كتبوا في السينما

 

 
 
 
 
 
 

ملفات خاصة

 
 
 
 
 
 

رأفت الميهي..

رحيل مخرج الحكايات الاجتماعية

نديم جرجوره

عن رحيل المختلف

رأفت الميهي

   
 
 
 
 

ينبثقُ من لقاءِ سينمائيين عرب قلائل، وإن يكن اللقاء وحيداً، شيئاً من متعة في الذات والروح، يستحيل تناسيها. متعة الإستماع إلى صوتٍ مقبلٍ من حيوية الواقع، أو من زمن منتهٍ، لكنه حاضر في الوجدان. يُصبح لقاءٌ كهذا تأمّلاً في العلاقة الساحرة بين السينمائيّ وذاته. فالسينمائيّ يُتقن التنبّه إلى اختلاف الراهن، من دون أن يتحرّر من ذاكرة يُشارك في صنعها، ويُدرك لغز الاندماج الروحي بين حياة وعصر وبيئة وتاريخ، ولا يتغاضى عن واقع يقبض على خلله وارتباكه، من دون أدنى قدرة له على تبديله.

عزلة الزمن

يأتي نبأ رحيل السينمائيّ المصريّ رأفت الميهي مساء الجمعة 24 تموز 2015. عندها، تتفتّح ذاكرة شخصية على لقاءٍ واحد يجمعني به. يحدث هذا أثناء انعقاد الدورة الـ25 (2 ـ 9 تشرين الأول 2001) لـ»مهرجان القاهرة السينمائيّ الدوليّ». الذهاب إليه ناتجٌ من رغبة في اللقاء بحدّ ذاته بنيّة التعرّف إليه، وفي معاينة البدايات الأولى لتنفيذ مشروعٍ جديدٍ له: إعادة ترميم «استديو جلال» في منطقة «حدائق القبّة». مشروعٌ يحمله الميهي بفرح طفل، وبشغف عاشق، وبحيوية مبدع. مشروعٌ موزّع على بلاتوهات للتصوير، وكلية للإخراج، وغرف لتنفيذ تقنيات مختلفة. الاستديو عريقٌ في حضوره السينمائيّ في العاصمة المصرية. مرتبطٌ بعناوين لا تزال أساسية في الذاكرة التاريخية لصناعة الفن السابع المصريّ ـ العربيّ. يملكه يوسف شاهين لفترة، قبل أن يشتريه رأفت الميهي منه في العام 1999. زيارة لا تُنسى لـ «معبد» من المعابد العتيقة للسينما. أسباب عديدة تدفع إلى عدم النسيان: المبنى وإعادة ترميمه. أسماء البلاتوهات، بدءاً من «دنيا سعاد حسني» (بلاتوه كمال الشيخ، بلاتوه صلاح أبو سيف، كلية الإخراج، إلخ.). المكان بغرفه ورائحة الزمن فيه والغبار المنتشر هنا وهناك وأعمال الترميم، أمورٌ تحثّ على التمتّع بمعنى أصالة الإبداع، وقوّة الصداقة، وجمال الحبّ. لكن، هناك أيضاً سببٌ أساسيّ: رأفت الميهي. فالرجل مليء بشغف العمل في الاستديو، وبحماسة تخرج من جسده وروحه فتُظلّل المكان بأسره، وباندفاع واعٍ إلى جعل الخراب صورةً تحمي الذاكرة من الاندثار، وتمنح الراهن براعة الاستمرار في الخلق والتنقيب والمعاينة.

في الزيارة نفسها كلامٌ يتجاوز «استديو جلال» إلى الإنتاج (للميهي «شركة استديو 31) والتوزيع والكتابة («السفير»، 25 تشرين الأول و24 تشرين الثاني 2001). رأفت الميهي ساحرٌ: بمشيته البطيئة والثابتة. بنبرة صوته الهادئة والعميقة والضاجّة ـ في آن واحد ـ بكَمّ لا ينتهي من الخبريات والوقائع والتحليل والنظرة الثاقبة. بواقعية مقاربته الأمور، المتناغمة والعمل الحثيث على تحقيق شيء من أحلام وآمال. يغضب من بؤس الإنتاج. يُدرك أن للتوزيع سياسة تقضي على صنيع، أو «تمجّده». يضع مشروعه هذا في مقدّمة ما يُشبه الانسحاب من وطأة الآنيّ إلى جمال ماضٍ يعرفه الميهي ويعيشه. يُثابر على الاشتغال، لأنه يصنع حكاية لا تُشبه الحكايات السينمائية الأخرى: حكاية الانزواء في «قبّة» الحياة، والانعتاق من خلل المسار التاريخي للحياة نفسها. مع هذا، يعترف أن حيويته وحماسته للمشروع كلّه معرّضان للتوقّف، لأنه «مُثقلٌ بالديون».

اللقاءات السابقة على الزيارة هذه متمثّلة بمتعة المُشاهدة. لن تكون الأفلام كلّها التي يُحقّقها رأفت الميهي (مواليد القاهرة، 25 أيلول 1940) بين العامين 1981 و2010 (له مسلسل تلفزيوني واحد بعنوان «وكالة عطية»، أخرجه في العام 2009) متساوية في مزاولتها مهنة التنقيب في نفوس أو بيئات أو حالات. المُشاهدة بحدّ ذاتها تبقى أساسية في معاينة كيفية اشتغاله البصريّ في سرد حكاية، وفي بناء شخصية، وفي كتابة نصّ، وفي تنفيذ عملية إخراجية تبلغ ذروتها باستكمال العمليات التقنية والفنية. «عيونٌ لا تنام» (1981) يُعلنه مخرجاً سينمائياً سيكون له دورٌ في جعل الصورة السينمائية مرايا بلد ومجتمع وناس، وأيضاً أداة حفر في أعماق البيئة وحالات المقيمين فيها. عن مسرحية «رغبة تحت شجرة الدردار» (1925) للكاتب المسرحي الأميركي أوجين أونيل (1888 ـ 1953)، يبني الميهي عمارة بصرية موغلة في تحليلٍ سينمائي لأحوال السلطة والعلاقات الأخوية والحبّ والصراع الطبقي، من خلال قصّة شيخ عجوز يقترن بفتاة فقيرة، فتنشأ صراعات بينه وبين إخوته (تمثيل: فريد شوقي وأحمد زكي ومديحة كامل).

عناوين متفرّقة

النقد الاجتماعيّ المبطّن، إذا صحّ التعبير، المتمثّل بفيلمه الأول هذا، ممتدّ إلى عالم المحاماة وألغازه ومتاهاته في «الأفوكاتو» (1984)، المثير لضجّة كبيرة في أوساط المحامين المصريين، لقدرته السينمائية على تفكيك عوالمهم، وسرد حكاياتهم المخفية: بشخصيته الأدائية المتماسكة والمؤثّرة، يُقدّم عادل إمام أحد أجمل أدواره السينمائية (في العام 1995، يؤدّي إمام دور محام انتهازيّ في «طيور الظلام» لشريف عرفه، لكن الفيلم والدور معاً لن يكونا بالمستوى الإبداعي الرائع لـ «الأفوكاتو»، شكلاً ومضموناً ومعالجةً فنيةً ودراميةً): محام يوضع في السجن شهراً كاملاً لإهانته المحكمة، يؤسّس فيه علاقات ملتوية، ويخرج إلى عالم مليء بالفساد والأعمال المشبوهة والمضاربات والمصالح المتداخلة. الحالة الاجتماعية ساكنةٌ في «للحبّ قصّة أخيرة» (1986): حبّ وصراع على الميراث وتداعيات العيش في بؤس الحياة اليومية، فإذا بالغيبيات تفرض سلطتها على أمّيين ينشدون خلاصاً من مرض أو عذاب أو مأزق عبر حِيَل شيوخ يدّعون علماً بالغيب.

بعد عام واحد على تعاونهما معاً في «السادة الرجال» (1987)، المتمحور حول علاقة مرتبكة بين زوجين، ما يؤدّي بالزوجة إلى التحوّل إلى رجل رغبةً منها في عيش تجربة الرجال، يلتقي رأفت الميهي محمود عبد العزيز في «سمك لبن تمر هندي» (1988): مطاردات دولية، وحكايات عادية، وحبّ موؤود إثر وفاة أبٍ يلاحق الـ «أنتربول» ابنه. في «سيداتي آنساتي» (1989) مثلاً، يروي رأفت الميهي إحدى القصص العادية: العجز عن الزواج بسبب الفقر، فإذا بـ 4 صديقات يُقررن الزواج من رجل واحد يعمل معهنّ في المصنع. الزواج أيضاً وأيضاً: إنه مفتاح الحكايات المنسحبة على السياسة، أو الصراع الطبقي، أو الفساد الصناعي. في «قليلٌ من الحبّ كثيرٌ من العنف» (1995)، يفكّك الميهي شيئاً من إسراف المجتمع في تدمير ناسه الطيبين، وفي إعلاء سلطات مالية واجتماعية لمن يملكون قوة البطش بفضل المال والنفوذ.

مع «ميت فلّ» (1995)، يميل رأفت الميهي إلى تضمين نصّه السينمائيّ بعض الفُكاهة، خصوصاً مع الثلاثيّ شريهان وحسن حسني وهشام سليم. لن تكون الكوميديا طاغية كلّياً، لكنها تُخفّف من وطأة البُعد الإنساني السوداوي، ويضع الطرافة في قالب محبّب لقراءة وحش العزلة والوحدة. فقيران يتزوّجان، لكنهما يُقنعان ثرياً بأنه والدهما كي يتمتّعا بشيء من رفاهية الحياة. في «تفاحة» (1996)، هناك أيضاً زواج. كأن هذه «العلاقة» بين اثنين نواة درامية أساسية في التفكير السينمائيّ لرأفت الميهي، الذاهب بها إلى ما يدور في غرف مغلقة، أو في لاوعيّ آدميّ، أو في متاهات الأشياء والناس. الزواج في «تفاحة» متنوّع، لأن عقماً يُصيب امرأة فإذا بزواج ثانٍ يُدبّر لزوجها من أجل الإنجاب. في المقابل، ينتقل الميهي إلى كوميديا خفيفة في «ست الستات» (1998): الثراء دعوة إلى تبديل موقف إنساني، والسعي إلى جعل شقّة «بنسيوناً» يصطدم برغبة في إبقائه بيتاً للدعارة، والرغبة في الخلاص دونها عقبة الوقوع في فخّ الشرطة. أما «علشان ربّنا يحبّك» (2001)، فيستعيد الـ «تيمة» المحبّبة في أفلام الميهي: الزواج. هنا أيضاً تظهر حالات انزعاج ورفض وعدم القدرة على التواصل بين الأزواج، ويظهر الدجل المتحصّن بشيء من التقنية، وتظهر عبثية الأحداث، الممزوجة بكوميديا تريد الإضحاك، كي تكشف بعض المختبئ في نفوس وأحياء وانفعالات.

يرحل رأفت الميهي مثقلاً بالمرض، أو بالخيبة، أو بالعزلة، تاركاً «قصّة أخيرة» لـ «حبّ آخر».

«سحر العشق»

في العام 2001، يُصدر رأفت الميهي رواية «هورجادة، سحر العشق» («منشورات درويش برس»، باريس). قبل ذلك، يُقدّمها إلى «مديرية الرقابة على المصنّفات الفنية» كسيناريو فيلم جديد له. يحصل على الموافقة، لكنه لا يستطيع تنفيذ المشروع كما يريد. يُعيد الكتابة كرواية. ترفضها الرقابة. مفارقة تسترعي الانتباه إزاء «منطق» غير مُبرَّر لتصرّفات الرقيب. تمرّ أعوام مديدة. يتوصّل الميهي إلى تحقيق الفيلم المطلوب: «سحر العشق» (2010) يكون فيلمه الأخير.

يختار الميهي منطقة الغردقة حيّزاً لحكاية حبّ مستحيل. ضابط مسلم يُكلَّف بمهمّة هناك، فيُغرم بفتاة مسيحية. ظروف وعادات وتقاليد تحول دون إتمام الحبّ بينهما. لن تقف المسألة عند هذا الحدّ. لن يكون النصّ رومانسياً فقط، وإن يكن مرتبطاً بالحبّ. هناك تلاحم بشري بين مسيحيين ومسلمين يعيشون معاً. هناك جغرافيا منطلقة من المكان إلى الروح أيضاً. هناك حكايات جانبية ترسم ملامح بيئة وناس. هناك صدامات وخفايا.

الحبّ بانفعالاته وتوتراته وتقلّباته وارتباكاته. الحبّ بوجعه وأحلامه وأفراحه أو أوهام أفراحه. الغردقة ساحة للحكاية ولشخصياتها. هناك ألم، وهناك ضياع وخوف وانهزام وتزمّت وتشرذم عائلي وموت. هناك أيضاً قلقٌ لا ينتهي.

في روايته، يكتب رأفت الميهي بعضاً من شعور إنساني بلغة سلسة ومليئة بالأوصاف والأجساد والمشاعر الصادقة.

السفير اللبنانية في

27.07.2015

 
 

رأفت الميهي ... سيد الفانتازيا

لا شفاء من كل هذا العبث!

محمد خير

القاهرةتشكو العجوز الفقيرة فقدان أبنائها الخمسة عشر، وبقاءها وحيدة من دونهم. تتساءل باكية أمام الضريح المحروق للشيخ التلاوي «الموت ما بياخدش غير الصغار، ولما نكبر ونعجّز ونقول يا موت. ما يجيلناش.. هوة عِند (عناد)؟!» في ذلك المشهد، وهو الأخير في شريط «للحب قصة أخيرة» (1986)، يطرح رأفت الميهي، في فيلمه الثالث مخرجاً، سؤاله الوجودي حول الموت والحياة. المرأة العجوز الباكية «كومبارس» لا دور لها في الفيلم سوى في مشهده الأخير.

لكن السؤال نفسه، بصيغة مختلفة يتكرر على لسان الطبيب حسين (عبد العزيز مخيون)، محاولاً إقناع سلوى (معالي زايد) بالتمسك بالأمل في نجاة زوجها رفعت (يحيى الفخراني) من المرض. يقول حسين: «أمي عندها 95 سنة، ترقد عاجزة منذ 15 عاماً، تتمنى الموت ولا يأتي، كل صباح أوقظها متوقعاً أن أجدها ميتة، لكني أجدها تتنفس».

كان الطبيب يقصد ـــ ظاهرياً ـــ أنّ الموت ليس قدراً عاجلاً بالضرورة، وأن الحياة قد تجد طريقها وتؤجل الفناء لسنوات وسنوات. لكن الرسالة الباطنية، رسالة المخرج رأفت الميهي، كانت واضحة «الموت والحياة عبث غير مفهوم، من يطلب الموت لا يجده. ومن يريد الحياة مثل المدرس رفعت (الفخراني)، فإنها تتخلى عنه».

غير أنّ «للحب قصة أخيرة» لا يقتصر على المأساة والدموع. فللحب ــ كما يقول عنوان الفيلم ـــ قصصه، والحب هو المحرك الأساس للأحداث. من أجل الحب خسر المدرس رفعت ميراثه من أهله حين أصر على الزواج من سلوى الغريبة عن «جزيرة الوراق».

طرح في «للحب قصة أخيرة» سؤاله الوجودي حول الموت والحياة

والحب أبقى الطبيب حسين تحت أقدام أمه يخدمها 15 سنة، تاركاً زوجته وطفليه في القاهرة. والحب هو ما ألغى الحزازيات الطائفية، فجعل من أهل الجزيرة جميعاً أبناء للمسيحية الوحيدة «دميانة». والحب أيضاً هو ما جعل عبد العزيز (عبد الحفيظ التطاوي) ينتظر كل يوم عودة ابنه الغائب منذ 15 سنة، بينما يعرف أهل «الوراق» جميعاً أنّ الابن قد مات، وتخفي عنه الزوجة، أم الولد الغائب، قصاصة الجريدة التي نشرت موت ابنهما قتيلاً. أما الأب، فيؤمن أن ابنه ليس القتيل بل القاتل، وإنه هارب في الجبال وليس مدفوناً تحت الأرض، وإنه سيعود ذات يوم.

وتؤمن أم المدرس رفعت (تحية كاريوكا) بأنّ حب الزوجة الحقيقي قادر على فعل المعجزات. تقول لابنها في معرض رفضها لزواجه من سلوى الغريبة، إن الزوجة الحقيقية تغني زوجها إن كان فقيراً، و»تشفيه إن كان مريضاً». يتوقف رفعت (الفخراني) مندهشاً ومكرراً وراءها: تشفيه؟!!

لكن لا الزوجة ولا الطب ولا معجزات الشيخ التلاوي تشفي رفعت. ويعود الحب مجدداً إلى التدخل ليخلق سعادة موقتة لسلوى، يتفق رفعت وطبيبه حسين على اختلاق واقعة وهمية: بيانات المرضى تبدلت بالخطأ، واتضح أن رفعت سليم و»سيحيا مئة عام». تحلّق السعادة –الوهمية- أخيراً في بيت سلوى ورفعت. تبدأ سلوى في وضع خطط الإنجاب والمستقبل. تبيع ذهبها لتشتري «مناحل» لبدء استثمار صغير. تظن أن زيارتها إلى الشيخ التلاوي هي ما حقق معجزة الشفاء. لكنّ كابوساً يزور والدة رفعت في منامها يجعلها تذهب إلى الطبيب وترجع بالحقيقة المأسوية. الشفاء أكذوبة والموت ما زال منتظراً على باب الدار. انتهى الحلم القصير، وما تلبث حياة الزوج نفسها أن تنتهي.

للحب دائماً قصته الأخيرة قبل الموت وقبل الألم والنسيان. لا حيلة لأحد في مواجهة القدر، لكنّ الحب قادر على أن يجعل لبعض حياتنا طعماً. رسالة كئيبة لكنها قادرة في الكثير من اللحظات ـــ ومشاهد الفيلم ـــ أن تخلق فرحاً رقيقا هشاً يستحق أن يعاش.

الأخبار اللبنانية في

27.07.2015

 
 

رأفت الميهي...عقل السينما المجنونة!

عصام زكريا

رحل مفكر السينما الأكبر.

لم يكن رأفت الميهي ( 25 سبتمبر1940- 24 يوليو 2015) مجرد واحد من السينمائيين الذين تفرزهم صناعة السينما المصرية بالعشرات كل عام. بل واحدا من مفكريها الكبار، أصحاب الرؤى الخاصة للفن والمجتمع والعالم.

بدأ حياته الفنية ككاتب سيناريو وقدم عددا من الأعمال التي تدرس في كيفية كتابة الحبكة والصراع والتشويق والشخصيات السينمائية. انتقل إلى الإخراج بداية من الثمانينيات، فأعاد صياغة السينما المصرية والصناعة والسوق بعدد من الأفلام "المجنونة" كتابة وإخراجا وإنتاجا.

في سينما تخاصم التجريب والتجديد، لم يجد من يكتبون عن السينما المصطلحات المناسبة لوصف ما يقدمه رأفت الميهي من أفلام.

"الفانتازيا"، السخرية، المسخرة، الكوميديا السوداء، العبث...من بين الأوصاف التي أطلقت عليها للتعبير عما تحمله من اختلاف وقطيعة مع السينما السائدة.

قدم رأفت الميهي ما يزيد قليلا عن عشرين فيلما، منها عشرة أفلام ككاتب سيناريو فقط، قبل أن يتجه إلى إخراج وانتاج أعماله بنفسه. وهناك أكثر من مدرسة وأسلوب في هذه الأعمال، كان آخرها ما أطلق عليه "الفانتازيا"، والتي بدأت بفيلم "الأفوكاتو" عام 1984، ولكن سبقها محطات وتحولات عديدة.

كل هذه المحطات، والتحولات، تشكل عقل رأفت الميهي، مفكر السينما المصرية وصاحب الرؤية الأكثر عمقا، وجرأة، وتجريبا، وتخريبا.

على هامش صناعة السينما المصرية عاش رأفت الميهي وقدم معظم أعماله. ولكن هذا الهامش كان قويا لدرجة أنه أصبح مدرسة سينمائية متكاملة، تحسدها الصناعة وتتعلم منها معنى أن تكون فنانا، وحرا، وناجحا.

حتى الموت الذي لا يقدر عليه أحد، خاض رأفت الميهي صراعا طويلا معه، قبل أن يستسلم له مساء الجمعة الماضية، في ذكرى الثورة التي كتب عنها أفضل فيلم تناولها على الإطلاق، وهو "غروب وشروق".

هكذا أحب أن أرى السنوات الأخيرة من حياة المخرج والسيناريست والمنتج وأستاذ السينما الكبير، بالرغم من المعاناة والآلام الشديدة التي تعرض لها طوال هذه الشهور والسنوات. الجسد كان قد استسلم بالفعل، ولكن الروح والعقل كانا يواصلان المقاومة...ويسخران من الموت.

تصدى رأفت الميهي طوال حياته لعقبات ومشاكل ونظم وقواعد قد تبدو للبعض أقوى من الموت. تحدى صناعة السينما المصرية السائدة، فصنع أفلاما تغرد خارج السرب، اعتقد القائمون على الصناعة أنها لن تبقى في دور العرض يوما واحدا، ولكنها حققت أعلى الايرادات في زمنها.

تحدى احتكار المنتجين فأصبح منتجا لنفسه، وتحدى أصحاب الاستديوهات فأصبح مالكا، أو شبه مالك، لاستديو كامل يغنيه عن سؤال اللئيم.

خرج على المنظومة التعليمية التي تقدس المعهد العالي للسينما، وتمنع أي شخص من العمل بالفنون إلا إذا تخرج أولا في أكاديمية الفنون، وأنشأ أكاديمية خاصة تحمل اسمه، تخرج فيها العشرات.

انجازات كثيرة حققها رأفت الميهي. منذ البداية كان طموحه بلا حدود. لم يكتف بأنه أصبح واحدا من أهم كتاب السيناريو في مصر قبل أن يكمل عامه الثلاثين. في سن الخامسة والثلاثين كان قد كتب عشرة من أفضل سيناريوهات السينما المصرية منها "غروب وشروق" 1970، "شىء في صدري"، 1971، "صور ممنوعة" 1972، "غرباء"، 1973، و"على من نطلق الرصاص" 1975.

قرر أن يتحول إلى مخرج، بعد أن شعر أن أفكاره لا تخرج بالشكل الذي يتصوره على يد المخرجين الآخرين. ثم قرر أن ينتج أفلامه حتى لا يتحكم فيها شروط المنتجين.

خلال أربعين عاما من عمله كمخرج ومنتج لم يقدم سوى 12 فيلما كلها مميزة، ومعظمها علامات في السينما المصرية، كان أولها "عيون لا تنام"، 1981، وآخرها "شرم برم" الذي تعرض لمشاكل لا حصر لها، ولم يستطع فيه الميهي أن يتغلب كعادته على فقر الانتاج وشروط السوق، لدرجة أن الفيلم لم يوزع ولم ينزل إلى دور العرض ولو لأسبوع واحد.

وبعد النجاحات الكبيرة التي حققها رأفت الميهي والتي توجت بفوزه بالجائزة الأولى من المهرجان القومي للسينما المصرية عن فيلمه " قليل من الحب، كثير من العنف" عام 1995، والهرم الذهبي من مهرجان القاهرة السينمائي عن فيلمه "تفاحة عام 1997، والاقبال الذي شهده استديو جلال، والنفوذ والسمعة الطيبة التي اكتسبتها الأكاديمية التي تحمل اسمه، راح كل شىء يتراجع فجأة، وتغيرت الدنيا من حوله بسرعة هائلة، فجاء التوتر، فالمرض، فمزيد من التراجع والتوتر.. والمرض.

البداية...واقعية

مثل كثير من كتاب وفناني الستينيات بدأ رأفت الميهي حياته ممتلئا بالسياسة والمعارك السياسية، وبالأفكار الاشتراكية السائدة، ومدرسة "الواقعية الاشتراكية" أو "الواقعية الاجتماعية" التي تم الترويج لها آنذاك باعتبارها أرقى ما وصل إليه الفن.

"جفت الأمطار" الفيلم الأول الذي حمل اسم رأفت الميهي ككاتب سيناريو، مأخوذ عن رواية للأديب عبد الله الطوخي وأخرجه سيد عيسى، وهو ينتمي بوضوح لمدرسة "الواقعية الاجتماعية" ويشبه في بناءه وفكرته كثير من الأفلام السوفيتية التي تتحدث عن نضال الفلاحين وانتصارهم على الطبيعة في مجتمع اشتراكي تعاوني.

مثل كثير من كتاب وفناني الستينيات أيضا انقصم ظهر رأفت الميهي بفعل هزيمة يونيو 1967، بالرغم من أن آثار هذه الصدمة لم تظهر على الفور، ولكنها تأجلت في كثير من الحالات عدة سنوات.

من الواقعية المتفائلة بقوة الدولة الاشتراكية إلى النقد السياسي الحاد، غير المباشر، والمباشر، سرعان ما انتقل إلى العمل مع المخرج "الليبرالى" كمال الشيخ في فيلمين متتاليين هما "غروب وشروق" 1970، و"شىء في صدري" 1971، ثم عمله في الفيلم القصير "صور ممنوعة- القصة الثالثة" المأخوذة عن نجيب محفوظ وأخرجها مدكور ثابت، 1972، وهو فيلم جرىء ومختلف في فكرته ومضمونه عن السينما التجارية الرائجة آنذاك.

من الجرأة السياسية إلى الجرأة الجنسية ينتقل رأفت الميهي في فيلمه التالي كسيناريست "الحب الذي كان" مع المخرج علي بدرخان. وينتقل مع المخرج سعد عرفة إلى مناقشة العلاقة بين السياسة والجنس باعتبارهما نتاج للثقافة والعكس، من خلال فيلمه "غرباء" 1973، الذي يروي حيرة فتاة- بلد ضائعة بين التحرر والتزمت. وهي الفكرة التي يطرحها بطريقة أخرى في فيلمه التالي كسيناريست "أين عقلي" إخراج عاطف سالم 1974.

باستثناء سيناريو فيلم "الرصاصة لا تزال في جيبي"، إخراج حسام الدين مصطفى 1974، والذي يعد نوعا من الدعاية الاحتفالية الطبيعية بانتصار أكتوبر 1973، والذي يحمل مع ذلك نقدا مبطنا للمسئولين عن الهزيمة...يواصل الميهي نقده السياسي اللاذع في فيلميه التاليين "الهارب"، و"على من نطلق الرصاص"، وكلاهما من إخراج كمال الشيخ، 1974، و1975.

بالنسبة لرأفت الميهي سوف نجد دائما أن النقد "الجنسي" جزء من نقده السياسي، والعكس صحيح...وهي الفكرة التي نضجت بمرور الوقت مع تحوله إلى مخرج. وبنفس الحماس الذي تصدى به للفساد والديكتاتورية في "الأفوكاتو" و"سمك لبن تمر هندي"، سوف يتصدى للتمييز الجنسي ضد المرأة في "السادة الرجال" و"سيداتي آنساتي".

يدرك رأفت الميهي أن الديكتاتورية السياسية هي انعكاس للذكورية الاجتماعية، ولعل تلك هي الفكرة التي جذبته إلى رواية إحسان عبد القدوس "الرصاصة لا تزال في جيبي"، المكتوبة قبل حرب أكتوبر، والتي تربط بين الاغتصاب الجنسي والفساد المالي والديكتاتورية السياسية كمسببات بالضرورة للهزيمة العسكرية.

التحليق فوق الواقع

مع بداية الثمانينيات، ينتقل رأفت الميهي إلى الإخراج ليقدم فيلمه الأول "عيون لا تنام" 1981، المقتبس عن مسرحية "رغبة تحت شجر الدردار"، للأمريكي يوجين أونيل.

الفيلم نقد سياسي جنسي من الطراز الأول، يمكن وضعه مع "عودة الابن الضال" ليوسف شاهين، في نظرتهما الشاملة للعلاقة بين القهر والكبت الجنسي وانفجار العنف المميت.

بعد هذا الفيلم يغادر رأفت الميهي السينما الواقعية النقدية، لينتقل في فيلمه التالي والفارق "الأفوكاتو" إلى التحليق بعيدا عن الواقع، أو بمعنى أدق، إلى التحديق في الواقع بنظرة ساخرة عبثية، تجعل من الضحكات معاول هدم وتفكيك وتخريب للأفكار السائدة الفاسدة.

بعد "الأفوكاتو" يعود الميهي في فيلمه التالي "للحب قصة أخيرة" ليضع كلمته الأخيرة في النقد "الواقعي" للثقافة السائدة، المثقلة بالخرافة وكراهية الحياة، ليحتفي بفكرة ممارسة الحب حتى الموت.

تنتمي أفلام رأفت الميهي منذ "الأفوكاتو" إلى الأسلوب السوريالي بوضوح. وهو مصطلح فرنسي الأصل يعني حرفيا "فوق الواقعي". إذا كان الفنان الواقعي ينقل صوره من الواقع، فإن الفنان السوريالي يستلهم صوره من انعكاس هذا الواقع على ذاته. بمعنى أبسط: من أحلام يقظته ومنامه والخيالات والأفكار "الغريبة" التي تنشأ في عقله نتيجة عدم استيعابه وعدم قبوله لما يحدث في الواقع.

في أفلامه التالية "السادة الرجال"، 1987، "سمك لبن تمر هندي"، 1988، "سيداتي آنساتي"، 1990، يحلق الميهي عاليا فوق الواقع المصري المأزوم والمنهار ليفكك ويخرب ويسخر من ثقافته وسياسته المتعفنة. ويصل مع فيلمه "قليل من الحب..كثير من العنف" إلى تفكيك الفن السائد نفسه، باعتباره مساهما أساسيا في ترسيخ التخلف.

يواصل الميهي في أفلامه "ميت فل"، 1996، و"تفاحة" 1997، و"ست الستات" 1998، و"علشان ربنا يحبك" 2001، تفكيك المؤسسات الاجتماعية كالزواج، باعتبارها النموذج الأصلي الذي تتمحور حوله البنى الاقتصادية والسياسية السائدة. ويتحرر في هذه الأعمال تماما من قواعد الفن التجاري، والصياغات التقليدية، ليصل اللعب والاستسلام لأحلام اليقظة إلى أقصى مدى ممكن.

هذا رجل عشق لعبة الحياة، وخاضها بابتهاج حتى النهاية، بالرغم من أن الحياة لم تبادله هذا الابتهاج، وكشرت عن أنيابها الزرقاء الغليظة في سنواته الأخيرة.

البوابة وثائقية المصرية

28.07.2015

 
 

رأفت الميهى

كمال رمزي

فى إحدى أمسيات شتاء ١٩٦٨، تقابلت لأول مرة مع ذلك الشاب النحيل، صاحب الابتسامة الودودة، يضع نظارة طبية شفافة على عينيه، توحى أن صاحبها من المثقفين، طراز تعرفه فى تلك الأيام من نظرة واحدة، يتأكد حين يتحدث بعبارات دقيقة، واضحة الأفكار، تنتمى لروح اليسار، يمتزج فيها الأمل مع لعزيمة، وبدا كما لو أنه على عجلة فى أمر ما، أخذ ينهى حديثه بانفعال ساخن، عارضًا وجهة نظره بوضوح وحماس. بعد أن غادر المكان، عاد سريعًا باحثًا عن نظارة القراءة التى نسيها، بحثنا معه أخيرًا، وجدها فى الجيب الداخلى لجاكتته.

كان اللقاء فى شقة عمنا عبدالرحمن الخميسى، الكائنة فى العمارة المجاورة لمحل «جروبى عدلى»، لمن آلت هذه الشقة، حيث تشهد تجمعًا فريدًا من المثقفين، من السودان وسوريا ولبنان وفلسطين، فضلا عن المصريين محمد عودة، رجاء النقاش، محمود السعدنى، بالإضافة إلى الشباب، أيامها، إبراهيم الموجى، أسامة أبوطالب، معدى الحسينى.

فى ذلك العام، شهد العالم ما اصطلح عليه بثورة الشباب، اندلعت فى الكثير من عواصم العالم، منها القاهرة، ربما تكون دوافعها مختلفة فى مصر، حسب رؤية كل قطاع من قطاعات الشباب. فى مجال السينما، احتدمت معركة بين الجيل السائد والأجيال الجديدة، الباحثة عن مكان فى عالم الأطياف.

رأفت الميهى، طبعًا، من الوجوه الغاضبة فى تلك الأمسية، قال إن المهيمنين على صناعة السينما يشيعون أننا لا نفهم مفرداتها، وكأنها الغاز وطلاسم، وإنها أقرب للكهانوت، لا يعرف أسراره إلا هم. تحدث عن ضرورة تكتل الشباب لنزع حقوقهم فى العمل، وإبداع سينما تختلف عن السائد، الذى آن الألوان لانزوائه.

بعد عدة شهور، أعلن عن تكوين «جماعة السينما الجديدة»، وكان الميهى من أبرز وجوهها، جاء فى بيانها الأول الصادر فى يوليو ١٩٦٩ «إن الذى نريده سينما مصرية. أى سينما تتعمق حركة المجتمع المصرى وتحلل علاقاته الجديدة، وتكشف معنى حياة الفرد وسط هذه العلاقات، ولكى تكن لدينا سينما معاصرة لابد أن نمتص خبرات السينما الجديدة على مستوى العالم كله».

لم يتزاحم الميهى كى يحصل على نصيبه من «جماعة السينما الجديدة»، بل على العكس، وقف إلى جانب الآخرين، الذين حققوا «أغنية على الممر» لعلى عبدالخالق ١٩٧٢، و«الظلال فى الجانب الآخر» لغالب شعث ١٩٧٤. مثبتا فى هذا أنه رجل السينما بحق، يهمه إنتاج الأفلام ذات القيمة، حتى لو لم يكتب اسمه عليها. لاحقا، حين أنشأ شركته الخاصة، أتاح الفرصة الأولى للمخرج مجدى أحمد على، كى يحقق فيلمه الجميل الأول «يا دنيا يا غرامى» ١٩٩٥.

اتجه الميهى فيما يشبه المفارقة نحو التعاون مع كمال الشيخ، برغم تباعد الأفكار بينهما، المخرج الكبير كمال الشيخ، من أجيال سابقة، أميل إلى الرؤية المحافظة. الميهى محمل بتوجهات ذات طابع يسارى.. لكن الاثنين يتمتعان بسمات ردمت الهوة الفاصلة بينهما: الجدية، المقابرة، الإتقان، القدرة على الإصغاء والتفاهم، التقدير المنصف للآخر. سويًا، قدما «غروب وشروق»، «شىء فى صدرى»، «الهارب»، «على من نطلق الرصاص»، وهى من عيون السينما المصرية.

فى العام ١٩٨١، يدخل الميهى عالم الإخراج، بفيلم مدهش من تأليفه، بعنوان، «عيون لا تنام»، وبرغم صعوبة اكتشاف مصدر القصة، فإن رأفت الميهى بنزاهته، كتب فى العناوين، أن عمله مأخوذ عن مسرحية «رغبة تحت شجرة الدردار» للكاتب الأمريكى يوجين أونيل.

الفيلم يرصد، بنفاذ رؤية ما يعتمل فى قلب الواقع المصرى. اختار الميهى ورشة إصلاح سيارات، تقبع فى قلب القاهرة، عند كوبرى أكتوبر. الورشة يهيمن عليها الأخ الكبير الظالم إبراهيم، بأداء فريد شوقى، يستولى على عائدها، لا يعطى إخوته إلا أقل القليل، لدرجة أنهم غادروا المكان فيما عدا «إسماعيل» ــ أحمد زكى ــ الراغبة الجنونية فى الملكية تستحوذ على الأخوين الكبير، يريد ابنًا يرثه، يتزوج من فتاة غلبانة، جميلة محاسن «مديحة كامل»، لا يتوقف عن إهانتها، تنشأ علاقة بين المضطهدين إسماعيل ومحاسن التى تغدو حاملا. تتعثر ولادتها، الطبيب يخبر إبراهيم، إما إنقاذ الأم أو الوليد بلا تردد، يختار الوليد، فالتوريث عنده أهم من أى شىء آخر». يثور «إسماعيل»، وفى مشهد عاصف، ينهال على أخيه المهيمن بعمود من حديد فيرديه قتيلا، وقد خضب الدم جبينه وسال على قميصه.

عرض الفيلم يوم الاثنين ٥ أكتوبر ١٩٨١، وجاء يوم الثلاثاء ٦ أكتوبر، ليفاجئنا بزن الواقع، على نحو ما، يحاكى ما جاء فى «عيون لا تنام»: رب الأسرة، الميهمن على الأمور، الرئيس، الذى زج بكل ألوان الطيف السياسى، فى السجون، يتهاوى قتيلا وقد تدفق الدم على سترته.

فى اليوم التالى ٧ أكتوبر، أغلقت كل دور العرض، بما فى ذلك تلك التى تعرض الفيلم النبوءة، المثير للتأمل، بما فى ذلك نهايته الفاجعة، حين يؤول الوليد، والورشة، إلى المرأة المشبوهة، الشرهة، «أم البتعة»، نعيمة الصغير، التى تلتمع عيونها بالجشع.

فيما بعد، حقق الميهى المزيد من الأفلام، تندرج فى باب الكوميديا والفانتازيا، وأنشأ أكاديمية لتعليم السينما، وأعاد تشغيل ستوديو جلال.. وقف إلى جانب الموهوبين الجدد، مما يثبت أنه رجل السينما بامتياز. كل هذا فى كوم، ويبقى، بالنسبة لى «عيون لا تنام»، عملا فريدا، بالغ الثراء، يحتاج لمشاهدة أخرى، تفصيلية وفى العمق، رأفت الميهى، طاقة ضياء، لا تخفت بغيابه.

الشروق المصرية في

28.07.2015

 
 

رحل تاركاً إرثاً سينمائياً لا يمكن تجاهله

سينما رأفت الميهي.. العدالة كرتون والحرية كذبة!

أحمد الواصل

لم تكن السينما حيلة لفضح المحرَّمات، وإنما المحرمات هي حيلة لفضح السينما نفسها. يمكن - ولو بقليل من الوهم – تعميم هذا الشعار عتبة أولى لفهم سينما رأفت الميهي الذي رحل عن دنيانا مساء الجمعة والذي كان قد بدأ مسيرته بكتابة القصص والروايات – أصدر منها «الجميلة حتما توافق» 2007 و»سحر العشق» 2009 - ثم السيناريو والحوار منذ «على من نطلق الرصاص» 1975 مع المخرج كمال الشيخ، والإخراج – فضلاً عن كتابة السيناريو - منذ فيلمه الأول «عيون لا تنام» 1980 ومع الإنتاج منذ فيلمه «الأفوكاتو» 1983. بينما نتمادى في هذا الوهم عندما نعمم أيضاً ثلاثية الصورة والأدب وإدارة الممثل من العناصر الأساسية في سينما المخرج رأفت الميهي.

فقد تنبه الميهي إلى أن يحدد نقطة الانطلاق والاستمرار والختام، لمسيرته في عالم كتابة السرد والسيناريو والإخراج في العقود الأخيرة من القرن العشرين، أي قرن السينما في العالم، وبعيداً عن مسألة البدايات الصامتة والناطقة وتشابكها مع فني المسرح والاسكتش، ومرحلة المقتبسات وتوظيف فنون الفرجة والأداء الاستعراض والغناء، ومن ثم تبدي تياراتها: الواقعية والتاريخية والرومانسية، وأنواعها من مداخل الكوميديا والتراجيديا وسواها. بالإضافة إلى ظهور جيل من المخرجين ترسخت أدواتهم الفنية وتعاملهم التقني، ما جعل الصورة السينمائية تحمل لغة في فنها البصري يتجاوز تحريك الكاميرا وإدارة المخرج واختيار أو تصميم الأمكنة بجعل الموضوع والحبكة والربط من صميم الصناعة الفيلمية – إذا جاز التعبير- ما بين مرحلة الستينيات والسبعينيات ومنهم على سبيل المثال صلاح أبوسيف ويوسف شاهين، ومن ثم مرحلة الثمانينيات والتسعينيات، على سبيل المثال عاطف الطيب وداوود عبدالسيد.

وأقول تنبه الميهي إلى أن يحدد نقطة الانطلاق والاستمرار والختام، تتجلى عبر ثلاثة مداخل تمكننا من قراءة سينما الميهي نفسه، وهي: السينما الروائية، وتمكين الممثل، ومخرج التفاصيل. بقدر ما يضعنا الوهم بأنها مداخل ممكنة لتجارب أخرى غير أن ما حقَّقه من أفلام تضع الميهي في منعطف مهم من مراحل لغة الصورة السينمائية، على اعتماد تلك الأفلام الموضوع والقيمة والمعالجة، فقد استطاع تخصصه في الأدب ودراسة أجناسه المتعددة من فهم آليات الكتابة السردية إذ تحقق ذلك في كتابته سيناريو أفلام الآخرين وأفلامه من بعدها.

كما أن كتابة السيناريو للآخرين من المخرجين، بوصف السيناريو «قائم على لغة التكثيف بدل الإطناب، والدقة والوضح بدل الغموض والحبكة بدل التفكك» - الرياحي، 2014، ص: 302-303-، منذ أول فيلم مع المخرج سيد عيسى «جفت الأمطار» 1966، ثم مع المخرج كمال الشيخ في ثلاثة أفلام «غروب وشروق» 1970 «شيء في صدري» 1971 «على من نطلق الرصاص» 1975، وعلي بدر خان «الحب الذي كان» 1973، وسعد عرفة «غرباء» 1973، وعاطف سالم «أين عقلي» 1974 جعله مخرجاً قيد التمرين. ومن بعدها انطلاقه ليس في كتابة القصة والسيناريو والحوار، والإخراج، بل الإنتاج، من حيث انه استطاع رسم مسيرته تحت مفهوم «المسؤولية الثقافية»، مثلما اتبع ذلك المخرج يوسف شاهين، منذ أول أفلامه التي أنتجها –مع الكتابة والإخراج- أي «الأفوكاتو» 1983.

التمثيل في عين الميهي

لقد أدار الميهي أفلامه مركزاً على القصة والصورة وإدارة الممثل النوعية، فقد ظهر ممثلون وممثلات في أفلامه بصور تشخيصية لم يسبق أن وضعوا فيها. ولعل من هؤلاء الممثل عادل إمام والممثلة إسعاد يونس في فيلم «الأفوكاتو» 1983 من حيث أنه بلور شخصية الممثل الكوميدي في شحن الحوار بلغة التضاد وعكس التوقع والسخرية الحادة على عكس التقاليد، في كوميديا الحركة والموقف والشكل، التي رسخها كل من توجو مزراحي «1901- 1986» وممثله شالوم «1900-1948»، وفطين عبدالوهاب «1913- 1972» وممثله إسماعيل يس «1912- 1972»، وسمير سيف ونادر جلال وممثلهما عادل إمام.

إذ يلخص مشهد المحاكمة في فيلم «الأفوكاتو» الذي أدير ببراعة بين مرافعة المحامي حسن سبانخ - عادل إمام - وإفادة أو شهادة الزوجة المزيفة عصمت إسماعيل -إسعاد يونس - حالة فريدة في لعبة إسقاط تضرب المحرمات ببعضها عبر موضوعات مختلفة في الدرجة لا النوع أي موضوع التلاعب بعقد النكاح، وفضح الأجهزة المخابراتية كل هذا على طريقة السرد التخييلي الذي يستمد الإيحاء من سرديات شهرزاد حيث استخدم احدى حركات سيمفونية شهرزاد لريمسكي كورساكوف التي استخدمت في حلقات مسلسل ألف ليلة وليلة سواء في الإذاعة أو التلفزيون وارتبط صوت الراوية بالممثلة زوزو نبيل.

وحين نرى من الممثلين يوسف داوود ومحمود عبدالعزيز والممثلة معالي زايد في مشهد غرفة العمليات والمشرحة «سمك لبن تمر هندي» 1988 من حيث سيولة السخرية حول طرق التعذيب في الأجهزة الأمنية وتلفيق التهم كالتجسس والإرهاب لأفراد لا يحملون أدنى مؤهلات التجنيد الأمني، ولعبة التخييل بين تلك الغرفتين لكونهما مفتوحتين على احتمال كاذب عن الموت والعالم الآخر الذي يختبر حواس المعيشة والأوهام! وبالطبع، دون تجاهل المدلول الواضح للتضاد الساخر بين الاسم والوظيفة لكل من الضابط ملاك - يوسف داوود - والعاطلة المخطوبة قدارة - معالي زايد -!

لقد استنفد الميهي طاقة داوود وزايد في أداء لم يظهر سوى في فيلم لاحق للثلاثة أيضاً «سيداتي آنساتي» 1989 بينما تتمظهر التلقائية وإنما بروح أكاديمية بارعة عند محمود عبدالعزيز الذي أجاد في تكريس اللغة السينمائية الميهية وإنما في عنصر الأداء المقنن للحركة والكلام والإيماء.

وفي هذا الفيلم تظهر براعة معالي زايد وعبلة كامل في مشهد الطلاق في الحمام «سيداتي آنساتي» 1989 على أن عبدالعزيز ظل مكسور الأداء لعدم التناسب في إيقاع الحوار وثنائية الكاميرا والسبب عائد إلى كسر تزامن التوليف على أن أداء زايد بمساندة كامل حقق للمشهد نكش موضوع القوامة من الناحية الأخلاقية لا من الناحية السلوكية وهو ما عرَّض الزوج الذي يعمل فراشاً في مصنع بدرجته العلمية العالية في الفيزياء أي الساعي محمود عبدالبديع - محمود عبدالعزيز - إلى أنه لا يستوعب لغة الأخلاق والقانون والشرع والحقوق التي تدلي بها المستشارة القانونية درية - معالي زايد -.

ويمكن استذكار مشهد اكتشاف الخطيئة – المتوهمة بالطبع - كما أنها لعبة شديدة الذكاء في سرد فيلم يتخيل الكذب كما يتوهم الحقيقة بين زوجين فقيرين من طبقة دنيا ادعيا طلب بنوة أب ثري غافل عن كونهما زوجين ما جعله يتوهم جريمتهما التي تولف بحسب رسم المشهد الذي تحول إلى قلب الصعيد حيث أعراف حفظ العرض بغسل العار من الدنس بين استذكار مشهد من فيلم «شيء من الخوف» 1969 واسترسال أغنية «يا عيني ع الوله» - عبدالرحمن الأبنودي، بليغ حمدي - بصوت بطلة الفيلم فؤادة - شادية - وعتريس - محمود مرسي - وموتيف شفيقة ومتولي الذي يوحي من جهتين بالسيرة الشعبية لرجولة متولي غاسل عار أخته الخاطئة واستدعاء في الذهن صورة سعاد حسني لإسقاطها على شريهان.

إنها لعبة الموتيفات التي يتقنها ببراعة الميهي حيث يضفرها ببعض كأنما يجنح إلى «التعميق الأنثروبولوجي» للإنسان والطبيعة والكون معاً من خلال لعبته التي وإن باشرت قضايا العصر غير أنها تغوص عميقاً في المعاني المضمرة لمفاهيم المجتمع حول القيم والأفكار والمبادئ.

دون تجاهل لعبة الأسماء الغريبة حينما منح ابنيه اسميهما الجديدين سر من رأى -شريهان -، وميت فل - هشام سليم - مداراة لاسم أطلقته زوجته الراحلة على ابنه خيبتك يا - أشرف عبدالباقي - الذي تحول إلى سائقه الخاص! ولعل من المشاهد الراسخة مشهد قتل الزوج في فيلم «تفاحة» 1996 الذي أداه كل من ماجدة الخطيب وليلى علوي وعلاء ولي الدين الذي هو استعادة ساخرة من فيلم «الأرض» 1970 ليوسف شاهين في مشهد تصدي الفلاح محمد أبو سليم ومن ثم سحله لإبعاده عن أرضه. فقد استطاع الميهي التوليف الغريب بين انتشار قتل الزوجات لأزواجهن بالساطور، واستماتة الفلاحين في الدفاع عن أراضيهم وزراعتهم! يتوازى هذا مع مشهد المحاكمة في فيلم «الأفوكاتو» الذي يولف بين مشهد انتهاك المحتجزين سياسياً في فيلم «الكرنك» 1978 بوصفه استذكاراً تخييلياً وبين قانون «بيت الطاعة» الذي سقطت فيه زوجة زوِّجتْ مرتين الأولى شرعاً والثانية تزويراً!

هذه اللغة السينمائية التي تكرس مقولة أن «العدالة كرتون والحرية كذبة»! على أن تلك المقولة التي أطلقها عاصي الرحباني في مسرحية «لولو» 1974 تجسدت في خيبة البطلة لولو السويعاتية الملفق لها حكم حبس مؤبد خرجت منه بعد 15 سنة لتنتقم فواجهت فساداً لا يقاوم. كما أنها - أي تلك المقولة بحسب الميهي - تفكك اصطلاح «سينما المؤلف» القائم على توافق بين الكتابة السردية والفيلمية، التعادل بين لغة القراءة والإبصار، أي «إن افترضنا أن السيناريو أدب، فهو أدب التحكم في الزمن، إذا ما استحضرنا علاقته الرحمية الوجودية بالسينما. وهو أدب الاقتصاد في الكلمة، فالكلام في السيناريو المكتوب بحساب، وليس هناك من كلمة إلا وتنتزع شرعية وجودها من بنية السيناريو نفسه، ويترك غيابها فجوز معرفية وجمالية» «الرياحي، 2014، ص: 303».

فإنه يمكن النظر إلى مشهد تبرئة الخاطئة بسنت – التي هي أيضاً الخالة فكيهة.. ماجدة الخطيب - في الحجز من فيلم «ست الستات» 2001 بين المحامي - حسن حسني - وبينها. في هذا الحوار يلعب على تركيب الشخصية المتناشز بين حقيقتها وبين واقعها الآخر. إن الذي دفع بكل هذا هي عودة ابن الأخت المغترب - ماجد المصري - الذي رأى بيت أسرته تحول إلى بيت خطيئة تديره خالته فكيهة التي صارت بسنت. إنها القيم حين يستنكر انهيارها يعتاد على انقلاب معانيها نحو النقيض!

الإخراج صناعة الفرجة

تواصلت أفلام الميهي بحسب مواضيعها وشخصياتها غير أن لعبة عند الميهي تجعله يكرس من أدوار ثلاثية محورية إما تكون دافعاً لتحريك الصور والأحداث، وإما لتكريس المقولات التضادية المرسلة بقوة في المشاهد. إذا رأينا في فيلم ثنائية ظاهرة لكل من عادل إمام ويسرا التي فضحت في هذا الفيلم لكونها ممثلة محدودة القدرات والوجود، بأن تصدرت إسعاد يونس الصورة بأدائها الذي أتقن صناعته وتقويته الميهي الذي كشف عن طاقات هائلة لشخصية متعددة المواهب مثيل الميهي، وإنما في الكتابة والإعلام السمعي والمرئي والتمثيل، ولعله تبدى ذلك في كتابة وتمثيل مسلسل «بكيزة وزغلول» 1986، ثم تحويله إلى فيلم «ليلة القبض على بكيزة وزغلول» 1988 على أن الأداء التمثيلي لها اتخذ مراحل متفاوتة لاحقاً من بعد «الأفوكاتو» 1983، في فيلم «فوزية البرجوازية» 1985، وفي بعض الأعمال التلفزيونية والمسرحية، حتى الأداء الناضج اتضح في فيلم «عمارة يعقوبيان» 2006 فلن يمحى من ذاكرة السينما خصوصاً بأنها تفوقت على نفسها وكشفت تطوراً هائلاً في تركيبة الشخصية حتى فاقت قدرات عادل إمام نفسه!

إن الاستنتاج هنا يضع المخرج في قلب المسؤولية الثقافية في رسم الشخصية وحسن الاختيار وإدارة الممثل، فإنه إذا أمكن القول بأن تاريخ الغناء العربي هو تاريخ الملحنين، يمكن أن نقول ذلك في تاريخ السينما بأنها تاريخ المخرجين. إن «السينما التي تستحق هذا الاسم – أي تاريخ المخرج - ونعني بها مرحلة الثمانينيات التي شهدت ولادة تيارين جديدين وترسخهما، كانت بذورهما موجودة على أي حال في رحم المراحل السابقة: تيار الواقعية النقدية الذي نهل من صلاح أبوسيف ومن اللغة الدينامية للسينما الأميركية الجديدة، وتيار السينما الذاتية التي يبدع فيها المخرج، انطلاقاً من ذاته، أعمالاً شاعرية حميمة ولافتة» -العريس، 2014، ص: 186.

إذن، يمكن القول بأن سينما الميهي هي سينما ذاتية، في اختيار مواضيعه وأزمنتها، وشخوصها وإدارتها، وأسلوبها وتفاصيلها. على أن تعدد الممثلين والممثلات، أدى إلى خلق تلك الثنائيات الظاهرة على الصورة، لدواع تسويقية وإعلامية، مثل: عادل إمام ويسرا، ومعالي زايد ومحمود عبدالعزيز، وليلى علوي وماجد المصري، ثم مع ممثلين جدد في مطلع الألفية الثالثة بعضهم لم يوفق في تواجده الثقافي سواء في السينما أو التلفزيون أو الإذاعة لأسباب ليس مجالها المقالة هذه. ولكن تمكن الميهي من جعل ممثل ثالث رمانة الميزان الأساسية لا في تحريك الأحداث وشخوصها وإنما في إحداثية زمنية تتحول إلى موشور سريع الحركة في تفكيك الأفكار والقيم والمبادئ التي تتمظهر في صورة سلطة الأب أو سلطة الضابط، ودائرة الأجهزة الأمنية أو محيط الأسرة، وتهشيم فساد تفسير مصطلحات، معجم الميهي السينمائي، كالزواج والقوامة والحكم والأمن والشراكة والأبوة والبنوة والمساواة والعدالة والحقوق والحرية. إن تلك الشخصية الثالوثية – إن جازت التسمية - تتمثل في أدوار كل من إسعاد يونس ويوسف داوود ومخلص البحيري وماجدة الخطيب في الأفلام التي توضع تحت اختبار بين الصراع والحبكة والاختفاء المقنن.

هذه الشخصية استقطابية بامتياز في أدوارها التي تجعلها مرة ضحية وأخرى جلادة يرتفع صوتها وحضورها على الآخرين، فهي شخصية عصمت أخت الزوجة التي يستغلها المحامي في قضايا الدفاع عن التجار النصابين والمحتالين «الأفوكاتو» 1983، وهي شخصية الضابط ملاك الغارق في نظرية المؤامرة في فيلم «سمك لبن تمر هندي» 1988، وهي شخصية محجوب مساعد المدير الوصولي الذي أغرى مديره بزواج الأربع والاستقالة من إدارة المصنع في فيلم «سيداتي آنساتي» 1989. وهي شخصية الخال الذي وجد نفسه مصادفة تتجدد خؤولته بلا طائل في فيلم «ميت فل» 1995، والوزير المندهش من إدارة موظفين مجانين في فيلم «تفاحة» 1996، والخالة الفاقدة الذاكرة أو المستمرئة دورها الآخر في فيلم «ست الستات» 2001 وهكذا.

من الكوميديا إلى ما بعد الكوميديا

جنح الميهي إلى حالة من الكوميديا تذهب إلى ما يتعدى القصة والحوار أي السرد المتنافر بين تناقض عالمين متصلين ومنقطعين في آن، عبر فيلمين «سمك لبن تمر هندي» 1988 و»قليل من الحب كثير من العنف» 1995، ولكون طابعهما تجريبياً فهو توسل فيهما بالاستشراف، فمن الغرق في عالم المؤامرة عند أجهزة الأمن والبراءة في حاجات المواطن في الأول، إلى التلوث بين عالمين أو طبقتين متناقضتين أي انهيار الأخلاق وصعود المنفعية بالتخلي عن المكاسب المشروعة نحو المكاسب المسروقة في الثاني. يتسم كلا الفيلمين بحالة من السواد تبعاً إلى متغيرات اقتصادية وسياسية في عصر مضطرب هو عصرنا الذي لا يهدأ من الصراع على الإنسان والأرض والمستقبل.

ثمة قوى تسيطر وتدير اللعبة بأجهزة التحكم عن بعد تجعل من المآسي ذرائع لتحقيق الأهداف على حساب إنسان المنطقة، وهو ما حدا بالميهي إلى أن يكمل مسيرته لاحقاً لإنجاز ما تبقى من جعبته حول تفكيك قيم السلطة وأفكار الفساد في المجتمع غير أنه دخل في إطار يستعيد بعض المواضيع مجدداً على شخصيات مستجدة هي ذاتها تكرار للآخرين في فيلمين «علشان ربنا يحبك» 2000 وفيلم «شرم برم» 2001 بينما ترك من بين ما ترك مشروعين أعدهما ولم يخرجهما بعد «سحر العشق» من روايته الصادرة عام 2009، والثاني «اعترافات زوجية» على أنه أنجز على المستوى الإنتاجي «يا دنيا يا غرامي» 1995 من إخراج مجدي أحمد علي؛ الذي يؤكد أن الميهي مدرسة سينمائية راسخة جداً.

لقد صاغ الميهي مجمل أعماله وشخصياته مرتكزاً على عوامل ثلاثة: الأول، ذاكرة سينمائية قوية تدرك منجزات تاريخ السينما العربية – أو المصرية سيان -، والثاني، استيعاب عميق لجذور الثقافة العربية سواء في تراثها الثقافي من فنون القول والأداء والحركة - الأغاني والسير الشعبية والأساطير -، والثالث: فرادة لغة سينمائية تجعل من الصورة معشقة بالكلام والحركة دون إخلال يتكئ على ترقيع التوليف بالقطع أو التمليل بكسر الإيقاع واختلاله! وأقام على هذه العوامل عناصره الأساسية أي ثلاثية الصورة والأدب وإدارة الممثل، وفي الآخر لا أظن أنها كافية تلك الثلاثة مداخل حين تمكننا من قراءة سينما الميهي نفسه، وهي: السينما الروائية، وتمكين الممثل، ومخرج التفاصيل. إن الميهي عقد تعاهداً على صعود حس العدالة على مستوى الأسرة أو المجتمع بشكل عام، وتمكن من تحقيق أفلام لا يمكن تجاهلها من تاريخ السينما كما لا يمكن التذكر لمرحلة سينما المخرج أو المؤلف دون أن يكون على رأسها. إنه رأفت الميهي.. ذاكرة من سينما!

الرياض السعودية في

28.07.2015

 
 

رحل "رأفت الميهي" رائد الفانتازيا السينمائية

إبتهال حسين

هو أحد أهم أقطاب الفن السابع، رائد التجربة الفانتازية المصرية، المتحرر من الأساليب النمطية، الساعي دائما لرؤية سينمائية مصرية جديدة مجردة من الثوابت الاجتماعية، نجح في حفر اسمه كعلامة من علامات السينما المصرية المتحررة، إنه الجريء ..الذي لم يخشى امتزاج الدراما بالقضايا السياسية أو الاجتماعية على الرغم من تحدى وتصدى المجتمع له، فكان لديه الدلالات والحبكات الدرامية التى ساعدته على ذلك بحرفية وإتقان شديد، إنه السيناريست والمخرج رائد مدرسة التجريب والفانتازيا "رأفت الميهي".

رحل عن عالمنا القدير "رأفت الميهي"، يوم الجمعة 24 يوليو عام 2015، عن عمر يناهز 74 عاما، نتيجة مضاعفات صحية بسبب وجود مياه على الرئة وضعف عضلة القلب بالمستشفى العسكري بالقاهرة، " تاركا خلفه إرثا من الإبداع والفن المتميز للسينما المصرية، سوءا من كتابه السيناريو والإنتاج  السينمائي ليصبح أبرز أعلامه الإخراج السينمائي الذي إبتدع وأبدع فيه، ليكون بذلك واحدا من أبرز مبدعي الفن السينمائي المصري.

لم يكن " الميهي" مخرجاً عاديا، فقد إختار طريق التميز والتجديد وهو الطريق الأصعب ولكنه الأصلب في المجال الفني ، حيث  إمتد مشواره الفني لما يقرب من 50 عاما من الكتابة والإنتاج والإخراج السينمائي، فقد كان مشبعا بحب الفن وتطويره بشتى الطرق، من العديد من الأعمال السينمائية الهامة على مدار مشواره ، بدأها سيناريست لفيلم "جفت الأمطار" عام  1966 ، كما تعاون مع معظم كبار مخرجي السينما في ذلك الوقت، مثل المخرج الكبير كمال الشيخ في فيلم "غروب وشروق"، و"شيء من الخوف"، و"على من نطلق الرصاص".

عشق "الميهي" لكاميرا السينما، جعلته بدأ يتدرب مع بعض المخرجين ممن عمل معهم في بدايته كسينارست، حيث  ظنوا به  بأنه يتسلى أو من باب الفضول، ولكن فاجأ  "الميهي" الجميع بأنه أراد أن يكون مخرجاً وقد كان.

أنطلقت موهبه "الميهي" الإخراجية عام 1981 ، بفيلم "عيون لا تنام"، حيث كان هذا العمل الإنطلاقة الحقيقية والمدوية له في عالم الإخراج السينمائي ، فتوالت أعماله منها "الافوكاتو" ، و"السادة الرجال"، وسيداتي آنساتي"  ، وغيرها من الأفلام التي حققت نجاحات كبيرة في السينما المصرية وحصل في معظم هذه الأفلام على جوائز عدة سواء داخل مصر أو خارجها

البوابة نيوز المصرية في

28.07.2015

 
 
 
 
 
 

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك
  (2004 - 2015)