«وحوش
بلا وطن» أول عمل يثير ضجة حول إمكانية حصوله على الأوسكار
الوكالات ـ
«سينماتوغراف»
يجسد الممثل البريطاني إدريس إلبا في فيلم «وحوش
بلا وطن» شخصية
تختلف تماما عن كل الشخصيات التي أداها من قبل؛ إذ يلعب دور أمير
حرب – أو قائد ميليشيا – يقود أطفالا استُخدموا كجنودٍ، إلى ساحة
المعارك، وذلك في عمل سينمائي اتسم إعداده بطبيعة آسرة، كما يقول
الناقد أوين غليبرمان.
ثمة لحظات يبرهن فيها فيلم ما على كونه قادرا على التأثير في
مشاهديه، وذلك عبر تقديم مشهد صادم ومزعج إلى أبعد حد، يحدو بالمرء
إلى الرغبة في أن يُشيح بعينيه بعيدا عن الشاشة. ويدور فيلم «بييستس
أوف نو نيشن»(وحوش
بلا وطن)، وهو عمل مفعم بشدة بالانفعالات للمخرج كيري جوجي
فوكوناغا، حول قصة جندي طفل عَلِقَ في خضم حرب أهلية تدور في دولة،
لم يسمها الفيلم، غربي أفريقيا.
وفي أحد مشاهد العمل، نرى الجندي الصبي؛ الذي يُدعى آغو (يجسد
شخصيته إبراهام عطا) وهو يقف على قارعة الطريق حاملاً منجلاً بين
يديه. وقد حصل آغو على المنجل من قائده (الذي يقوم بدوره إدريس
إلبا)؛ وهو أمير حرب عبوس غاضب جنّد هذا الصبي في صفوف جيشه من
المرتزقة، المؤلف من قتلة صغار السن لا تشف وجوههم عن أي انفعالات،
وكأنها قُدّت من حجر. وفي تلك اللحظة، كان الوقت قد حان لهذا الصبي
لكي يثبت أنه قادر على القتل بدوره.
أما الضحية المرتقبة، فيُظهره الفيلم وهو يجثو على ركبتيه أمام
الصبي باكياً مرتعداً، رغم أن «جريمته» لم
تتجاوز عدم الانتماء إلى الفصيل «المناسب» في
الحرب من وجهة نظر قائد جيش القتلة الصغار.
وفي ذلك المشهد يتلقى آغو التعليمات من قائده حول كيفية تحريك
المنجل لأسفل على رقبة الضحية، كما لو كان بصدد تقطيع الأخشاب.
وتثير تعليمات القائد شهوة سفك الدماء في نفس آغو، وتذكي كذلك
الخوف في نفوس المشاهدين.
وبحلول الوقت الذي يُقدِمُ فيه آغو على اقتراف هذا الفعلة المروعة،
نبتهل نحن – كمشاهدين – إلى الله لئلا نُضطرُ إلى رؤية اللقطات
التي تصوّر هذا الأمر الوحشي. لكن هذا المشهد المرعب إلى أقصى حد
والمخضب بالدماء لا ينطوي على أي شبهة استغلال للمشاهدين، إذ أنه
يحمل من الأصل في طياته قوة تأثير مروعة ورهيبة. فنحن في هذه
اللحظات نشاهد روحاً بريئة وهي تتبدل إلى النقيض تماما.
على كل حال، فإن فيلم «وحوش
بلا وطن» يدور
ككل حول مجتمع منهار على نحو يثير الخوف والرعب. وقد صوّر هذا
العمل بإيقاع مفعم بالحيوية عكسّ ذاك الرعب والرهبة اللذيّن يرسم
ملامحهما. رغم ذلك، فإن الفيلم ليس إلا قطعة من الفن السينمائي
المُعدة بعناية، والتي سيطر صناعها على مختلف عناصرها على نحو راقٍ.
فالمخرج فوكوناغا، الخارج من تجربة إخراجه – بكفاءة – لحلقات
الموسم الأول من مسلسل “ترو ديتكتيف” (المخبر الصادق) الذي بُث على
شبكة (إتش بي أو)، يثبت هنا أنه فنان قادر على العمل بمهارة مذهلة
لإخراج ضربٍ من الأعمال السينمائية المفعمة بالتوتر وذات الطابع
المتفجر، التي تحاكي فيلما مثل (سلفادور) للمخرج أوليفر ستون.
ورغم أن الفيلم الذي نحن بصدده مستوحى من رواية صدرت عام 2005
للكاتب أوزدينما إيوالا؛ فإن معناه الحقيقي يكمن في تتابع مشاهده؛
تلك التي تُظهر ذاك الاكتشاف المستمر – على نحو مؤرق – لكون العنف
وقوته الوحشية هما ما استلب هويات هؤلاء الصبية والشبان من صغار
السن، وما غص به كذلك ذاك الحيز الذي اعتادت أن تشغله مشاعرهم
وعواطفهم.
وبحسب أحداث الفيلم، فإن «آغو» هو
طفل منبت الجذور بمن حوله، وقد رأى أباه وشقيقه وهما يُعدمان على
قارعة الطريق بعد انقلاب وقع في وطنه، وقد أُعِدَ هذا الصبي – أو
بالأحرى بُرمِجَ – لكي يتحول إلى ما هو أشبه بإنسان آلي قاتل.
وإذا ما تساءلنا عن كيفية تحول طفلٍ ما لكي يكون قادرا على التصرف
على هذا النحو القاتل والدموي بشدة، فإن الرد على تساؤلنا هذا
سيتمحور حول ذاك المنطق المخيف الكامن وراء ذلك، والذي يميط الفيلم
عنه اللثام؛ ألا وهو أن الأطفال يفعلون ما يُؤمرون؛ فإذا ما
عُلِموا القتل، فسوف يتحول إلى أمر «اعتيادي» بالنسبة
لهم، حتى لو دمروا أنفسهم في خضم هذه العملية.
ولكن يتعين هنا القول إن من يُعلم هؤلاء القتل؛ لابد وأن يتسم
بصفات خاصة. ويجسد دور المعلم هنا إدريس إلبا بتكوينه الجسماني
الضخم وطوله الفارع، ونظارته الشمسية والبيريه (غطاء الرأس) الذي
يرتديه، ويُظهر أنه ضابط في قوات شبه عسكرية.
ويقوم ألبا بدوره كقائد كما لو كان يجسد شخصية زعيم عشيرة أو طائفة
دينية تتلاعب بالآخرين بدهاء. ويلقن هذا القائد أتباعه تعاليم تفيد
بأنهم يقفون في جانب الحق والخير. ونظرا لأن الفيلم تعامل بسطحية
مع مسألة توضيح الكيفية التي بدأت بها عملية انهيار النظام في
البلد الذي يشهد أحداثه، فقد كنا – كمشاهدين- على شفا الاقتناع بأن
هذا القائد على حق، وأن المجلس العسكري الذي يحاربه هو ورجال
العصابات التابعون له ما هو إلا نظام قمعي.
لكن إذا كان ذلك القائد العسكري يتظاهر بأنه ينشد العدالة، فإن
الفيلم يشير ضمنيا إلى أن القضية الحقيقية التي يرفع هذا الرجل
لواءها هي العنف للعنف ليس إلا. فقد أصبح مدمنا للسلطة، وقد نجح
إلبا بأداءٍ ذي طابع مشؤوم وجاذبية مغناطيسية في أن يكسب هذه
الشخصية تألقا مخيفا من ذاك الذي تكتسي به عادة شخصيات زعماء
العصابات الإجرامية.
وهكذا يأخذ الرجل آغو تحت جناحه ليصبح حاميا له. ومنذ البداية،
يبدو أن الموقف ينطوي على شيء ما مثيرٍ للفزع والرعب، حتى قبل أن
يتكشف لنا الطابع المقيت للغاية المتعلق بما يطلبه القائد من الصبي
التابع له في المقابل.
على أي حال، كان فيلم «وحوش
بلا وطن» هو
أول عمل يثير ضجة كبيرة حول إمكانية حصوله على جائزة الأوسكار،
ولكنني اتصور أن الفيلم سيعاني لكي يجد جماهير تحتشد لمشاهدته، ولا
يعود ذلك – بالمناسبة – لكونه حافلا بمشاهد العنف إلى حد مفرط.
فبقدر الطابع المربك والمكتمل في ذات الوقت الذي يتسم به العمل،
فإنه ينطوي على الأرجح على شيء ما يجعله يصطبغ بطابع معزول وناءٍ
قليلا عن مشاهديه.
فقد اتبع المخرج فوكوناغا نمطا يُعرف باسم «الموضوعية
المحضة»،
والذي يُستخدم في الأعمال الوثائقية. ورغم أن طبيعة اللقطات
المستخدمة في هذه الأعمال، والتي يُطلق عليها مصطلح فرنسي هو «فيرتاي» أو
(الحقيقة)، ذات طبيعة استثنائية في وضوحها، فإننا نشعر في أغلب
الأحيان بأن ثمة هوة تفصلنا عن شخصية آغو.
من جهة أخرى، كان بوسع الفيلم زيادة عدد المشاهد التي تعتمد في
بنيتها على الحوار، مثل ذلك المشهد الذي ثار فيه غضب القائد
العسكري عندما أبلغه قائده الأعلى بتخفيض رتبته.
ويكشف ذلك –على أي حال- عن أن لدى هذا العمل سمة آسرة من المتعذر
محوها، ألا وهي أنه يُذكّرك بشيء جوهري بوسع الأفلام السينمائية
القيام به، وهي أن لديها القدرة على وصف وتصوير ما يجري في العالم.
وذلك يلقي الضوء بشكل أكبر على أشياء يحسب المرء أنه يعلمها
بالفعل، وهو ما يجعلها تبدو بشكل أوضح لعقله؛ لا لعينيه فحسب، وذلك
حتى ينتابه في نهاية المطاف شعور بأنه يشهد الحقيقة ذاتها رؤي
العين. |