ماكس المجنون يعيد هوليوود لصوابها في
Mad Max: Fury Road
حاتم منصور
في عالم أصبح من الصعب فيه أن تُشاهد جديدا يُذكر في أى فيلم
هوليوودي ضخم، طوال مدة عرضه، ينجح السيناريست والمخرج الأسترالي جورج
ميللرخلال دقائق فقط من بداية فيلمه الرابع من سلسلته الشهيرة،
وقبل ظهور اسم الفيلم ماكس
المجنون: طريق الغضب Mad
Max: Fury Road
بامتياز في فعل العكس، بفضل مطاردة جنونية جحيمية سريعة.
الافتتاحية السريعة المُرعبة الحادة، ليست مجرد إثارة للتسلية
معدومة المغزى، لأنها تُلخص لك كل ما ستحتاج معرفته عن الشخصية،
التي عرفناها لأول مرة عام 1979 مع الممثل المجهول وقتها ميل
جيبسون تحت
إدارة نفس المخرج في
Mad Max،
ليكررا النجاح من جديد في 1981 و1985 مع فيلمي
Mad Max 2: The Road Warrior - Mad Max Beyond Thunderdome
الأضخم إنتاجا.
اختار ميللر عرض المطاردة الجحيمية على خلفية موسيقى موترة، وبسرعة
صورة مضاعفة تجعلها أكثر جنونا، قبل أن يُنهي المشهد بأحد أفضل
المقاطع التي تم فيها توظيف تقنية العرض الـ3D
في هوليوود، مع ظهور اسم الفيلم أخيرا.
بداية مرعبة وجحيمية للبطل بعد غياب 30 عاما
عن السينما. وممتازة ومثالية للفيلم، ولجمهور طال اشتياقه للعودة
لهذا العالم.
السلسلة لمن لا يعرفها، تعتبر واحدة من أشهر وأفضل سلاسل السينما
المستوحاة من أفكار الدستوبيا والعالم بعد الخراب، أو الـ
Post Apocalyptic.
في عالم مستقبلي انهارت فيه الحضارة، يعاني العديد من الكوارث
والأمراض، ويعيش فيه البشر في ظل فوضى تامة، تنتشر فيها الجريمة
والعصابات.
ماكس (توم
هاردي) الذي
فقد أسرته، لم يعد يحركه دافع في هذا العالم إلا غريزة البقاء، وهو
نفس دافع أغلب شخصيات الفيلم. بعضهم عنيف ويبحث عن البقاء والخلود
بترك أبناء أصحاء.. بعضهم برىء ويبحث عن البقاء بالانتقال إلى
بداية جديدة في أرض أفضل.. بعضهم غبي ومُسخر ومُبرمج لخدمة الآخرين
بدوافع العبادة والمقدسات، ويبحث عن البقاء والخلود بالموت في
ميدان القتال، ونيل الشهادة للانتقال إلى الفردوس. هل
يذكرك الأخير بنموذج بائس من واقعنا المعاصر؟
ما يحدث ببساطة وبدون تفاصيل، هو تورط عديدين في مطاردة جهنمية
واحدة تستغرق أغلب مدة الفيلم، وتشهد تحالفات من أجل البقاء، في
عالم عنيف يتقاتل باستمرار بحثا عن 3 عناصر نادرة وثمينة (الماء -
الوقود - ذخيرة السلاح)!
لكن قبل أن تعتقد أن هذا مجرد فيلم أكشن ومطاردات أخرى، دعني أخبرك
بسر تميزه، وبفلسفة ميللر في السينما، وفي السلسلة بالأخص، التي
استمدها من جملة شهيرة للمخرج ألفريد
هتشكوك:
"أرغب
دائما في صناعة فيلم يمكن مشاهدته وفهمه لأي جمهور في أي مكان بدون
الحاجة لترجمة".
ولمزيد من التفسير، يُكمل ميللر هذه الفلسفة
بجملة مأثورة أعشقها له:
"أحب
أفلام الأكشن. بالنسبة لي فإن أكثر اللغات السينمائية انتشارا
وفهما، وأنقى بناء للجُمل، يوجد دائما في أفلام الأكشن".
هنا وعلى العكس من أفلام الأكشن المعتادة، التي تتبادل فيها
الشخصيات العديد من الحوارات، وتصبح فيها فقرات الأكشن فواصل طويلة
كوسيلة إثارة أو إبهار، أو حل درامي سهل لحسم صراع - وشاهد مثلا
فيلم
Furious 7
كنموذج تقليدي لذلك معروض حاليا - يوظف ميللر الأكشن بشكل أرقى
كلغة حوار كاملة بين الشخصيات، تحل محل الجُمل المنطوقة.
في اللقاء الأول الذي يجمع ماكس (توم
هاردي)،
وفيريوسا (شارليز
ثيرون)،
وناكس (نيكوﻻس
هولت) و4
شخصيات أخرى، لدينا مشهد أكشن عنيف وممتاز لا ينسى. مشهد يُخبرك
بالكثير عن الشخصيات التي تراها لأول مرة، وتتطور فيه العلاقات
أيضا بين الشخصيات التي تعرفها مسبقا. من يُطيع من؟.. من يملك
مهارة كذا؟.. من لديه الجرأة عن رفاقه؟.. من لديه الاستعداد
للتضحية بحياته من أجل من؟.. من سيخضع لمن؟.. من سيقود من؟.. في
دقيقتين فقط تقريبا من الأكشن الصافي وبدون حوارات تذكر، يرسم
ميللر للمتفرج، خريطة وشبكة علاقات ومعلومات كاملة، لـ 7 شخصيات.
هنا يصبح تصميم المعارك باستمرار سطورا حوارية كاملة، ويتكامل هذا
مع تصميم الإنتاج والديكورات والملابس والسيارات. كل شىء موظف
بصريا بدقة وإتقان لخدمة قصة وشخصية ومعنى وهدف.
الأشرار كلهم بلا استثناء، مصابون بعيوب أو تشوهات شكلية. الصبيان
الانتحاريون السذج متروكون عراة الجذع بدهان أبيض. الديكتاتور
الشرير العجوز يرتدي درعا بتقسيم عضلي وكأنه يحاول الخلود كشاب
سليم قوي البنية. النياشين العسكرية تملأ زيه، لتغنيك كمتفرج عن
السؤال عن ماضي الشخصية. سيارته من حيث التصميم، عبارة عن سيارتين
متماثلتين مدمجتين!.. لأن هذا رجل يعشق التملك ولا يكتفي. لا يكتفي
من أي شىء.
نعم هذا فيلم آخر مُبهر من شريحة ميزانيات الـ 150 مليون
دولار، ويحتوي على كرنفال بصري بكل ما لذ وطاب، لكن وراء كل عنصر
ولمحة، معنى ومغزى وقصة. ما يصنعه ميللر أشبه ببناء ميثولوجيا
متكاملة. طبيعة عمله الأصلي كطبيب طوارئ في شبابه، أحد أسباب
تركيزه على التفاصيل الشكلية للشخصيات.
منذ ابتعاده عن السلسلة عام 1985 أخرج ميللر 5 أفلام، من بينها 3
أفلام مغامرات عائلية وكارتونية
(Babe: Pig in the City - Happy Feet 1,2)،
اعتمد فيها على الجرافيك، لكنه هنا من جديد يعود للروح الأصلية
لسلسلته، ويستخدم الجرافيك إلى أقل درجة ممكنة.
عندما تشاهد مثلا مقاتل بموتسيكل يقفز بالعرض فوق سيارة ضخمة
مسرعة، لا توجد خدع في الأمر، على طريقة الأفلام الأخرى. توجد رتوش
وإضافات جرافيك بالطبع في كثير من المشاهد، لكن التنفيذ الأساسي تم
بصفوة الدوبليرات والخبرات في مجال الحركات الخطرة. بل ووصل الأمر
إلى الاستعانة بمحترفين من سيرك
دو سوليه الشهير،
لتنفيذ بعض الأكروبات الهوائية!
الطريقة القديمة لها مصداقيتها ورونقها. وجزء من المتعة
المستمرة نابع من سؤال (كيف فعلوها). الإثارة هنا أضعاف ألاعيب
الجرافيك السائدة لحل المشكلة. عندما تشاهد مثلا سكارليت
جوهانسون في
مشهد مطاردة بالموتسيكل في
Avengers: Age of Ultron وتشاهد
الموجود هنا، ستعرف لماذا صمم ميللر على الحل الأصعب والأكثر حاجة
للوقت ولإعادة التصوير عشرات المرات.
حتى عندما يستخدم ميللر الجرافيك لصناعة عاصفة رملية أو تفجير أو
خلافه، لا يوجد إفراط في الاستخدام. ويظل أروع ما فعله في الفيلم،
هو ابتعاده عن الظلام وعن التركيبة اللونية الرمادية المكررة في
أفلام الدستوبيا، واختياره تركيبة ألوان زاهية للأزرق والبرتقالي
الأحمر (لون
ناري جحيمي).
جزء كبير من هذا التميز اللوني نابع من اختيار مدير التصوير العجوز جون
سيل(73
عاما)، الحاصل على الأوسكار عن
The English Patient،
والعائد من الاعتزال الرسمي في 2010 من أجل عيون ماكس المجنون
خصيصا، ليصور فيه أفضل إنجازاته على الإطلاق في صحراء ناميبيا.
بصمات ميللر الشهيرة في السلسلة تتكرر هنا، بوضع الكاميرا مائلة
بزاوية 45 درجة تحت مقدمة السيارات، أو اللقطة الجانبية لسيارة
تنهل في الأرض، قبل أن تتجاوزها أخرى أسرع من اليسار. لقطات الأكشن
حادة، ولا يتردد ميللر وصديقه لحظة في وضع الكاميرا في أي مكان.
ويضاعف إثارة كل ما سبق المونتاج الممتاز لـ مارجريت
سيسيل.
زوجة المخرج التي تقدم هنا أولى محاولاتها في مجال الأكشن، وتقف
ببراعة على الخيط الرفيع دون أن تسقط في فخ سرعة القطع المزعجة أو
فخ التباطؤ، خصوصا مع الموسيقى التصويرية العنيفة لـ جانكي
إكس إل التي
لا تسمح إلا بالسرعة.
مقاطع عديدة توقفتُ عندها لأفكر (هذا بالتأكيد أفضل مشهد أكشن خلال
العام)، لأعود وأفكر في نفس النقطة مع مشهد أخر بعده. النقطة
السلبية المحبطة الوحيدة ربما على مستوى الصورة، أن ميللر على عكس
البداية الواعدة جدا من حيث توظيف تقنية الـ3D،
لم ينجح باقي الفيلم في أن يستفيد منها.
نيكولاس هولت مفاجأة
الفيلم. وكما هو متوقع كان استبدال ميل
جيبسونمهمة صعبة جدا. توم
هاردي اختيار
موفق لدور ماكس، ويتألق بالأخص في الثلث الأول من الفيلم، مستخدما
العينين فقط، ليذكرنا ثانية بدور الشرير بينالذي
قدمه في
The Dark Knight Rises 2012.
لكن الشخصية في السيناريو مختلفة عما تعودناه من ميل جيبسون. أقل
جنونا نسبيا.
لولا عنوان الفيلم لأصبحت فيريوسا (شارليز
ثيرون) ربما
الأقرب للشخصية الرئيسية. والسبب أن ميللر أراد في مرحلة ما تنفيذ
فيلمين في وقتٍ واحد بشخصيات مختلفة، لولا اعتراض شركة ورانر،
فانتهى بدمج، منح شخصيتها مساحة أكبر وأكبر.
كعادة ميللر في اختيار الأسماء، فإن
Furiosa كما
ترى مقتبس من
Furious أو
"غاضب". شارليز تقدم هنا شخصية أكشن نسائية قوية، ترقى للمقارنة
معسيجورني ويفر في
دور ريبلي، في سلسلة
Alien
الشهيرة، وليندا هاملتون في
دور سارة كونر في
Terminator 2: Judgment Day.
لا تتعلق المسألة بالعنف أو استخدام السلاح، أو القيام بما يقوم به
البطل الذكر. لاحظ أن هذا ما فعلته مثلا أنجلينا
جولي بانتظام
في أفلام مثل
Wanted - Tomb Raider - Salt
دون أن تصل لأمجاد هذه الشخصيات. نقطة قوة دور فيريوسا - والشخصيات
النسوية السابقة - تكمن في أن البطلة لا تفقد أنوثتها نهائيا خلال
الرحلة، بل هى في الحقيقة تتحرك بدوافع أنثوية بالأساس.
في
Aliens 1986
تصبح ريبلي أكثر شراسة لأنها تريد الحفاظ على حياة طفلة، اعتبرتها
ابنتها. وفي سلسلة
Terminator
تتحول سارة كونر من عاملة مطعم متواضعة في الفيلم الأول 1984 إلى
مقاتلة شرسة في الجزء الثاني 1991، بسبب أقوى دافع ومحرك للأنثى
على الإطلاق (غريزة الأمومة).
فيريوسا أيضا تتحرك بدوافع مماثلة، ومن الطريف أن الفيلم أثار جدلا
مؤخرا باعتباره دعاية للفيمنست!.. ووصل الأمر إلى اتهامات للمخرج
بتشويه ماكس الشخصية الأساسية لخدمة قضاياهم. وهي نقطة سنناقشها
لاحقا في مقال آخر لمن شاهد الفيلم، ولن أتطرق إليها هنا؛ لأنها
ستستدعي حرق تفاصيل عديدة، ولأنها أيضا تتطلب مساحة كبيرة.
في عالمنا الحالي، من العسير أن نطلب من أعضاء أكاديمية
الأوسكار التصويت لفيلم خيال علمي ودستوبيا وأكشن بالأساس قلبا
وقالبا في فئات مثل (فيلم
- إخراج - ممثلة).
هذه نوعية أرقى بكثير من أن يتم فهمها واستيعابها حاليا بالنسبة
لأغلب الأعضاء، فالدراما الجيدة تتعلق دائما بممثل يبكي وهو ينظر
للكاميرا، قبل أن ينطق مونولوج طويلا!.. ويفضل أن يفعل ذلك في فيلم
تدور أحداثه في أجواء تاريخية، أو مقتبس من سيرة ذاتية!
لكن أتعشم كحد أدنى أن يكون لدى أغلب الأعضاء ما يكفي من الكياسة،
لوضع الفيلم في الاعتبار في ترشيحات فروع مثل (التصوير - المونتاج
- إدارة الإنتاج - الصوت - الملابس - تصميم الديكور - المؤثرات
البصرية - الموسيقى التصويرية).
لازلنا في مايو وسنشاهد خلال العام الكثير والكثير، لكن على صعيد
(التصوير - المونتاج) بالأخص، لا أعتقد أن الفيلم من الوارد أن
تتجاوزه 5 أفلام أخرى، من حيث الجودة. والمؤكد أن عودة جورج
ميللر لطريق
جهنم بجوائز أو بدون، تستحق من جمهور الأكشن الكثير من الموسيقى
العنيفة والألعاب النارية!.. احتفالية موسيقية تماثل ما قدمه في
الفيلم!
15
عاما من التحضير المستمر، منذ أن تم إلغاء تصوير الفيلم في 2001
معميل جيبسون بعد
هجمات سبتمبر، لم تذهب هباءً.
جزء رابع أفضل من كل ما سبق؟!.. من مخرج في الـ 70 من عمره انقطع
عن الأكشن منذ 30 عاما؟!.. فيلم فئة 150 مليون دولار، بقصة حقيقية
غير محبوكة لتسويق ألعاب أكشن فيجرز؟!.. قصة كاملة يتم سردها
بالصورة في الأساس، كما لو كنا نتحدث عن روح تجريبية؟!.. شخصيات من
لحم ودم في فيلم دستوبيا هوليوودي؟!
من المؤكد أن
Mad Max: Fury Road لن
يكون أنجح أفلام الصيف تجاريا. ربما لن يصل حتى إلى قائمة الخمسة
الأوائل. لكن لدى ماكس وفيريوسا ما يكفي من القوة والشراسة، لجعل
أفلام مثل
Furious 7 - Avengers: Age of Ultron بأبطالها
تبدو كأفلام كوميديا رومانسية ناعمة!
باختصار:
جورج ميللر يعود بماكس المجنون لجهنم التي بدعها بعد غياب 30 عاما،
ويصب نيران جنونه في ثورة عارمة متواصلة لمدة ساعتين، تكفي لحرق
باقي المنافسين طوال الصيف وتحويلهم إلى غبار معدوم القيمة. فيلم
أكشن يجبرنا أن نحذف عشرات الأفلام الأخرى من هذا التصنيف، وعلامة
من علامات العقد. |