كتبوا في السينما

 

 
 
 
 
 
 

ملفات خاصة

 
 
 
 
 
 

رأفت الميهي .. رهانات الفنتازي

علي أبو شادي

عن رحيل المختلف

رأفت الميهي

   
 
 
 
 

بعد سنوات، وحين يُطِلّ أحد عشاق السينما من نافذة تاريخ الفن، سوف يرى أن الكاتب والمخرج والمنتج السينمائي رأفت الميهي قد احتجز مكاناً عَلِيّاً، ومكانةً عُلْيا بأعماله الرصينة ككاتب سيناريو، ولغته السينمائية المتميزة كمخرج، وجرأته كمنتج لأفلام تُغرِّد عادةً خارج السرب، وصاحب رؤية عميقة وبصيرة نافذة للواقع المصري المعاصر بتحولاته وتشوهاته، وقدرته الفائقة على رصد وتحليل تناقضات الأفراد والجماعات داخل المجتمع وكشف واكتشاف جوانب الخلل في السلوك وانهيار القيم بواقعية صارمة في أعماله الأولى وبأسلوب ساخر يقطر بالمرارة - في مرحلته الثانية - بعد أن سلك طريق الفانتازيا واختارها منهجاً يعالج من خلاله الأوضاع المتردية والعلاقات المهترئة بين أفراد هذا المجتمع.

تمرد الميهي، بعد تخرجه من قسم اللغة الإنجليزية بكلية الآداب جامعة القاهرة على وظيفته كمدرس في إحدى مدارس محافظة المنوفية، وقرّر بقناعة وافرة، تغيير مسار مستقبله، فالتحق بمؤسسة السينما تحت رئاسة المخرج الكبير صلاح أبو سيف، الذي احتضن الشاب الواعد وألحقه عضواً بلجنة قراءة النصوص التي كانت تقوم بتقييم السيناريوهات المتقدمة لإنتاجها بالشركة، حيث مارس رأفت عمله باللجنة مُعتمِداً على ثقافة راقية مرتكزة على وعي دقيق بتراث الأدب العربي ودراسة متعمقةٍ للأدب الإنجليزي وولعٍ خاص بالشكسبيريات، مما ساعده على الالتحاق بمعهد السيناريو الذي أنشأه أبو سيف وساهم في صقل موهبة كثير من الذين درسوا به.

كانت بداياته ككاتب سيناريو مع الأعمال الأدبية، يعدها للسينما، ويطرح من خلالها رؤيته للواقع، فاختار رواية « جفت الأمطار» للكاتب عبد الله الطوخي لتكون أولى تجاربه، والاختبار الأول لقدراته وموهبته، ليقدم مع المخرج سيد عيسى العائد من بعثة دراسية بموسكو، فيلمه الروائي الطويل الأول حاملاً نفس اسم الرواية.. عرض الفيلم عام 1967، بعد الهزيمة فلم يلق ترحيباً كافياً، علاوة على أن موضوعه جاء مغايراً ومختلفاً عن السينما السائدة بتناوله حلم الخروج من شريط الدلتا الزراعي الضيق المتاخم لنهر النيل، والأمل، رغم المعاناة والمعوقات- في استصلاح أراضٍ جديدة وإقامة مجتمع زراعي جديد في ظروف مختلفة بعيداً عن الالتصاق بالنهر.. كان الميهي يحلم، كغيره من شباب السينمائيين في تلك الفترة بسينما مختلفة تعبر عن الواقع المصري المعاصر.. تسهم في تغييره إلى الأفضل، وتساهم في الانطلاق نحو مستقبل يرنو للتقدم، وتبحث عن أساليب سينمائية جديدة تطويراً للغة باتت عتيقة، مُواكبة لما تمور به السينما العالمية في ذلك الوقت.. سينما تعكس آلام وهموم وأشواق وأحلام المواطن المصري وتنمي وعيه وترقي وجدانه.

نجح الميهي في الاختبار الأول، وقدّم نفسه، بقوة كموهبة جديدة تمتلك الثقافة والحرفة والوعي.. بعدها، التقى المخرج الكبير كمال الشيخ وشكّلا ثنائياً أثرى السينما المصرية بأربعة أفلام تعد من كلاسيكياتها، وهي على التوالي: «غروب وشروق» 1970، و«شيء في صدري» 1972، و«الهارب» ثم رائعتهما «على من نطلق الرصاص» 1975.

اعتمد الميهي في «غروب وشروق» على رواية لجمال حمّاد، صاغ منها عملاً تجاوز فيه رتابة أحداثها ونمطية شخصياتها وأعاد بناءها درامياً وأكسبها بذكاء ثوباً معاصراً رغم أن أحداثها تدور في السبعينيات، وهو ما فعله بعد عام واحد مع رواية إحسان عبدالقدوس «شيء في صدري» التي باتت نموذجاً لرصانة الكتابة وتجسيداً دقيقاً لتوافق الرؤية بين العمل الأدبي والسيناريو السينمائي، ويختتم رأفت الميهي هذه المرحلة من تاريخه بفيلم «على من نطلق الرصاص» أحد أهم الأفلام في تاريخ السينما المصرية، وإن اختلفتُ مع رؤيته في انتهاج الحل الفردي بديلاً للقانون الغائب، رغم أنه قدم بمهارة درامية الأسباب والدوافع التي دفعت بطله إلى إطلاق الرصاص على رئيس مجلس الإدارة الفاسد الذي تسبب في موت صديقه.

في الفترة ما بين 1970 و1975، أنجز الميهي - إلى جانب أفلامه الأربعة مع كمال الشيخ - فيلمين من تأليفه «الحب الذي كان»، إخراج علي بدرخان، و«غرباء» لسعد عرفة، وهو من الأعمال المهمة التي حاولت التنبيه لخطورة التزمت الديني الذي أدى بعد ذلك إلى ظهور تيارات التشدّد التي كانت بيئة نموذجية لنشأة وتربية تيارات العنف والإرهاب.. إضافة إلى كتابة سيناريو لقصتين من بين ثلاث قصص في فيلم «صور ممنوعة» إحداها من تأليفه «ممنوع» إخراج محمد عبدالعزيز، والثانية عن قصة «كان» لمحمد صدقي أخرجها أشرف فهمي.

بعد عرض فيلم «على من نطلق الرصاص» عام 1975 قرّر رأفت التوقف عن الكتابة تماماً وأنه سوف يخرج أعماله بنفسه وتفرّغ لدراسة واستيعاب عملية الإخراج ليعود إلى الساحة السينمائية كاتباً ومخرجاً بفيلم «عيون لا تنام» عن مسرحية «رغبة تحت شجرة الدردار» للكاتب الأميركي تنيسي ويليامز بعد أن أكسبها روحاً مصرية، ويؤكد قدراته كمخرج، ويبدأ مرحلته الثانية، فيخطو خطوته الأولى نحو عالمه الجديد، ويحلّق بخيال جامح في عالم الفانتازيا بادئاً بفيلم «الأفوكاتو» عام 1983، لكنه يفاجئنا بتحفته «للحب قصة أخيرة» 1986 ليصعد به ، كمفكر، إلى مصاف كبار المفكرين السينمائيين المهمومين بالأسئلة الوجودية، عبر معمار قوي ورؤية ثاقبة وجرأة في تناول المسكوت عنه.

يواصل الميهي مشروعه في تقديم فانتازيا سينمائية مصرية معاصرة تقوم على إبراز العلاقات المشوهة في الواقع بما يتضمنه من فوضى وانفلات يجعلانه أكثر غرابة من أي محاولة لخلق عالم واقعي/موازٍ، يضرب بجذور أبطاله في أرض الواقع، محاولاً تحليل وتفسير أسباب الخلل الظاهر والكامن في حياتنا ومؤسساتنا وقيمنا ومجمل ظروفنا الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، عبر أسلوب خاص في السرد الفيلمي واعتماداً على ما يمكن تسميته بالصور المعكوسة أو المقلوبة، تجلى ذلك بوضوح في ثلاثيته «السادة الرجال» 1987، و«سمك.. لبن.. تمر هندي» 1988، و«سيداتي.. آنساتي» 1990، التي يقدم فيها ما يشبه الصورة السلبية (النيجاتيف)، بمفرداتها المعكوسة، لكنها تحمل أيضاً حقيقة الواقع التي يمكن من خلالها استخلاص صور الأشياء المقلوبة على شبكية العين فيحيلها المخ إلى صور سليمة، فالميهي عن طَرِيق إبراز التناقض الحاد بين السلبي والإيجابي، واستخدام أسلوب الأدوار المعكوسة، يحاول طرح هموم الواقع اليومي وما به من فوضى وارتباك.

في «السادة الرجال» استشعرت المرأة ظلماً ذكورياً، فقررت أن تكون رجلاً لتدفع عن نفسها ذلك الظلم، واندفعت تلعب دور الرجل إلى أقصى مدى، مما اضطر الرجل، نفسه، أن يلعب دور المرأة!! حتى لا تختل قوانين الطبيعة ويرتبك ميزان الحياة، وفي «سمك.. لبن.. تمر هندي» يخلق جواً كابوسياً مروعاً بأن يجعل بطليه هدفاً لملاحقات ومطاردات لا يعرفان لها سبباً مُطلِقاً العنان لخياله الخصب والجامح.

يعود «الأستاذ» - وهي الكُنية التي يطلقها عليه تلامذته ومحبوه في الوسط السينمائي- يعود في «سيداتي.. آنساتي» ليعلب على تناقضات الواقع، وخلل العلاقات، والفهم الخاطئ للشريعة، وعدم تقدير العلم والعلماء.. ويطرح سؤالاً يبدو مشروعاً.. إذا كان الشرع يتيح للرجل الزواج من أربع.. فما هو المانع أن تلعب النسوة الأربع نَفْس الدور، ويقررن الزواج من رجل واحد؟.. وماذا يمنع شاب مثقف صغير السن من أن يتزوج من سيدة طاعنة في عمر أمه؟ وأن يعمل الحاصل على درجة الدكتوراه في الطبيعة، فراشاً في مقصف (بوفيه) أحد المصانع!!.. مرة أخرى يقلب الميهي الأوضاع المألوفة والمعتادة، ليكشف عن ما أصاب المجتمع المصري من خلل في السلوك، والفهم، والنُظم، والقيم التي باتت تحكم العلاقات الزوجية، والأسرية، والتعليمية والوظيفية.

بعد خمس سنوات من التوقف. يعود رأفت إلى السينما بتجربة بالغة الأهمية بالنسبة لعلاقة الأدب بالسينما، وما هي حدود تدخل كاتب السيناريو الذي يتولى إعداد الرواية سينمائياً؟.. اختار الميهي رواية «قليل من الحب.. كثير من العنف» للكاتب الكبير فتحي غانم -كتبها في مطلع الثمانينيات- يرصد فيها التغيرات التي حاقت بالمجتمع المصري بتأثير سياسة الانفتاح الاقتصادي، التي خلقت واقعاً مغايراً، وقيماً جديدة، وطبقة طفيلية طفت، وطغت على سطح المجتمع، وتبوأت قمة الهرم الاجتماعي.. رأى رأفت أن رواية فتحي غانم كانت تعبيراً صحيحاً ودقيقاً وناضجاً عن الفترة التاريخية التي تناولتها.. لكن واقع التسعينيات بات مختلفاً إلى حد كبير على كل المستويات.. هنا، كان على كاتب السيناريو أن يخوض تجربة البحث عن معادل سينمائي يكمل الصورة التي رسمها الروائي ويصل بها إلى أن تكون تعبيراً عن اللحظة الآنية (واقع التسعينيات).. احترم الميهي النص الأصلي، لكنه انطلق يشيِّد بناء موازياً ومعادلاً لوقائع الرواية، بدا أحياناً كتعليق ساخر على تِلْك الأحداث.. وأحياناً أخرى كإجابة عن سؤال افتراضي طرحه الميهي، عما إذا كان من الممكن أن يحدث ذلك الآن؟!!.. في نهاية تحمل كثيراً من حدة البصر، ونفاذ البصيرة، يؤكد الفيلم أن العالم القديم الفاسد شديد الانحطاط سيدفع الوطن كله إلى الفوضى المرعبة، وهو ما حدث بالفعل بعد ما يقرب من عقد ونصف العقد من إنتاج الفيلم!! 

في الفترة من 1996 وحتى 2001، أنجز رأفت - كتابة وإخراجاً وإنتاجاً - خمسة أفلام «تفاحة» و«ميت فل» و«ست الستات» و«عشان ربنا يحبك» و«شُرُمْ بُرُمْ»، ورغم أنها تدور في عالم الفانتازيا، إلاّ أنها لم تحظ بالنجاح الجماهيري، أو النقدي المنشود، مما أدى إلى توقفه عن العمل في السينما، وإن عاد في 2006 ليقدم محاولته التليفزيونية الوحيدة فقام بإعداد وإخراج مسلسل «وكالة عطية» عن رواية الكاتب خيري شلبي.

رأفت الميهي واحد من أخلص العاملين في السينما المصرية، وأحد فرسانها، ولم يكن على مدى تاريخه مجرد مؤلف أو مخرج أو منتج، بل كان «رجل سينما» بمعنى الكلمة،.. يحملها على كاهله، مدافعاً عنها في صلابة، ومقاتلاً ضد الاعتداء على حرية التعبير أو فرض قيود على مبدعيها، وقوة دافعة لشبابها.. صاحب رؤية تنتصر للمستقبل.. تؤمن بالحرية والديموقراطية وحق الاختلاف، وترفض التمييز بكل أشكاله، وكان - وسيظل - جزءاً أصيلاً وناصعاً في تاريخها.

مجلة الدوحة القطرية في

01.08.2015

 
 

الخيال الحائر

نـاهـد صـلاح

لأنه رفض أن يكون واحداً من المنسيين الذين فضلوا التواري في الظلِّ، لم تكن السينما بالنسبة لرأفت الميهي (25 سبتمبر 1940)، وسيلة لـ «أكل العيش»، وإنما مشروع محدد الملامح يهدف من ورائه إلى التفرُّد والانفراد بمساحة خُصِّصَتْ له وحده، غير مكترث بأية ضجّة أو ضوضاء تحيط به، سواء أكانت من الجمهور أم الرقابة أم حتى القضاء، وإنما سعى بجدية لتحقيق شيء في خياله.. شيء جعل كل فيلم من أفلامه محط جدل ونقاش ومتعة بصرية وفكرية وعلامة بارزة على خارطة السينما المصرية.

رأفت الميهي، القادم من مجال كتابة السيناريو، يظلّ من أبرز صنّاع السينما العربية (كاتباً ومخرجاً ومنتجاً)، ثقافته الخاصة علّمته أن يدرك التفاصيل الإنسانية ويحوّلها إلى ملمح فني يصعد بالعمل إلى ذروته، وساعدته دراسته للأدب الإنجليزي حين كان طالباً في قسم اللغة الإنجليزية كلية الآداب بجامعة القاهرة على الانفتاح على عوالم أخرى والوقوف أكثر على هذه التفاصيل الإنسانية، وعلى الدراما عموماً قبل أن يلتحق بمعهد السيناريو، الذي أنشأه المخرج الكبير صلاح أبو سيف، ما أسهم أكثر في اشتعال حلمه بسينما جديدة يكون لها دور فارق في عملية التغيير المجتمعي. وعلى هذه الخلفيّة كتب رأفت الميهي أول سيناريو للسينما عن رواية «جفت الأمطار» للكاتب عبدالله الطوخي وإخراج سيد عيسى، ليكون هذا الفيلم الذي عُرِضَ عام 1967 أول كتاباته الاحترافية على الشاشة فيما كانت البلاد لم تزل تنسحب عليها آثار هزيمة يونيو، وجاء هذا الفيلم مختلفاً عن السائد شكلاً وموضوعاً ليدور حول الرغبة في التحرُّر من الحيز الضيّق الذي يستوطنه الناس إلى أفق أوسع لاستصلاح الأراضي. ثم توالت أفلامه في السبعينيات مع المخرج الراحل كمال الشيخ، حيث شكّلا ثنائياً مُتناغماً في أفلام اعتمدت على نصوص أدبية: «غروب وشروق» (1970) عن رواية جمال حماد، وعن روايتين لإحسان عبدالقدوس كتب سيناريو «شيء في صدري» (1971) و«على من نطلق الرصاص» (1975)، بينما كان قد قَدَّم مع المخرج علي بدرخان فيلم «الحب الذي كان» (1973)، أول فيلم طويل يحمل توقيعه كمؤلف سينمائي مُستغنياً عن جملة: قصة وسيناريو وحوار. رحلة طويلة في عالم السيناريو كشفت عن كاتب يهتم بتحولات وصراعات النفس البشرية في مجتمع يمتلك قدره الكافي من القسوة كي يقضم العمر ثانية بثانية ‏ويخفي في ظلاله الذات الإنسانية حتى تسقط في حفرة هذه الظلال ولا تتحقق في أجواء من القلق الوجودي غالباً ما يختلط بالهم السياسي ونهايات في ممر طويل لا تحسم المصير الإنساني إلا بمزيد من الوجع والمرارة، وهذا الملمح البارز يظهر بوضوح أكثر في أفلامه التي أخرجها عندما تحوّل إلى ساحة الإخراج منذ العام 1981، حيث كانت البداية بفيلم «عيون لا تنام» المأخوذ عن مسرحية «رغبة تحت شجرة الدردار» للمسرحي الأميركي يوجين أونيل، وحين يقول رأفت الميهي: «الحقيقة أنني لا أجد سبباً واضحاً لتحوُّلي للإخراج، فقط شعرت أني أريد أن أُخرِج ، وذلك مثلما أريد أن أشرب أو أنام .. لك أن تعتبره تطوراً بيولوجياً، إنه تحوُّل منطقي وعادل ربما كانت بداخلي رغبة في امتلاك العمل بصورة كاملة»، فإنه يحاول أن يبرهن نظريته تجاه رغبته في صناعة سينما تعبر عن ذاته ورغبته في إحداث شكلٍ من أشكال التغيير سواء أكانت على الشاشة أم في الواقع.

أول الغيث كان «عيون لا تنام» (1981)، وبالرغم من اقتباسه مسرحية (رغبة تحت شجر الدردار)، لكن الفيلم اتخذ منحى مُغايراً للمسرحية الأميركية التي ارتكزت في صراعها الإنساني الدائر على فكرة الرغبة في السيطرة والامتلاك في ميل واضح إلى النزوع نحو الغرائز التي تؤجج هذه الفكرة المرتبطة بالطبيعة الإنسانية ، بينما الميهي في فيلمه يتلمس الصراع داخل النفس البشرية في إطار من التلوين الدرامي يجعل من الصعب إدانة أي شخصية، أو حتى التعاطف معها، لكن هذا الشعور ينفجر بالقلق في مواجهة واقع هو أقسى من الصراعات الداخلية التي قد تحطمها، فاختار الميهي أن تكون مسرح الأحداث ورشة لإصلاح السيارات بنيت على قطعة أرض تمتلكها عائلة مكونة من أربعة أفراد، يستحوذ الأخ الأكبر إبراهيم (فريد شوقي) على ملكيتها، بينما يقتنع الآخرون بأنهم يمتلكون حق الحصول على الورشة الفقيرة الموجودة تحت أحد كباري القاهرة، والتي لا تتوافر فيها معالم لحياة كريمة، فتصبح هذه الورشة محور الصراع الدموي الذي يجعل الشقيق يصارع شقيقه حتى الموت، كاشفاً عن الصورة البائسة لمجتمع أكثر بؤساً يعيش على هامش مجتمع الانفتاح.

صدى البؤس واحد سواء أكان عند مهمشي «عيون لا تنام» أم عند المنتمين لدنيا الطبقة المتوسطة كما في «الأفوكاتو» (1984)، الصراع هنا ليس سراباً ولا هو علة نفسية أو غرائزية منزوعة عن مجتمعها، إنما هو صراع مجتمعي شديد الحدة وإن أضفى عليه الميهي هذا الطابع من السخرية الذي يليق بالوجع ويكون دفة وشراعاً يستخدمه الميهي للتوغل في مجتمع يرزح تحت تناقضاته المتشعبة التي تقتنص إنسانية الفرد، وبصرف النظر عن أن الميهي قرّر في هذا الفيلم تحقيق المعادلة الصعبة وطرفيها الفن كما يريد والتجارة كما تريد السوق، حيث اعتمد على نجم الكوميديا عادل إمام ليكون البطل (الفهلوي) خفيف الظل الذي تَنْشَدُّ الجماهير أمامه مبهورة بحركاته وحكاياته، لكن لابد من الوقوف عند هذه الصورة التي رسمها الميهي لبطله حسن سبانخ المحامي المشاغب في قاعات محاكم خانقة ومخنوقة، والذي تتجلى أحلامه في تليفزيون ملون ودراجة لابنه وبعض المال من أجل عملية جراحية تحتاجها زوجته لكي تتخلص من «الشخير» في مجتمع الانتهازية هي قانونه الأبرز، ويعيشه حسن سبانخ بنفس الطريقة التي يحاول بها يومياً أن يجتاز شارعه الطافح بالمجاري بخفة و(فهلوة) كما أفراد السيرك أو أبطال حكايات الشطار والعيارين في التراث الشعبي، وهي الخفة ذاتها التي يمارسها داخل السجون بعالمها الغرائبي.

في «السادة الرجال» (1987) انطلق الميهي لتكريس مشروعه في تقديم فانتازيا تكشف المجتمع وتشوهاته وتناقضاته على أكثر من مستوى، المرأة هنا تبحث عن حريتها في مجتمع ذكوري أناني لا يجد حريته سوى في اصطياد النساء أو تدخين الشيشة فيما تكون المرأة مجرد وسيلة لتحقيق رغباته مادياً ونفسياً ومعنوياً، باختصار تكون المرأة مجرد خادمة عند رجل لا يشعر بآدميتها بقدر ما يحتاجها لتمهد له حياته وتسهلها، وعند هذه النقطة في الفيلم تقرّر المرأة أن تكون رجلاً، فانتازيا جامحة لباكورة ثلاثيته الشهيرة في عالم الفانتازيا ومعه «سمك لبن تمر هندي» (1988) بأجوائه اللامعقولية التي تزيد من حالة العبث، وتكتمل الثلاثية بفيلم «سيداتي سادتي» (1990)، الذي يعود فيه الميهي إلى مسّ العلاقة بين المرأة والرجل من خلال تبادل الأدوار الذي يزيد من عبثية الصورة واضطرابها وسخريتها.

تلك السخرية التي فاقت المدى في فيلم «قليل من الحب.. كثير من العنف» (1995)، يعود فيه الميهي إلى النهل من الأدب عبر رواية فتحي غانم التي تحمل نفس العنوان، والذي يكشف الازدواجية الموجودة في المجتمع وفي النفس البشرية عموماً. وبعده يتوغل أكثر في السخرية من خلال أفلامه «ميت فل» (1996) الذي يدور حول حبيبين يبحثان عن أبوين ثريين ليتوجا قصة حبهما بنهاية مشروعة، فيتبناهما شخص واحد يمارس عليهما نزواته الأبوية، وكما قصة الفيلم تحطم المعقول فإنه أيضاً يحطم كل الأساليب الفنية بتقليديتها دون إيجاد مسار خاص له، ما يُوقِعه في فخ التشوُّش، وكذا فعل فيلم «تفاحة» (1997)، الذي يستسلم فيه بطلاه بالرغم من دفاعهما المستميت في البداية عن حبهما، هزيمة تشبه هزائم كل أبطال الميهي تقريباً، وإن كان في هذا الفيلم صنع نهاية سعيدة.

النزعة الفنية الفوضوية لدى الميهي جعلته يتمادى ويقدِّم أفلام «ست الستات» و«عشان ربنا يحبك» و«شرم برم» التي لم تلق أي تجاوب جماهيري أو حتى نقدي، خصوصاً بعد أن ضاعت خيوط التواصل بين حلمه ووجوده، فتوقف الميهي عن العمل بالسينما منذ العام 2001، لكنه أقدم في العام 2001 على كتابة وإخراج مسلسل «وكالة عطية» عن رواية الأديب الراحل خيري شلبي التي تحمل نفس الاسم، وكأنه من الأدب بدأ وإليه يعود، فيما اتسعت حدود أزمته مع السينما بعد أن تعثر مشروعه لإنتاج فيلم «هورجادا.. سحر العشق» لعدم وجود منتج يمتلك قدراً من الجرأة لمناقشة قضية شديدة الحساسية كالنزاعات الطائفية.

يبقى أن رأفت الميهي لم يبرح موقعه كواحد من أهم وأفضل كتاب السيناريو في السينما العربية، وتظلّ تجربته التي احتوت 25 فيلماً كمؤلف، و 12 فيلماً كمخرج، تجربة ثرية لا يمكن إسقاطها من ذاكرة السينما، كما تعيش مغامرته كفنان امتلك قدراً كبيراً من الخيال الجامح حاول أن يراهن على التغيير بالرغم من كل أزماته.

مجلة الدوحة القطرية في

01.08.2015

 
 

رأفت الميهي: الواقع أكثر حبكة من السيناريوهات

حوار - علا الشافعي

في مكتبه بوسط القاهرة دأب المخرج المصري الكبير رأفت الميهي على الحديث عن مشروعاته الجديدة. وبكامل الحيوية والصخب الإبداعيين كان يقف وسط «استوديو جلال» ليحوله من حالة الجمود والتهالك إلى فضاء نابض بالحياة والمنجزات السينمائية. كما امتدت أفضال الميهي إلى غيره من خلال تأسيسه أكاديمية لتخريج الموهوبين في مجالات الفن السابع.
صاحب «على من نطلق الرصاص» ليس مجرد مخرج يتقن هذه الحرفة، أو سيناريست يكتب وكفى... بل إنه تجربة مثلما حققت فنياً حالة مرجعية مُكتملة، فإن مضمونها الفكري اقترن بالتمرد والمغامرة والفضح. ولأنه كذلك دخل في معارك مع سماسرة التراث، والموزعين الذين كانوا سداً منيعاً أمام أي فن مختلف وحقيقي.

حالياً، يوجد الميهي بمستشفى بـ«المعادي العسكري»، عليك أن تقطع ممراً طويلاً، قبل أن تصل إلى الغرفة رقم 36 بقسم المخ والأعصاب. تضم تلك الغرفة الصغيرة جسده الذي صار نحيلاً من شدة المرض، لكن صوته الخفيض يأتي من الداخل، واستقبلنا بنفس الابتسامة الهادئة، التي لم يأخذ المرض منها شيئاً. روحه المتمردة سلاحه في مواجهة المرض. يحرص على متابعة كل ما يدور في المجتمع.. يعرف تفاصيل المشهد العربي المتردي سياسياً.. يتحرك في الغرفة الصغيرة مابين سريره أو كرسيه المتحرك، مُمسكاً بالريموت كنترول، وعندما يمازحه أحد «يا أستاذ مش كفاية سياسة ريح بالك» فيرد بجديته ونبرة لا تخلو من سخريته المعتادة، «مافيش غيرها في المستشفى، ولا أستطيع أن يمر عليّ يوم دون معرفة تفاصيل ما يدور حولي من أحداث».

قبل أن نجري معه هذا الحوار، بادرناه بالسؤال عن صحته وحالته المرضية؟ فرد دون أن يستطيع منع دموعه عن حلمه، وحبه للإخراج: «الحمد لله أنا راضٍ جداً، وأعرف أن حالتي صعبة، ورغم ذلك لا أتوقف عن الحلم بأن أستعيد ولو جزءاً من عافيتي، كل ما أرغب فيه هو الوقوف وراء الكاميرا من جديد، وأعرف مدى صعوبة ذلك، ولكن لن أتوقف عن الحلم..». 

·        أنت أشهر مخرج فانتازيا في السينما المصرية: هل ترى بأن الواقع الحياتي الآن أكثر فانتازية من الأفلام، ولماذا لم تعد هناك أفلام تنزع البسمة من شفاه المصريين؟

- الواقع الحياتي صار أكثر حبكة من السيناريوهات السينمائية، بل صار أكثر قرباً إلى الكوميديا السوداء، لذلك أصبح من الصعب أن يجد المصريون ما يضحكهم الآن في الأفلام التي تطرح كما أن الأفلام «دمها تقيل» ولا تمت للفن بصلة.

·        منذ أكثر من 30 عاماً وأنت تنادي بضرورة تغيير قوانين صناعة السينما، والتي عرفت فساداً لا يختلف كثيراً عما يدور في المجتمع، ودائماً ما كنت تنادي بضرورة النهوض بالصناعة، ووضع أسس لذلك، ولكن تدهور حال الصناعة، وحالياً هناك محاولات لإنقاذها كيف ترى المشهد السينمائي؟

- حالياً لا توجد سينما، كانت موجودة في الماضي فقط، وتاريخها كان قائماً على أكتاف أفراد وليس مجموعات مثل جيل الرواد من المنتجين رمسيس نجيب وحسن رمزي وحلمي رفلة وآسيا، وغيرهم، ومازلت أحلم أن نعود مثل الماضي، ومع أن هناك منتجين جدداً يبذلون محاولات وتجارب إلا أن الفيلم يخرج ضعيفاً نظراً لتكلفته القليلة والمحدودة، ولكن أتمنى أن تملك الدولة وعياً بأهمية الفنون ومن بينها السينما لتعمل بجدية على تطويرها، بعيداً عن لقاءات الغرف المغلقة، والخروج بتوصيات تملأ الأدراج ولا ينفذ منها شيء.

·        معارك كثيرة خضتها مع الرقابة، ولا تزال معارك المبدعين مع هذا الجهاز العقيم البيروقراطي قائمة. من يحمي المبدع وهل تؤيد فكرة إلغاء الرقابة على المصنفات الفنية؟

- أنا ضد وجودها و«مفيش حاجة اسمها رقابة»، والمفترض أن يكون هناك جهاز مصنفات لحماية حق المبدع وليس رقيباً على أعماله، ويكفي المبدع الرقابة المجتمعية بمعنى أننا ومنذ فترة طويلة نرى ونسمع عن «اللى ميعجبوش فيلم يرفع قضية ضد صناعه» وهذا بتنا نشاهده كثيراً، وعن نفسي عانيت منه.

·        في مشوارك السينمائي الحافل تعاونت مع أجيال في السينما المصرية بدءاً من جيل شادية وسعاد حسني، وحتى جيل شريهان وداليا البحيري.. ما الذي تغيّر في مواصفات النجمة من جيل لآخر ؟

- بدأت مشواري مع عمالقة في كافة أفرع الفن، جيل كان يخلص في عمله ويحرص على تقديمه في أفضل صورة للمشاهد بخلاف الجيل الجديد، فمثلاً سعاد حسني النجمة الموهوبة التي لا تقارن بأحد كانت تنام وتستيقظ وسيناريو العمل بين أحضانها، وكذلك النجمة نادية لطفي، وكنت أرى شريهان مشروع سعاد حسني القادم، لكنها لم تستطع الوصول لمكانتها للأسف رغم امتلاكها موهبة فنية جيدة، وعندما قدمت معي فيلم «ميت فل» كان العمل كوميدياً ويتطلب خفة ظل ولمحت في عيونها الحزن. قلت لها «أنت حزينة ليه الفيلم كوميدي» وفي اليوم التالي جاءت إلى الأستوديو وهي «شاربة الشخصية»، أما داليا البحيري فلم تنضج فنياً حتى الآن.

·        وماذا عن النجم عادل إمام الذي قدمت معه فيلم «الأفوكاتو»؟ ويحيى الفخراني الذي قام ببطولة فيلمك المتميز «للحب قصة أخيرة»؟ ويسرا وليلى علوي وإلهام شاهين وشريهان كممثلين وقفوا خلف كاميرا رأفت الميهي؟

- بالطبع عادل إمام، في المقدمة لأنه رشيق وذكي ولديه تنوع في أعماله و«مبيحصرش» نفسه في عمل واحد، أما يحيى الفخراني فكنت أطلق عليه شارلستون مصر، لكن «تخنه» أضره، وهذا لا ينفي أنه فنان شديد الموهبة، ويقدم تجارب متميزة في الدراما. شريهان الأكثر موهبة من يسرا وليلى علوي وإلهام شاهين، بس للأسف هي التي «قضت على نفسها»، ولكن عندما أسمع عنها أو أشاهدها أقول لنفسي كان الله في عونها تحملت الكثير أيضاً.

·        رغم اكتشافك للعديد من المواهب وتقديم نجوم ونجمات في أفلام غير تقليدية إلا أن معظمهم تجاهلك في مرضك؟ وقامت النجمة ليلى علوي بالاعتذار لك على تقصيرها في حقك في أحد البرامج. كيف تشعر تجاه عدم وفاء تلاميذك من الفنانين؟

- ولا واحد من تلاميذي الفنانين بيسألوا عني، ولست أشكو عدم سؤالهم، وأيضاً لا أعتب عليهم، أما اعتذار ليلى (يصمت للحظة): «وماله يمكن افتكرتني لما عرفت أن إلهام شاهين جاءت لزيارتي» أما تلاميذي بأستوديو جلال فعلى اتصال بي دائماً للاطمئنان على حالتي الصحية. وأكثر من يهتم هي الفنانة نادية لطفي التي تربطني بها صداقة قديمة ممتدة منذ تصوير فيلم «المومياء» لشادي عبد السلام، والتي لا تتوقف عن متابعة حالتي والاتصال يومياً بطاقم التمريض، خصوصاً أنها لا تستطيع أن تأتي لزيارتي بسب عدم قدرتها على المشي لوقت طويل، ويكفي أنها هي التي كانت وراء إصدار قرار علاجي على نفقة وزارة الدفاع، ولم تتوقف حتى اطمأنت على حالتي، وهي سيدة يعتمد عليها وصديقة مخلصة، وكان يحز في نفسي تجاهل الدولة لي ولمشواري الفني، والكثير من النجوم والذين لم يفكر بعضهم حتى في رفع سماعة الهاتف للسؤال عليّ، ومؤخراً قام بزيارتي الكاتب وحيد حامد، والمخرج محمد يس، والفنانة إلهام شاهين، إضافة إلى تلاميذي من الأكاديمية التعليمية.

·        مشوارك شديد التنوُّع والثراء، ولكن بصراحة أقرب أفلامك إليك بعيداً عن مقولة كلهم أبنائي؟

- أفضل أفلامي هي التي تعاونت فيها مع أستاذي المخرج الكبير الراحل كمال الشيخ، ومنها «غروب وشروق» و«على من نطلق الرصاص»، أبدعنا معاً، وأيضاً فيلم «الأفوكاتو» وفيلم «للحب قصة أخيرة» اعتبرهما من أجمل أفلامي كمخرج وكاتب.

·        لم تعرف في حياتك سوى حب السينما، والتي تعني في جزء منها الحلم. هل لايزال الميهي قادراً على الحلم رغم محنة المرض؟

- (يصمت للحظات) لا أستطيع أن أعيش بدون حلم، رغم كل ما أعانيه وأمنياتي مُتعدّدة، لكن الحلم الذي أتمنى من روحي أن يتحول إلى حقيقة ولو لبعض الوقت، أن أتحرك على قدميّ مرة أخرى وأعود لممارسة عملي الإخراج السينمائي، لأن الكاميرا «وحشتني»، وحالياً لا أستطع فعل شيء غير أني «أنام وأستيقظ»، لكن هذه إرادة الله وأنا راضٍ بها.

·        في فيلمك «على من نطلق الرصاص» ناقشت الفساد السياسي، وكان ذلك في عصر الرئيس السادات. بعد مرور كل هذه السنوات على الفيلم من ترى يستحق إطلاق الرصاص عليه؟!

- نطلقه أيضاً على الفساد الذي سيطر وترعرع في المجتمعات من الماضي وحتى الآن، وأرى أنه من العيب أن يستمر. ويجب على مختلف الفئات أن تتكاتف لأجل مصلحة الوطن، والتي يجب أن تكون فوق المصالح الشخصية، لأن أولويات هذه المرحلة تتمثل في القضاء على الفساد، وهذا يدفعني أن أقول «إحنا في إيه ولا في إيه»...

مجلة الدوحة القطرية في

01.08.2015

 
 

مذاق خاص

محمود الغيطاني

في الوقت الذي كانت تعاني فيه السينما المصرية من العثرات التي أَلمّتْ بها منذ أوائل الثمانينيات من القرن الماضي، أي الفترة التي أطلقنا عليها نقدياً -سينما المقاولات- رأى المنتجون الجدد في السينما الدجاجة التي من الممكن أن تبيض لهم ذهباً؛ ولذلك كان دخولهم إلى مجال الإنتاج السينمائي من دون دراية، أو فهم لهذه الصناعة.

بداية هذا الانهيار كانت قبل ذلك منذ نهاية الستينيات على الرغم من ظهور بعض الأفلام الجيدة، بل وبعض المخرجين الذين حاولوا الخروج بها إلى الضوء مرة أخرى، ومن ثم قدموا العديد من الأفلام التي تحاول الارتقاء بها، وليس أدلّ على ذلك من مخرجين مثل ممدوح شكري الذي قَدّمَ فيلمه «زائر الفجر» 1973م، وفيلم «غروب وشروق» للمخرج كمال الشيخ 1970م، وفيلمه الآخر «على من نطلق الرصاص» 1975م، وفيلم «أين عقلي» للمخرج عاطف سالم 1974م، وأفلام المخرج سعيد مرزوق مثل «زوجتي والكلب» 1971م، و«المذنبون» 1976م، و«أريد حلاً» 1975م، وغيرها من الأفلام التي قدمها مخرجون جادون يرغبون في النهوض بصناعة السينما المصرية.

بعض تلك الأفلام الجادة فيلم «غروب وشروق»، الذي شارك في صناعته بكتابة السيناريو رأفت الميهي، هذا السيناريست الذي عشق السينما عشقاً حقيقياً؛ ومن ثم رأيناه دائماً في جميع ما كتب من سيناريوهات جاداً فيما يقدمه لهذه السينما، منذ بدايته مع فيلم «جفت الأمطار» للمخرج سيد عيسى 1966م، حتى إخراجه لفيلمه الأول «عيون لا تنام» 1981م، الذي قَدّمَ فيه رؤيته التي تخصه عن مسرحية للكاتب الإنجليزي أوجين أونيل «رغبة تحت شجر الدردار»- باعتبار أن الميهي في الأساس درس الأدب الإنجليزي في كلية الآداب؛ ومن ثم فهو قادر على التعامل مع معطيات هذا الأدب-.

نجح الميهي الذي بدأ الإخراج مع مخرجين آخرين كانوا جادين في النهوض بالسينما المصرية نهضة حقيقية، بتقديم لون يخصهم وحدهم ومختلف عما هو سائد في السوق السينمائي؛ ولذلك أُطلق عليه هو والمجموعة الجديدة من المخرجين- داود عبد السيد، خيري بشارة، عاطف الطيب، محمد خان- اسم السينما الجديدة، بمعنى السينما التي تُقدِّم شكلاً ومضموناً مختلفاً، ولغة سينمائية جديدة لم تكن سائدة حينها.

ولكن على الرغم من ظهور رأفت الميهي مع هؤلاء المخرجين، وفضلاً عن أنه قد انضوى تحت مفهوم السينما الجديدة، إلا أنه فضل تناول الفن السينمائي من خلال منظوره الشخصي، ورؤيته السينمائية التي تختلف عن غيره من المخرجين؛ ومن ثم فقد تفرَّد في لون من السينما يخصه وحده، ولم يقدمه، أو يبرع فيه أحد غيره، حتى لقد أُطلِقَ على هذا الأسلوب السينمائي فيما بعد اسم سينما رأفت الميهي؛ ومن ثم حينما يحاول أحد من المخرجين أن يحذو حذوه في هذا المضمار يكون الميهي هو الرائد في مثل هذا اللون من السينما، مثلما قَدّمَ مدحت السباعي فيلمه «خلطبيطة» 1994م، الذي كان واضحاً فيه تأثره الكبير بالميهي.

إلا أن الميهي لم يختلف عن غيره من المخرجين في رؤيته للسينما إلا في فيلمه الثاني «الأفوكاتو» 1984م، هذا الفيلم الذي لم يبتعد فيه الميهي عن الواقع ومشاكله التي يعيشها الجميع، وإن كان قد ارتفع عليها؛ ليراها من خارج الدائرة كي يستطيع رؤيتها بشكلها الطبيعي كما لو كان داخلها؛ ولذلك رأينا لدى الميهي حساً ساخراً غير مألوف في السينما المصرية من قبل، قد نستطيع أن نطلق عليه حساً كوميدياً في نفس الوقت، هذا الفيلم الذي دفع المخرج، وممثله، ومنتجه إلى القضاء بتهمة غريبة جداً، وهي تهمة إهانة القضاء ومهنة المحاماة، على الرغم من أن محاولة المخرج انتهاج أسلوب الفانتازيا الذي يعلو على الواقع؛ ليعالجه، هو أسلوب يحتمل الكثير مما قاله المخرج، بل والأكثر من ذلك، مما قد يفلته بسهولة من الاتهام بالإهانة والإدانة، ولكن رأى البعض أن الفيلم مُهين ولابد من محاكمته.

ولَعلّ هذا العائق الذي واجههُ المخرج في فيلمه الثاني قد دفعه إلى النكوص، أو العودة مرة أخرى إلى الأسلوب الواقعي الذي يألفه المشاهد؛ ومن ثم قدم لنا فيلمه «للحب قصة أخيرة» 1986م، وهو من أهم أفلام الميهي التي لفتت الأنظار إليه بالرغم من إغراقه في الواقعية، إلا أننا رأينا قضية من أغرب القضايا التي ظهرت في المجتمع المصري والتي قصد بها فرض الرقابة الاجتماعية على السينما المصرية- فصار هناك رقيبان خارجيان هما المجتمع والرقيب على المصنفات، هذا فضلاً عن الرقيب الداخلي- حينما أُثيرت قضية الفعل الفاضح العلني عند عرض فيلم «للحب قصة أخيرة»؛ « فتقدَّم البعض ببلاغ للنائب العام يُفيد بأن هناك فعلاً فاضحاً في الفيلم».

عاد الميهي مرة أخرى ليرى المجتمع من خلال منظوره السينمائي الذي يخصه وحده، هذا المنظور الذي يرتفع فيه فوق المجتمع والأحداث والواقع، ومن ثم يراه من خلال سخرية مريرة قد يسميها البعض فانتازيا، فيسخر من القضايا التي يتعرّض لها، خالقاً من هذه السخرية حالة من الكوميديا والتناقض التي تُعيد ترتيب جذور ومشاكل المجتمع بشكل جديد، يجعلنا راغبين في تأمله، ومن ثم معالجة معضلاته، فرأينا فيلمه «السادة الرجال»، الذي قلب به الميهي المعايير الفنية كاملة، وتناول فيه قضية التحوّل الجنسي بشكل فانتازي وساخر قد يؤدي إلى عاصفة من الضحك المغرق في البكاء؛ مما يجعلنا نتأمل بالفعل مشاكلنا الواقعية التي ينطلق منها الميهي إلى شكل فانتازي يعالج من خلاله هذا الواقع بقسوة ساخرة لم تعهدها السينما المصرية من قبل، وهنا استمر المخرج على هذا الأسلوب الذي صار ميزة تخصه، ومن ثم رأينا جميع أفلامه فيما بعد، مثل «سمك، لبن، تمر هندي» 1988م، «سيداتي آنساتي» 1990م، «قليل من الحب، كثير من العنف» 1995م، «ميت فل» 1996م، «تفاحة» 1997م، «ست الستات» 1998م.

إلا أن شغف الميهي بسينماه، وقدرته على التواشج القوي، والاندماج الحقيقي مع قضايا مجتمعه الواقعي الذي يتناوله بشكل غير واقعي جعلته يوغل في سخريته من المجتمع، بل ويعلو فوقه بشكل أكبر مما يحتمله المشاهد العادي، ومن ثم باتت فانتازيته أكثر شططاً فنياً، وإن كانت تتناسب مع غرابة الواقع في الكثير من الأحيان؛ ولذلك رأيناه عام 2001م، يقدِّم لنا فيلمه «علشان ربنا يحبك»، الذي رآه البعض أكثر أفلام الميهي غرابة وشططاً، ليأتي بعده فيلمه «شرم برم» 2005م، الذي لم يحتمله المشاهد العادي، وربما لم يستطع أن يفهمه.

ولكن، سواء أكان المشاهد قد استعصى عليه فهم الميهي في فيلميه الأخيرين اللذين ازدادا شططاً فنياً، نتيجة غرائبية الواقع نفسه، أم لأن المخرج قد بات أكثر شغفاً بفنه وبأسلوبيته، إلا أننا لا ننكر أنه قَدّمَ لنا سينما لها مذاقها الخاص، تخصه وحده، وكأنه رغب في أن يؤكد لنا أن السينما باقية ما دام هناك مخرجون جادون عاشقون لها، أو أن السينما مازالت لها قصة أخيرة لم تُسرد بعد.

مجلة الدوحة القطرية في

01.08.2015

 
 

جرأة زائدة

أحمد شوقي

من بين الأسماء الخمسة التي تناولتها في الدراسة المذكورة برز اسم رأفت الميهي باعتباره الأكثر ارتباطاً بالتابو السياسي في أفلامه، وصحيح أنه لا يمكن بحال تناول سينما هذا الجيل بمعزل عن شقيها السياسي والاجتماعي، لكن الحقيقة أنه بخلاف أفلام «القضية» التي صنعها عاطف الطيب، وبخلاف محاولات معدودة لخان قَدّمَ خلالها طرحاً سياسياً، فإن السمة الغالبة على المخرجين الأربعة ـ بخلاف الميهي ـ هي كون السياسة دائماً «هماً ثانياً» يُقدَّم كسياق للحكاية أو معلومات مرجعية عن خلفية الشخصيات، بينما ترتكز الدراما بشكل أكبر على الجانب الإنساني للحكاية، وربما هذا كان من أسباب منح هذه المدرسة وصف الواقعية الجديدة الذي لازمها حتى يومنا.

كما أن السياسة في أفلام نفس المجموعة انشغلت طويلاً بأزمة بارزة لا سيما خلال الثمانينيات، وهي أزمة جيل السنوات الست. فالمخرجون الأربعة ينتمون لنفس الجيل الذي ارتفع سقف أحلامه للسماء، قبل أن يتحطم في نكسة يونيو، ويعود ليرتفع بآمال النصر ليتحطم مجدداً على صخرة الانفتاح. وهو السيناريو الدرامي الذي كان له تأثير على جيل كامل من المصريين كان منهم المخرجون الذين أصبحوا لاحقاً أفضل من عَبّرَ عن هذا الصراع النفسي سينمائياً. وذلك قبل أن يُقدِمَ بعضهم على تجارب أخرى تتماس مع السياسة بشكل مختلف مع مرور السنوات وانخفاض أهمية الأزمة بالتقادم لحساب قضايا وأزمات أخرى.

بعيداً عن هذه المجموعة يحتفظ رأفت الميهي ببناء مغاير في كل عناصر مشروعه السينمائي، انطلاقاً من بدايته المختلفة ـ والمبكرة ـ ككاتب سيناريو محترف يعمل لسنوات طويلة مع كبار مخرجي الأجيال السابقة، ومروراً بنمط ثقافته المختلف الذي انعكس على نوعية السينما التي يقدمها، والتي يمكن اعتبارها أكثر أشكال الواقعية خيالاً ولا تعارض هنا بين اللفظين -كما سنشرح لاحقاًـ، ووصولاً إلى إنتاجه معظم أفلامه بنفسه مما أتاح له مساحة أوسع للتجريب وطرح الأفكار بصورة قد يرفضها النظام الإنتاجي

أما أهم ما يميز البناء المختلف لمشروع رأفت الميهي فهو ذلك الارتباط الوثيق بالسياسة، ففي الغالبية العظمى من أفلامه ستجد ذلك التواجد الواضح للطرح السياسي، الذي يصل في بعض الحالات لمناقشة قضايا شديدة الدقة والحساسية كعلاقة المواطن بالسلطات التنفيذية ومدى صلاحية القانون بشكل عام، ولكنها مناقشة تأتي داخل سياق مفرط الخيال، كوميدي في معظم الحالات، لا يصرح بالأمر، ولكن يدسه داخل ثنايا العمل، وهو ما قصدته عندما وصفت أعماله بأنها أكثر أشكال الواقعية خيالاً، فهي واقعية لأنها تطرح قضايا مرتبطة بواقع الحياة اليومية، ولكنها تطرحها بشكل ينتصر للخيال وسعة الأفق على السرد الكلاسيكي بتنويعاته.

سياسة من البداية

التواجد السياسي يمكن تلمسه من الفيلم الأول «عيون لا تنام» (1981)، والذي كان أحد عملين فقط للميهي ابتعدا عن الكوميديا تماماً. حيث طرح المخرج المؤلف في فيلمه قضية لم يسبقه أحد لطرحها وربما لم يلحقه أحد كذلك، وهي فكرة الملكية الفردية وتأثيرها على شكل العلاقات بين البشر، راصداً مأساة تفتت عائلة (الأسطى إبراهيم) الناجمة بشكل مباشر وغير مباشر عن الملكية الفردية؛ فالصراع ينشأ مباشرة من رغبة شقيقين في امتلاك الورشة والمرأة، والتي يؤججها كراهية وعلاقة مشوهة نتجت هي الأخرى عن عدم تكافؤ في الملكية، أي أن الجانب السياسي يحرك الحكاية كلياً، سواء أكانت فيما نشاهده على الشاشة من تصاعدات درامية، أم حتى ما دار في الماضي قبل أن يبدأ الفيلم. مع الإشارة إلى أن القضية ذاتها قد تبدو اقتصادية واجتماعية أكثر من كونها سياسية، ولكن زمن تقديمها وارتباطها بالقرار السياسي الذي حرّر السوق وفتح باب الملكية الفردية على مصراعيه هو ما جعل الأمر سياسياً بالدرجة الأولى.

وبدءاً من فيلمه الثاني «الأفوكاتو» (1984)، انطلق الميهي بنجاح في عالم الكوميديا، ليستخدم حيلة لم تفشل أبداً، هي الاعتماد على النظرة المعتادة للفيلم الكوميدي باعتباره عملاً خفيفاً في تمرير أفكار وتحطيم تابوهات، ربما لم يكن من الممكن أن تتحطم بنفس الجرأة لو تم ذلك في عمل تراجيدي. فالأفوكاتو يهاجم النظام القانوني الحاكم بأكمله، والذي لم يصبح الفساد فيه مجرد استثناء، بل تحول إلى قواعد مقننة يوافق الجميع عليها ويتعايشون معها، بل ويمكن وضعها في قوالب منطقية تحمل قدراً لا بأس به من الإقناع، وهو ما يقنع بالفعل المحامي والقاضي والضابط والشاويش على الشاشة، لنراهم بشكل غير مسبوق، لا تنفي الكوميديا وخفة الظل الخلل القائم فيه، والذي أظهره الميهي بخفة ظل يصعب أن تمسك بها السلطة أو تدينها.

واستمر الطرح السياسي تباعاً في سينما الميهي بصور مختلفة وبقضايا مختلفة، تارة باستخدام سرد سيريالي حر لإدانة العلاقة بين المواطن والأجهزة الأمنية في «سمك لبن تمر هندي» (1988)، وتارة لمناقشة آثار الانفتاح بعد عقدين من تطبيقه على أبناء الجيل الثاني من الانفتاحيين في «قليل من الحب.. كثير من العنف» (1995)، وتارة يفند الهيمنة الذكورية والعلاقة المضطربة بين الرجل والمرأة في المجتمع والبيت المصري في «السادة الرجال» (1987)، قبل أن يُقْدِمَ على تجربة ثرية يطرح فيها تساؤلات حول قيمة الوطن في ذهن أبنائه، وفكرة الهجرة من أجل حياة أفضل، وتبعاتها على من يقرر الهجرة ومن يقرر البقاء ومن يقرر العودة، وذلك في ثلاثية التسعينيات الشيقة «ميت فل» و«تفاحة» و«ست الستات».

والملاحظة أن طرح القضية السياسية يتم في كل مرة باستخدام بناء درامي ذي خصائص مختلفة، من التراجيديا للكوميديا مفرطة الخيال للفانتازيا للسرد السيريالي، ومن شخصية رئيسية واحدة لشخصيتين لأكثر من ذلك، ومن أفلام تظهر بوضوح الفكرة التي تطرحها إلى أعمال يمكن أن يشاهدها البعض كاملة فلا يستشعرون الفكرة، فقط لأنهم لم ينظروا للعمل من الزاوية الصحيحة. وهو ثراء وتنوع يبرز قيمة مشروع الميهي السينمائي، خاصة أنه ثراء لم يمنع كل أفلامه من التمتع ببصمة واضحة تكشف صانع الفيلم بمجرد متابعة عدة دقائق منه، وهو نجاح حققه عدد محدود جداً من صُنّاعِ الأفلام في تاريخ السينما المصرية.

تحطيم هادف

جرأة الميهي لم تقتصر على الشكل السردي ولا على الطرح السياسي، بل تظهر بشدة في طريقة تعامله مع التابو الديني، بصورة تجعله واحداً من أجرأ من أقدم على التعامل مع الأمر في تاريخ السينما المصرية بأكمله. ولا يوجد ما هو أنسب للتأكيد على هذا الوصف من الشخصية الملغزة التي لعب علي حسنين في فيلم «تفاحة»، يفتح الطريق لأكثر من تأويل للحكاية، سواء أكانت من حيث شقها السياسي، أم الوجودي فيما يتعلق بعلاقة الإنسان بالإله، والنظرة التي يكنها الإنسان لعلاقة الإله بما يتعرض له في حياته من أزمات ومحن. أي أن الدين هنا يلعب دورين: أحدهما داخل سياق الفيلم نفسه بتعميقه، والآخر خارجه بتوجيه صدمة لمنظومة القيم العامة بصورة يصعب على السلطة أن تحكم بمنعها، وهو لب ما يمكن أن نسميه بالتحطيم الهادف للتابو.

ونلاحظ أن الدين هنا ليس هدفاً في حد ذاته، ولكن التوظيف الجيد له في خدمة التوجه العام للفيلم جعله جزءاً لا يتجزأ من البناء، فهو ليس هدفاً أساسياً، ولكنه ليس ثانوياً كذلك، وهو نفس التعامل المرهف الذي نلمسه مع التابو الجنسي في «السادة الرجال»، والذي تعامل فيه الميهي مع فكرة التحول الجنسي بجرأة وانفتاح غير مسبوقين. ومجدداً حمل الأمر الشقين: الداخلي لتحريك الدراما التي تناقش بالأساس قضية اجتماعية تمس كل البيوت التقليدية، والخارجي بإعطاء أبعاد أكبر للأمر عبر علاقة فوزي غير المريحة مع جسده الجديد، بما في ذلك من مفاتيح للتأويل تعطي الحكاية شقاً فسيولوجياً ونفسياً أبعد بكثير من الصورة المعتادة لكوميديا الخلاف بين الرجل والمرأة.

قس على ما سبق، نجد العلاقة المحرمة بين الزوجة وشقيق الزوج في «عيون لا تنام»، والتي تم التمهيد لدوافعها وتعميقها عبر علاقة مُحرَّمة أخرى لكل منهما بالزوج والعشيقة، هي أكبر من مجرد خيانة ميلودرامية تدفع الأحداث القدرية نحو النهاية القاتمة، ولكنه توظيف من عمق الفيلم ولعمق الفيلم، نابع من التكوين الذي فهمناه للشخصيات، ويؤدي لمصيرها المرتبط بنفس التكوين، وهو ما يدفع المُشاهِد دفعاً للنظر للعلاقة التي من الطبيعي أن يرفضها في صورتها المجردة، بعين أخرى تحاول تفسير ما يحدث وربطه بالسياق العام للفيلم.

نفس الأمر يمكن تكراره على تحطيم جريء آخر للتابو الديني في «سمك لبن تمر هندي»، عبر مشهد دخول الجنة، الذي يبدو لوهلة صادماً وغير مستساغ بالنسبة للكثيرين، ولكن تفسير سياقه وربطه بالهدف السياسي العام للفيلم، يجعله مجدداً مجرد أداة توضح مدى فساد السلطة الأمنية، بصورة تجعل العيش في «زمن الضابط ملاك» سبباً كافياً للتغاضي عن كل المعاصي ودخول الجنة بلا حساب، وهو تصوُّر خيالي مناسب للروح السيريالية العامة للفيلم، وهو أيضاً أمر يحطم الثوابت المجتمعية عما يمكن مشاهدته على شاشة السينما، بما يجعله هو الآخر تحطيماً نموذجياً للتابو.

كل ما سبق نماذج توضح السمات المميزة لجرأة سينما رأفت الميهي، التي جعلته في أغلب الأحوال ملتزماً بخصائص تميزه عن أنداده من جيله، وعن تجارب السينما المصرية عموماً؛ فهي جرأة صادمة جداً، تستهدف سقفاً شاهقاً بصورة تنجيه من مقص الرقيب الذي لا يتصوَّر في كثير من الأحيان أن يكون المقصود بهذا القدر من الجرأة. وهو تحطيم وثيق الصلة بالموضوع الرئيسي، يساهم في تحريك الدراما وتُبْنىَ عليه الكثير من التفاصيل المحورية في الحكاية، بالإضافة لقيامه بتعميق الطرح ومنحه مساحات إضافية للتفسير.

مجلة الدوحة القطرية في

01.08.2015

 
 

رأفت الميهى.. فانتازيا الموت

كتب : فاتن الحديدي

صنع رأفت الميهى سينما بنكهته الخاصة برؤيته الفلسفية التى ترصد تحولات المجتمع المصرى وتكشف عيوبه فى إطار مبهر وتأثير هذه التحولات على الفرد ومحاولة تغيير الأفكار الراسخة فى المجتمع المصرى وانتقادها بقوة.

تعلم الميهى كتابة السيناريو على يد صلاح أبوسيف وقدم أول أفلامه «جفت الأمطار» وهو الفيلم الذى تم تصويره فى استديو خاص فى قرية بشلا بالدقهلية على الأسلوب السينمائى السوفييتى الذى تأثر به مخرجه «سيد عيسى» بحكم الدراسة هناك.

انطلق «رأفت» فى إبداعه بأفلامه السياسية المتفردة بداية من «غروب وشروق»، والذى يدورحول فساد الأمن فى الستينيات ويسقطه فى زمن الأربعينيات فى تطابق فنى مثير للدهشة والإعجاب، مرورًا بفيلم «على من نطلق الرصاص»، والذى أجمع النقاد أنه أكثر الأفلام السياسية نضجًا وكمالاً فى تاريخ السينما المصرية يحلل فيه مظاهر الفساد فى السبعينيات أو ما يقال عنه عصر الانفتاح الذى طفا على سطح المجتمع إلى جانب تجربته المهمة فى فيلمين آخرين هما «الهارب» و«شىء فى صدرى» إضافة إلى السيناريوهات النفسية ورواية إحسان عبدالقدوس «أين عقلى» أرجع فيه العلل النفسية إلى الصراع مع التقاليد والأعراف البالية التى تتحكم فى مصائر الشخصيات خاصة قضية الشرف والحس الذكورى مهما نالوا أرقى أنواع التعليم، الصراع الفكرى ناقشه الراحل أيضًا فى فيلم «غرباء» من خلال نماذج شخصيات تقع فى حيرة الاختيار بين الدين والعلم والحب وهى نفس الحيرة التى نتخبط فيها حتى الآن وقام بإنتاج فيلم «المتوحشة» وهو فيلم يبدو مختلفًا لبطلته المفضلة سعاد حسنى.

فى الثمانينيات بدأ الدخول فى مرحلة الفانتازيا بشخصيته الفذة «حسن سبانخ» رغم واقعية «سبانخ» أو عادل إمام لكنه كان نتاجًا طبيعيًا لعصرين من أقسى وأفسد العصور السياسية التى مرت على مصر، رجل أمن من الستينيات ورجل أعمال من عصر الانفتاح، فمن الطبيعى أن يكون نتاج جيل الثمانينيات فهلويا مستغلاً للفرص كى يعيش.

قدم الميهى أول أفلامه كمخرج عام 1981 وهو فيلم «عيون لا تنام» واعتبره النقاد إرهاصة لقتل الرئيس السادات ودخول البلاد فى دائرة من العنف الدموى.

ثم أرسى سينما جديدة فى أوائل التسعينيات هى سينما المؤلف وقدم أفلامًا مهمة مرتبطة بعوالم الفانتازيا والإبحار بأفكاره الفلسفية فى عوالم الكوميديا اللاذعة سيداتى آنساتى، سمك لبن تمر هندى، السادة الرجال وفكرة المجتمع الذكورى على المرأة وما تعانيه فى حياتها تفاحة وست الستات.

فى الألفية الجديدة لم يقدم الميهى سوى فيلمًا واحدًا «عشان ربنا يحبك»، لكن فانتازيا «الميهى» التى صمدت أمام سينما المقاولات تراجعت مع ارتفاع تكلفة الإنتاج وسيطرة الأفلام الكوميدية الخفيفة وتراجع شركات الإنتاج عن مساندته مما جعله خلال الـ15 عامًا الأخيرة لم يخرج إلا فيلمًا واحدًا ومسلسلاً هو «وكالة عطية» للمبدع خيرى شلبى لم تختلف بنيته الدرامية عن أفكاره.

رأفت الميهى هو نصف قرن من العطاء السينمائى الفذ لم تخل حياته من لمحات منها قصة زواجه الأخيرة وتبرؤ أسرته منه فى الجرائد ومرضه الأخير لكن يكفى ما تركه لنا من كنوز سينمائية عامرة.. المبدعون لا يموتون.

مجلة روز اليوسف في

01.08.2015

 
 

مُصطفى مُحرم يكتُب ..

“رأفت الميهي” صديق العُمر الذى رَحل

صديق العمر رأفت الميهى الذى رحل عن حياتى فى مساء يوم الجمعة الموافق 24/7/2015 دامت صداقتنا التى كانت أقرب إلى الأخوة منذ عام 1954 حيث كنا فى السنة بالثانية الثانوية فى مدرسة الحلمية وقد تحولت إلى النظام الإعدادى فأصبحنا بقدرة وزارة المعارف العمومية فى الثالثة الإعدادية، وبعد حصولنا على هذه الشهادة وقضاء سنة أخرى اعتبرها السنة الأولى الثانوية انتقلنا إلى المدرسة الخديوية الثانوية أعرق مدارس مصر والتى تخرج فيها عظماؤنا، اخترت أنا ورأفت القسم الأدبى تخصص لغة إنجليزية وذلك لحب الأدب الذى يجمعنا وحرصنا على إجادة لغة أجنبية نقرأ من خلالها ما نريد أن نقرأه، كنا نجلس متجاورين فى «تختة» واحدة ودائما تكون أول واحدة والمواجهة للسبورة.

كنا نسعد كثيرا بحصة اللغة العربية ونلتهم ما جاء بكتاب النصوص من نثر وشعر وكذلك الرواية التى كانت تقررها الوزارة، كنا نتنافس فى حفظ قصائد الشعر الطويلة من العصر الجاهلى والعصر العباسى والتى لا أزال والحمد لله أحفظ معظمها وكنا نتنافس فى شرحها وإبراز نواحى الجمال فيها فى مكان يثلج صدور المدرسين الذين كانوا يقومون بالتدريس لنا.

وفى الثانوية العامة تحمسنا للشعر الحديث خاصة شعر صلاح عبد الصبور وتحمسنا للفلسفة الوجودية خاصة عندما وجدنا أن ما ندرس فى منهج الفلسفة ما هو إلا قشور، وقررنا أن نقدم لزملاء الفصل مجلة حائط تختلف عن المجلات التافهة التى كنا نجدها فى النصوص الأخرى، وقمت أنا ورأفت الميهى بالإعداد لها وكتابة موادها حيث قدمنا نماذج من الشعر الحديث ومقالات فى الفلسفة الوجودية وقصة قصيرة له وأخرى لى، وعندما دخل مدرس اللغة العربية محمد الغزالى حرب وقرأ ما بها فهاج وماج واستنجد بوكيل المدرسة متهما إيانا بالدعوة إلى الإلحاد، وكدنا أن يتم فصلنا من المدرسة لولا تدخل بعض المدرسين الذين كانوا يحبوننا ويتحمسون لميولنا الأدبية والفكرية المبكرة.

بعد حصولنا على شهادة الثانوية العامة التحقنا بكلية الآداب فى قسم اللغة الإنجليزية فبدأت سنوات التحصيل الحقيقى فى مجال الأدب وفى ممارسة كتابة القصة القصيرة والشعر، شاركنا فى ذلك بعض الزملاء الذين لديهم نفس حماسنا مثل محمد عنانى الذى كان يسبقنا بسنتين وأصبح رئيسا لقسم اللغة الإنجليزية بعد ذلك ومن نفس دفعتنا شاركنا سمير سرحان وحمدى الكنيسى وسامى المعداوى الذى توفى فى منتصف الطريق.

وخلال السنة النهائية من الدراسة تعرفت على بعض الأصدقاء من خارج الكلية من الذين يهتمون بالفن السينمائى وجعلت رأفت هو الآخر يتعرف عليهم مثل عبد الحميد عيد وأحمد راشد وهاشم النحاس ومحمد عبد الله الفقى وأحمد الخضرى الذين قاموا بتكوين «جمعية الفيلم» الشهيرة وذلك بعد انتهاء نشاط «ندوة الفيلم المختار» التى أنشأها يحيى حقى وقام فريد المزاوى بالإشراف عليها.

بعد حصولنا على ليسانس الأدب الإنجليزى أصابتنا مهنة تدريس اللغة الإنجليزية وجاء تعيين رأفت الميهى فى مدرسة منوف الثانوية حيث كانت منوف هى بلدة أهله بينما اخترت أنا عن طريق الواسطة مدينة الإسماعيلية وكنت زرتها فى رحلة مع أبى ونالت إعجابى خاصة أننى أكره حياة الأرياف.

ولم أكن أنا ورأفت سعيدين بهذا المصير الذى يبعدنا عن طموحنا الأدبى كما أن كل واحد يبدو أصغر بكثير من التلاميذ الذين كنا نقوم بالتدريس لهم فكنا هدفا لتندرهم وعبثهم بنا.

فى تلك الفترة فى أوائل عام 1962 أنشأ صلاح أبو سيف «معهد السيناريو» حيث استطاع رأفت الميهى أن يلتحق به وأخذ يحدثنى عن طبيعة الدراسة فيه وعن الذين يقومون بالتدريس فيه من أبرز العاملين فى المجال السينمائى وهم صلاح أبو سيف وعلى الزرقانى وحلمى حليم وصلاح التهامى والأمريكى دكتور هاتسن.

وقررت الدولة أن تقوم بتأميم السينما مثلما أممت الصحف وكبرى دور النشر وذلك لكى تسيطر على الفكر المصرى مثلما فعلت الدول الشيوعية، وقام وزير الثقافة والإعلام فى ذلك الوقت وهو الدكتور عبد القادر حاتم باختيار صلاح أبو سيف ليكون أول رئيس لأول شركة إنتاج سينمائى قطاع عام تتبع المؤسسة المصرية العامة التابعة للسينما والمسرح والإذاعة والتليفزيون والهندسة الإذاعية، وكان يرأس هذه المؤسسة فى ذلك الوقت المهندس صلاح عامر الذى كان يشغل قبل ذلك منصب كبير مهندسى الإذاعة ويشرف على تسجيلات أم كلثوم.

كان صلاح أبو سيف يدرك كل الإدراك أن نقطة الضعف من السينما المصرية هى السيناريو حيث لم يكن يجيد هذا الفن سوى قلة قليلة مثل على الزرقانى والسيد بدير ويوسف جوهر، ولذلك قرر صلاح أبو سيف أن ينشئ فى الشركة الجديدة قسما يضم فيه بعض الشباب المتخرج فى الجامعة والمعاهد الفنية وأطلق على هذا القسم «قسم القراءة والإعداد».. حيث يستعين بهم لقراءة النصوص المقدمة إلى الشركة وفى نفس الوقت يتدربون على كتابة السيناريو، واستطاع رأفت الميهى أن ينضم إلى هذا القسم ثم أخبر صلاح أبو سيف عنى وقدمنى لثقافتى الواسعة خاصة فى مجال الأدب والفنون، فطلب منه صلاح أبو سيف أن يطلب منى أن أحضر لمقابلته ولذلك عندما عدت كعادتى من مدينة الإسماعيلية كل يوم خميس إلى عائلتى أخبرتنى أمى بأن رأفت الميهى قد أتى وطلب منى أن أمر عليه فى بيتهم «ضرورى».

ذهبت إلى بيت عائلة رأفت فى سوق السلاح فأخبرنى بما تم بينه وبين صلاح أبو سيف وحدد لى موعد المقابلة وهو يمنى نفسه بأن نظل معا حتى فى الوظيفة. وبالفعل قابلت صلاح أبو سيف وقد ذكرت تفاصيل هذه المقابلة فى أكثر من مكان وفى أكثر من برنامج تليفزيوني، المهم أن صلاح أبو سيف ألحقنى بالعمل مع رأفت الميهى فى «قسم القراءة والإعداد» وقد خرج من هذا القسم فى مجال السيناريو رأفت الميهى ومصطفى محرم وأحمد عبد الوهاب وفاروق سعيد وفى مجال إخراج الأفلام التسجيلية أحمد راشد وهاشم النحاس وفى مجال الإخراج الروائى محمد خان.

اهتم صلاح أبو سيف بى وبرأفت فلم يكتف بإلحاقنا بمعهد السيناريو بل كان يطلب من كل منا أن نتبادل الأيام بالحضور إلى مكتبه فى الصباح قبل موعد بدء العمل فى الشركة حيث يقوم بتدريبنا بشكل جاد على كتابة السيناريو، وعندما اطمأن إلى مقدرتنا عهد لكل واحد منا بكتابة السيناريو لأحد الأفلام التى تقوم الشركة بإنتاجها مع المخرج، كان من نصيبى العمل مع مخرج مخضرم وهو حسن رضا فى أول فيلم لى «وداعا أيها الليل» عن قصة فؤاد جندى المحامي، أما رأفت فقد عمل مع المخرج سيد عيسى الذى كان عائدا من دراسته فى الاتحاد السوفييتى وكان قد أخرج قبل سفره فيلمين لم يحققا نجاحا كبيرا ثم عهد له صلاح أبو سيف بقصة لعبد الله الطوخى وهى «جفت الأمطار» ونجح فيلم «وداعا أيها الليل» نجاحا متوسطا ولم ينجح فيلم «جفت الأمطار» لموضوعه الجاف حتى ان إدارة سينما كايرو اضطرت إلى رفضه بعد أربعة أيام من عرضه.

انتقلنا بعد أن تولى سعد الدين وهبة رئاسة شركة الإنتاج السينمائى للعمل فى المؤسسة، حيث عملنا فى إدارة السيناريو التى كان يرأسها عبد الرحمن الشرقاوى ولكن لم نحقق شيئا وفى هذه الفترة كان رأفت الميهى قد تزوج بزوجته الأولى حورية حبيشة وكانت زميلة لنا فى قسم السيناريو ثم التحق بالجيش ليقضى مدة الخدمة العسكرية، ثم انتقلنا بعد ذلك للعمل فى إدارة يرأسها المخرج أحمد بدر خان وهى إدارة البحوث السينمائية وكان عملنا هو قراءة المجلات السينمائية الصادرة باللغة الإنجليزية واللغة الفرنسية وتلخيص ما جاء بها من مواد، ثم تعرضنا لاضطهاد مدير المؤسسة وهو رجل ليست له علاقة بفن السينما إلا من خلال وظيفته لما بلغه أن مصطفى محرم ورأفت الميهى موظفان مشاغبان ويتندران عليه فأرسلنا للعمل فى شركة «كوبرو فيلم»، رحبنا بهذا العقاب الذى أوحى إلينا بأننا سوف نكون مندوبى الشركة أثناء تصوير أفلامها خاصة أن هذه الشركة كانت تنتج أفلاما مشاركة مع بعض الشركات الأجنبية ويرأسها رجل جاهل يدعى فتحى إبراهيم كان مديرا لدار سينما كايرو قبل أن يختاره الوزير عبد القادر حاتم رئيسا لهذه الشركة أنتجت «شركة كوبرو فيلم» أسوأ الأفلام فى تاريخ السينما عامة وجلبت من الخارج مخرجين وممثلين أفاقين، المهم أننا عندما ذهبنا للعمل فى هذه الشركة تكشف لنا مؤامرة دبرها لنا مدير المؤسسة فقد أرسل تعليماته إلى المسئولين فى الشركة بالحاقنا بالعمل فى إدارة شئون الأفراد وبالتحديد الإشراف على توقيع الموظفين بالحضور والانصراف، كان رئيس المؤسسة فى تلك الفترة هو نجيب محفوظ فلجأنا إليه نستغيث به فأخبرنا بكل بساطة بأن العمل فى الحكومة ينقسم إلى نوعين يا إما سكرتارية وإما حسابات وهو شخصيا بدأ حياته سكرتيرا لوزير الأوقاف الشيخ مصطفى عبد الرازق أما العمل الفنى الذى نطمح إليه ليس موجودا.

فلم نجد بدا من مضايقة مدير إدارة شئون الأفراد مما جعله يستنجد بمدير المؤسسة ليخلصه منا، ولم ينقذ الأمر سوى انتقالنا إلى المركز القومى للأفلام التسجيلية الذى كان يرأسه حسن فؤاد حيث عملنا ككتاب سيناريو ومخرجين للأفلام التسجيلية وانتهى بنا المقام فى هذا المركز حتى خروجنا على المعاش.

كتب رأفت الميهى سيناريو فيلم «حياة جديدة» قام بإخراجه أشرف فهمى ولقى هذا الفيلم تقديرا كبيرا من كل من شاهده وتم عرضه فى «مهرجان لينبرج»، وقام أيضا بإخراج بعض الأفلام التسجيلية التى لم تكتمل، فى حين أننى أخرج ما يقرب من العشرين فيلما، وكنا فى نفس الوقت نعمل فى مجال سيناريو الأفلام الروائية، كتب رأفت الميهى فيلما لثلاثة مخرجين هم أشرف فهمى ومحمد عبد العزيز ومدكور ثابت من ثلاث قصص وقام مدكور ثابت بعمل تغييرات فى سيناريو الجزء الخاص به فغضب رأفت وطلب حذف اسمه وفى ذلك الوقت كتبت لأشرف فهمى فيلم «واحد فى المليون».

جاءت الفرصة لرأفت الميهى عندما قام بكتابة سيناريو فيلم «غروب وشروق» إخراج كمال الشيخ وهو فى رأيى أفضل سيناريو كتبه رأفت، وجاءت لى الفرصة أنا الآخر عندما كتبت سيناريو فيلم «أغنية على الممر»، أقامت هيئة الثقافة الجماهيرية تحت رئاسة سعد وهبة مهرجانا فى بلطيم للأفلام السينمائية واختاروا لجنة تحكيم من النقاد والأدباء، وصل إلى التصفية النهائية فيلم «غروب وشروق» وفيلم «أغنية على الممر» وانقسمت لجنة التحكيم ودب الخلاف بين أفرادها على أحقية أى واحد من الفيلمين يفوز بجائزة السيناريو، وانتهى الأمر بفشل المهرجان وكنت أنا ورأفت فى ذلك الوقت نضحك مما يحدث ولا نهتم.

توالت السيناريوهات بعد ذلك من جانبى ومن جانبه، وقد اعتدنا أن يقرأ كل واحد منا سيناريوهات الآخر وكتابة الملاحظات، كان يهتم كثيرا بملاحظاتى وكنت أهتم كثيرا بملاحظاته، وفى هذه الفترة كتبت «ليل وقضبان» و«امرأة عاشقة» و«أمواج بلا شاطئ» و«مع سبق الإصرار» وكتب رأفت «شيء فى صدرى» و«غرباء» و«على من نطلق الرصاص»، وإذا به يخبرنى بأنه قرر أن يخرج الأفلام التى يكتبها لأن المخرجين لا يحققون كل ما يتخيله ويختلف معهم فكريا، فأشفقت عليه من هذا الإقدام ولكنه نجح كمخرج مثلما نجح ككاتب سيناريو وقدم أفلاما تختلف كثيرا عن أفلام هذا الوقت فى شكلها وأصبحت علامات فى السينما المصرية مثل «عيون لا تنام – الأفوكاتو – للحب قصة أخيرة – سمك لبن تمر هندى – السادة الرجال» وحصل على جوائز فى الداخل والخارج.

ولحبه للأدب مثلى كتب روايتين نشرهما فى سلسلة «روايات الهلال» وهى «الجميلة تأتي» و«غورجادا» وهى من الأعمال الروائية الرفيعة المستوى وتعتبر شكلا جديدا فى الرواية العربية لم يطرق كاتب رواية من قبل.

مرض رأفت الميهى طويلا ومات وواريناه التراب لكن لم استطع أن أوارى معه ذكريات صداقتنا التى لن تتركنى إلا إذا ضاعتها الذاكرة ولكن الأسى فى القلب من يضيعه؟

جريدة القاهرة في

21.08.2015

 
 
 
 
 
 
 
 
 

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك
  (2004 - 2015)