كتبوا في السينما

 

 
 
 
 
 
 

ملفات خاصة

 
 
 
 
 
 

رأفت الميهي.. ضميرنا السينمائي

دراسة بقلم: أسامة عبد الفتاح

عن رحيل المختلف

رأفت الميهي

   
 
 
 
 

* أعماله كسيناريست تعبير بليغ عن التحولات الحادة في تاريخ مصر من النكسة إلى الانفتاح

* اعتنى بالحوار وحوَّله إلى محاكمات لعهود أو أشخاص بدون مضايقة المشاهد بالتعبيرات الإنشائية والشعارات الجوفاء

* اتجه في بداية الثمانينيات للإخراج ليصبح في المرحلة الثانية من مسيرته السينمائية أحد فرسان "الواقعية الجديدة"

* "للحب قصة أخيرة" أهم أفلامه على الإطلاق كمخرج لتعدد مستويات تلقيه وتحميله رسائل ومعان مهمة بدون مباشرة

يشعر من يتتبع مسيرة فنان السينما الكبير رأفت الميهي، الذي غيّبه الموت مساء الجمعة الماضية، بأن هناك أكثر من سينمائي مصري يحملون نفس الاسم، ليس فقط لتعدد "الأدوار" التي قام بها في تاريخ السينما المصرية، كسيناريست ومخرج ومنتج وأستاذ أكاديمي، ولكن أيضا لتعدد التحولات الحادة في مسيرته والأنواع السينمائية التي قدمها، وتنوع الأساليب التي استخدمها، سواء ككاتب للنص السينمائي أو كمنفذ له برؤية شديدة الخصوصية وروح ساخرة لم تفارق معظم أعماله، وإن كانت تحمل قدرا كبيرا من المرارة.

رأفت الميهي، المولود في 25 سبتمبر 1940، ينتمي إلى جيل من المثقفين المصريين تفتح وعيه على ثورة يوليو 1952، وتربى على قيمها ومبادئها، وعاش انتصاراتها وانكساراتها، وصدمته نكستها في يونيو 1967، ولم يكد يستعيد توازنه بعد انتصار أكتوبر 1973 حتى أصابه الإحباط والحيرة مع تطبيق سياسة الانفتاح الاقتصادي في منتصف السبعينيات من القرن الماضي، بكل ما رافقه من فساد اقتصادي واجتماعي وسياسي، وبكل ما تسبب فيه من زيادة نسبة الفقر، واتساع الهوة بين الفقراء والأغنياء، وتلاشي مفهوم العدالة الاجتماعية، ربما إلى يومنا هذا.

بدأ مشواره عام 1966 بكتابة السيناريو، حين كان شابا في السادسة والعشرين، وفي هذه المرحلة المبكرة كانت أعماله تعبيرا سينمائيا بليغا عن التحولات والتطورات الوطنية الحادة والمتلاحقة، في فترة "درامية" بامتياز من تاريخ مصر، هوت من ذروة وفورة الحلم القومي السعيد، بعد انتصار واستقرار ثورة 1952، إلى سفح ومستنقع النكسة، وبمعنى أدق: الهزيمة.. ومن قمة الشعور بالفخر الوطني بعد انتصار 1973، إلى حضيض فساد الانفتاح، الذي وصفه الكاتب الكبير الراحل أحمد بهاء الدين بأنه "سداح مداح".

القلم الأمين

ويمكن اعتبار الفترة من 1966 إلى 1975 المرحلة الأولى من مسيرة رأفت الميهي، حين كان القلم الأمين المعبر عن هذه التحولات الدرامية، والعين التي رصدت تلك المتغيرات المصرية المتلاحقة خلال فترة قصيرة من الزمن، بوعي المثقف اليساري الذي يشعر بأن من واجبه تصفية حساب وطنه - وحساب جيله وحسابه هو شخصيا - مع فترة ما قبل ثورة 1952، ومع هزيمة 1967، ومع سياسة الانفتاح الاقتصادي وغيرها.

خلال تلك الفترة، كتب الميهي السيناريو والحوار، أو قام بالتأليف الكامل، لمجموعة من الأفلام المهمة التي دخل بعضها تاريخ السينما المصرية، ومنها "غروب وشروق" (1970)، و"شيء في صدري" (1971)، و"على من نطلق الرصاص" (1975)، وكلها من إخراج الكبير كمال الشيخ، الذي كوّن مع الميهي خلال هذه الفترة ثنائيا لا ينسى كان بمثابة ضمير سينمائي للوطن.. وفي هذه المجموعة من الأفلام، اعتنى الميهي بالحوار، وحوله في بعض الأحيان إلى محاكمات حقيقية لعهود أو أشخاص، من دون مضايقة المشاهد بالتعبيرات الإنشائية أو الشعارات الجوفاء، ومن دون إصابته بالملل.. وفيها أيضا اتبع طرقا في السرد مختلفة عما كان سائدا في السينما المصرية في ذلك الوقت، أبرزها في رأيي التوظيف الجيد لأسلوب العودة إلى الماضي (الفلاش باك)، بطريقة تجعل منه جزءا لا يتجزأ من البناء الدرامي، وليس زائدة يمكن الاستغناء عنها ببعض الجمل الحوارية، كما هي الحال في العديد من الأفلام السابقة واللاحقة.
وتميز أسلوبه في كتابة السيناريو خلال تلك الفترة أيضا باستخدام الإسقاطات والرموز الفنية، لكن بطريقة غير مباشرة تبتعد عن الفجاجة التي استخدم بها غيره الرموز خلال نفس الفترة وفي فترة سابقة عليها.. وعلى سبيل المثال، في المشهد الأخير من تحفة الشيخ والميهي "غروب وشروق"، تقف البطلة المستهترة التي تدفع ثمن استهتارها غالياً في عهد ما قبل الثورة (سعاد حسني) في النافذة وتزيح الستار قليلاً لكي تتابع - بعينين مبتلتين بالدموع - زوجها وصديقه (رشدي أباظة وصلاح ذو الفقار) وهما يغادران حديقة القصر بعد نهاية والدها رئيس القلم السياسي (محمود المليجي) وتدمير حياتها هي بالكامل.. عيناها تلخصان المأساة كلها من دون كلمة واحدة.. بعد خروجهما، تسحب يدها لينسدل الستار بسرعة على حياتها وعلى الفيلم كله.

هذه اللقطة البارعة لا تنهي المشهد أو الفيلم فقط، بل تنهي عصرا كاملا وتعلن بداية عصر جديد بشكل سينمائي بليغ وغير مباشر، شأن العديد من اللقطات والمشاهد الأخرى في سيناريوهات رأفت الميهي.

وفي "شيء في صدري"، صراع درامي نادر بين "الباشا" الفاسد عديم الأخلاق (رشدي أباظة)، و"الأفندي" رمز الشرف والاستقامة (شكري سرحان)، وتعود خصوصية الصراع إلى عدم وجود الأفندي أصلا، حيث يموت تاركا طيفه يطارد الباشا ليلا ونهارا، ويحول حياته إلى جحيم، مما يحول بدوره الميلودراما التقليدية المعهودة في مثل تلك القوالب إلى ما يشبه الدراما النفسية شديدة التعقيد، والتي تتطلب في كتابتها قدرا كبيرا من الوعي والمهارة والموهبة.

في الفيلمين السابق ذكرهما، أعد الميهي السيناريو والحوار عن أصلين أدبيين لجمال حماد وإحسان عبد القدوس على الترتيب، أما في الفيلم الثالث الذي يجب التوقف عنده، "على من نطلق الرصاص"، فكتب القصة والسيناريو والحوار، للتعبير عما يمكن تسميته "أزمة جيل النكسة" من شباب المثقفين، الذين أصابتهم الهزيمة بالإحباط واليأس والحيرة، وخرجوا - أثناء دراستهم الجامعية أو بعد انخراطهم في سوق العمل - في مظاهرات للمطالبة بالحقوق السياسية ومحاسبة المسئولين عن الهزيمة العسكرية، ثم صدمتهم - بعد سنوات قليلة - سياسة الانفتاح الاقتصادي وتداعياتها. 

من هؤلاء "مصطفى" (محمود ياسين)، الذي اعتقل مرتين عامي 1964 و1967 لمشاركته في مظاهرات تطالب بالمزيد من الحريات وتقديم المسئولين الحقيقيين عن النكسة للمحاكمة وإعادة جميع الأحزاب بما فيها الحزب الشيوعي، وخضع للعلاج النفسي بعد إصابته بمرض عصبي إثر تعذيبه في المعتقل.. ولدينا صديقه المهندس "سامي" (مجدي وهبه)، الذي تلفق له تهمة التسبب في سقوط مشروع للإسكان الشعبي ويسجن ثم يتم قتله في السجن بالسم.

ينتمي "على من نطلق الرصاص" إلى نوعية "الفيلم نوار" أو القاتم، ويشهد تطبيقا مبكرا لمبدأ "الحل الفردي"، حيث يطلق "مصطفى" الرصاص على "رشدي"، رئيس شركة الإسكان (جميل راتب)، انتقاما لصديقه الذي قتله "رشدي" وتزوج خطيبته "تهاني" (سعاد حسني).. ويقدم الميهي في الفيلم مصيرا قاتما بدوره لجيل الهزيمة، حيث يموت "مصطفى" - كما مات صديقه - بعد أن صدمته سيارة أثناء هروبه من مسرح إطلاق الرصاص على "رشدي"، وتنهار حياة "تهاني" بالكامل بعد اكتشافها حقيقة زوجها الذي تحول من مجني عليه في واقعة إطلاق الرصاص إلى جان في جريمتي قتل "سامي" والغش في بناء المساكن الشعبية.

رسالة الفيلم شديدة الوضوح، وتصلح لكل زمان ومكان، وهي أنه يجب إطلاق الرصاص على "القطط السمان" من مصاصي دماء الشعوب، وليس على المجني عليهم من أبناء هذه الشعوب.. ويكشف الفيلم عن رؤية ثاقبة لرأفت الميهي تتجاوز حدود تصفية الحساب مع الماضي وتحليل الحاضر إلى استشراف المستقبل، وتتجلى في صرخة أطلقتها "تهاني" (سعاد حسني) في النهاية بعد أن اكتشفت الحقيقة: "الناس دي كلها ماتت ليه.. ماتت ليه.. الناس دي كلها بتموت ليه؟"، وكأنها صرخة يتم إطلاقها على خلفية ما تشهده مصر هذه الأيام.

التحول

ينهي "على من نطلق الرصاص" المرحلة الأولى من مسيرة رأفت الميهي، والتي أدلى فيها بشهادته عن فترة حرجة من تاريخ مصر، ثم توقف ليلتقط الأنفاس ويعيد الحسابات وترتيب الأوراق، حيث لم يقدم أي عمل سينمائي من 1975 إلى 1981.. وعندما عاد، كان كل شيء قد تغير، سواء على المستوى الوطني أو على مستواه هو شخصيا، ومستوى قناعاته الفكرية والفنية.

على المستوى الوطني، تولى الرئيس المخلوع حسني مبارك الحكم في عام عودة الميهي إلى السينما، وبدأ فترة حكمه بإشارات اعتبرها المثقفون – ومنهم السينمائيون – إيجابية، ومنها الإفراج عن المعتقلين السياسيين، وإعلانه رغبته في ألا تزيد مدة حكمه عن فترتين، ورفضه النفاق والمنافقين، وانعكس التجاوب معه في تخلي السينما المصرية عن أفلام الهزل وتصفية الحسابات التي كانت قد سادت في السبعينيات، ومحاولتها النزول إلى الواقع للتعبير عنه، فظهر ما سمي بعد ذلك – مع تحفظي شخصيا على التسمية – "الواقعية الجديدة"، وصعد نجم عدد من المخرجين المتميزين، سواء الذين بدأوا في الثمانينيات أو قبلها بسنوات قليلة، مثل عاطف الطيب ومحمد خان وداود عبد السيد وخيري بشارة وسمير سيف، وشهد عقد الثمانينيات صناعة عدد من تحف وكلاسيكيات السينما المصرية.

وعلى المستوى الشخصي، اتخذ الميهي في بداية الثمانينيات قرار الاتجاه للإخراج إلى جانب التأليف والإنتاج، ليصبح - في المرحلة الثانية من مسيرته السينمائية - أحد فرسان "الواقعية الجديدة" وأحد أبرز وجوهها.. ويبدو أن القرار كان استجابة للتحولات السياسية والاجتماعية من حوله، ولتحولاته الشخصية التي فرضت عليه أن يعبر عن أفكاره وآرائه في تلك التطورات بشكل أكثر حرية ووضوحا.. وكنت سألته - في حوار أجريته معه ونشر في "الأهرام المسائي" بتاريخ 30 يوليو 1995 - عن أسباب تحوله للإخراج، فرد قائلا: " هذا تحول طبيعى جدا لأن معظم المخرجين قادمون إما من السيناريو أو من المونتاج.. طبيعى أن (سكة) السيناريو توصل إلى الإخراج.. وأيام كنت كاتبا للسيناريو فقط، كان الناس يقولون عنى إننى (مشروع مخرج) لأننى كنت أكتب الفيلم كاملا بكل تفاصيله على الورق.. ثم أننى فى لحظة ما شعرت برغبة داخلية فى أن أمتلك قيادة سفينتى وان أميل إلى التعبير الذاتى فى أفلامى وأن أقدم رؤيتى الخاصة التى يصعب على المخرجين الآخرين أن يقدموها.. وذلك رغم أننى لا أشكو من المخرجين الذين عملوا معى على الإطلاق، فقد قدموا جميعا أفلامى كما كتبتها على الورق تماما".

تمتد المرحلة الثانية من مسيرة الميهي من 1981 إلى 1987، وخلالها أصبح "صانعا للأفلام" يكتب وينتج ويخرج، وقدم ثلاثة أفلام مهمة لا يمكن إغفالها، سواء في تيار الواقعية الجديدة أو في تاريخ السينما المصرية بشكل عام.. فقد عرض عام 1981 فيلم "عيون لا تنام"، أولى تجاربه الإخراجية، مستوحياً السيناريو من مسرحية "رغبة تحت شجرة الدردار" ليوجين أونيل، غير أن الفيلم مختلف تماما عن أحداث وأجواء المسرحية الأمريكية، حيث قدم الميهي معالجة جديدة لهذا العمل الأدبي الشهير، وغيَّر في الأحداث وفي بناء الشخصيات وعلاقاتها. وعن ذلك قال: "أنا مسئول عن نص (عيون لا تنام) من أوله إلى آخره.. فأنا لست ناشراً، ولا أعيد نشر رواية، بل أتناولها وأكتب وجهة نظري الخاصة".

أضفى الميهي نكهة ملحمية على فيلمه الأول كمخرج، وحمّله أفكارا تعتمد أساساً على الرغبات المرتبطة بالطبيعة الإنسانية، ومنها الشهوة، والطمع، وحب التملك. ولكنه قدمها بعيون ناقدة ومتفهمة لمدى خطورة هذه الرغبات، فهي عندما تسيطر على الإنسان تحطمه وتقضي عليه.

وبعد 17 عاما كاملة من بدء مسيرته، شهد عام 1983 أول موعد للميهي مع الكوميديا التي ارتبط بها وارتبطت به فيما بعد طويلا، وإن كان الفيلم الذي بدأ به مشواره معها – "الأفوكاتو" – ينتمي إلى ما يمكن اعتباره "كوميديا سوداء"، حيث يتناول بسخرية مريرة مجتمع الفهلوة والشطارة المادي الذي أفرزته سياسة الانفتاح الاقتصادي، من خلال المحامي الألعبان "حسن سبانخ" (عادل إمام) الذي يحاول التأقلم مع أوضاع السجن أثناء قضائه عقوبة الحبس لمدة شهر بسبب إهانته المحكمة فى إحدى القضايا.

يتمكن "سبانخ" من إقامة العديد من علاقات البيزنس البهلوانية أبرزها مع تاجر المخدرات حسونة محرم، وسليم أبو زيد أحد مراكز القوى فى الستينيات، ويلعب على جميع الحبال، ويبدأ فى تحريك النظام القضائى وأوضاع المجتمع المقلوبة كعرائس الماريونيت. ينجح فى إخراج حسونة محرم من السجن "زى الشعرة من العجين"، وإعادته لواجهة المجتمع مرة أخرى، ليس من أجل "سواد عيونه" ولكن تمهيداً لقيام "سبانخ" نفسه بالنصب على حسونة فى "خبطة العمر"، حيث تضمنت خطته دخول المستشفيات والاتجار فى العملة، و تزويج شقيقة زوجته لحسونة، إلا أن الأخير ينجح فى الإيقاع بالمحامى البهلوان وإرغامه على دخوله السجن.. ولأن سبانخ لاعب أكروبات، فإنه سرعان ما يستأنف نشاطه من داخل أسوار السجن، متحالفاً مع سليم أبو زيد فى عملية جديدة وحياة "ملتوية" جديدة.

تلك كانت رؤية الميهي الساخرة لمجتمع ما بعد الانفتاح، والتي أتبعها برؤية ميلودرامية شجية لمجتمع الثمانينيات في فيلمه الجميل "للحب قصة أخيرة"، الذي يعتبره الكثيرون – وأنا منهم – من أهم الأفلام في تاريخ السينما المصرية.. ورغم أنه يُصنف ضمن أبرز أعمال ما يسمى بتيار الواقعية الجديدة، إلا أنني أرى أنه ينتمي أكثر إلى الواقعية السحرية، بفضل أبعاده الروحية والميتافيزيقية، والأجواء الغامضة الساحرة لجزيرة الوراق التي تدور فيها أحداثه، وأسلوب تنفيذه تقنيا، ومعالجته دراميا ليصبح مزيجا من العلاقات الإنسانية المتناقضة، ومن الحب والكراهية، الحياة والموت، الوضوح والغموض، الصدق والزيف، الصحة والمرض، الخرافة والعلم.

قدم الميهي الفيلم في منتصف الثمانينيات، ومنتصف مسيرته السينمائية، ليكون شاهدا على وصوله إلى ذروة نضجه الفني، حيث أعتبر "للحب قصة أخيرة" أهم أفلامه على الإطلاق، سواء على مستوى التأليف أو الإخراج، لتعدد مستويات تلقيه، وتحميله رسائل ومعان شديدة الأهمية من دون مباشرة ولا فجاجة ولا صوت عال.. يضعنا الفيلم في مواجهة المرض والموت من خلال المدرس المثقف "رفعت" (يحيى الفخراني)، المريض بالقلب والذي ينتظر الموت في أي لحظة، لكنه يقرر أن يكذب على زوجته "سلوى" (معالي زايد) - بالاشتراك مع طبيب الجزيرة "حسين" (عبد العزيز مخيون) - ويوحي لها بأنه شُفي.. وتظن الزوجة أن "المعجزة" من "كرامات" الشيخ "التلاوي" الدجال الذي كانت قد لجأت إليه بعد أن أقام له أهل الجزيرة "مولد" إثر عودته إلى الحياة من الموت!

وعندما يموت "رفعت" في مشهد بليغ، وتنكشف حقيقة التلاوي، تذهب "سلوى" - في النهاية - إلى مقر الدجال وتحطمه بالفأس، في واحد من أهم مشاهد الفيلم، لأنه دعوة مباشرة للتخلص من الغيبيات والخرافات التي تحكم تفكير وسلوك الكثير من المصريين وتعطل تقدمهم، مسلمين ومسيحيين، حيث يشير الفيلم إلى جارة مسيحية طيبة تدعى "دميانة" تأتي ب"البشارة" على طريقتها بأن الله سينجي "رفعت".

ويحسب لرأفت الميهي أنه كان - في ذلك الفيلم - من أوائل الذين نبهوا إلى خطورة تجار ومهاويس الدين، قبل سنوات قليلة جدا من موجة الإرهاب الديني الأسود التي ضربت مصر في بدايات التسعينيات من القرن الماضي. 

وعلى مستوى آخر من التلقي، يطرح الفيلم قضايا فلسفية مثل الحياة والموت، وهناك معادل موضوعي للشاب الذي ينتظر الموت المؤكد - ورغم ذلك يتفاءل ويتمسك بالأمل - يتمثل في والدة الطبيب البالغة من العمر 95 عاما، والتي تظل وابنها يتوقعان الموت لمدة 15 عاما من دون أن يأتي، ويكون موتها بعد ذلك نذيرا بموت البطل.. ومقابل المدرس الحيّ / الميّت، هناك الميّت / الحيّ، المتمثل في شاب من أبناء الجزيرة يُقتل في حادث، ورغم ذلك يظل والده (عبد الحفيظ التطاوي) ينتظره كل ليلة - على مدار 15 عاما - عند "المعدية" التي تربط الجزيرة بالعالم الخارجي.

ويرمز المدرس المريض بالقلب للمثقف المأزوم الذي لا يستطيع تحمل الضغوط المحيطة به، حتى أنه من فرط اليأس والإحباط يفكر في فكرة تناسخ الأرواح، على أمل أن تعيش روحه بالشكل الذي يريده ويحلم به في جسد آخر بعد موته.. لكن الحقيقة أن الفيلم لا يتمسك بذلك الأمل، ولا يترك للمشاهد سوى الشجن النبيل الذي من المفترض أن يدعوه للتأمل وإعادة الحسابات. 

ورغم التميز الفني الواضح لفيلمي "الأفوكاتو" و"للحب قصة أخيرة"، اللذين قدمهما الميهي في قمة توهجه الفني خلال ثلاث سنوات فقط (من 1983 إلى 1985)، إلا أنه لم يسلم من أعداء الإبداع من خفافيش الظلام، الذين أشهروا في وجهه سلاح محاكم التفتيش المصرية ولا حقوه قضائيا من دون أي مبرر.. فقد حوكم "الأفوكاتو" ومخرجه ومنتجه، وكذلك بطله (عادل إمام)، بتهمة "تشويه مهنة المحاماة"، وهي قضية كانت تعد - في ذلك الوقت - سابقة خطيرة في تاريخ السينما المصرية.

أما قضية "للحب قصة أخيرة"، فكانت أخطر، حيث اتهم المخرج وبطلا الفيلم (معالي زايد ويحيى الفخراني) ومنتجه (حسين القلا) بتهمة تصوير فعل فاضح وأحيلوا إلى نيابة آداب القاهرة. أما "الفعل الفاضح"، فكان مشهد حب جمع بين الزوجين في الفيلم، علماً بأن كل مشاهد الحب في ذلك العمل لم تكن لها أي علاقة بالإثارة، حيث كانت حزينة، تنعي علاقة عاطفية شاعرية مصيرها الموت.

عالم الفانتازيا

بتلك القضية المؤسفة، انتهت المرحلة الثانية من مسيرة رأفت الميهي السينمائية، وبدأت المرحلة الثالثة عام 1987 بإخراجه فيلم "السادة الرجال"، وكانت – كالعادة – مختلفة تماما عن سابقتيها، ولابد من التوقف طويلا عندها، ليس فقط لأنها آخر مراحله واستقرت عندها شخصيته الفنية، ولكن أيضا لأنها شهدت أكثر تحولاته حدة، وأكبر كم من الصعوبات واجهها في مشواره.

من الواقعية، والواقعية السحرية، والدراما النفسية، و"الفيلم نوار"، والميلودراما، وكل الأنواع التي قدمها في المرحلتين السابقتين، إلى الفانتازيا والعبث المطلق والكوميديا الصرفة – "الفارص" إن شئت التعبير – في "السادة الرجال" وما تلاه من أفلام حتى فيلمه الأخير "شرم برم" (2007).. كيف حدث هذا التحول الحاد المفاجئ، الذي جاء بعد عامين فقط من تقديمه "للحب قصة أخيرة"؟

للإجابة، لابد من استعراض الأوضاع السياسية والاجتماعية والسينمائية أيضا في مصر في النصف الثاني من ثمانينيات القرن الماضي، وفي عقد التسعينيات كله، وهي الفترة التي صنع خلالها الميهي معظم أفلامه الفانتازية أو العبثية، في رد محتمل على ما أحاط به من تطورات وما تعرض له من ضغوط.

كان الرئيس المخلوع حسني مبارك – بعد مرور بضع سنوات على توليه الحكم – قد بدأ يطرب للنفاق، ويحب المنافقين، ويلتصق بالكرسي، ويستعد للبقاء مدى الحياة.. وكان قد تحول إلى "زعيم" معزول في قصره لا يستمع ولا يثق إلا في البطانة السيئة المحيطة به.. وعلى أساس أن "الناس على دين ملوكهم"، انطلقت على الفور صناعة "الزعيم الأوحد" في كل مجال وقطاع على أيدي البطانات المنتفعة، وانسحب ذلك على السينما، فأصبح هناك زعيم للإخراج، وآخر للنقد السينمائي، وثالث للسيناريو.. إلى آخره.

وكما تجاوبت السينما مع الإشارات الإيجابية لمبارك في بداية فترة حكمه، تجاوبت مع الإشارات والممارسات السلبية التي ظهرت في دائرة سلطته وتزايدت بمرور السنوات، وبدأ السينمائيون يدركون أنه ليس الحاكم الذي تخيلوه أو تمنوه، وانعكس موقفهم الجديد على أعمالهم واختياراتهم.

وكانت التسعينيات عقدا مفصليا في تاريخ الوطن العربي، ومنطقة الشرق الأوسط، وفي فترة حكم مبارك بشكل خاص، ليس لأنها تتوسط هذه الفترة، ولكن لأنها شهدت حماقة غزو العراق للكويت، ثم تدمير العراق نفسه على أيدي الولايات المتحدة وحلفائها، في مأساة غيرت وجه المنطقة وموازين القوى والمصالح فيها إلى الأبد.. كما شهدت موجة الإرهاب الدموية التي اجتاحت مصر ودولا أخرى خلال النصف الأول من العقد، وتركت جرحا غائرا ما زلنا جميعا نحاول علاجه.

وكان من الطبيعي أن ينعكس كل ذلك على السينما، التي سرعان ما بدأت تخلع عباءة "الواقعية"، التي كانت قد ارتدتها في الثمانينيات، لنفورها من الواقع المرير.. وانعكس هروب السينمائيين المصريين من الواقع في اللجوء للترميز، والسينما الذهنية، التي قام أغلبها على أعمال أدبية، والعودة إلى التاريخ بشكل مشوه وممسوخ، كما فعل يوسف شاهين في "المهاجر" و"المصير"، وفي الدق على أبواب الدجل والشعوذة في أفلام مثل "البيضة والحجر" و"عتبة الستات"، وفي النقل عن الأفلام الأمريكية بلا حرج لتقديم "أكشن" ضعيف ومتهافت في أعمال مثل "الباشا" و"الإمبراطور" و"شمس الزناتي".

وما يهمنا هنا، أن رفض الواقع والنفور منه انعكس أيضا في اللجوء إلى الفانتازيا كما فعل عدد من المخرجين منهم رأفت الميهي، ولا يعني ذلك بالضرورة أن هذا هو السبب الوحيد لتحوله الفني الحاد، فهناك بالتأكيد أسباب أخرى، منها قناعاته الشخصية، وتفاعله مع ظروف وشروط السوق – خاصة أنه يعمل بالإنتاج – وظروف وأجواء الأزمات التي عصفت بالسينما خلال تلك الفترة.

وقد تتعجل – كما فعلت أنا شخصيا في يوم من الأيام – وتصف هذه المرحلة بأنها الأضعف في تاريخ الميهي الطويل، وأنه لم يقدم خلالها ما يرقى لما حمل توقيعه منذ بدأ الكتابة للسينما وحتى ألّف وأخرج "للحب قصة أخيرة"، لكنك لابد أن تتروى قليلا قبل إصدار مثل هذا الحكم.. وربما تساعدك الكلمات التي وصف بها الفنان الكبير – في حواره معي – حال السينما والسينمائيين خلال تلك الفترة التي شهدت اتجاهه للعبث والكوميديا، حيث قال: "ظللت أكثر من 30 سنة (أهاتى) دون أن يشعر بى أحد ودون أن يستمع أحد.. حتى بدا لى أنه لا يوجد أمل فى الحل.. المشكلة أن هناك أناسا لا يحبون السينما ولا يدركون ما يمكن أن تضيفه للدخل القومى المصرى.. ونوع من القسوة الإنسانية أن تطلب من السينمائيين أن يفعلوا المزيد.. هل يعلم أحد أننا ننتج بقروض من البنوك ونعمل بدون حماية؟ القضية فى حاجة إلى خيال خصب شاب وقرار حاسم، قبل أن نتصور أن هناك من يخطط لضرب صناعة السينما المصرية ومن يستهدف تدمير المنتجين حتى يتوقفوا عن العمل".

معنى ذلك أن هذا الفنان كان يعمل ويحاول ويكافح فى ظل أزمة طاحنة وظروف قاسية، رغم أنه كان من السهل تماما أن يؤثر السلامة والراحة والربح ويعمل فى "الفيديو كليب" أو الإعلانات مثل غيره، ولكنه واصل الجهاد، ولذلك فهو - على الأقل - كان يستحق التحية.. وإن كان ذلك لا يمنع أنني لم أعجب بأفلام مثل "ميت فل" و"تفاحة"، رغم فوز الثاني بهرم مهرجان القاهرة الذهبي عام 1996.

فقد بدا لي الاستسهال واضحا فى الفيلمين، وأخطر ما فيه استسهال الموضوع أو القضية المطروحة، وهى فى "ميت فل" استبدال الآباء، وفى "تفاحة" استبدال الأزواج، مع الاعتماد فى كليهما على أربع شخصيات رئيسية فحسب، بينهما علاقات غائمة وغير منطقية (وغير فانتازية أيضا)، وتقوم على مفارقات فجة وبدائية.. وفى الحالتين، لم تكن "القماشة" (بلغة السينمائيين) تصلح لأن تكون فيلما، وكان الإصرار عليها يستوجب تعويض ضعف الموضوع بالعمق، والإحساس، والجدة، واللغة السينمائية الراقية، لكن الفيلمين افتقدا إلى كل ذلك.

مغامرة

أما أفضل أفلام تلك المرحلة الثالثة من مسيرة الميهي على الإطلاق، فهو "قليل من الحب كثير من العنف"، الذي يعد تجريبيا بامتياز ويقوم على سيناريو محكم وغير مسبوق لا يمكن أن يصدر إلا عن فنان كبير.. ولعله أول فيلم فى تاريخ السينما المصرية - وربما العالمية - يقدم معالجتين مختلفتين تماما لنفس القصة على نفس الشريط بفريقين مختلفين من الممثلين، فيما عدا ممثلة واحدة (ليلى علوى) تلعب نفس الدور فى المعالجتين، فكأنها تلعب شخصيتين مختلفتين تماما للاختلاف الكبير فى ملامح وخصائص الشخصية فى كل معالجة. 

عهد الميهى إلى ثلاثى وسيم من الفتيان الأوائل (محمود حميده - هشام سليم - هشام عبد الحميد) ببطولة المعالجة الميلودرامية، وإلى ثلاثى كوميدى (يونس شلبى - نجاح الموجى - أشرف عبد الباقى) ببطولة المعالجة العبثية، وهو ما يعنى تلقائيا أن المعالجة الأولى ميلودرامية تشوبها الدماء والدموع، وأن المعالجة الثانية تتفجر بالمفارقات الكوميدية والسخرية المريرة.

وبرر الميهي ظهور الفيلم بفريقين من الممثلين وبمعالجتين وكأنه فيلمان فى فيلم واحد بأن الرواية تبدأ بعد حرب الخليج، وأنه أراد أن يبرز حالة الشيزوفرينيا التى أصابت العالم العربى كله بسبب هذه الأزمة.. فكان لابد من هذا الشكل الجديد الذى يعبر عن المضمون.. ثم تساءل: "لماذا لا أتشجع وأقدمه، هل يجب أن أنتظر حتى يقدمه الغرب حتى أقلده؟".

إلا أنه شعر بأنه "أرهق" المشاهد، قائلا: "أعتقد أننى كنت قاسيا جدا على المشاهد لأن الفيلم - إلى جانب الشكل غير المألوف - به كمية كبيرة من القلق والتوتر والمتلقى بدوره به ما به منهما ولا يتحمل المزيد.. ولذلك قررت أن أقدم، فى مرحلة ما بعد (قليل من الحب)، لونا آخر يميل إلى الكوميديا".. وربما يكون ذلك مبرر تقديمه "ميت فل"، و"تفاحة" و"ست الستات"، في محاولة "لتخفيف الجرعة" بعض الشيء.

إنه من "آخر السينمائيين المحترمين" الذين يضعون الجمهور في حسبانهم، لا بحسابات التجارة و"خلطاتها السرية" التي يظن بعض السينمائيين والمنتجين أنهم يحتكرونها، ولا بشعار "الجمهور عايز كده" المقيت، ولكن بحسابات التلقي التي يجريها مبدع كبير ليعرف أين يقف من جمهوره، وأين يقف جمهوره منه، وما إذا كان "قاسيا" على ذلك الجمهور من عدمه، رغم أنه أثرى السينما المصرية والعربية كاتبا للسيناريو ومخرجا ومنتجا تحت ظروف فى غاية الصعوبة والقسوة، ولم يهتم أحد بمعاناته ولم يمد له أحد يد العون.

ظنه الجميع يريد الحصول على لقب "مخرج" ليزين به صدره عندما بدأ مسيرة الإخراج إلى جانب كتابة السيناريو، لكن كانت لديه حسابات فنية دقيقة تصب في صالح الدراما التي يقدمها، والحرية المطلقة التي يحلم بها، من دون أي رغبات نرجسية أو أطماع ديكتاتورية.. وعندما سألته عن أقرب مظاهر إبداعه إلى نفسه، لم يختر "المخرج"، بل قال على الفور: "طبعا كاتب السيناريو". وأضاف: "هذه هى لحظة الإبداع الأولى والحقيقية".

وعندما أقدم على الإنتاج، ظنه الجميع ساعيا للربح المادي، لكنه كانت له وجهة نظر فنية بحتة ليست لها أي علاقة بالمعايير التجارية: "اقتحمت مجال الإنتاج من أجل المزيد من السيطرة على موضوعى، وحتى لا أحمل المنتج تبعاته.. أردت أن أتحمل وحدى مسئولية تجريبى وتجديدى لاسيما فى لون الفانتازيا". وبهذا الدافع الفني خاض - كمنتج - مغامرة غير مضمونة العواقب بتقديم مجدى أحمد على كمخرج لأول مرة فى "يا دنيا يا غرامى"، حيث لم يكن الأخير له اسم في السوق كما يقولون، وكان قادما بدوره من مجال كتابة السيناريو.

ابتعد عن الإخراج للسينما منذ أن قدم آخر أفلامه "شرم برم" عام 2007، ربما لعدم تحقيقه النجاح المطلوب، شأنه في ذلك شأن أفلامه الثلاثة السابقة عليه: "علشان ربنا يحبك" و"ست الستات" و"ميت فل". أخرج مسلسلا واحدا للتليفزيون هو "وكالة عطية" عام 2009 عن رواية للكاتب الراحل خيري شلبي، لكنه لم يستطع أن يضبط بوصلته الفنية الدقيقة على اتجاهات السوق الإعلانية التليفزيونية المتوحشة، ولم يجد نفسه في التجربة فلم يكررها.

وحتى تكتمل رسالته، أنشأ أكاديمية "فنون وتكنولوجيا السينما" التي تحمل اسمه لتدريس الفن السابع، وتضم أقسام الإخراج والسيناريو والمونتاج، ليضيف إلى "أدواره" السينمائية التي لا تنسى دور الأستاذ الأكاديمي الذي يحرص على نقل خبراته الكبيرة إلى الأجيال الجديدة من السينمائيين.

جريدة القاهرة في

28.07.2015

 
 

رأفت الميهي.. صانع السينما الأكثر جرأة

أحمد شوقي

أربعة أعوام كاملة، عكفت فيها على مشاهدة ودراسة الأفلام التي أخرجها مخرجي جيل الثمانينيات: محمد خان وخيري بشارة وداود عبد السيد وعاطف الطيب ورأفت الميهي، من أجل دراسة أشكال السرد المختلفة، وصور توظيف التابوهات الثلاثة، الجنس والسياسة والدين، في سينما جيل يعده الكثيرون الأضخم تأثيرا في تاريخ السينما المصرية، سواء باعتباره أول جيل يُشكل تيارا سينمائيا واضح المعالم، أو كونه إرهاصه لأشكال الإنتاج المستقل المتواجدة حاليا.

من بين الأسماء الخمسة التي تناولتها في الدراسة المذكورة برز اسم رأفت الميهي باعتباره الأكثر ارتباطا بالتابو السياسي في أفلامه، وصحيح أنه لا يمكن بحال تناول سينما هذا الجيل بمعزل عن شقيها السياسي والاجتماعي، لكن الحقيقة أنه بخلاف أفلام "القضية" التي صنعها عاطف الطيب، وبخلاف محاولات معدودة لخان قدم خلالها طرحا سياسيا، فإن السمة الغالبة على المخرجين الأربعة ـ بخلاف الميهي ـ هي كون السياسة دائما "هماً ثانياً" يُقدَم كسياق للحكاية أو معلومات مرجعية عن خلفية الشخصيات، بينما ترتكز الدراما بشكل أكبر على الجانب الإنساني للحكاية، وربما هذا كان من أسباب منح هذه المدرسة وصف الواقعية الجديدة الذي لازمها حتى يومنا.

كما أن السياسة في أفلام نفس المجموعة انشغلت طويلا بأزمة بارزة لا سيما خلال الثمانينيات، وهي أزمة جيل السنوات الست. فالمخرجين الأربعة ينتمون لنفس الجيل الذي ارتفع سقف أحلامه للسماء، قبل أن يتحطم في نكسة يونيو، ويعود ليرتفع بآمال النصر ليتحطم مجددا على صخرة الانفتاح. وهو السيناريو الدرامي الذي كان له تأثير على جيل كامل من المصريين كان منهم المخرجين الذين أصبحوا لاحقا أفضل من عبر عن هذا الصراع النفسي سينمائيا. وذلك قبل أن يقدم بعضهم على تجارب أخرى تتماس مع السياسة بشكل مختلف مع مرور السنوات وانخفاض أهمية الأزمة بالتقادم لحساب قضايا وأزمات أخرى.

بعيدا عن هذه المجموعة يحتفظ رأفت الميهي ببناء مغاير في كل عناصر مشروعه السينمائي، انطلاقا من بدايته المختلفة ـ والمبكرة ـ ككاتب سيناريو محترف يعمل لسنوات طويلة مع كبار مخرجي الأجيال الأسبق، ومرورا بنمط ثقافته المميز الذي انعكس على نوعية السينما التي يقدمها، والتي يمكن اعتبارها أكثر أشكال الواقعية خيالا ـ ولا تعارض هنا بين اللفظين كما سنشرح لاحقا ـ، ووصولا إلى إنتاجه للنسبة الأكبر من أفلامه بنفسه مما أتاح له مساحة أوسع للتجريب وطرح الأفكار بصورة قد يرفضها النظام الإنتاجي.

أما أهم ما يميز البناء المختلف لمشروع رأفت الميهي فهو ذلك الارتباط الوثيق بالسياسية، ففي الغالبية العظمي من أفلامه ستجد ذلك التواجد الواضح للطرح السياسي، الذي يصل في بعض الحالات لمناقشة قضايا شديدة الدقة والحساسية كعلاقة المواطن بالسلطات التنفيذية ومدى صلاحية القانون بشكل عام، ولكنها مناقشة تأتي داخل سياق مفرط الخيال، كوميدي في معظم الحالات، لا يصرح بالأمر ولكن يدسه داخل ثنايا العمل، وهو ما قصدته عندما وصفت أعماله بأنها أكثر أشكال الواقعية خيالا، فهي واقعية لأنها تطرح قضايا مرتبطة بواقع الحياة اليومي، ولكنها تطرحها بشكل ينتصر للخيال وسعة الأفق على السرد الكلاسيكي بتنويعاته.

سياسة من البداية

التواجد السياسي يمكن تلمسه من الفيلم الأول "عيون لا تنام"، والذي كان أحد عملين فقط للميهي ابتعدا عن الكوميديا تماما. حيث طرح المخرج المؤلف في فيلمه قضية لم يسبقه أحد لطرحها وربما لم يلحقه أحد كذلك، وهي فكرة الملكية الفردية وتأثيرها على شكل العلاقات بين البشر، مستخدما تصاعد مأسوي يفتت عائلة الأسطى ابراهيم ينتج بشكل مباشر وغير مباشر عن الملكية الفردية، فالصراع ينشأ مباشرة من رغبة شقيقين في امتلاك الورشة والمرأة، والتي يؤججها كراهية وعلاقة مشوهة نتجت هي الأخرة عن عدم تكافؤ في الملكية، أي أن الجانب السياسي يحرك الحكاية كليا، سواء فيما نشاهده على الشاشة من تصاعدات درامية، أو حتى ما دار في الماضي قبل أن يبدأ الفيلم. مع الإشارة لأن القضية ذاتها قد تبدو اقتصادية واجتماعية أكثر من كونها سياسية، لكن زمن تقديمها وارتباطها بالقرار السياسي الذي حرر السوق وفتح باب الملكية الفردية على مصراعيه هو ما جعل الأمر سياسيا بالدرجة الأولى.

بدءا من فيلمه الثاني "الأفوكاتو" انطلق الميهي بنجاح في عالم الكوميديا، ليستخدم حيلة لم تفشل أبدا، هي الاعتماد على النظرة المعتادة للفيلم الكوميدي باعتباره عملا خفيفا في تمرير أفكار وتحطيم تابوهات، ربما لم يكن من الممكن أن تتحطم بنفس الجرأة لو تم ذلك في عمل تراجيدي. فالأفوكاتو يهاجم النظام القانوني الحاكم بأكمله، والذي لم يصبح الفساد فيه مجرد استثناء، بل تحول إلى قواعد مقننة يوافق الجميع عليها ويتعايشون معها، بل ويمكن وضعها في قوالب منطقية تحمل قدرا لا بأس به من الإقناع، وهو ما يقنع بالفعل المحامي والقاضي والضابط والشاويش على الشاشة، لنراهم بشكل غير مسبوق، لا تنفي الكوميديا وخفة الظل الخلل القائم فيه، والذي أظهره الميهي بخفة ظل يصعب أن تمسك بها السلطة أو تدينها.

واستمر الطرح السياسي تباعا في سينما الميهي بصور مختلفة وبقضايا مختلفة، تارة باستخدام سرد سوريالي حر لإدانة العلاقة بين المواطن والأجهزة الأمنية في "سمك لبن تمر هندي"، وتارة لمناقشة آثار الانفتاح بعد عقدين من تطبيقه على أبناء الجيل الثاني من الانفتاحيين في "قليل من الحب.. كثير من العنف"، وتارة يفند الهيمنة الذكورية والعلاقة المضطربة بين الرجل والمرأة في المجتمع والبيت المصري في "السادة الرجال"، قبل أن يقدم على تجربة ثرية يطرح فيها تساؤلات حول قيمة الوطن في ذهن أبناءه، وفكرة الهجرة من أجل حياة أفضل، وتبعاتها على من يقرر الهجرة ومن يقرر البقاء ومن يقرر العودة، وذلك في ثلاثية التسعينيات الشيقة مهضومة الحق "ميت فل" و"تفاحة" و"ست الستات".

والملاحظة أن طرح القضية السياسية يتم في كل مرة باستخدام بناء درامي ذي خصائص مختلفة، من التراجيديا للكوميديا مفرطة الخيال للفانتازيا للسرد السوريالي، ومن شخصية رئيسية واحدة لشخصيتين لأكثر من ذلك، ومن أفلام يظهر بوضوح الفكرة التي تطرحها إلى أعمال يمكن أن يشاهدها البعض كاملة فلا يستشعرون الفكرة، فقط لأنهم لم ينظروا للعمل من الزاوية الصحيحة. وهو ثراء وتنوع يبرز قيمة مشروع الميهي السينمائي، خاصة وأنه ثراء لم يمنع كل أفلامه من التمتع ببصمة واضح تجعل من السهل التعرف على صانع الفيلم بمجرد متابعة عدة دقائق منه، وهو نجاح حققه عدد محدود جدا من صناع الأفلام في تاريخنا.

جرأة دينية وجنسية

جرأة الميهي لم تقتصر على الشكل السردي ولا على الطرح السياسي، بل تظهر بشدة في طريقة تعامله مع التابو الديني، بصورة تجعله واحد من أجرأ من أقدم على التعامل مع الأمر في تاريخ السينما المصرية بأكمله. ولا يوجد ما هو أنسب للتأكيد على هذا الوصف من الشخصية الملغزة التي لعب على حسنين في فيلم "تفاحة"، والتي تشير كل التفسيرات وكل محاولات فهم حديث الشخصيات عنه أو مناجاتهم له أنه يمثل صورة الإله ذاته وعلاقته بما يحدث للبشر، وهو توظيف درامي فائق الجرأة لا يكتفي فقط بتحطيم التابو الديني، بل يعمل بصورة أكبر على إعطاء الفيلم أبعادا أعمق، ويفتح الطريق لأكثر من تأويل للحكاية، سواء من شقها السياسي، أو من شقها الوجودي فيما يتعلق بعلاقة الإنسان بالإله، والنظرة التي يكنها الإنسان لعلاقة الإله بما يتعرض له في حياته من أزمات ومحن. أي أن الدين هنا يلعب دورين: أحدهما داخل سياق الفيلم نفسه بتعميقه، والآخر خارجه بتوجيه صدمة لمنظومة القيم العامة بصورة يصعب على السلطة أن تحكم بمنعها، وهو لب ما يمكن أن نسميه بالتحطيم الهادف للتابو.

لاحظ أن الدين هنا ليس هدفا في حد ذاته، ولكن التوظيف الجيد له في خدمة التوجه العام للفيلم جعله جزءا لا يتجزأ من البناء، فهو ليس هدفا أساسيا ولكنه ليس ثانويا كذلك، وهو نفس التعامل المرهف الذي تلمسه مع التابو الجنسي في "السادة الرجال"، والذي تعامل فيه الميهي مع فكرة التحول الجنسي بجرأة وانفتاح غير مسبوقين. ومجددا حمل الأمر الشقين: الداخلي لتحريك الدراما التي تناقش بالأساس قضية اجتماعية تمس كل البيوت التقليدية، والخارجي بإعطاء أبعادا أكبر للأمر عبر علاقة فوزي غير المريحة مع جسده الجديد، بما في ذلك من مفاتيح للتأويل تعطي الحكاية شقا فسيولوجيا ونفسيا أبعد بكثير من الصورة المعتادة لكوميديا الخلاف بين الرجل والمرأة.

قس على ما سبق الغالبية العظمى من توظيف التابوهات في سينما الميهي، لتجد أنك العلاقة المحرمة بين الزوجة وشقيق الزوج في "عيون لا تنام"، والتي تم التمهيد لدوافعها وتعميقها عبر علاقة جنسية أخرى لكل منهما بالزوج والعشيقة، هي أكبر من مجرد خيانة ميلودرامية تدفع الأحداث القدرية نحو النهاية القاتمة، ولكنه توظيف من عمق الفيلم ولعمق الفيلم، نابع من التكوين الذي فهمناه للشخصيات، ويؤدي لمصيرها المرتبط بنفس التكوين، وهو ما يدفع المشاهد دفعا للنظر للعلاقة التي من الطبيعي أن يرفضها في صورتها المجردة، بعين أخرى تحاول تفسير ما يحدث وربطه بالسياق العام للفيلم.

نفس الأمر يمكن تكراره على تحطيم جرئ آخر للتابو الديني في "سمك لبن تمر هندي"، عبر مشهد دخول الجنة الذي يبدو لوهلة صادما وغير مستساغ بالنسبة للكثيرين، ولكن تفسير سياقه وربطه بالهدف السياسي العام للفيلم، يجعله مجددا مجرد أداة توضح مدى فساد السلطة الأمنية، بصورة تجعل العيش في "زمن الضابط ملاك" سببا كافيا للتغاضي عن كل المعاصي ودخول الجنة بلا حساب، وهو تصور خيالي مناسب للروح السوريالية العامة للفيلم، وهو أيضا أمر يحطم الثوابت المجتمعية عما يمكن مشاهدته على شاشة السينما، بما يجعله هو الآخر تحطيما نموذجيا للتابو.

ثم يأتي أحد أكثر الإحالات جرأة في "ست الستات" التي يمكن في أحد قراءته اعتبار بيت الدعارة التي تديره بسنت رمزا الوطن، لتصبح رغبة ست الستات ـ لاحظ دلالة الوصف ـ في الحفاظ على نشاطها غير المشروع، في مواجهة العائد بأموال الخليج محاولا تغيير النشاط لآخر يناسب منظومته القيمية، تصبح الرغبة مرادفة لمحاولة الحفاظ على هوية الوطن من محاولات الراغبين في تعديل مساره وفقا لرؤاهم الخاصة التي أتوا بها أو أتت لهم من مصدر معروف للجميع.

كل ما سبق نماذج توضح تلك السمات المميزة لتحطيم التابوهات في سينما رأفت الميهي، والذي جاء في أغلب الأحوال ملتزما بخصائص تميزه عن مثيله في باقي تجربة الجيل بل وتجارب السينما المصرية عموما، فهو تحطيم صادم جدا، مقتحم يستهدف سقفا شاهقا بصورة تنجيه من مقص الرقيب الذي لا يتصور في كثير من الأحيان أن يكون المقصود بهذا القدر من الجرأة. وهو تحطيم وثيق الصلة بالموضوع الرئيسي، يساهم في تحريك الدراما وتبنى عليه الكثير من التفاصيل المحورية في الحكاية، بالإضافة لقيامه بتعميق الطرح ومنحه مساحات إضافية للتفسير.

رحم الله أستاذنا رأفت الميهي، الذي بلغت معظم أفلامه درجة من الموهبة والحذق والجرأة والإمتاع، يعيش صناع أفلام آخرون حيواتهم بالكامل يحلمون بتحقيقها ولو في فيلم واحد.

جريدة القاهرة في

28.07.2015

 
 

رأفت الميهي

(بورتريه)

توفي مساء الجمعة الموافق 24 يوليو 2015 المخرج والسيناريست السينمائي المصري رأفت الميهي عن عمر ناهز 75 عاماً بعد نصف قرن من الانشغال بالسينما تأليفاً وإخراجاً وإنتاجاً.

وقالت الناقدة والمونتيرة السينمائية صفاء الليثي إن الميهي توفي في أحد مستشفيات القاهرة.

- ولد الميهي في سبتمبر 1940 ودرس الأدب الإنجليزي ثم درس السيناريو وكان أول فيلم يكتبه للسينما «جفت الأمطار» الذي أخرجه سيد عيسى عام 1967.

- جذب الميهي الانتباه حين كتب سيناريو فيلم «غروب وشروق» الذي أخرجه كمال الشيخ عام 1970 وهو من كلاسيكيات السينما المصرية ثم كتب ثلاثة أفلام أخرجها الشيخ وهي «شيء في صدري» و«الهارب» و«على من نطلق الرصاص» وهو آخر سيناريو يكتبه لغيره.

- ‏في عام 1981 أخرج الميهي فيلمه الأول «عيون لا تنام» المقتبس عن مسرحية «رغبة تحت شجرة الدردار» للكاتب الأميركي يوجين أونيل.

- برع الفنان الراحل في الدراما النفسية حين كتب فيلم «أين عقلي» الذي أخرجه عاطف سالم عام 1974 وقامت ببطولته سعاد حسني.

- أثار جدلاً كبيراً في مصر بفيلم «الافوكاتو» الذي أخرجه عام 1983 وقام ببطولته عادل إمام ويسرا. وتناول الفيلم قصة محامٍ يتحايل على القانون بشتى الوسائل.

- تفوق في أفلام الكوميديا الخيالية «الفانتازيا» التي كتبها وأخرجها ومنها «للحب قصة أخيرة» عام 1986 و«السادة الرجال» عام 1987 و«سمك لبن تمر هندي» عام 1988 و«سيداتي آنستاتي» عام 1989 و«قليل من الحب.. كثير من العنف» عام 1995 و«ميت فل» عام 1996 و«تفاحة» عام 1996 و«ست الستات» عام 1997 و«علشان ربنا يحبك» عام 2000 و«شرم برم» عام 2001.

- حصلت أفلامه على جوائز من عدة مهرجانات مصرية ودولية منها كارلوفي فاري الذي منح فيلم «للحب قصة أخيرة» جائزة خاصة. كما نال «قليل من الحب.. كثير من العنف» الجائزة الأولى في المهرجان القومي الخامس للأفلام الروائية في مصر عام 1995.

- أنتج الميهي أفلاماً مهمة منها «يا دنيا يا غرامي» الذي أخرجه مجدي أحمد علي عام 1996 وحصد الكثير من الجوائز.

- وأخرج الميهي المسلسل التلفزيوني «وكالة عطية» عام 2009.

الوسط البحرينية في

28.07.2015

 
 

وداعاً يا صديق العمر

بقلم   سمير فريد

يقام اليوم عزاء فنان السينما رأفت الميهى، الذى توفى الجمعة الماضى عن ٧٥ عاماً، فى مسجد عمر مكرم بوسط القاهرة، وهو أقدم أصدقاء العمر بالنسبة لى، فقد تعرفت عليه عام ١٩٦٥ فى منزل المخرج سيد عيسى «١٩٣٥-١٩٩٠» أثناء الإعداد لفيلم «جفت الأمطار»، وكان أول سيناريو يكتبه رأفت وأول فيلم يخرجه سيد، وأول فيلم أحضر فترة إعداده قبل التصوير، وكم من شخصين تمتد صداقتهما ٥٠ سنة، وكم فى العمر ٥٠ سنة، إننى أودع اليوم قطعة من كيانى، وأقدم العزاء لابنه تامر وابنته آسيا، وأتلقى العزاء فى نفس الوقت.

«الأيام الجميلة الماضية» تعبير أطلق فى أوروبا على الأيام التى سبقت الحرب العالمية الأولى عام ١٩١٤، وفى حياة كل جيل أيام جميلة ماضية، وهى بالنسبة لجيل الستينيات الذى أنتمى ورأفت الميهى إليه، الأيام التى سبقت حرب يونيو ١٩٦٧، ولكن كما كشفت الحرب العالمية الأولى فى أوروبا أنها لم تكن أياماً جميلة، وإنما أوهام كبيرة، كشفت حرب يونيو الوهم الجميل الذى كنا نعيش فيه، كان فيلم «جفت الأمطار» أول فيلم اشتراكى فى تاريخ السينما المصرية، وكنا نعتقد أن من الواجب بيع الحرية الفردية من أجل حرية كل الشعب، ولم ندرك أن بيع الحرية من أجل أى شىء يؤدى إلى فقد الحرية وكل شىء إلا بعد الهزيمة فى ١٩٦٧، وقد عرض «جفت الأمطار» بعد أسابيع من تلك الهزيمة.

تخرج رأفت الميهى فى قسم اللغة الإنجليزية بكلية الآداب جامعة القاهرة عام ١٩٦٠، وفى معهد السيناريو عام ١٩٦٤، واشترك فى تأسيس جماعة السينما الجديدة عام ١٩٦٨، والتى كانت بوتقة الدعوة إلى رفض الهزيمة فى فترة ما بين الحربين «١٩٦٧-١٩٧٣»، فى مجال السينما، والدعوة إلى تحرير الأرض وتحرير الإنسان الذى يعيش عليها.

ويعتبر رأفت الميهى صفحة خاصة فى تاريخ السينما المصرية فى الثلث الأخير من القرن العشرين، سواء ككاتب سيناريو فى السبعينيات، أو ككاتب ومخرج فى الثمانينيات والتسعينيات، ولندع جانباً المرحلة الثالثة والأخيرة كمنتج ومؤجر لاستديو جلال منذ عام ٢٠٠٠، ومجموع أفلامه فى المرحلتين الأولى والثانية لا يزيد على عشرين فيلماً، فلم يكن يقف وراء الكاميرا إلا بدوافع فنية وفكرية، والعديد من أفلامه من العلامات التى لن تنسى أبداً.

المصري اليوم في

29.07.2015

 
 

حياة وأفلام رأفت الميهى

بقلم   سمير فريد

ليس معروفاً على نطاق واسع أن رأفت الميهى «١٠٤٠-٢٠١٥» كان يريد أن يكون شاعراً وكاتباً للقصة والرواية، ولذلك التحق بقسم اللغة الإنجليزية فى كلية الآداب جامعة القاهرة، حيث تخرج عام ١٩٦٠، ونشر عدة قصص قصيرة فى ملحق «المساء» الأدبى الذى كان يشرف عليه عبدالفتاح الجمل، ولكن صلاح أبوسيف قرأ هذه القصص، وجذبه إلى عالم السيناريو، فدرس فى معهد السيناريو الذى كان يديره أبوسيف، ثم اختاره للعمل فى قسم السيناريو بمؤسسة السينما فى وزارة الثقافة، والتى كان أبوسيف يديرها أيضاً، وكان رأفت يعمل مدرساً للإنجليزية فى معهد منوف الدينى، وهى مسقط رأسه، فاستقال بعد عامين، وأصبح موظفاً فى وزارة الثقافة.

ولم يكن من الغريب، بعد أن توقف عن الإخراج عام ٢٠٠٠، أن يؤسس فى استديو جلال الذى أجره مدرسة لتعليم فنون وعلوم السينما، وهو الذى عمل مدرساً فى شبابه المبكر، ولا أن تصدر له روايتان: الأولى «هورجادا سحر العشق» التى أصدرها صديقه الكاتب والصحفى والناقد قصى صالح الدرويش فى باريس عام ٢٠٠١، ومنعت من التوزيع فى مصر، والثانية «الجميلة حتما توافق» التى صدرت عن دار الهلال عام ٢٠٠٦، وقد كتب رأفت الميهى عدة سهرات تليفزيونية، ولكنه وجد نفسه فى السينما كاتباً للسيناريو منذ ١٩٦٥، ثم كاتباً للسيناريو ومخرجاً منذ ١٩٨١ وحتى ٢٠٠٠ عندما صور «شرم برم» الذى لم يتم.

أهم أفلام رأفت الميهى ككاتب سيناريو حسب سنوات العرض «جفت الأمطار» إخراج سيد عيسى ١٩٦٧، و«غروب وشروق» ١٩٧٠، و«شىء فى صدرى» ١٩٧١ إخراج كمال الشيخ، و«غرباء» إخراج سعد عرفة، و«الحب الذى كان» إخراج على بدرخان ١٩٧٣، و«أين عقلى» إخراج عاطف سالم، و«الهارب» إخراج كمال الشيخ ١٩٧٤، و«على من نطلق الرصاص» إخراج كمال الشيخ ١٩٧٥.

وأفلامه كمخرج وكاتب سيناريو ١١ فيلماً هى حسب سنوات الإنتاج والعرض:

١- عيون لا تنام إنتاج وعرض ١٩٨١.

٢- الأوفوكاتو إنتاج ١٩٨٣ عرض ١٩٨٤.

٣- للحب قصة أخيرة إنتاج ١٩٨٤ عرض ١٩٨٦.

٤- السادة الرجال إنتاج ١٩٨٦ عرض ١٩٨٧.

٥- سمك لبن تمر هندى إنتاج وعرض ١٩٨٨.

٦- سيداتى آنساتى إنتاج ١٩٨٩ عرض ١٩٩٠.

٧- قليل من الحب، كثير من العنف إنتاج ١٩٩٤ عرض ١٩٩٥.

٨- ميت فل إنتاج ١٩٩٥ عرض ١٩٩٦.

٩- تفاحة إنتاج ١٩٩٦ عرض ١٩٩٧.

١٠- ست الستات إنتاج ١٩٩٧ عرض ١٩٩٨.

١١- علشان ربنا يحبك إنتاج ٢٠٠٠ عرض ٢٠٠١.

samirmfarid@hotmail.com

المصري اليوم في

30.07.2015

 
 

عزاء رأفت الميهي .. حضورٌ خجول ومقاعد فارغة

القاهرة ــ مروة عبد الفضيل

كان الحضور خجولاً في عزاء المخرج المصري الراحل رأفت الميهي الذي أُقيم في مسجد عمر مكرم بميدان التحرير، ولم يحضر سوى عدد ضئيل من النجوم والنجمات عزاء الراحل الذي عانى الكثير من الأزمات الصحية في سنواته الأخيرة بصمت، حتى تلاميذه غابوا عن تقديم الواجب.

أقيم العزاء أمس الأربعاء، وتلقى التعازي نجله تامر، فيما لم يحضر سوى عدد من المخرجين لتقديم الواجب، ومنهم خيري بشارة وداود عبد السيد وسعد هنداوي والكاتب وحيد حامد وصبري فواز والممثلة ليلى علوي، بالإضافة إلى دلال عبد العزيز وأيمن عزت والناقد السينمائي علي أبو شادي والمنتج جمال العدل وشقيقه مدحت العدل ورانيا فريد شوقي ونقيبا المهن السينمائية والتمثيلية مسعد فوده وأشرف ذكي.

ولفتت المقاعد الفارغة نظر الحاضرين لكثرتها، ليكون ذلك المشهد الأصعب من سلسلة أفلام رأفت الميهي.

العربي الجديد اللندنية في

30.07.2015

 
 

رأفت الميهي... أسطورة «الفانتازيا» السينمائية يرحل في صمت

كتب الخبرهيثم عسران

ترك المخرج رأفت الميهي بصمة سينمائية واضحة من خلال الأفلام التي قدمها، في مسيرة سينمائية استمرت قرابة نصف قرن، تميزت خلالها أعماله بالتنوع والاختلاف في المضمون من دون الاهتمام بالكم الذي ينتجه، لذا لا يزيد رصيده على 50 فيلماً بين تأليف وإنتاج وإخراج، لكن غالبيتها تعتبر من علامات السينما المصرية بل كثير منها دخل ضمن قائمة أفضل 100 فيلم سينمائي في القرن العشرين.

درس الميهي في قسم اللغة الإنكليزية بكلية الآداب في جامعة القاهرة قبل أن يبدأ دراسة السينما ويركز في العمل فيها كسيناريست في فيلم «جفت الأمطار» (1967) مرورا بمجموعة مختلفة ومتميزة من الأفلام من بينها: «غروب وشروق»، «الهارب»، «شيء في صدري»، وهي من إخراج  كمال الشيخ، بالإضافة إلى: «صور ممنوعة»، قدم فيه ثلاث قصص كل واحدة في جزء مختلف، «أين عقلي» لسعاد حسني، وغيرها من الأفلام التي حققت نجاحاً في الصالات السينمائية مع طرحها.

مغامرة الإنتاج

شغف الميهي بالسينما دفعه إلى المغامرة بالإنتاج السينمائي  من خلال فيلم «المتوحشة» (1970) واحد من ضمن فيلمين أنتجهما من دون أن يكون له علاقة بكتابتهما، أما الفيلم الثاني فكان بعد  26  سنة وهو «يا دنيا يا غرامي» الذي تقاسمت بطولته ليلى علوي مع إلهام شاهين وهالة صدقي، وقد أنتجه لإعجابه بالقصة وعلاقة الصداقة التي جمعته مع المخرج الشاب آنذاك مجدي أحمد علي.

عمل الميهي كمنتج منفذ في فيلم «البداية» (1986)، رغم نجاحه كمؤلف وكاتب سيناريو ومخرج لكن عشقه للسينما جعله يكون حاضراً  في أي مكان يشعر أنه قادر على العطاء فيه.

تأخر الميهي في دخول مجال الإخراج حوالى  15  سنة، فكانت أولى تجاربه الإخراجية فيلم «عيون لا تنام» (1982)، وكانت البداية موفقة إخراجياً وشجعته على تكرارها، لا سيما أن النقاد أشادوا بما قدمه وبرؤيته البصرية المختلفة عن المخرجين، وقد أكد في لقاءات عدة أن هذه الإشادات دفعته إلى الاحتفاظ بمستوى رفيع في أعماله الفنية اللاحقة والتفكير جيداً قبل الشروع في تصوير أي فيلم سينمائي جديد، لعدم وجود ما يدعوه إلى الاستعجال.

رائد الفانتازيا

يعتبر رأفت الميهي رائد الفانتازيا في السينما المصرية، صحيح أن  ثمة تجارب محدودة قبله، إلا أن الأعمال التي قدمها رسخت سينما الفانتازيا، وبدأها من ثاني تجاربه الإخراجية في «الأفوكاتو» مع عادل إمام ويسرا، وقد حقق الفيلم نجاحاً وإشادة نقدية، ويعتبر أحد أفضل الأفلام التي قدمها عادل إمام في مسيرته الفنية، كتب قصته الميهي أيضا، فنجح بامتياز كمؤلف ومخرج في فيلم يصنف ضمن أفضل 20 فيلماً سينمائياً في القرن العشرين في السينما المصرية.

لم يتوقف رأفت الميهي في تجربة الفانتازيا على فنان محدد، ففيلمه التالي «للحب قصة أخيرة» مع يحيى الفخراني كان أكثر نجاحاً، ويعتبر أكثر أعماله السينمائية التي  حازت إشادة نقدية، ونال عنه جوائز سينمائية داخل مصر وخارجها.

تجاربه السينمائية اللاحقة في الفانتازيا كان بطلها محمود عبد العزيز الذي قدم معه أفلاماً تنتمي إلى الفانتازيا أبرزها «سمك لبن تمر هندي»، «سيداتي أنساتي»، و{السادة الرجال»،  وقد حققت نجاحاً على المستويين الجماهيري والنقدي  لدى طرحها سينمائياً.

لم يبخل رأفت الميهي على السينما، فكان ينفق عائدات أفلامه لإنتاج أفلام جديدة، وقدم للسينما 11 فيلماً سينمائياً  كتب السيناريو لها وأخرجها آخرها «شرم برم» و{علشان ربنا يحبك» وهما آخر أفلام الفانتازيا التي قدمها، ولم يحققا نجاحاً يذكر  في دور العرض السينمائية، ما كبده خسائر مالية جعلته يتوقف عن الإنتاج السينمائي.

غابت أفلام الفانتازيا السينمائية مع توقف الميهي عن الإخراج، وفضل، بعد خسارة أمواله في الإنتاج السينمائي، الاتجاه إلى التدريس الأكاديمي، وافتتح أكاديمية رأفت الميهي للمواهب الشابة في السيناريو والإخراج،  فخرجت دفعات من الكتاب الشباب الذين شاركوا في ورش كتابة لأعمال فنية ناجحة، آخرهم السيناريست الشابة هالة الزغندي مؤلفة مسلسل «الكابوس»، وشاركت في كتابة مسلسل «سجن النسا» مع السيناريست مريم نعوم.

ستستمر الأكاديمية بعد وفاة الميهي، وستشرف عليها زوجته علا عز الدين وابن شقيقه عادل الميهي لإكمال رسالته السينمائية.

الجريدة الكويتية في

31.07.2015

 
 
 
 
 
 
 

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك
  (2004 - 2015)