ملفات خاصة

 
 
 

فتى أحلام السينما العالمية المسكون بسحر الشرق وبريق الموهبة

عمر الشريف أنشودة خلود مصرية لا تموت

أحمد السماحى

عن رحيل الأسطورة

عمر الشريف

   
 
 
 
 
 
 

الأساطير لا تموت ولا ترحل عن عالمنا أبدا، بل تظل حية راسخة فى وجداننا بما تركته فى نفوسنا من أثر وقيمة، ولأن الفنان العالمى عمر الشريف كان ممثلاً ساحرا بشكل خاص ومؤثرا ورومانسيا فى الحياة العادية كما هو على بلاتوهات السينما، فقد تحول إلي أنشودة خلود فرعونية مسكونة بسحر الشرق، وببريق موهبة أخاذة غدا فتى أحلام السينما العالمية، وأصبح واحدا من أساطير الفن المصري والإنسانى كله.

 لم يختر يوما الجلوس أوالتربع على عرش العقول والقلوب علي امتداد العالم بأثره، فالجماهير هى من اختارته بملء الإرادة ليتحول من مجرد فنان بسيط سلس الأداء، رائع الحضور، إلي ظاهرة فنية مصرية غير مسبوقة فى سجل الفن العالمى.

كان حلم الفتيات فى زمن الأبيض والأسود، وظل طيفا يطارد العذارى فى صحوهن ومنامهن، من خلال إطلالته السحرية بمجرد أن تعيد الفضائيات أحد أفلامه المصرية أو الهوليودية، وعلي الرغم من ظهور أجيال وأجيال من رواد الفن السابع ممن تميزو بالوسامة والحضور وترك مواطن البهجة والشجن المحبب في النفوس، إلا أن إطلالة «الشريف» ظلت طاغية وقادرة على انتزاع الهتاف المدوي، والدليل أن سيدات الماضي مازلن يتندرن بمآثره ويتباهين به أمام بناتهن وأحفادهن قائلات بفخر: « لقد عشنا زمن عمر الشريف»!

ولسنوات قادمة ستظل ملامحه الوسيمة التى تتلخص فى عينين ساحرتين عنوانا للرومانسية ورمزا للرجولة وبساطا مفروشا بالورود على طريق الحلم الرومانسى الجميل، ولأن مشواره الفنى والإنسانى حافل بالعديد والعديد من المشاهد والمشاعرالتى تركت لنا حياة عريضة تتدفق بالحب والحيوية التى جسدت سحر الشرق فى نجم جاب الآفاق ليصنع المستحيل ويكتب شهادة تفوق وجدارة الفنان المصرى فى المحافل الدولية ، لذا ينبغى علينا أن نتوقف عند بعض تلك اللقطات المؤثرة في شريط حياته الفنية والإنسانية، فتعالوا بنا نقلب ونستعرض بعضا من إبداع الأسطورة المصرية عمر الشريف.

لورنس العرب أدخله السجن!

من الذكريات الطريفة التى صرح بها نجمنا العالمى الراحل فى حوار إذاعى قديم لإذاعة مونت كارلو نقلته مجلة «جديد مونت كارلو» التى كانت تصدر فى منتصف ثمانينات القرن الماضي، قصة دخوله السجن عام 1962 قبل افتتاح العرض الخاص لفيلمه الشهير « لورنس العرب».

يقول أسطورة الشرقبمنتهى الصراحة لم يكن ممكنا أن أصدق ذلك أبدا، أن أذهب إلى هوليود ثم أمضى ليلتى الأولى فى السجنلم يكن هذا منطقيا، خصوصا إذا لم تكن قد ارتكبت أى خطأ، لقد هبطت إلى هوليود بآمال كبيرة من أجل نجاح جديد، بعد أن انتهيت من فيلم « لورنس العرب» مع النجم بيتر أوتول.

وقصة دخولى السجن ترجع إلى عام 1962 فى أحد أيام شهر ديسمبر، كنا قد ذهبنا أنا وأوتول لنحضرحفل الافتتاح العالمى لفيلم « لورنس العرب» تلك الليلة التى حلمنا بها على مدى عامين هما مدة تصوير الفيلم، وفى اتجاهنا إلى شارع « صن ست»مررنا بمسرح صغير حيث كان صديقنا الفنان « لينى بروس» يقدم هناك عرضا، وعلاقة بروس برجال الشرطة جعلته مشهورا تماما كما هو مشهور كفنان موهوب، دخلنا المسرح أكان ذلك لحب الاستطلاع؟ أكنا نبحث عن شىء مثير؟ لا تسألنى ولكننا أحببنا العرض كثيرا لدرجة أنه عندما نزلت الستارة اندفعنا إلى خلف المسرح وسألنا أين لينى بروس؟ وأخذناه بالأحضان وقلنا له إننا استمتعنا بالعرض، ودعوناه للجلوس معنا فى أحد المقاهى الشهيرة، وبالفعل جلسنا نضحك ونتذكر أنا وأتول مفارقات وطرائف التصوير فى فيلم « لورنس العرب».

وفى الساعة الواحدة صباحا نهض لينى واقفا وقاليجب أن أذهب إلى مكان ما لمدة نصف ساعة فهل تنتظرانى هنا أم تأتيان معي؟ ففضلنا أن نذهب معه، وبصعوبة وصلنا إلى شقته، ومباشرة أخرج حقنة ملأها بسائل شفاف وغرس الأبرة فى عرق يده اليسري، وبدأت الحقنة تحدث تأثيرها ببطء، وعندما كانت الأبرة ما تزال فى ذراعه، فجأة دق صوت جرس الباب ففتح بيتر الباب، ودخل رجال البوليس وقبضوا علينا، جدية الموقف أعادت إلينا بعض ما فقدناه بتأثير الشرب، وأن يقبض علينا بمخدرات معناه ترحيلنا من أمريكا وإحباط كل خططنا، حاولت أن أتخلص من ذلك شارحا لرجال البوليس أننا حضرنا لمجرد أن نشرب شيئا مع ليني، على عكسى كان بيتر أو تول عنيفا مع البوليس، دبلوماسيتى كانت بلا تأثير، وحوالى الساعة الرابعة صباحا وجدنا أنفسنا فى قسم البوليس، وفتشونا تماما ولم يكن هناك شىء غير عادى فى جيوبى أو جيوب لينى بروس، لكنهم وجدوا أقراص فى جيوب بيتر أو تول فسألوه ما هذه الأقراص فرد بيتر بسخرية وبصوت عال هذه أقراص مورفين عليكم اللعنةورغم أنها كانت أقراص منومة يستعملها بإستمرار، لكن إجابته كانت تعنى نهايتنا !

وفجأة طرأت فكرة فى ذهنى فسألت رجال البوليس هل أستطيع استعمال التليفون؟ وطلبت فندق بيفرلى هيلز حيث كان سام سبيجل منتج فيلم « لورنس» يقيم هناك وطلبت حجرته، فردوا أنه نائم ولا يريد أحد أن يزعجه، وبعد إلحاح من جنبى وبعد أن قلت لهم إننى بطل فيلمه الذى سيفتتح اليوم اوصلونى بحجرته، وسمعت صوته النائم يقولما هذا؟ كيف تجرؤ على إيقاظى هذه اللحظة؟ فدخلت فى الموضوع مباشرة ، وفجأة سمعت صوته صارخا وقد إستيقظ تماما : فى السجن لماذا؟ماذا فعلتما؟ فرددت عليهلقد قبضوا علينا مع لينى بروس بتهمة المخدرات، وعندما سمع سام هذه الجملة كاد يغمى عليه فقد كان أنفق على فيلمه 14 مليون دولار، وأن يلقى بنجمى فيلمه « بيتر والشريف» فى السجن فهذه مصيبة ستؤثر على عرض وتوزيع الفيلم.

وبعد نصف ساعة وصل سام إلى قسم البوليس ومعه ستة محامين كبرياؤهم كان مخيفا يرتدون قبعات عالية ويمسكون بحقائب جلدية فاخرة، ودخلوا مباشرة لاجتماع كبير مع رجال البوليس، خيل إلينا أن هذا الاجتماع سوف يستمر إلى مالانهاية، ثم أخيرا فتح أحد رجال البوليس الباب وأشار إلينا « بيتر وأنا» وقال: « أنتما الإثنان يمكن أن تخرجا، لكن بيتر اندفع بسرعة ماذا ؟ ونترك لين هنا فى هذه الحالة لن أغادر المكان وسأظل معه، فصاح فيه سام سبيجللا تكن أحمق بروس له سجل هنا فى البوليس، ولذلك لا يستطيعون أن يطلقوا سراحه ببساطة هكذا، فقال بيترهذا لا يعنينى سأبقى معه، وبدأت مناقشات طويلة واجتماعات استمرت حتى الساعة التاسعة صباحا وأخيرا أفرجوا عنا نحن الثلاثة، وأصر سام أن يحجز لنا فى الفندق الذى يقيم فيه وأن يشرف بنفسه على دخول كل واحد منا إلى غرفته للنوم استعدادا لحفل الافتتاح بالليل.

وفى حفل الافتتاح دخلنا أنا وبيتر ولين وسام إلى قاعة السينما المضيئة من الخارج، وفى الميدان اضاءة لا حد لها، وفجأة وجدت أمامى نجوم كنت أحلم بنجوميتهم وكانوا المثل الأعلى لى من هؤلاء النجوم إليزيبث تايلور، شيرلى ماكلين، ريتشارد بيرتون، جريجورى بيك، وغيرهم، لكنهم تجاهلونى ولم يهتم أحد بي، وأقبلوا على المنتج يباركون له، ومرت الساعات الأربع مدة عرض الفيلم بالنسبة لى ببطء شديد، كأنهم أربع سنين، لأننى كنت منتظرا رأى ورد فعل النجوم ضيوف حفل الافتتاح، وعندما أضيئت الصالة أقبل على ريتشارد بيرتون وإليزابيث وغيرهما من النجوم وأشادوا بموهبتى وبحبهم لمصر، ومن هنا بدأت نجوميتى العالمية.

سر رفضه أن يصبح ابنه طارق نجما عالميا

من الأفلام التى تمثل علامة مضيئة فى مشوار عمر الشريف الفيلم العالمى «doctor zhivag « دكتور زيفاجو، وأثناء تصوير هذا الفيلم رفض أن يصبح ابنه طارق نجما عالميا،

 كيف حدث ذلك يقول عمر الشريف فى مذكراته التى نشرت فى كتاب باللغة الإنجليزية بعنوان « الرجل الخالد» والذى قام بترجمته الكاتب عبدالمنعم سليم عام 1988:

يعتبر دورى فى فيلم «دكتور زيفاجو» الذى قمت ببطولته عام 1965 أكثر الأدوار إثارة وتحديا، اثارة لأننى عشت الشخصية من الأول إلى الآخر من بدايتها إلى نهايتها، وذلك من خلال ابنى طارق الذى لعب دور طفولة زيفاجو، ولقد طلب منى المخرج «دافيد لين» أن يمثل طارق الذى كان يبلغ من العمر سبع سنوات فى هذا الوقت الدور، فرفضت فى البداية ورفضت والدته السيدة فاتن حمامة.. ولم يكن طارق وحتى الآن يشبهنى فى الشكل إلى الدرجة التى يمكن أن يقول الناس فيهاهذا ابن عمر الشريف، فالشبه بينى وبين طارق ليس جسديا ولكنه يشبهنى فى طريقة التفكير، وطريقتى فى الكلام، وطريقتى كإنسان.

وبعد إلحاح من دافيد وافقت بشرط ألا تنشر صور لابنى فى الجرائد أو المجلات العالمية، حيث أردته أن يعيش حياة عادية، ورفضت أن أجعله مختلفا عن الآخرين، وليس هذا فقط ما طلبه دافيد، ولكنه أصر على أن أقوم بإخراج دور ابنى فى الفيلم حتى لا يشعر طارق بغربة أمام الكاميرا، ويخرج أداؤه بسيطا، وأيضا لأعرف أدق تفاصيل الشخصية من طفولتها، وهذه طريقة رائعة لفهم الشخصية، من وجهة نظر دافيد لين، وأن أشرح أفعال زيفاجو الصغير لابنى فإننى سأصل بذلك إلى مرحلة نضج زيفاجو من رأسه حتى قدميه.

وبعد مجهود كبير استطاع طارق أن يقلد حركاتى التى علمته أياها، وحركة جسدى، ويستوعب أدق التفاصيل الدقيقة فى السيناريو والحوار، ونجحت فكرة دافيد، فعندما كنت أدير طارق فى الاستديو بناء على توجيهات « لين»، كان يسمع كلامى ويعيد دون غضب أو ضيق، وكان يشعر بأننا فى منزلنا وبالتالى خرج أداؤه بسيطا واثقا كأنه ولد ممثلا، وأن هذه التجربة ليست الأولى له.. وعرض الفيلم ولفت طارق انتباه صناع السينما فى هوليوود وأقبلوا عليه يريدون التعاقد معه، وبعضهم أحب أن يجعله بطلا مطلقا على غرار تجربة الطفلة المعجزة شيرلى تمبل، لكنى رفضت كل العروض التى وصلت إليه، لأنها كانت ستصرفه عن متابعة دراسته. فيلم «دكتور زيفاجو» تدور أحداثه حول قصة طبيب جراح مشاعره متعلقة بين امرأتين، وهو من إخراج ديفيد لين، وبطولة عمر الشريف وجولى كريستى وجيرالدين شابلين ورود ستيجر وإليك جوينيس.

ريتا هيوارث منعته من تجسيد شخصية «سيدنا يوسف»!

العالمية سعت للنجم عمر الشريف مبكرا، فقد لا يعلم الكثيرون أن فيلمى « جحا ولورنس العرب» لم يكونا أول تجاربه فى السينما العالمية، فقبلهما وبالتحديد عام 1955 سبقتهما محاولة لخوضه تجربة التمثيل فى هوليوود،

 لكنها باءت بالفشل، ما هذه المحاولة ومع من كانت؟هذا ما يحكيه النجم العالمى فى مذكراته.

حيث يقول : بعد انتهائى من تصوير فيلم « صراع فى الوادي» أول أفلامى السينمائية والذى حطم أرقاما قياسية من حيث الشباك، أثناء عرضه جاءت مجموعة من الفنانين الأمريكيين برئاسة وليام دياتيرل إلى القاهرة، كانوا قد جاءوا لتصوير المناظر الخارجية لفيلم مأخوذ من الإنجيل ــ فى ذلك الوقت كان الإنجيل مصدر إلهام رئيسى لصناع السينما فى كل مكان ــ وكان إسم الفيلم « يوسف وأخوته»بطولة النجمة العالمية ريتا هوارث، وشاهد وليام دياتيرل صور وإعلانات فيلم «صراع فى الوادي» فأحب أن يتعرف على السينما المصرية، فشاهد الفيلم، وخرج وهو معجببى إعجابا شديدا.

وبحث عنى وأرسل فى طلبي، وعلمت من مساعده أننى أمامى فرصة كبيرة لخوض تجربة التمثيل فى السينما العالمية من خلال دور « يوسف» بطل الفيلم ودخلت وتحدثت مع دياتيرل، وأعجب بنطقى وحديثى للغة الإنجليزية، وسافر بعد أيام ووعدنى أن يرسل فى طلبي.

وشاءت الأقدار أن يعرض فيلمى الأول « صراع فى الوادي» فى مهرجان «كان السينمائى الدولي»، وكان الأديب والشاعر وصانع الأفلام جان كوكتو هو رئيس لجنة التحكيم، وكنت قد رأيت أفلامه فى القاهرة، وأعجبت به كفنان وشاعر، وكرجل يستطيع أن يعمل أى شىء جيدا، وأحسست بالسعادة عندما قدمونى إليه، تكلم معى كصديق، ونال دورى فى الفيلم إعجابه الشديد.

وكانت القواعد فى «مهرجان كان» تنص على عرض أفلام الدول النامية فى دور سينما صغيرة وفى حفلات بعد الظهر، لكن كوكتو تدخل وحدد لفيلم «صراع فى الوادي» حفلا مسائيا فى دار كبيرة فى أول شهر مايو، وصادف هذا اليوم أيضا أن يكون يوم مهرجان الزهور فى الريفييرا الفرنسية، وكان معنى ذلك أن تتزين واجهة دار السينما بالورود، وبالفعل زينت السينما وحضر العرض نجوم عالميون، مثل ماريا فيلكس، دانيال جيلين، موريس رونيه وغيرهم، ولأول مرة كنت أرى نجوم السينما العالميين بدمهم ولحمهم، واستقبل الفيلم استقبالا حسنا من المحكمين وتناقشوا حول إعطائى جائزة أحسن ممثل لكن فى النهاية صوتوا ضد ذلك!

وعندما عدت إلى القاهرة وجدت برقية من هوليوود بموافقة منتج ومخرج فيلم«يوسف وأخوته» على قيامى بدور بطل الفيلم «يوسف» أمام «ريتا هيوارث» حلم الشباب وأنا واحد منهم فى هذا الوقت، وشعرت بسعادة غامرة، وبدأت أستعد للسفر إلى هوليوود، لكن تأتى الرياح بما لا تشتهى السفن، ففى هذا الوقت كانت «هيوارث»قد وقعت فى غرام الفنان «ديك هايميز» وذهبت وراءه إلى المكسيك غير مبالية بالفيلم ولا بدور «زوجة العزيز» فتوقف إنتاج الفيلم وطار حلمى بالسينما العالمية!ورغم هذا لم أحزن أو أحبط كنت متوقعا أن القدر يخبئ لى شيئا جميلا.

«هاملت» سبب موافقة  فاتن حمامة ليمثل أمامها

كان فيلم « صراع في الوادي» الذى عرض عام 1954 من إخراج يوسف شاهين هو أول أفلام عمر الشريف في السينما المصرية،

وعن ظروف اختياره لهذا الفيلم يقول نجمنا الراحلكانت تربطني بالمخرج يوسف شاهين علاقة صداقة وطيدة من أيام الطفولة، لقد كنا في فصل واحد فى المدرسة الإنجليزية، ونحن ننتمي إلى عالم المسيحية اللبنانية، وعندما سافر شاهين إلى أمريكا ليدرس تكنيك السينما بدا لي أن طريق كل واحد منا اختلف عن الآخر، حيث كان والدى يحلم بأن أصبح مثله رجل أعمال وأعمل في مجال تجارة الخشب مثله.

لكنني قابلت يوسف بعد عودته من أمريكا ولم تتأثر صداقتنا بسنوات الغياب التى ابتعدنا فيها عن بعض وكان أخرج مجموعة من افلامه منها « بابا أمين»، « ابن النيل»، « سيدة القطار» وغيرها وكان في هذا الوقت يحضر فيلمه « صراع في الوادي» وطلب مني أن أقوم ببطولته وكان عمري عشرين عاما، فوافقت، وأجرى لي اختبارا للكاميرا، ورضي عن هذا الاختبار.

لكن كانت هناك مشكلة تقف حائلا دون بطولتي للفيلم وهي موافقة بطلة الفيلم الفنانة المشهورة جدا في هذا الوقت فاتن حمامة التى قامت بترشيح زميلي الفنان شكري سرحان لبطولة الفيلم، فكيف يقنعها بأن تقوم ببطولة الفيلم أمام فنان مبتدئ، وعرض عليها الأمر فطلبت أن تراني بعد أن حكى لها شاهين عنى، وعن اللغات التى أجيدها، وعائلتي الثرية الكبيرة.

ودعتني على فنجان شاي في بيتها، وكنت خالي الذهن تماما عما تريده، فسألتني عن إمكانية تمثيل مشهد أمامها، فصدمت حيث لم أكن أحضر أي مشاهد، وتوقعت أنها تريد أن تراني فقط، وجاءتني فكرة جهنمية، فبدأت أمثل أمامها مشهدا من مسرحية  «هاملت « لشكسبير بالإنجليزية، وأنا أعلم تماما من خلال متابعتي لأخبار الفنانين فى الجرائد والمجلات أنها لا تعرف كلمة واحدة من هذه اللغة وأنها لن تعترف بذلك، وأنصتت إلي بإهتمام، وبعد انتهائى من المشهد قالت ببراءة شديدة هايل يا أستاذ واضح إنك متمكنووافقت على بطولتي للفيلم .

 

####

 

عمر بعيون عبدالحليم حافظ

منير عامر

لم أكن أعلم أنا كاتب هذه السطور أنى سأعود إلى أيامى مع عبد الحليم حافظ حين إختارنى فى يناير 1964 لأكون الشاهد والكاتب لأيامه ،

 وكتب خطابا بذلك لروز اليوسف موصيا بأن يكون ما أكتبه هو المرآة التى حكى فيها أيام عمره ، سواء أثناء حياته أوبعد رحيله . أتذكر أنى كتبت عنه ما قرأه بعيونه وما صار شاهدا عليه بعد رحليه ، وهاهو صديق أيام البدايات عمر الشريف يرحل ، لأفتح من جديد صفحات التذكار .

الآن صار من السهل لقاء الأصدقاء الأربعة أبطال فيلم «أيامنا الحلوة» والذى كانت وقائعه غيرقابلة للتصديق ، لكنا أحببناه ، فـ»أيامنا الحلوة « قد تبدو بعيدة عنا رغم أن أيا منا إستطاع الزمن أن يخفف أوجاعا مضت ، يرجو الأيام ألا تحمل له أوجاعا أخرى .

الآن يلتقى عمر الشريف مع صديق أيامه الأوروبية عبد الحليم حافظ ، وأحمد رمزى هذا الشاب اللاهى ، رغم أن اللقاء الوحيد بينى وبينه حمل عدة عتابات لعبد الحليم حافظ ، وعلى الرغم أيضا أن اللقاء الوحيد قد جرى بعد رحيل عبد الحليم بسنوات ، لكن عتابا شديدا بقى فى قلب أحمد رمزى لأن المسافة بين بيته وبيت عبد الحليم لا تتعدى عشرات الأمتار ، ورغم ذلك لم يكن يسأل عنه ؛ و على الرغم من وجود عمر الشريف فى قارة أخرى إلا أنه لا يمل من السؤال عن أحوال أحمد رمزى .

يتذكر أحمد رمزى كيف كان عبد الحليم لا يفارقه أثناء مهرجان التليفزيون الأول بالمنتزه ، فقد كان عبد الحليم معجبا بغير حد بكلوديا كاردينالى ضيفة هذا المؤتمر ، وكيف أخرجت لعبد الحليم لسانها وهى تقول له « أنا من أصل عربى .. وأنت من نفس الأصل .. لكن غربة الأجداد جعلتنا لا نتواصل إلا بلغتك الإنجليزية الركيكة ، وعجزى عن فهم لغتك العربية ، لكن صديقك يتحدث الإنجليزية بطلاقة . وأخرجت كلوديا لسانها لعبد الحليم وهى تصحب أحمد رمزى ليشرح لها معظم ما يقال حولها بالعربية . كان سبب إخراجها للسانها أنها تعلم أن عبد الحليم مشهور بأنه « فرانك سيناترا السويس « فهو صوت انتصار مصر فى السياسة بعد تأميم قناة السويس ، وهو من غنى للعرب وللمعارك ، وأنه مشهور فى الجزائر والمغرب أكثر من أى نجم آخر ، لكنه ليس فى وسامة عمر الشريف الذى تتمنى أن تصادقه لكنه يقبل صداقتها ب»أدب بارد « عكس صداقته مع صوفيا لورين التى يمكن أن يقال عنها أنها صداقة بين شاب وفتاة تربيا فى حى شعبى إيطالى . وكان عبد الحليم لا ينسى كلماتها عن عمر الشريف ، وكيف أنها تفضله عن فرانك سيناترا ، هذا الذى لم تحبه أبدا لغروره ولانه يبدو كمن قام بجريمة ثم راح يستغل صوته كى يخفيأ آثار الدماء التى خلفتها جريمته .

*****

وكان عمر الشريف الحاضر دائما فى رأس عبد الحليم وأحمد رمزى ، كان عمر الشريف هو مفتاح لندن وباريس والولايات المتحدة بالنسبة لعبد الحليم، فلم ينس عبد الحليم أبدا أنه إحتاج ذات يوم إلى ألفى جنيه إسترلينى طالبته بها معامل تحميض الأفلام الملونة بلندن ، وما أن علم عمر الشريف بذلك حتى ترك باريس إلى لندن وليسدد المبلغ نيابة عن عبد الحليم صاحب شركة صوت الفن المنتجة لفيلم « أبى فوق الشجرة « ، وما أن وصل عبد الحليم إلى لندن حتى بادر بلقاء عمر الشريف ليرد له الدين ، بعد أن إستطاع تحويل المبلغ من مصر . وأصر عمر على الرفض ، وأصر عبد الحليم على أن شركة صوت الفن هى التى تتحمل هذا المبلغ .

وكل من عمر وعبد الحليم ينظران إلى النقود نظرة واحدة يملكها كل «مدمن للعب الكوتشينة» ، فكل منهما له صولات مع أوراق الكوتشينة، عمر بطل محترف فى لعبة البريدج ، عبد الحليم بطل محترف فى لعبة الكومى والبلاك جاك . وكل من له علاقة بتلك الألعاب يعلم أن أغلى ما عند اللاعب هو ثباته ، وقدرته على المناورة ، وعدم الاعتراف فى أثناء اللعب بأن هزيمته قادمة ، فالهزيمة والنصر فى لعب الأوراق هو احتمال ، ومن يملك ثبات أعصاب يمكنه أن يقلب احتمال الهزيمة إلى إنتصار . أما النقود فهى ليست أكثر من « دلالة « ، لذلك يحتفظ أغلب لاعبى الورق بقدر من النقود بعيدا عن موائد اللعب ، كيلا يكون انسحابه مهزوما ماسا بكرامته الإنسانية ، فالنقود بحد ذاتها ليست الهدف من المكسب ، ولكن الهدف هو السيطرة على من أمامك ومعرفة كيف يمكن أن تنال منه .

وغالبا ما يعانى لاعب الورق من حالة «إمساك» تتبعها نوبات من « الإسهال « كما حلل هذا الأمر لى عالمنا النفسى الكبير محمد شعلان ؛ معلقا على نوبات الكرم غير التقليدية التى كان يعيشها عبدالحليم، فيشترى بالطو كشمير من هارودز للسفرجى الخاص به « عبد الرحيم « ولا يأذن بمائة جنيه سلفة للتمرجى الذى كان يقيم تقريبا فى منزل عبدالحليم ، وهو من طلب هذا المبلغ ، لأن إبنه الذى نجح بمجموع مرتفع فى الثانوية العامة صار رافضا لإرتداء الملابس القديمة المستعملة من عبد الحليم حافظ ، فقد كان الابن حالما بأن يرتدى ملابس جديدة تخصه وحده ولم يستخدمها أحد من قبل ، وطبعا لم يوافق عبد الحليم ، لأن عبد الحليم شخصيا بعد عام 1967 كان يفرح عندما يهديه الملك الحسن بعضا من ملابسه المستعملة ، فقد كان من عادة الملك الحسن أن يهدى من يحبهم بعضا من ملابسه. ولم يكن عبد الحليم يعلم أن رفضه لإقراض التومرجى مبلغ المائة جنيه سيتسبب فى إنتحار الممرض ، الذى بكاه عبد الحليم كثيرا وتكفل بنفقات تعليم أولاده ، ولم يغفر لنفسه أبدا الرفض السابق لإقراضه مائة جنيه .

*****

وبعد هزيمة يونيو 1967 صار سفر عبد الحليم إلى لندن يتكرر بكثرة ، لأن النزيف كان يترصده ويهاجمه كثيرا . ولولا تكفل الملك الحسن بنفقات علاج عبد الحليم لكان الأمر شاقا . ولكن كانت مساندة عمر الشريف لعبد الحليم جاهزة طوال الوقت .

فقد ربط بينهما أكثر من خيط . لعل أهم تلك الخيوط هو التربية بعيدا عن عائلة ، فعبد الحليم قد عاش سنوات فى الملجأ ، لا يخرج منه إلا لبيت الخال ، الذى كانت زوجته قاسية بعض الشيء ، وعمر الشريف تربى فى كلية فيكتوريا ، وهى إقامة دائمة تشمل النوم فى عنابر فيها العديد من الطلبة . وقد يكون المستوى الإجتماعى لمن يتعلمون فى كلية فيكتوريا أعلى مئات المرات عمن يعيشون بالملجأ ولكن كل من الفئتين يعلم أنه محبوس فى جدران لا يعيش فيها أب وأم وأخوة ، بل كل الموجودين من نفس العمر ، تتراوح أنماط سلوكهم عدوانا أو صداقة ، ولكل منهم خيال يشتعل أثناء المراهقة بحكايات بعضها له لمحة من واقع وكثير منها مزيف .

والحقيقى عند عمر الشريف أن علاقة حب نشأت بينه وبين فتاة تكبره قليلا من مدرسة إنجليزية سكندرية ، وعندما اقترض سيارة الأسرة وسافر بها إلى القاهرة للقاء الحلوة حسب إتفاق مسبق ، كان اللقاء عند طريق خال تقريبا من البشر بجانب فندق مينا هاوس ، وفجأة ظهر الحبيب الفعلى للفتاة فى سيارة أكثر فخامة من سيارة عمر الشريف ، لتقول له البنت «شكرا لقد أوصلتنى لمن أحب فى الميعاد» وتركته وحيدا ، فترك هذا التصرف فى قلب عمر حالة عدم ثقة بالجنس الأخر على الإطلاق . ومن روى تلك الواقعة لى اثنان أولهما هو عبد الحليم حافظ عندما كان يحبس محمد الموجى فى فندق مينا هاوس ليتفرغ تماما لتلحين أغنية « رسالة من تحت الماء « ، ورواها لى أيضا السفير حسن عيسى طالب فيكتوريا الذى كان يعرف دبة النملة عند أى زميل له بكلية فيكتوريا.

أما عبد الحليم ، فنفس الحكاية تكررت معه فور أن بدأ مشواره الفنى ، فهناك راقصة كان اسمها «ميمى فؤاد» أحبت عبد الحليم ، وكانت واحدة ممن يرقصن ضمن تابلوهات الراقصة الأولى تحية كاريوكا، وكانت ميمى فؤاد تحلم بأن ترقص بمفردها أثناء غناء عبد الحليم حافظ ، لكنه كان لا يرغب فى تقليد فريد الأطرش الذى ارتبط أداؤه برقصات سامية جمال، وتلاه فى ذلك عبد العزيز محمود وعبد الغنى السيد وكل مطرب ظهر بعد شهرة فريد الأطرش ، كان عبد الحليم مسكونا بفكرة « التفرد« ، ولذلك تركته ميمى فؤاد لتقبل عرض زواج سريع من محمد الموجى ، وقد أثر ذلك فى عبد الحليم لبعض الوقت ، وظل هاجس التفرد يسكن عبد الحليم طوال أيام عمره ، فلم يمنح قلبه لإمرأة بشكل مطلق إلا للسيدة التى حصلت على الطلاق كى يتزوجا ، ولكن تذبذب عبد الحليم بين رأى إحسان عبد القدوس الناصح بأن يتزوج الرجل بمن يحبها ، وبين رأى مصطفى أمين بأن المطرب إن تزوج فالمعجبات سيقل عددهن ، فضلا عدم الثقة المتأصل عند عبد الحليم من تجارب تهرب فيها الحبيبة إلى أى طالب للزواج ، هذا هو ما وقف حائلا بين عبد الحليم والزواج سواء أكانت المرأة هى ميمى فؤاد أو سعاد حسنى أو ابنة الطبيب الباشا الذى حاولت إبنته الكبرى زوجة السفير المنتمى لثوار يوليو أن تدفع شقيقتها للزواج من عبد الحليم ، فتهرب عبد الحليم من اللعبة بأكملها ، كما تهرب من مذيعة ظلت تطارده لسنتين ، ولم تفلح ، ولم يتقرب عبد الحليم من فكرة الزواج إلا من واحدة تمت بصلة قرابة لزوجة مطرب كبير وهى التى غزلت له ملاءة سرير قالت أن خيوطها مغسولة بمياه نهر الأردن ، نهر تعميد نبى الله يحيى ، ومياه بئر زمزم ، وأن من ينام عليها ستتم له النجاة ، وبالفعل فرشها عبد الحليم على سريره الذى رقد عليه رقدته الأخيرة ، لكنهم أرادوا تغييرها ذات صباح ، وما أن قاموا بتغييرها حتى حدث النزيف الذى أعقبته وفاة عبد الحليم .

أما علاقة عمر الشريف بالمرأة : فكلنا يعلم قصة الحب العارم الذى ربطه بفاتن حمامة فى أول تصوير لفيلم «صراع فى الوادى» ، وكيف إستمر الحب قويا إلى أن لعبت فكرة العالمية بذهن عمر الشريف لتحصل فاتن على الطلاق . وبقى أثر ترك الحبيبة الأولى التى خذلت عمر الشريف تطارد كل علاقاته فهو من يستجيب للمرأة ، لكنه أول من يهرب من فكرة الإستمرار فى العلاقة ليعلق على شفتيه جملة « لم أحب بعد زوجتى الأولى امرأة تقنعنى بالزواج «

*****

فى فينسيا وأثناء مهرجان سينمائى سنوى جاء اللقاء الثانى بين عبد الحليم وبين كلوديا كاردينالى ، وكان الثالث للقاء هو عمر الشريف.

كان موقف عبد الحليم مما جرى فى مصر بعدوان يونيو 1967 مختلفا عن موقف عمر الشريف ، فالصداقة كانت تجمع عبد الحليم بالمسئولين عن هزيمة 1967 أولهم عبد الحكيم عامر ، ومدير مكتبه شمس بدران الذى كان كثير الزيارات لعبد الحليم وكان عبد الحليم يغلف لقاءه بشمس بستار من الشكوى المرضية كيلا يطول اللقاء ، كما أن صلاح نصر كان يرصد عبد الحليم بعد أن شكاه لعبد الناصر حين دبر مسألة خطف سعاد حسنى لتكون إحدى محظياته . ولذلك كان عبد الحليم يخشى صلاح نصر متمتعا بإمكانية الوصول لعبد الناصر إن دبر له صلاح نصر أى أمر غير حقيقى ، خصوصا وأن صداقة عبد الحليم بكمال أدهم مدير المخابرات السعودية كانت محل تقييم ونظر طوال وقت حكم الرئيس عبد الناصر . أما عمر الشريف فهو من إستجمع شجاعته مع فاتن ليرفض الإثنان التعاون مع صلاح نصر بأى طريقة كما عرض عليهما ذلك الأمر .

ولذلك كان رحيل عمر الشريف للتمثيل خارج مصر جاء بعد إنتقال فاتن حمامة إلى بيروت لتقيم هناك .

إنسانيا كان عبد الحليم يرعى مصطفى أمين بعلم عبد الناصر أثناء سجن مصطفى أمين فى قضية التجسس ، فهو من تأتى إليه روايات مصطفى أمين التى تنشرها مجلة الشبكة أو الصياد ببيروت ، وكان صاحب المجلتين هو سعيد فريحة الذى يتلقى معظم تمويله من مصر ، وكان يرسل مكافأة المقالات لعبد الحليم ، وكان يسلم القيمة لأسرة مصطفى أمين . كان عبد الحليم لا يرفض طلبا لمسجون أو لصاحب رأى مختلف عكس عمر الشريف الذى كان يرى أن خلافات السلطة هى خلافات سياسية ، وخلافات السياسة عند عمر الشريف تتطابق مع خلافات العصابات ، لذلك كان يرفض على سبيل المثال أى لقاء مع فرانك سيناترا ويتجنبه وكان يتجاهل أى حديث عن الصهيونية أو الدولة الإسرائيلية ، فعمل الممثل فى الغرب مرتبط برأسمال أغلبه يهودى ، ولابد أن هناك صلة بين أى رأس مال وبين إسرائيل .

وكان اللقاء فى فينسيا بين كلوديا كاردينالى وعبد الحليم وعمر الشريف يتناول أى أمر إلا السياسة ، كانت كلوديا تذكره بمطعم السمك فى أبى قير الذى عزمها على الغداء ، ولم تكن تعلم أن هذا الكرم الحليمى كان بتوصية من د. عبد القادر حاتم الذى أقام أول مهرجان للتليفزيون بمصر ودعا إليه كلوديا كاردينالى .

وكان اللقاء الثالث مع كلوديا كاردينالى بين عبد الحليم وعمر الشريف بعد انتصار أكتوبر 1973 .

سقط من مشاعر عبد الحليم أيامها هذا الإحساس بأن كل الكلمات فارغة من أى معنى وهو الإحساس الذى غمرنا نحن المصريين بعد هزيمة يونيو ، ولكن بعد حرب أكتوبر صار للكلمات معنى ، ولكن تبقى فى ذاكرتى هذا الحوار الغريب الذى دار بين عبد الحليم وبيننا مجموعة أصدقاء وهو يتسلم بدلة شامواه على هيئة الملابس العسكرية أرسلها له الملك الحسن ، وكان لونها زيتيا بنفس لون العربة المرسيدس الأسبور والتى سبق وأهداها الملك الحسن لعبد الحليم . قال عبد الحليم : سأغنى بهذه البدلة أغنية « خلى السلاح صاحى « وهى الأغنية الوحيدة التى قبل كمال الطويل تلحينها لعبد الحليم من أغانى حرب أكتوبر ، فقد رفض تلحين أغنية « عاش اللى قال« ، كان كمال الطويل قد رفض بعد هزيمة يونيو أن يلحن أى أغنية تمجد لأى شخص اللهم إلا المواطن المصرى العادى . أضاف عبد الحليم : معلوماتى تقول أن السلام سيأخذ خطواته إلى حياتنا بعد هذه الحرب « . ظننت أن ينطق تخريفا ، فتاريخ اليوم فى رأسى هو الثامن عشر من أكتوبر 1973 ، قلت لعبد الحليم « إن الحرب مازالت دائرة « ، فقال : وخطوات السلام بدأت من المغرب .

وجاء سفر عبدالحليم إلى الخارج بعد إنتهاء الحرب ليتمشى فى شوارع باريس، لا أنسى أنه همس لى أنه تمنى أن حرب أكتوبر قد دارت أثناء حياة عبد الناصر لا بعد موته ، فلم يكن يكن محبة للسادات على الرغم من أنه وضع صورة له فى غرفة مكتبه ، وأرسل الصورة التى كانت تجمعه بعبد الناصر إلى مكتبه بشركة صوت الفن .

كان عبد الحليم على باب أحد محلات صغيرة عند مدخل ملهى « الليدو « حيث يوجد محل تملكه «مروة الجزائرية» التى كانت تبيع الأغانى العربية للمقيمين من العرب المقيمين بباريس . وكان عبد الحليم بصحبة عمر الشريف الذى ناوله « سن أبرة «ذهبية ليحملها ليوسف فرنسيس ، وكان عمر الشريف قد سمع بحكاية هذا السن اثناء تليفون من عبدالحليم ليوسف فرنسيس بالقاهرة . وكان عبد الحليم يعلن انه مدين ليوسف فرنيسى بتغييرات فى سيناريو « أبى فوق الشجرة « ، ساهمت بشكل كبير فى نجاح الفيلم بصورة لم يسبقه فيها فيلم مصرى . وفرح عبد الحليم بتلك الهدية وكأنها له شخصيا ، حيث سيكون سن الإيرة دقيقا فلا يسبب هذا الألم المعتاد الذى تسببه أسنان السرنجات العادية لمريض السكر ، ويوسف فرنسيس كان من أشهر مرضى السكر .

وتوقف عمر وعبد الحليم أمام المحل ليرقبا ثمانية من أنهار الضوء فى هذا الشارع.. شارع الشانزليزيه . وظهرت كلوديا كاردينالى ، كانت تعرفه جيدا ويعرفها ، لكنه كان يعلم أن الخجل كان يطل من لمسة يد أى مصرى يصافح يدا أجنبية بعد هزيمة يونيو التاريخية ، الآن تغير الموقف مع كلوديا كاردينالى هذه الفتاة الجميلة العفوية التى تعرف جيداً أن الإنسان العادى يحلم بالحب وبالوجبة الدافئة وبالحياة السهلة وبإجازة عطلة الأسبوع دون تكدير. ولكن التكدير فى كل مكان. وعلى حد كلماتهالماذا تبدو الأرض وكأنها كئيبة لا تحس أن سكانها يطلبون الحب وكلهم عطاشى للحنان. إننى لا أفهم. ولأنها لا تفهم ولأنها جميلة ولأنها حائرة أصبحت معبودة الشباب العادى فى أوروبا.

قالتأهلاً بصوت السويس.

أحب عبد الحليم هذا الوصف ، قال لى ما أنقله الأن عن مذكراتى التى كنت أكتبها يوميا :كأنى سافرت لحظتها من باريس إلى السويس. جبل عتاقة يلون الأفق بألوان زرقاء وبنفسجية ورمادية وحمراء وبيضاء. يبدو كل شيء حقيقياً تماماً فى هذه المدينة. وجوه الناس. مصانع تكرير البترول. المباني. القناة. البحر. الكبائن. بيوت بور توفيق. ذهبت هناك أغنى للجنود. كانت عيونهم تقول أن 1967 يونيو كانت فخاً. تآمر العالم كله على طيبة الإنسان المصري.

واقترب من كلوديا صحفى باريسى وكان الحديث بينهما عن ميكانيكا الحياة. كيف تحول كل شيء إلى صناعة وكيف أن الرشاقة نفسها أصبحت صناعة وان لقاء الحب أصبح مهنة لها متخصصون.. وأن كل شيء فسد وأن المطلوب للإنسان هو لحظة عفوية يعيش فيها حراً بعيداً عن سجون الإعلان وسجون التجارة وسجون البضائع. وكانت كلوديا تتكلم كثائرة جميلة صغيرة السن تريد أن تقول أن الحياة لابد أن تكون أكثر جمالاً مما هى الآن.

*****

مرة أخرى يكون اللقاء بين عبد الحليم وعمر الشريف فى لندن

جو لندن شتاء. لندن ليست دافئة إلا بلون بشرة جميلاتها. إنهن يرفعن درجة حرارة قلب الإنسان. المرأة فى لندن زهرة برية نقية تخرج من جبل الصقيع. يفرح بها الإنسان كثيراً. كانوا ثلاثة يسيرون فى الطريق. سير لورانس أوليفيه يقبل دعوة غداء وجهها عمر الشريف له ولعبد الحليم كان عبد الحليم مشدوهاً لبساطة سير لورانس أوليفيه. هذا الرجل الذى لعب معظم مسرحيات شكسبير.و صفقت له ملايين الأيدي، عاش قصة حب هائلة مع فيفيان لي، وكان الفصل الأخير من قصة الحب تدور أحداثه. اختلف لورانس أوليفيه مع فيفيان لي.. واقترب الطلاق. قالوا سر الطلاق هو البخل الشديد لسير لورانس. فجأة برز أمام الثلاثة شحاذ إنجليزي. قال الشحاذ بصوت جاف تختلط فيه الذلة بالكبرياءسير، لا أريد أن أزعجك كثيراً. لكن هناك زوجتى تلد الآن. ليس معى نقود.. أطفالى سبعة. أنا لا أملك حق الدفء إلا بحب زوجتى لذلك فأطفالنا كثيرون. لا أكذب عليك وأدعى أنه ليس معى نقود. فى جيبى ثلاثة جنيهات. ماذا تفعل هذه الجنيهات لأسرة كبيرة العدد ولرجل يحب زوجته لأنها خمره الذى يسكر بحبها كل ليلة. إننى لم أسأل رئيس الوزراء لأنى أعطيت صوتى الانتخابى لمنافسه. سقط منافسه وسقطت معه بعض أحلامي. سيدى السير أريد مساعدتك المادية. لأن الديمقراطية الإنجليزية لا تلتفت إلى أحلام حب رجل فقير وزوجته.

وقف عبدالحليم وعمر الشريف مندهشين تماماً لأن سير لورانس أوليفيهأ خرج من جيبه النقود كلها وأمسكها بيديه ليعطيها للرجل نقداً وعداً-إليك أيها الرجل. عشرة جنيهات. عشرين. ثلاثين. أربعين. خمسين. ستين. سبعين. ثمانين. مائة. مائة وخمسين. مائة وسبعين هل تكفيك..

لم تتغير لهجة الرجل. كان الذل والكبرياء موجودين فى صوته. قال:

أنحنى لك يا سير لورانس. هذا فوق ما أتمني. أشكرك.

وأشار الشحاذ إلى تاكسي، ركبه واختفي.

عند ذلك خبط عبد الحليم كفا بكف. ما الذى فعله سير لورانس. قال عمر الشريف للممثل العالمى ضاحكاًأسمح لى أنك تؤكد عملياً أن البخل هو إشاعة كاذبة. أطلقها عليك من لا يحبك.

قال سير لورانسأبداً.. إما أن هذا الرجل ممثل خطير لم يجد الفرصة للظهور وفاته قطار الصدف الذى يقابل كل فنان، وإما أنه فى أزمة خطيرة بالفعل. قهره الزمن ووضع كمية هائلة من الذل فى صوته. ولكن كبرياءه مازالت موجودة لذلك أعطيته كل ما معي. أما مسألة أننى بخيل. فالعصر الذى نحيا فيه غريب بالفعل.

إن الناس أصبحت ورقاً مطبوعاً عليه فئة الجنيه والأكثر من ذلك. إن كرامة الأفراد شيء منفصل عنهم فى هذا الزمن.. تتحكم فيها آلات طباعة أوراق النقود. ويتحكم فيها قلة. هذا الوضع يحزننى تماماً لذلك أترك النقود تتراكم فى البنك. أصرف منها أقل القليل. أكره عالم الحسابات ولكنى لا أتنازل عن حقي. لأن السوق غابة وأترك حصيلة ما أعطته لى الغابة فى البنك. لا يهمنى بعد ذلك أن يقولوا بخيل. لا يهمنى أى شيء. الذى يهمنى هو أنى أضع الإنسـان أمام مشـكلته عندما يدخل المسرح. تماماً كما تضع أنت يا مستر شـريف الإنسـان أمام مشـكلته عندما يدخل السينما وتماماً كما يضع صديقك عبد الحليم جمهوره أمام عواطفه. أعتقد أن مهمة الفن لم تعد هى إمتاع الإنسان فقط، ولكنها إنقاذ له من عالم التفكير فى النقود.و من وضعه كسلعة تباع وتشتري.

 

####

 

فن عصرنة وإرهاب

ظبية خميس

كان يمكن أن يرقد جثمانه فى تابوت أنيق فى كنيسة جميلة وتعزف الألحان وتغنى الترانيم الجنائزية ويدفن فى مقبرة تحت الصليب بقرب أمه وأبيه وأجداده,أو فى مقبرة لكسمبورغ الجميلة فى باريس,لكنه رقد أمام صلاة الجنازة فى جامع,وورى الثرى فى مقبرة ما فى السيدة نفيسه فى القاهرة.

عمر الشريف حياة وموت يدعوان للتأمل.ازدوجت حياته بالاختيارات:من المسيحية إلى الإسلام,ومن تجارة الأخشاب إلى السينما,ومن الجذور اللبنانية إلى المصرية,ومن السينما المصرية إلى العالمية وربما ازدوجت جنسيته أيضا.وحتى فاتن حمامة حب حياته وزوجته الوحيدة المعروفة للعالم كانت من برج الجوزاء فيما كان هو من برج الحمل النارى.صنع حياة مختلفة لفنان عربى فقد سطع اسمه فى العالم وتجاوز فنه كل محلية وتصدرت أخباره كأشد النجوم وسامة العالم.لعب البريدج وصاحب نجمات هوليوود وعشق سباق الخيل وباريس وقدم شخصيات من كل مكان فى العالم من در زيفاجو الروسى إلى شى غيفارا اللاتينى إلى البدوى والأمريكى والبريطانى وغيرها من شخصيات.لكنه طوال الوقت كان يهذى بجذوره وبمصر ويحب أن يردد قصة حبه لزوجته السابقة فاتن حمامة حتى آخر عمره.

سنواته الأخيرة مؤلمة نفسيا له,صورة تكررت لأخطاء صغيرة وعصبية وحالة ذهنية مشوشة.فقد كل من أحبهم من أصدقاء من أحمد رمزى ويوسف شاهين وفؤاد المهندس ومعشوقته فاتن حمامة فكيف لا يصاب بالزهايمر والإكتئاب؟!وما الحياة بدون من نحبهم وما نتذكره من علامات طريق وبشر وحياة.لا المجد ولا الشهرة ولا المال ولا سياحة العالم تعوضنا عن ذلك الحب الشخصى العزيز على النفس والذى نراه فى بريق أعين من عرفونا وعرفناهم وكانت المحبة طريقنا معا لزمن طويل.

فاتن حمامة جسدت الأنوثة العصرية بإمتياز مع جيل من ممثلات أخريات كنادية لطفى وشادية وزبيدة ثروت وهند رستم وناريمان وزهرة العلا وسعاد حسنى وميرفت أمين ونجلاء فتحى وغيرهن من بنات عصرها وما بعده بقليل.وعمر الشريف جسد عصرية الرجل الشرقى على الشاشة مع زملائه مثل رشدى أباظة وكمال الشناوى وصلاح ذو الفقار وعماد حمدى وغيرهم.لقد غيرت السينما العربية طوال عقود من الزمان نمط الحياة ومفاهيم الأنوثة والذكورة وعصرنت المجتمعات العربية بطريقة حياتها وقصص التمرد والحب والتحولات الإجتماعية والسياسية كما قد فعلت روايات إحسان عبدالقدوس ونجيب محفوظ ويوسف السباعى وغيرهم على الشاشة الفضية.لم يعد البيت العربى معزولا عن أفكار هذه النخبة الفنية والأدبية فى كل الدول العربية,فحتى موديلات الملابس والأزياء وديكورات المنازل بل حتى تعبيرات الحب وقصص الغرام كانت صدى لذلك الذى تطرحه الشاشات والأغانى والكتب العصرية فى ذلك الزمان.من لم يحب على وقع غناء أم كلثوم وعبدالحليم حافظ وفريد الأطرش ونجاة الصغيرة,ومن لم تحلم بفساتين ليلى مراد وصباح وفاتن حمامة ,ومن لم يكن فتى أحلامها يشبه رشدى أباظة وعمر الشريف من الأجيال السابقة؟

كانت جنازات الفنانين جنازات أحلام وصداقة ومحبة بين الجمهور والفنان كما حدث فى جنازات أم كلثوم ومحمد عبدالوهاب وعبدالحليم حافظ بل جنازة سعاد حسنى وفاتن حمامة وغيرهم.كان وداعا من القلب لفترة زمنية وذكريات وجدانية عاشتها أجيال ما.كان هناك مكان للحزن والدموع بل والإنتحار أحيانا كما فعلت فتيات ألقين بأنفسهن من الشرفات عندما مات عبدالحليم حافظ مثلا.

عاد عمر الشريف ليقضى سنواته الأخيرة فى مصر وليموت ويدفن فيها كما قد نقل عنه.ولكنها مصر الذاكرة والمشاعر القديمة الحلوة التى صاحبته فى تنقله بين القارات.لم يعد إلى بيت بل إلى فنادق,ولم يعد إلى أصدقاء فقد ماتوا,ولم يعد إلى عائلة ففاتن قد تركته منذ سنين طويلة وماتت هى أيضا.

فى الأسابيع الأخيرة من حياته,كانت التفجيرات تضرب القاهرة من مصر الجديدة إلى وسط البلد,وكانت سيناء تشتعل بالإرهاب أيضا,وضرب زلزال القاهرة كما ضربتها رياح عاصفة.مبنى المركز الثقافى الإيطالى التاريخى قد هشمته التفجيرات,كما قد فعلت قبل ذلك بالعديد من الكنائس ومراكز الشرطة ومبان أخرى.

هذه ليست مصر الأربعينيات والخمسينيات التى عاشها عمر الشريف وفاتن حمامة المسلمة والمسيحى الذان تزوجا وأنجبا بشكل عادى جدا فى بلد متسامحة وعصرية ومتقدمة تحلم بالذهاب أكثر نحو التطور والحداثة والتعايش.ليست مصر أفلام الأبيض والأسود المترعة بالأناقة والرومانسية وحفلات الرقص والغناء وشياكة الشباب وأناقة النساء الأوروبية والعشق فى حديقة الأسماك والسهر فى الأوبرج.هذه مصر أخرى أفلامها ومسلسلاتها تمتلئ بوجوه فظة عن قصص القتل والدعارة والمخدرات والإرهاب والكيف والكوميديا الثقيلة برجال لا وسامة لهم إطلاقا ونساء منفوخات بإبر البوتكس والفيلينج والمكياج الثقيل والشتائم والسباب فى مسلسلات وأفلام يشاهدها الأطفال قبل الكبار.عصر المطاوى والسينج والجرائم السايكوباتية.

هذه شاشات تتحدث عليها أفواه فاغرة شفاهها عن كلمات الحرام والحلال وعذاب جهنم وكارهة لغير المسلمين وللمسلمين أيضا.شاشات تنقل القتل وقطع الرقاب وتدمير المدن وفتاوى ضد الحداثة والعصرنة وتحرير المرأة وحرية الإنسان على الهواء مباشرة.زمن نجومه بوحة وصافى ناز وداعش والغبراء وشوارع مهلهلة وإعلانات تجمع التبرعات لمرض السرطان وأطفال الشوارع جنبا إلى جنب مع إعلانات العقارات الفاخرة والمقوى الجنسى وعمليات التجميل!

بالتأكيد ليس زمن فاتن حمامة ولا عمر الشريف ولا نجيب محفوظ ولا إحسان عبدالقدوس ولا فاروق ولا جمال عبدالناصر ولا عبدالحليم حافظ ولا فيروز ولا أمل دنقل ولا نزار قبانى.رحم الله الزمان ورحم كل رموز الحداثة والعصرية والتحضر العربى الذى نودعه يوما بعد يوم.

 

####

 

لورنس العرب أدخله السجن!

المصدرالأهرام اليومى

من الذكريات الطريفة التى صرح بها نجمنا العالمى الراحل فى حوار إذاعى قديم لإذاعة مونت كارلو نقلته مجلة "جديد مونت كارلو" التى كانت تصدر فى منتصف ثمانينات القرن الماضي، قصة دخوله السجن عام 1962 قبل افتتاح العرض الخاص لفيلمه الشهير "لورنس العرب". 

يقول أسطورة الشرق: بمنتهى الصراحة لم يكن ممكنا أن أصدق ذلك أبدا، أن أذهب إلى هوليود ثم أمضى ليلتى الأولى فى السجن! لم يكن هذا منطقيا، خصوصا إذا لم تكن قد ارتكبت أى خطأ، لقد هبطت إلى هوليود بآمال كبيرة من أجل نجاح جديد، بعد أن انتهيت من فيلم " لورنس العرب" مع النجم بيتر أوتول

وقصة دخولى السجن ترجع إلى عام 1962 فى أحد أيام شهر ديسمبر، كنا قد ذهبنا أنا وأوتول لنحضر حفل الافتتاح العالمى لفيلم " لورنس العرب" تلك الليلة التى حلمنا بها على مدى عامين هما مدة تصوير الفيلم، وفى اتجاهنا إلى شارع "صن ست" مررنا بمسرح صغير حيث كان صديقنا الفنان "لينى بروس" يقدم هناك عرضا، وعلاقة بروس برجال الشرطة جعلته مشهورا تماما كما هو مشهور كفنان موهوب، دخلنا المسرح أكان ذلك لحب الاستطلاع؟ أكنا نبحث عن شىء مثير؟ لا تسألنى ولكننا أحببنا العرض كثيرا لدرجة أنه عندما نزلت الستارة اندفعنا إلى خلف المسرح وسألنا أين لينى بروس؟ وأخذناه بالأحضان وقلنا له إننا استمتعنا بالعرض، ودعوناه للجلوس معنا فى أحد المقاهى الشهيرة، وبالفعل جلسنا نضحك ونتذكر أنا وأتول مفارقات وطرائف التصوير فى فيلم "لورنس العرب". 

وفى الساعة الواحدة صباحا نهض لينى واقفا وقال: يجب أن أذهب إلى مكان ما لمدة نصف ساعة فهل تنتظرانى هنا أم تأتيان معي؟ ففضلنا أن نذهب معه، وبصعوبة وصلنا إلى شقته، ومباشرة أخرج حقنة ملأها بسائل شفاف وغرس الأبرة فى عرق يده اليسري، وبدأت الحقنة تحدث تأثيرها ببطء، وعندما كانت الأبرة ما تزال فى ذراعه، فجأة دق صوت جرس الباب ففتح بيتر الباب، ودخل رجال البوليس وقبضوا علينا، جدية الموقف أعادت إلينا بعض ما فقدناه بتأثير الشرب، وأن يقبض علينا بمخدرات معناه ترحيلنا من أمريكا وإحباط كل خططنا، حاولت أن أتخلص من ذلك شارحا لرجال البوليس أننا حضرنا لمجرد أن نشرب شيئا مع ليني، على عكسى كان بيتر أو تول عنيفا مع البوليس، دبلوماسيتى كانت بلا تأثير، وحوالى الساعة الرابعة صباحا وجدنا أنفسنا فى قسم البوليس، وفتشونا تماما ولم يكن هناك شىء غير عادى فى جيوبى أو جيوب لينى بروس، لكنهم وجدوا أقراص فى جيوب بيتر أو تول فسألوه ما هذه الأقراص فرد بيتر بسخرية وبصوت عال هذه أقراص مورفين عليكم اللعنة! ورغم أنها كانت أقراص منومة يستعملها بإستمرار، لكن إجابته كانت تعنى نهايتنا!.

وفجأة طرأت فكرة فى ذهنى فسألت رجال البوليس هل أستطيع استعمال التليفون؟ وطلبت فندق بيفرلى هيلز حيث كان سام سبيجل منتج فيلم " لورنس" يقيم هناك وطلبت حجرته، فردوا أنه نائم ولا يريد أحد أن يزعجه، وبعد إلحاح من جنبى وبعد أن قلت لهم إننى بطل فيلمه الذى سيفتتح اليوم اوصلونى بحجرته، وسمعت صوته النائم يقول: ما هذا؟ كيف تجرؤ على إيقاظى هذه اللحظة؟ فدخلت فى الموضوع مباشرة، وفجأة سمعت صوته صارخا وقد إستيقظ تماما: فى السجن لماذا؟! ماذا فعلتما؟ فرددت عليه: لقد قبضوا علينا مع لينى بروس بتهمة المخدرات، وعندما سمع سام هذه الجملة كاد يغمى عليه فقد كان أنفق على فيلمه 14 مليون دولار، وأن يلقى بنجمى فيلمه "بيتر والشريف" فى السجن فهذه مصيبة ستؤثر على عرض وتوزيع الفيلم

وبعد نصف ساعة وصل سام إلى قسم البوليس ومعه ستة محامين كبرياؤهم كان مخيفا يرتدون قبعات عالية ويمسكون بحقائب جلدية فاخرة، ودخلوا مباشرة لاجتماع كبير مع رجال البوليس، خيل إلينا أن هذا الاجتماع سوف يستمر إلى ما لانهاية، ثم أخيرا فتح أحد رجال البوليس الباب وأشار إلينا "بيتر وأنا" وقال: أنتما الإثنان يمكن أن تخرجا، لكن بيتر اندفع بسرعة ماذا؟ ونترك لين هنا فى هذه الحالة لن أغادر المكان وسأظل معه، فصاح فيه سام سبيجل: لا تكن أحمق بروس له سجل هنا فى البوليس، ولذلك لا يستطيعون أن يطلقوا سراحه ببساطة هكذا، فقال بيتر: هذا لا يعنينى سأبقى معه، وبدأت مناقشات طويلة واجتماعات استمرت حتى الساعة التاسعة صباحا وأخيرا أفرجوا عنا نحن الثلاثة، وأصر سام أن يحجز لنا فى الفندق الذى يقيم فيه وأن يشرف بنفسه على دخول كل واحد منا إلى غرفته للنوم استعدادا لحفل الافتتاح بالليل

وفى حفل الافتتاح دخلنا أنا وبيتر ولين وسام إلى قاعة السينما المضيئة من الخارج، وفى الميدان اضاءة لا حد لها، وفجأة وجدت أمامى نجوم كنت أحلم بنجوميتهم وكانوا المثل الأعلى لى من هؤلاء النجوم إليزيبث تايلور، شيرلى ماكلين، ريتشارد بيرتون، جريجورى بيك، وغيرهم، لكنهم تجاهلونى ولم يهتم أحد بي، وأقبلوا على المنتج يباركون له، ومرت الساعات الأربع مدة عرض الفيلم بالنسبة لى ببطء شديد، كأنهم أربع سنين، لأننى كنت منتظرا رأى ورد فعل النجوم ضيوف حفل الافتتاح، وعندما أضيئت الصالة أقبل على ريتشارد بيرتون وإليزابيث وغيرهما من النجوم وأشادوا بموهبتى وبحبهم لمصر، ومن هنا بدأت نجوميتى العالمية.

 

####

 

ريتا هيوارث منعته من تجسيد شخصية "سيدنا يوسف"!

المصدرالأهرام اليومى

العالمية سعت للنجم عمر الشريف مبكرا، فقد لا يعلم الكثيرون أن فيلمى "جحا ولورنس العرب" لم يكونا أول تجاربه فى السينما العالمية، فقبلهما وبالتحديد عام 1955 سبقتهما محاولة لخوضه تجربة التمثيل فى هوليوود، لكنها باءت بالفشل، ما هذه المحاولة ومع من كانت؟! هذا ما يحكيه النجم العالمى فى مذكراته

حيث يقول: بعد انتهائى من تصوير فيلم "صراع فى الوادي" أول أفلامى السينمائية والذى حطم أرقاما قياسية من حيث الشباك، أثناء عرضه جاءت مجموعة من الفنانين الأمريكيين برئاسة وليام دياتيرل إلى القاهرة، كانوا قد جاءوا لتصوير المناظر الخارجية لفيلم مأخوذ من الإنجيل فى ذلك الوقت كان الإنجيل مصدر إلهام رئيسى لصناع السينما فى كل مكان وكان إسم الفيلم "يوسف وأخوته" بطولة النجمة العالمية ريتا هوارث، وشاهد وليام دياتيرل صور وإعلانات فيلم "صراع فى الوادي" فأحب أن يتعرف على السينما المصرية، فشاهد الفيلم، وخرج وهو معجببى إعجابا شديدا

وبحث عنى وأرسل فى طلبي، وعلمت من مساعده أننى أمامى فرصة كبيرة لخوض تجربة التمثيل فى السينما العالمية من خلال دور "يوسف" بطل الفيلم ودخلت وتحدثت مع دياتيرل، وأعجب بنطقى وحديثى للغة الإنجليزية، وسافر بعد أيام ووعدنى أن يرسل فى طلبي

وشاءت الأقدار أن يعرض فيلمى الأول "صراع فى الوادي" فى مهرجان "كان السينمائى الدولي"، وكان الأديب والشاعر وصانع الأفلام جان كوكتو هو رئيس لجنة التحكيم، وكنت قد رأيت أفلامه فى القاهرة، وأعجبت به كفنان وشاعر، وكرجل يستطيع أن يعمل أى شىء جيدا، وأحسست بالسعادة عندما قدمونى إليه، تكلم معى كصديق، ونال دورى فى الفيلم إعجابه الشديد
وكانت القواعد فى "مهرجان كان" تنص على عرض أفلام الدول النامية فى دور سينما صغيرة وفى حفلات بعد الظهر، لكن كوكتو تدخل وحدد لفيلم "صراع فى الوادي" حفلا مسائيا فى دار كبيرة فى أول شهر مايو، وصادف هذا اليوم أيضا أن يكون يوم مهرجان الزهور فى الريفييرا الفرنسية، وكان معنى ذلك أن تتزين واجهة دار السينما بالورود، وبالفعل زينت السينما وحضر العرض نجوم عالميون، مثل ماريا فيلكس، دانيال جيلين، موريس رونيه وغيرهم، ولأول مرة كنت أرى نجوم السينما العالميين بدمهم ولحمهم، واستقبل الفيلم استقبالا حسنا من المحكمين وتناقشوا حول إعطائى جائزة أحسن ممثل لكن فى النهاية صوتوا ضد ذلك
!

وعندما عدت إلى القاهرة وجدت برقية من هوليوود بموافقة منتج ومخرج فيلم "يوسف وأخوته" على قيامى بدور بطل الفيلم "يوسف" أمام "ريتا هيوارث" حلم الشباب وأنا واحد منهم فى هذا الوقت، وشعرت بسعادة غامرة، وبدأت أستعد للسفر إلى هوليوود، لكن تأتى الرياح بما لا تشتهى السفن، ففى هذا الوقت كانت "هيوارث" قد وقعت فى غرام الفنان "ديك هايميز" وذهبت وراءه إلى المكسيك غير مبالية بالفيلم ولا بدور "زوجة العزيز" فتوقف إنتاج الفيلم وطار حلمى بالسينما العالمية! ورغم هذا لم أحزن أو أحبط كنت متوقعا أن القدر يخبئ لى شيئا جميلا.

 

####

 

"هاملت" سبب موافقة فاتن حمامة ليمثل أمامها

المصدرالأهرام اليومى

كان فيلم "صراع في الوادي" الذى عرض عام 1954 من إخراج يوسف شاهين هو أول أفلام عمر الشريف في السينما المصرية، وعن ظروف اختياره لهذا الفيلم يقول نجمنا الراحل: كانت تربطني بالمخرج يوسف شاهين علاقة صداقة وطيدة من أيام الطفولة، لقد كنا في فصل واحد فى المدرسة الإنجليزية، ونحن ننتمي إلى عالم المسيحية اللبنانية، وعندما سافر شاهين إلى أمريكا ليدرس تكنيك السينما بدا لي أن طريق كل واحد منا اختلف عن الآخر، حيث كان والدى يحلم بأن أصبح مثله رجل أعمال وأعمل في مجال تجارة الخشب مثله

لكنني قابلت يوسف بعد عودته من أمريكا ولم تتأثر صداقتنا بسنوات الغياب التى ابتعدنا فيها عن بعض وكان أخرج مجموعة من افلامه منها "بابا أمين"، "ابن النيل"، "سيدة القطار" وغيرها وكان في هذا الوقت يحضر فيلمه "صراع في الوادي" وطلب مني أن أقوم ببطولته وكان عمري عشرين عاما، فوافقت، وأجرى لي اختبارا للكاميرا، ورضي عن هذا الاختبار

لكن كانت هناك مشكلة تقف حائلا دون بطولتي للفيلم وهي موافقة بطلة الفيلم الفنانة المشهورة جدا في هذا الوقت فاتن حمامة التى قامت بترشيح زميلي الفنان شكري سرحان لبطولة الفيلم، فكيف يقنعها بأن تقوم ببطولة الفيلم أمام فنان مبتدئ، وعرض عليها الأمر فطلبت أن تراني بعد أن حكى لها شاهين عنى، وعن اللغات التى أجيدها، وعائلتي الثرية الكبيرة
ودعتني على فنجان شاي في بيتها، وكنت خالي الذهن تماما عما تريده، فسألتني عن إمكانية تمثيل مشهد أمامها، فصدمت حيث لم أكن أحضر أي مشاهد، وتوقعت أنها تريد أن تراني فقط، وجاءتني فكرة جهنمية، فبدأت أمثل أمامها مشهدا من مسرحية "هاملت" لشكسبير بالإنجليزية، وأنا أعلم تماما من خلال متابعتي لأخبار الفنانين فى الجرائد والمجلات أنها لا تعرف كلمة واحدة من هذه اللغة وأنها لن تعترف بذلك، وأنصتت إلي بإهتمام، وبعد انتهائى من المشهد قالت ببراءة شديدة هايل يا أستاذ واضح إنك متمكن! ووافقت على بطولتي للفيلم
.

 

####

 

سر رفضه أن يصبح ابنه طارق نجما عالميا

المصدرالأهرام اليومى

من الأفلام التى تمثل علامة مضيئة فى مشوار عمر الشريف الفيلم العالمى "doctor zhivag" دكتور زيفاجو، وأثناء تصوير هذا الفيلم رفض أن يصبح ابنه طارق نجما عالميا، كيف حدث ذلك يقول عمر الشريف فى مذكراته التى نشرت فى كتاب باللغة الإنجليزية بعنوان "الرجل الخالد" والذى قام بترجمته الكاتب عبدالمنعم سليم عام 1988

يعتبر دورى فى فيلم "دكتور زيفاجو" الذى قمت ببطولته عام 1965 أكثر الأدوار إثارة وتحديا، اثارة لأننى عشت الشخصية من الأول إلى الآخر من بدايتها إلى نهايتها، وذلك من خلال ابنى طارق الذى لعب دور طفولة زيفاجو، ولقد طلب منى المخرج "دافيد لين" أن يمثل طارق الذى كان يبلغ من العمر سبع سنوات فى هذا الوقت الدور، فرفضت فى البداية ورفضت والدته السيدة فاتن حمامة. ولم يكن طارق وحتى الآن يشبهنى فى الشكل إلى الدرجة التى يمكن أن يقول الناس فيها: هذا ابن عمر الشريف، فالشبه بينى وبين طارق ليس جسديا ولكنه يشبهنى فى طريقة التفكير، وطريقتى فى الكلام، وطريقتى كإنسان

وبعد إلحاح من دافيد وافقت بشرط ألا تنشر صور لابنى فى الجرائد أو المجلات العالمية، حيث أردته أن يعيش حياة عادية، ورفضت أن أجعله مختلفا عن الآخرين، وليس هذا فقط ما طلبه دافيد، ولكنه أصر على أن أقوم بإخراج دور ابنى فى الفيلم حتى لا يشعر طارق بغربة أمام الكاميرا، ويخرج أداؤه بسيطا، وأيضا لأعرف أدق تفاصيل الشخصية من طفولتها، وهذه طريقة رائعة لفهم الشخصية، من وجهة نظر دافيد لين، وأن أشرح أفعال زيفاجو الصغير لابنى فإننى سأصل بذلك إلى مرحلة نضج زيفاجو من رأسه حتى قدميه

وبعد مجهود كبير استطاع طارق أن يقلد حركاتى التى علمته أياها، وحركة جسدى، ويستوعب أدق التفاصيل الدقيقة فى السيناريو والحوار، ونجحت فكرة دافيد، فعندما كنت أدير طارق فى الاستديو بناء على توجيهات " لين"، كان يسمع كلامى ويعيد دون غضب أو ضيق، وكان يشعر بأننا فى منزلنا وبالتالى خرج أداؤه بسيطا واثقا كأنه ولد ممثلا، وأن هذه التجربة ليست الأولى له. وعرض الفيلم ولفت طارق انتباه صناع السينما فى هوليوود وأقبلوا عليه يريدون التعاقد معه، وبعضهم أحب أن يجعله بطلا مطلقا على غرار تجربة الطفلة المعجزة شيرلى تمبل، لكنى رفضت كل العروض التى وصلت إليه، لأنها كانت ستصرفه عن متابعة دراسته. فيلم "دكتور زيفاجو" تدور أحداثه حول قصة طبيب جراح مشاعره متعلقة بين امرأتين، وهو من إخراج ديفيد لين، وبطولة عمر الشريف وجولى كريستى وجيرالدين شابلين ورود ستيجر وإليك جوينيس.

 

####

 

عمر الشريف أنشودة خلود مصرية لا تموت

بقلماحمد السماحى

المصدرالأهرام اليومى

الأساطير لا تموت ولا ترحل عن عالمنا أبدا، بل تظل حية راسخة فى وجداننا بما تركته فى نفوسنا من أثر وقيمة، ولأن الفنان العالمى عمر الشريف كان ممثلاً ساحرا بشكل خاص ومؤثرا ورومانسيا فى الحياة العادية كما هو على بلاتوهات السينما، فقد تحول إلي أنشودة خلود فرعونية مسكونة بسحر الشرق، وببريق موهبة أخاذة غدا فتى أحلام السينما العالمية، وأصبح واحدا من أساطير الفن المصري والإنسانى كله

لم يختر يوما الجلوس أو التربع على عرش العقول والقلوب علي امتداد العالم بأثره، فالجماهير هى من اختارته بملء الإرادة ليتحول من مجرد فنان بسيط سلس الأداء، رائع الحضور، إلي ظاهرة فنية مصرية غير مسبوقة فى سجل الفن العالمى

كان حلم الفتيات فى زمن الأبيض والأسود. وظل طيفا يطارد العذارى فى صحوهن ومنامهن، من خلال إطلالته السحرية بمجرد أن تعيد الفضائيات أحد أفلامه المصرية أو الهوليودية، وعلي الرغم من ظهور أجيال وأجيال من رواد الفن السابع ممن تميزو بالوسامة والحضور وترك مواطن البهجة والشجن المحبب في النفوس، إلا أن إطلالة "الشريف" ظلت طاغية وقادرة على انتزاع الهتاف المدوي، والدليل أن سيدات الماضي مازلن يتندرن بمآثره ويتباهين به أمام بناتهن وأحفادهن قائلات بفخر: "لقد عشنا زمن عمر الشريف"!

ولسنوات قادمة ستظل ملامحه الوسيمة التى تتلخص فى عينين ساحرتين عنوانا للرومانسية ورمزا للرجولة وبساطا مفروشا بالورود على طريق الحلم الرومانسى الجميل، ولأن مشواره الفنى والإنسانى حافل بالعديد والعديد من المشاهد والمشاعر التى تركت لنا حياة عريضة تتدفق بالحب والحيوية التى جسدت سحر الشرق فى نجم جاب الآفاق ليصنع المستحيل ويكتب شهادة تفوق وجدارة الفنان المصرى فى المحافل الدولية، لذا ينبغى علينا أن نتوقف عند بعض تلك اللقطات المؤثرة في شريط حياته الفنية والإنسانية، فتعالوا بنا نقلب ونستعرض بعضا من إبداع الأسطورة المصرية عمر الشريف.

 

الأهرام اليومي المصرية في

17.07.2015

 
 
 
 
 
 
 

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك © 2004