكبار (بنيشيو ديل تورو، وشون بين وناوومي واتس)
ليحقق فيها فيلمه الروائي الطويل الثاني «21 غراماً» محققاً به
نجاحات كبيرة أيضاً، في تمهيد أكيد لخطوته الكبيرة التالية «بابل»
(2006)، الفيلم الذي قفز بسمعة اينياريتو الى الأمام، سنوات ضوئية.
وليس أدلّ على ذلك من ترشيح الفيلم – الذي قام ببطولته براد بيت
وكيت بلانشين وغائيل غارسيا برنال، المكسيكي صديق اينياريتو الذي
كان قد برز أولاً في «غراميات كلبة» بين آخرين – لسبع جوائز
أوسكار. صحيح يومها ان الفيلم لم يفز إلا بجائزة أفضل موسيقى، لكن
مجرد ترشيحه الى كل ذلك العدد من الاوسكارات كان كافياً، علماً أن
الجائزة الموسيقية التي فاز بها، بدت كافية للفت النظر الى دور
الموسيقى في أفلام اينياريتو، مذكرة – وحتى وإن لم يكن هو الفائز
شخصياً -، بعلاقة هذا المبدع السينمائي بالموسيقى، هو الذي كثيراً
ما يقوله أن الموسيقى وليس حب الافلام، هي التي قادته الى السينما.
وليست في هذا القول اية مبالغة. ذلك ان اينياريتو، في حقيقة الأمر،
لم يدرس السينما في اي معهد، ولم يكن في شبابه ما يشير الى انه
سيكون سينمائياً. بل هو بدأ حياته كمذيع في الراديو يقدم برامج
موسيقية شعبية. ولقد أتى ذلك بعد أن كان في شبابه الأول قد أمضى
سنوات عديدة متجولاً بين أوروبا وأفريقيا، وهو تجوال، اضافة الى
حسن استخدام الموسيقى، سنراه لاحقاً ماثلاً في سينماه نفسها. وربما
بخاصة في «بابل» الذي صوره في ثلاث قارات، بأربع لغات، وفي أماكن
عاش هو نفسه فيها أو على الأقل مرّ بها مرة في حياته. وفي هذا
الإطار، يصح دائماً التركيز على «بابل» هذا الفيلم الذي اعتبر
واحداً من أكثر الأفلام «عولمة» في السنوات الأخيرة.
مفاجآت متتالية
غير أن اللافت هو ان إينياريتو، وفي عز النجاح الذي كان لـ «بابل»،
وجد نفسه، ومن دون الرفقة الكتابية مع آرياغا هذه المرة – إذ حلّ
خلاف حال دون تعاونهما مرة أخرى بعد «بابل» -، يحقق فيلماً يعود
فيه الى المكسيك، بل يتخلى فيه عن اي من التجديدات التي كان غاص
فيها، في أفلامه السابقة. هذا الفيلم هو البؤسوي «بيوتيفول»
(2010)، الذي اعتبر ولا يزال يعتبر حتى اليوم، أضعف أفلامه
الروائية الطويلة على الأطلاق. ومع هذا، وعلى رغم ان الجمهور
والنقاد هاجما الفيلم حين عرض في المسابقة الرسمية لمهرجان «كان»
في ذلك العام، تمكن بطل الفيلم خافيير باردام من انتزاع جائزة
«أفضل تمثيل»، شراكة مع الايطالي ايليو جرمانو... غير ان هذه
الجائزة لم تمنع الفيلم من أن يمرّ مرور الكرام لينسى مخرجه ولكن
لسنوات مقبلة قليلة فقط.
ومن هنا، حين عاد اينياريتو في العام 2014، بفيلمه الهوليوودي «بيردمان»،
شكلت عودته مفاجأة للجميع: مرة انطلاقاً من عودته المبدعة الى
التجديد في لغته السينمائية، ومرة أخرى انطلاقاً من استعانته
لبطولة فيلمه بنجم هوليوودي، كان يبدو وكأن النسيان طواه والغبار
تآكل عليه: مايكل كيتون. وهو استخدمه تحديداً في دور نجم هوليوودي
يكاد النسيان يطويه حين يقرر أن يعود الى المسرح ويقدم عملاً جدياً
مقتبساً من رواية للكاتب رايموند كارفر. لقد احاط اينياريتو كيتون
(بيردمان) بعدد لا بأس به من نجوم هوليوود، وتمكن من ادارتهم
جميعاً في شكل رائع في لغة سينمائية اعتمدت مبدأ اللقطة الواحدة
(على غرار ما كان هتشكوك فعله في فيلمه البديع «الحبل»، وما كان
الروسي الكسندر سوكوروف فعله بدوره في رائعته «السفينة الروسية»)،
حيث تلاحق الكاميرا شخصيات الفيلم داخل مكان واحد وزمان متواصل من
دون ان يبدو انها تتوقف، ما يؤمّن وحدة الزمان والمكان الأرسطية
بطريقة مبدعة. والحقيقة أن أسلوب اينياريتو في «بيردمان» شكّل قلبة
اساسية مع أسلوبه المتشظي في أفلام «ثلاثية الموت». بل بدا وكأن من
الصعب تصديق ان صاحب «بيردمان» يمكن ان يكون هو نفسه صاحب «ثلاثية
الموت». بل حتى كان غريباً ان يخوض مخرج كإينياريتو موضوعاً له كل
هذه الحميمية ويغوص في حياة فنان وأزمته الابداعية.
غير أن المفاجأة التي شكلها إقدام اينياريتو في مجال مبارحته
العالم الخارجي والقارات والأماكن المتعددة، ليحصر عالمه داخل صالة
مسرح نيويوركي في «بيردمان»، ستتلوها بعد أقل من عام مفاجأة أخرى
لا تقل عنها أهمية وضخامة: العودة الى الآفاق الواسعة، والوصول الى
عالم البراري المرتبط بالتاريخ الخاص جداً لأميركا. فمن جديد، مع
«العائد» أتى اينياريتو ليثبت ان ليس هناك ما يحد الفن والسينما.
ومن هنا لجأ هذه المرة، في «العائد»، وللمرة الأولى في مساره
السينمائي، الى الأدب ليقتبس منه هذا الفيلم، الذي نال إعجاباً
عاماً، وصوّر فيه حكاية صيد الفراء وسط ثلوج القارة الأميركية
الشمالية في القرن التاسع عشر، حيث الصراع مع الطبيعة والصراع مع
الجشع البشري في أعلى ذراهما. هذا الفيلم الذي يربطنا الى حد ما
بحكايات فينمور كوبر، بدا مخرجه وكأنه من غلاة الضالعين في عوالم
الشمال والغرب الأميركي الضاري. كما بدا مخرجاً كلاسيكياً بامتياز،
يعتمد على روعة تصوير الطبيعة، والمزج الخلاق بين رحابة هذه،
ودواخل الإنسان.
ومن جديد هنا عرف اينياريتو، وهو في الثالثة والخمسين من عمره، كيف
يمد السينما الهوليوودية بتحفة جديدة، تجمع بين روعة التصوير،
وروعة التمثيل – بخاصة من ليوناردو دي كابريو -، وروعة استخدام
الموسيقى. لقد رشح الفيلم لاثنتي عشرة جائزة أوسكار، فاز منها
بثلاثة مستحقة بقوة منها طبعاً جائزة التمثيل (لليوناردو دي كابريو)،
وجائزة الإخراج (لإينياريتو نفسه)، وذلك للعام الثاني على التوالي،
كما أشرنا، حيث كان قد نال جائزة الإخراج وجائزة أفضل فيلم وجائزة
أفضل سيناريو كتب أصلاً للسينما عن «بيردمان».
«الغرفة»...
وما العالم في نهاية الأمر سوى غرفة ضيّقة وكهف مظلم!
القاهرة - جيلان صالح
ما هي الحقيقة؟
سؤال ربما دار بذهن إيما دوناف كاتبة رواية «الغرفة» والتي حصلت
النجمة بري لارسون عن بطولة الفيلم المأخوذ منها على جائزة أوسكار
أفضل ممثلة. لكن إيما ربما دون أن تدري، بينما هي تخط العالم
الصغير لطفل يدعى جاك في السادسة من عمره، قد لامست نقطة طالما
أرقت فلاسفة وباحثين ومفكرين، عن قصد أو عن دون قصد. بالنسبة لهذا
الطفل، جاك، ما هي الحقيقة؟ ما معنى كلمة «حقيقة» و «خيال»؟ وترى
هل هناك معنى كوني شامل لهذه الكلمة... حقيقة؟
للحقيقة في نظر أفلاطون، الفيلسوف اليوناني العظيم، أكثر من معنى،
وأكثر من مستوى.
في البداية، تحاول الأم في فيلم «الغرفة» أن تستخدم ما حباها الله
به من غريزة لتحمي ذلك الطفل من الحقيقة المرة التي تعيشها هي؛ هما
سجينان، ربما طيلة حياتهما، سيظلان في تلك الغرفة الضيقة التي تمثل
لجاك عالماً بأكمله، وتمثل لها سجناً أبدياً اضطرت فيه إلى أن
تنكمش فتعتبره العالم. لهذا تبدو الأم مكتبة طوال الفيلم، ليس
الأمر فقط متعلقاً بتكرار انتهاكها الجسدي والجنسي والإنساني، لكنه
أيضاً في تغير حيز حقيقتها عما ألفته. بالنسبة لها، الحقيقة أكبر
من كوة في السقف، أكبر من سلسلة أفلام كارتون ومسلسلات
soap opera
رديئة، أكبر من نظام تدفئة وعلب فيتامينات وصناعة ثعبان طويل من
قشر البيض. لكن لجاك، هناك الغرفة، وهناك
TV Land
حيث يوجد كائنات غير حقيقية لكنها جميلة حقاً، لكنه مطمئن كونه
يعرف أن عالميهما لن يصطدما ببعضهما البعض، إنه أشبه بالقصص التي
تحكيها الجدات المصريات لأحفادهن، عن عالم الجن الذي يسير بالتوازي
مع عالم البشر، لا يحدث وأن يتقابلا أبداً، لكنهما موجودان إلى
جانب بعضهما البعض، يسيران بالكيفية نفسها وربما النظام. لا نعرف
هل اكتشف عالم الجن نظرية التطور أو أن لديهم جاليليو– زينا- لكنه
موجود وكفى، لذا ينام الأطفال كل ليلة في سعادة، مقتنعين أنهم في
أمان عما قد يحيق بهم من خطر من ذلك العالم المجهول.
انقلاب الموازين
وهكذا ينام جاك، حتى تأتي حادثة تقلب موازين أمه، ينقلب استسلامها
لحياتهما سوياً في ذلك الجحر اضطراباً وخوفاً. هل هي حقاً تفعل
الصواب؟ ماذا لو تحول شغف خاطفها المريض بجاك لشغف أكثر حيوانية؟
ماذا لو لم تستطع حماية جاك من الخطر الذي عانته هي طوال سجنها
المرير في تلك الغرفة؟ ماذا لو ساءت ظروفهما حتى لم تعد ملائمة حتى
لحواديت الليل وصناعة حياة غير الحياة؟
لنعد لأفلاطون مرة أخرى
في كتابه «الجمهورية» يتحدث أفلاطون عن نظرية الكهف، وهي باختصار
تخيل مجموعة من السجناء، قضوا حياتهم كلها مقيدين بالسلاسل في كهف،
يشاهدون ظلال العالم الخارجي على حوائطه، ولا يستطيعون رؤية أي شيء
غيره، فأصبحت هذه هي الحقيقة بالنسبة لهم. وفي يوم، يتحرر أحد
السجناء من قيوده، ويصعد للسطح، ويفاجأ بالعالم الخارجي ذاته، وكل
الأشياء التي كانت ماثلة أمامه خيالات، ما هي إلا انعكاسات لأشياء
حقيقية ملموسة في الواقع. لكنه عندما يعود لزملائه المقيدين،
شارحاً ما رآه، يهاجمونه ويسخرون منه، فالحقيقة بالنسبة لهم هي
الكهف، وخيالاته الماثلة على الحائط، وما مغامرة زميلهم إلا مفسدة
له، بل إنهم لا يخالجهم حتى الفضول ليروا ما رآه. بالنسبة لهم
الحقيقة ثابتة، ولا تغيير فيها، لكن هذا السجين الذي تذوق المعرفة،
فإن الحقيقة عنده مشتتة، مزعزعة، أو أنه وضع القدم الأولى على طريق
الحق لكنه سيظل فيه وحيداً.
لنرَ الآن جاك بينما أمه تخبره بأن كل ما قالته له وهم؛ ليس من
الحقيقة في شيء. الحقيقة أكبر منهما ومن الغرفة ومن كل ما عرفه.
سيتهمها بالجنون والكذب، سيتمنى لو لم تقل له هذا الكلام، سيظل جاك
متشككاً فيما قالته له، حتى يترتب هروبه، ويفتح عينيه للشمس
والسماء لأول مرة. عندها، على الأقل لو لم يستطع تحديد ماهية
الحقيقة ما بين حياته في الغرفة، والعالم خارج حدودها، فإن نظرته
للغرفة بأنها «الحقيقة المطلقة» حتماً ستتغير.
ليست قوة فيلم «الغرفة» تكمن من كونه فيلماً يضع المشاهدين في خانة
السجين. ليس المشاهد سجين الشاشة كما في أفلام أكثر إحكاماً
وإظلاماً من هذا، كفيلم «أولدبوي» – 2003 مثلاً والذي يضعك كمشاهد
في موقع المحبوس المظلوم المنعزل بصورة أكثر قسوة وبشاعة، أو أنه
فيلم يضع من الاعتداء الجنسي وانتهاك المرأة جسدياً أو نفسياً
هدفه، هناك أفلام مثل «صمت الحملان» -1991-، و «جامع
الفراشات»-1965-، و «جريمة أميركية» -2007-، قدمت هذا بصورة أكثر
غوصاً في التفاصيل، وتوضيحاً لتأثير الحبس والانتهاك والاغتصاب
والعزلة على الضحية، سواء كانت هذه الضحية محور الحكاية، أو أنها
عامل ثانوي مؤثر فيها. لكن فيلم «الغرفة» يعطينا فرصة ذهبية لتخيل
نتاج هذا الوضع اللإنساني الفريد؛ طفل يولد من خلال هذه البيئة
الغير طبيعية. لا نعرف هل كون أمه هي التي تمسكت بكونها «حقيقته»
يعد شيئاً جيداً، أم أنها– كما حاورتها لها مقدمة البرامج بعد
نجاتها- كان يجب أن تطلق سراح جاك منذ مولده للعالم الخارجي، مجنبة
إياه هذا الالتباس؟
أبناء كهف كبير
ما نحن والأم وجاك إلا أبناء الكهف الأكبر- وفق ما قال أفلاطون-
وهو العالم الذي نراه. هناك عالم آخر أكبر وأنقى مما نفتح عيوننا
عليه كل يوم، سواء هي السماء الساطعة أو كوة في سقف غرفة مغلقة،
فسواء أطلقت الأم جاك للعالم أو احتضنته إلى جانبها في عالمها
الأمومي الخاص الذي لا يخلو من السحر، سيظل هو وغيره من الأطفال
أسيري تلك اللحظة وغيرها التي تتفتح فيها عيونهم على العالم
الأكبر، والحقيقة الأكبر، سواء أكان هذا أن سانتا كلوز وهم، أو أن
بابا وماما فعلا ما هو أكثر من تقبيل بعضهما البعض لينجباه. وما
بين هذا وذاك تبقى اللحظة الأكثر تنويراً هي تلك التي نعاود فيها
زيارة الغرفة لنجدها أصغر حجماً، وأننا صرنا أكبر. |