ملفات خاصة

 
 
 

عمر الشريف..

الوطأة الثقيلة للنوستالجيا

محمد فاضل العبيدلي

عن رحيل الأسطورة

عمر الشريف

   
 
 
 
 
 
 

توفر لنا لحظة التفكير في وفاة عمر الشريف فسحة للنوستالجيا، وما من شك أن من رثاه بتدوينة على موقع «فيسبوك» أو أي وسيلة أخرى قد لا يكون منجذباً للشهرة التي أحاطت به ولا لوسامته الأخاذة فحسب، بل إن استذكار الشريف وبتأثير اللحظة الراهنة فقط يبدو حنيناً مكتوماً لتلك الأزمان التي خلدتها أفلامه، وصورة احتجاج آخر لواقع راهن بلغ مداه في الوطأة الثقيلة.

هكذا، وجدت نفسي وأنا أستعيد تاريخ عمر الشريف الفني متوقفاً أمام ثلاثة أفلام هي من أفضل ما شاهدت له مطبوعة في الذاكرة: «بداية ونهاية» للمخرج الراحل صلاح أبوسيف والمأخوذ عن رواية لنجيب محفوظ بنفس الاسم.

«لورانس العرب» المأخوذ عن مذكرات واحد من أبرع الضباط الإنجليز في ذروة التوسع الاستعماري لبريطانيا، توماس إدوارد لورنس عن الثورة العربية، وأخيراً «دكتور جيفاغو» المأخوذ عن رواية للروائي الروسي بوريس باسترناك وكلا الفيلمين من إخراج الانجليزي ديفيد لين، واحد من أفضل مخرجي السينما العالمية.

لا تكف المفارقات عن الظهور في كل لحظة استدعاء لمشهد أو آخر من تلك الأفلام. فمشاهد فيلم «لورنس العرب» والمسيرة الطويلة نحو دمشق ودخول الجيش العربي لها، وتتويج الملك فيصل ملكاً على سوريا، ستعيدنا وبشيء من القسوة إلى واقع راهن تبدو سوريا فيه برسم التقسيم إلى دويلات طائفية.

سيستوقفنا بالتأكيد ذلك الحوار الملهم في الفيلم بين لورنس والجنرال اللنبي بحضور الملك فيصل الأول بعد دخول دمشق، عندما قرر الجنرال اللنبي إعفاء لورنس من الخدمة.

في المشهد، ينوه اللنبي بخدمات لورنس ويبلغه بأنه قد تمت ترقيته إلى رتبة عقيد ستتيح له غرفة خاصة في باخرة العودة للوطن. وأمام الاحتجاج الصامت الذي يبديه الضابط الشاب، يتدخل الملك فيصل ليواسيه: «الحرب للشباب، لذا فهي تحمل كل فضائل الشباب، أما السلام فيصنعه كبار السن لهذا فهو مليء برذائل كبار السن».

سيعيدنا هذا الحوار دون شك إلى حرب ينخرط فيها الشباب منذ أربع سنوات، تقل فيها الفضائل إلى أدنى حد، بل إنها تنعدم في الغالب الأعم وسيدفعنا للتساؤل عن كبار السن الذين يتعين أن يصنعوا السلام ولو طبعوه برذائل كبار السن وميلهم للتسويات.. أين هم؟

مع موسيقى موريس جار، يبدو فيلم «دكتور جيفاغو» رواية بصرية ساطعة وأخاذة، لكن هذه الرواية المتمحورة حول مصير الفرد في أزمان الثورات والتحولات الكبرى، ستدفع إلى أذهاننا صورة مشوهة للغاية بعد 98 عاماً.

لقد كانت روسيا تنهبها المجاعة والبؤس في سنوات حربها الأهلية (1918-1921) كما سجل التاريخ والفيلم وثمة ما سيعيدنا بقوة إلى هذا المصير مع رقم قياسي جديد: أربعة ملايين لاجئ سوري هو الأكبر منذ الحرب العالمية الثانية. رقم ليس فيه أي مدلول يشي بفخر من أي نوع ولا بالحدود الدنيا. وقبل ثلاث سنوات كان من الممكن أن نجد من يقول إن الكلف البشرية ثمن الثورة ضد الاستبداد، لكن يصعب اليوم أن يتجرأ أحد على قول ذلك.

أما فيلم «بداية ونهاية» الذي تدور أحداثه في الثلاثينات من القرن الماضي، فسوف يثير نوازع حنين لا حد لها لأجيال عدة دون ريب، الحنين الذي يترجمه اليوم بعض التذكير من بعض الأفراد بالصور الزاهية لمصر أيام الملكية في مقارنة تنطوي على حسرات مع واقع أليم تعيشه مصر.

ذلك الفتى المغرور حسنين ابن العائلة الفقيرة المسكون بالقيم الطبقية مثلما أداه عمر الشريف في الفيلم ومصيره الذي دفعه للانتحار بعد صدمته في شقيقته التي ظلت تنفق على متطلباته المظهرية الكاذبة، سيذكرنا بشباب ينتحرون وهم يتحزمون بالمتفجرات لقتل أناس من بني جلدتهم ولا يهم إن كان ذلك في الأسواق أو الشوارع أو المساجد.

ثمة فارق مؤكد بين كلا نوعي الانتحار، ففي الفيلم صدم الضابط الشاب المسكون بهواجس الترقي الاجتماعي بفضيحة شقيقته التي ظلت تنفق عليه بتضحيات سنوات طوال إلى أن زينت النجوم كتفيه بالبدلة «الميري»، لقد قرر أن يعاقب نفسه بالموت لأن أنانيته تحطمت.

أما هؤلاء الذين يتحزمون بالمتفجرات فيأتون من أسر مستقرة بل وميسورة يقررون فجأة بدافع من فهم مشوه للعقيدة أن يقتلوا غيرهم من أبناء جلدتهم في وضع تدبره الصدفة العبثية وحدها. تلك مأساة صنعها الفقر كما في الفيلم وزمنه الذي يحكي عنه، أما مآسي اليوم فلا دافع لها سوى العبث والعدمية.

وثمة فارق آخر تستدعيه المقارنات التي لا تنتهي: ففي الوقت الذي خرجت فيه هذه الأفلام أي ستينات القرن الماضي، كان كل شيء يبدو حقيقياً وغير مصطنع حتى أسوأ ما في تلك الأزمان. أما اليوم فيداخلنا إحساس لا فكاك منه بأن كل ما يجري فيه قدر هائل من الزيف والاصطناع والخديعة ولكأننا نعيش وسط غابة من المرايا.

وسواء تعلق الأمر بالسينما التي ذكرنا بها موت عمر الشريف وسامي العدل أيضاً، أم بالتاريخ الذي تسجله، فإن مقارنات لا مناص منها كهذه، جديرة بأن تدفعنا للتساؤل عميقاً عما إذا كان يتعين علينا لا التفكير فيما تغير فحسب، بل التساؤل عن ساعة الجسارة التي ننتظرها لتغيير هذا الواقع الذي يفرض علينا أن نسير من خسارة إلى خسارات للإنسان والأوطان.

* كاتب ومستشار إعلامي

m.alobaidley@gmail.com

 

البيان الإماراتية في

17.07.2015

 
 
 
 
 

الرسول المخذول

فاضل الكواكبي

في رحيل عمر الشريف، كما في كل رحيلٍ لمبدعٍ بارز، تميل الكتابات إلى الرثاء والذكريات والمعلومات المستعادة، وتبتعد إلى حدٍ أو آخر عن «التحليل»؛ ويقترح كاتب هذه السطور نوعاً من الاستعادة التاريخية ـ النقدية لمسار ممثلٍ كان الضجيج الإعلامي الذي رافقه ـ بعد ما سمي خروجه إلى العالمية ـ يتوجّه في معظمه إلى حالةٍ استثنائية لنجمٍ سينمائي عربي انطلق نحو السينما الغربية؛ ليعيش على هوامشها وفي يومياتها الاجتماعية أكثر مما فعله مع متنها السينمائي؛ هذه الهوامش واليوميات هي التي شكلت المادة الأساسية لهذا الصخب الإعلامي؛ أكثر مما شكلته إنجازاته السينمائية في الغرب؛ كما أن هناك صخباً آخر أثاره وجوده في الغرب عند منابر إعلامية عربية ذات توجه قومي أو يساري مدرسي؛ إذ انشــغلت هذه المنابر بعلاقاته الشخصية والسينمائية مع فنانين يهود ذوي ميول صهيونية كـ «بربارا سترايسند»، لكن هذه الكتابات سقطت في الفخ نفسه للإعلام الفني الخفيف؛ حيث تعاملت مع «الشريف» كرسول للوطن العربي إلى العالم؛ فكرّست الفكرة المخاتلة عن نجوميته العالمية.
كان «عمر الشريف» نجماً في السينما العربية والغربية، لكنه لم يكن أبداً ممثلاً مهماً سوى في أفلامه المصرية؛ وهذا ما سأوضحه هنا؛ فعندما جاء ديفيد لين إلى مصر ليختار ممثلاً لفيلمه «لورانس العرب ـ 1962» وقع الاختيار على رشدي أباظة الذي لم يتم التفاهم معه؛ فعُرض عمر الشريف على «لين» الذي أعجبه واختاره لدور «الشريف علي»؛ ما الذي أثار اهتمام «لين» بـ«الشريف»؟ هل هي سماته (الفيزيكية)؟ هل هي إجادته للغة الإنكليزية؟ أم هو أسلوب الأداء الغربي لديه؟

هذا كله وارد، ولكن الأهم أن «الشريف» كان نجماً مصرياً وممثلاً محترفاً عمل في أفلام لكبار المخرجين، إبان الذروة الأولى للسينما المصرية التي تلت ثورة يوليو 1952؛ من هنا يجب علينا التساؤل عن السبب الذي حدا بالمخرجين المصريين إلى اختياره ممثلاً أول في سينماهم الآخذة بالنضوج السريع.

كان «الشريف» ابن الاسكندرية التي تعيش حالة كوسموبوليتية وتنتشر فيها أنماط عيش غربية مندغمة إلى حدٍ ما بنسيج المدينة؛ هذه الأجواء امتلأ بها شبانٍ يحبون العيش الممتع؛ ويحلمون بالسينما كشكلٍ من أشكال هذا العيش؛ واختيار بعضهم لأفلامٍ تعبّرُ عن خطابٍ مضادٍ إلى حدٍ كبير لنمط تفكيرهم؛ قد تم لأن السينما المصرية الرفيعة آنذاك؛ كانت تحتاج إلى وجوه شابة يقوم المخرجون بزجها في نسيجهم السينمائي الجديد.

الرومانسي
وقد نجح «الشريف» عندما أعطاه يوسف شاهين دور بطولة في فيلمه «صراع في الوادي ـ 1954» في الانتقال إلى أداء واقعي كلاسيكي. بدأ «شاهين» يصنع ملامحه السينمائية آنذاك؛ لينتقل «الشريف» بعدها إلى أفلام ذات مذاهب متنوعة، منها الرومانسي مع عز الدين ذو الفقار والواقعي الطبيعي مع عاطف سالم، والواقعي الصارم مع هنري بركات.

لقد نجح السينمائيون المصريون في نهاية الخمسينيات بداية الستينيات بالوصول بأفلامهم إلى ذروة متعددة المناهج والصيغ ومكتملة الحرفية؛ وكان (عمر الشريف) إحدى علامات هذا النجاح؛ فابن الطبقة البرجوازية الاسكندرانية المتفرنجة؛ قدّم بإقناعٍ عالٍ دور البحار والفلاح والطالب الفقير والصعيدي.. إلخ؛ ولكنه أضفى عليها أيضاً مسحةً رومانسيةً كانت مطلوبة بقوة عند مخرجي هذه الأفلام لتوظيفها في سيــاقات سينــمائية خاصة بهم؛ ففي فيلم «نهر الحــب ـ 1960» لعز الدين ذو الفقار المأخوذ عن «آنا كارنينا» لتولستوي؛ لعب «الشريف» دور الضابط الأرستقراطي الثوري في آن؛ الثائر على الباشــا الإقطاعي «زكي رستم»، والعاشق لزوجته «فاتن حمامة».

هذا المزج الغريب بين الأرستقراطية والثورية ليس في الواقع غريباً البتة؛ فالأدب الروسي الرومانتيكي الثوري؛ كان نشأ على يد ضباط أرستقراطيين؛ فهل يمكننا أن ننسى غريباييدوف.. بوشكين، ليرمانتوف؛ وحتى تولستوي في بداياته؟ لقد استطاع «ذو الفقار» أن يؤقلم ببراعة النص الكلاسيكي؛ فأضاف في الفيلم إلى الشخصية الأصلية التي لعبها «الشريف» عن رواية تولستوي المعروفة، بعداً جديداً هو جزءٌ لا يتجزأ من خطاب رومانسي ثوري؛ كان «ذو الفقار» أفضل من صنع أفلامه.

مرةً أخرى أضفى «الشريف» مسحته الرومانسية على تحفة هنري بركات في فيلمه «في بيتنا رجل ـ 1961» حيث أدّى شخصية ثائر محترف معادٍ للاستعمار الإنكليزي والسلطة الملكية؛ ورغم أن فيلم «بركات» كان عملاً شديد الصرامة والعقلانية سينمائياً؛ إلا أن وجود (الشريف) في هذا الدور خفف من وطأة تلك الصرامة؛ فقد بدا هنا عنيفاً وغاضباً؛ لكنه في آن واحد حالماً وعاشقاً وقابلاً للكسر.

لكن ماذا عن أدائه الكوميدي في فيلم فطين عبد الوهاب «إشاعة حب ـ 1961»؛ فلقد اشتهر (عبد الوهاب) بأنه أحد أهم مَن صنع سينما كوميدية بحتة؛ ولكن سينماه ـ خاصةً في الستينيات ـ لم تتكئ على ممثلين كوميديين؛ وإنما على سياق سينــمائي كوميدي. من هنا غاب الممثلون الكوميديون عن «إشاعة حب» ليحضر ممثــلون دراميون حوّلهم «عبد الوهاب» إلى ممثلين ساخريــن من الدرجة الأولى؛ خاصةً عندما نعرف أن (الشريف) لعب في هذا الفيلم دور المهندس الخجول والطهراني، فكان أداء «الشريف» لهذا الدور مفاجئاً عنــدها؛ لكــن المخرج استطاع أن يوظّف إمكاناته الأدائية توظيــفاً دقيقاً؛ وذلك عندما خلق مفارقة بين السمات الفيزيقية لبطله؛ وبين خجله وطهرانيته وتعثّره.

هوليود
كان «لورانس العرب» إذاً هو جسر «الشريف» للانتقال إلى هوليود أو الغرب؛ فهذا الشريط تحفة تنتمي إلى ذروة التيار الاستشراقي الكولونيالي في سينما الغرب؛ وهذه الذروة صنّعتها روحٌ بريطانية؛ كما في الأدب عند (كيبلنغ) أبرز من كتب بنبرة الاستشراق في القرن التاسع عشر؛ لكن هذه الروح بدأت تتضاءل مع دخول الأميركان على خط هذا التيار؛ وإضفاء مزاجهم عليهم، مما دفعه في مساراتٍ أخرى.

عاد «الشريف» للعمل مع «لين» في «دكتور زيفاغو ـ 1965» وهو ذروة أخرى من ذرى سينما الحرب الباردة؛ فكان ما أنجزه «الشريف» على مستوى الأداء في هذا الفيلم هو الحد الأقصى الذي يمكن الوصول إليه. فيما بعد انخرط «الشريف» طوال الستينيات والنصف الأول من السبعينيات في أداء أنماطٍ متقاربة من أفلام الصف الأول والثاني لمحترفي صنع ما سُمّي وقتها «أفلام النوع» وهي أفلام خفيفة على العموم؛ وبعضها رديء.

وكانت هذه الأفلام ـ رغم مشاركة الإنتاج الأميركي فيها ـ ذات طابع كوني له صبغة أوروبية؛ وهذا الطابع غازلته وروّجت له هوليود في الستينيات وأوائل السبعينيات؛ وقد وجد «الشريف» مكاناً له في هذه الأفلام؛ تحديداً في دور «الجيغولو» المتنقل في مغامراتٍ مشوّقة ساخرة أحياناً؛ أيروتيكية أحياناً أخرى مليئة بالمغامرة والجمال البراني.

في نهاية السبعينيات سحبت هوليود هذا الخطاب من التداول المأخوذ بأوروبا والمتعامل مع بلدان الشرق والجنوب بعقلية استشراقية بريطانية؛ عائدةً إلى مادتها الأميركية الصرف؛ كما أن مخرجيها أصبحوا يصنعون الأفلام ذات المادة الأوروبية أو الشرقية أو الأميركية اللاتينية في سياقٍ سينمائي لا يخضع لسحر أوروبا المؤمرك؛ لذا لم يعد لـ «عمر الشريف» مكان في هذه السينما الأميركية الصافية على تعدد مستوياتها ومشاربها؛ فحضوره لم يكن يوحي إلا بنمط ممثل هو خليط من الأوربية ـ شرق أوسطية، ليصبح هذا النمط بعيداً عن التداول.

عندما عاد «الشريف» إلى مصر أوائل الثمانينيات؛ كانت عودته إلى السينما المصرية شديدة الصعوبة؛ كونه ابتعد عن سياقات تطورها مدةً طويلة، فلم يجد فيه مخرجوها الجدد ذاك النجم الذي بلغ من العمر عتياً؛ والذي يمكن إعادة اكتشافه؛ ورغم ذلك أقدم «هاني لاشين» وهو مخرجٌ دعي؛ ذو طموحات أكبر من إمكاناته على تقديم «الشريف» بدور البطل في فيلميه «أيوب ـ 1983» عن قصة لنجيب محفوظ، و «الأراجوز ـ 1989» ولكن الشريف لم ينجح في الفيلمين، فالفيلم الأول تطلّب ممثلاً ومخرجاً أكثر أهمية بكثير من صانعيه؛ أما الثاني فكان أكثر نضجاً؛ لكن «الشريف» لم يستطع أن يكون مقنعاً في دور لاعب الأراجوز الريفي؛ وبدت سمات التمصّر واضحةً عليه.

النجاح الوحيد للشريف بعد عودته كان فيلم «المواطن مصري ـ 1991» لصلاح أبو سيف المقتبس عن رواية ليوسف القعيد؛ ورغم أنه أدى في هذا الفيلم دور الفلاح الثري «العمدة» إلا أن «أبو سيف» استطاع أن يوظف بقايا أرستقراطية الأداء عند «الشريف» في تقوية حالة الصلف والتعالي التي مارستها الشخصية على الفلاح الفقير؛ الشخصية التي أدى دورها بامتياز الممثل الكبير عزت العلايلي.

لاحقاً وبعد عملين للسينما وعمل تلفزيوني كانت كلها غير ذات أهمية، توقف «الشريف» عن العمل؛ إلى أن رحل عنا مؤخراً.

إن مغادرة عمر الشريف للسينما المصرية أوائل الستيــنيات لم تكــن رحــلةً إلى العالمية؛ بقدر ما كانــت رحلة إلى نمطٍ من الحياة كان يعشقه بهــوس، وأظن أن عيش هذا النمط كان أهم بالنسبة إليه من أن يصبح رسولاً للثقافة المصرية والعــربية؛ هذه الثقافة التي كان «الشريف» بعيداً كل البعد عن أسئلتها وإشكالياتها؛ ليظل كذلك حتى النهاية.

(ناقد سوري)

 

####

 

ظلمناه حياً وأنكرناه ميتاً

طارق الشناوي

نردّد في المثل المصري الشائع «اللي مالوش كبير يشتري له كبير» ولم تكن قبيلة السينمائيين في مصر تحتاج إلى كبير ولديها عمر الشريف يقف في مقدمة الصف.

ورغم ذلك عندما رحل الكبير والذي كان العنوان المضيء لفن التمثيل العربي، تقاعسوا عن المشاركة في وداعه في الجنازة، وعندما أتيحت لهم الفرصة مجدداً لتدارك الأمر في سرادق العزاء الذي أقيم مساء يوم الأربعاء الماضي لم يكن الحضور موازياً لقامة عمر الشريف وقيمته. مَن الخاسر؟ بالتأكيد ليس عمر، ولكنهم هم الخاسرون، فهم الذين كانوا بحاجة إلى الاقتران باسم عمر الشريف.

ليس جديداً أن نقول إن الشريف سواء كنت مصريا أم عربيا، فهو ينتمي لك، لا أتحدّث عن جذور عمر اللبنانية فليست هذه هي القضية سواء أكان مصرياً خالصاً أم لديه تلك الجذور العائلية، ولكن كل مَن يسافر خارج العالم العربي من المؤكد يكتشف أن أسم عمر الشريف هو مفتاح السر الذي يتردّد بمجرد أن يعلموا أنك عربي، تلك هي المكانة الاستثنائية التي حققها لنا عمر.
بعد الرحيل كثيرون أعلنوا أنه كان صديقاً لهم وبعضهم أضاف الكثير من الحكايات المشتركة وبالمناسبة لا أدّعي صداقة بعمر، ولكني أجريت معه حوارين شاملين أحدهما العام 98 ونشرته على صفحات مجلة «روزا اليوسف» المصرية والثاني قبل 6 سنوات ونشرته في مجلة «الرجل» السعودية. التقيته مرات عديدة داخل مصر وخارجها مثلاً في مهرجان «كان « قبل عشر سنوات وكان موقفاً ظريفاً عندما صعد سلم قاعة «لوميي» وهو المكان الرئيسي والرسمي لحفلات وعروض المهرجان فوجد امرأة بارعة الجمال تريد أن تتأبّط ذراعه وكان وحيداً فلم يجد بأساً من ذلك ورغم أنه لم يكن يدري من هي تلك الحسناء، إلا أنه بعد وصل إلى أعلى السلم ونظر حوله لم يعثر لهذه المرأة على أثر يذكر «فصّ ملح وداب»، وعلم بعد ذلك من أصدقائه الذين شاهدوا الصور أنها هيفاء وهبي التي اكتشفت أن الكاميرات ستتوجّه إليها لو أنها تأبّطت الشريف، الواقعة الثانية في مهرجان «فينسيا» العام 2009 عندما عرض فيلم «المسافر» في المسابقة الرسمية للمهرجان، وعمر له حضور قوي في إيطاليا وسبق وأن حصل على تكريم «الأسد الذهبي» عن مجمل أفلامه من هذا المهرجان العريق، وكان عمر سعيداً بالمشاركة في المهرجان بفيلمه الذي أنتجته وزارة الثقافة المصرية وحضر بالفعل المؤتمر الصحافي الذي أقيم صباحاً للفيلم ولم يكن قد شاهده بعد، فقال رأياً إيجابياً في حق «المسافر»، ولكنه عندما شاهده في المساء استمعنا إلى صوته المليء بالغضب أثناء العرض بعد الانتهاء لم تترك فضائية عربية أو أجنبية إلا وهاجم الفيلم بكل لغات العالم ولم يسلم البطل المشارك له خالد النبوي من هجومه، حيث أنه فوجئ بأن النبوي يقلّده في الجزء الثاني من الفيلم الذي ينطوي بناؤه الدرامي على ثلاثة أجزاء مرتبطة بالمرحلة العمرية للبطل، لعب الشريف بطولة الجزء الثالث، الفيلم خيّب آمال الشريف وآمال الكثيرين لضعف مستواه، أما ثالث مرة رأيته فيها خارج مصر فكانت في مهرجان «الدوحة ترايبكا» العام 2011 عندما التقطته مذيعة تليفزيون «الحرة» عائشة الدوري العراقية الجنسية، تريد أن تلتقط معه صورة فوتوغرافية وكان عمر قد طلب منها أن تنتظره قليلاً وأمام إلحاحها الزائد فقد أعصابه وصفعها على وجهها، والغريب أنها لم تغادر المكان وأصرّت على أن تلتقط معه الصورة
.

علامات إنسانية

كانت هذه الواقعة تحديداً هي التي نبّهت ابنه طارق إلى أن عمر في حالة نفسية وعقلية غير متوازنة، برغم أن عمر بعدها شارك في الفيلم المغربي «روك القصبة» للمخرجة ليلي مراكشي مؤدياً دور «مولاي حسن» المتوفى والذي كان يُطل على المشهد من العالم الآخر، العام 2013 وقبلها بثلاثة اعوام كان يؤدي دور مريض بالزهايمر في الفيلم الفرنسي «نسيت أن أقول لك»، وكأن شريطه السينمائي يسبق قليلاً شريط حياته.

عندما تلتقي عمر تكتشف أن آخر ما يعتقده أو يفكر فيه هو أنه عمر الشريف، فهو لا يشعر أبداً انه قد حقق شيئاً يستحق ما وصل إليه من حفاوة في العالم كله، أينما حل دائما لديه من التواضع الكثير، ورغم ذلك اتهمه البعض زورا بالغرور والتعالي، بينما كان الاتهام الأكثر ضراوة الذي نال من وطنيته، لم يكن عمر سوى إنسان أحب بلده ولم يحمل في جيبه سوى جواز سفر واحد فقط وهو المصري، وعندما حاولت المخابرات المصرية استقطابه لكي يعرف مكان والد فنانة مسرح لبنانية كانت بالفعل شابة وجميلة في الستينيات ولا تزال محتفظة بجمالها حتى الآن، كان والدها عضواً في حزب سياسي سوري متهم بمعاداة توجّهات عبد الناصر، ولكن عمر انتصر لإنسانيته وعلى العكس طلب منها أن تُخبر والدها حتى ينجو بحياته لأن المطلوب تصفيته، من قبل المخابرات المصرية. أتمنى أن تعلن فنانة لبنان الشهيرة تلك التفاصيل ولحساسية القضية لم أذكر اسمها.

عمر الشريف له علامات سينمائية لا تُنسى، وله علامات إنسانية جديرة بالتذكّر والتأمل، أحبّ وطنه وتحديداً الفقراء بقدر ما أحبّ الإنسان «إللي ملوش عنوان».

(ناقد مصري)

 

السفير اللبنانية في

17.07.2015

 
 
 
 
 

بعكس ما أشيع عنه.. عمر الشريف طالب حازم ورياضي ناجح

بحث جديد كشف أن سنوات دراسته في «فيكتوريا كوليدج» جمعته مع المفكر الفلسطيني الراحل إدوارد سعيد

القاهرة: داليا عاصم

رحل الفنان عمر الشريف تاركا إرثا سينمائيا ضخما وجماهير عريضة حول العالم من المحبين والمعجبين. شهرته كشاب وسيم ونجم عالمي أعطت الكثير من محبيه انطباعا بأنه كان شابا مشاغبا أو دنجوانًا، لكن أثناء البحث في تاريخ المدرسة الإنجليزية «فيكتوريا كوليدج» بالإسكندرية لإعداد كتاب عنها تم اكتشاف العكس تماما.

كان دنجوان السينما المصرية والعالمية (ميشال ديمتري شلهوب) المولود في 10 أبريل (نيسان) 1932 كما هو مدون في سجلات المدرسة، طالبا أنيقا ومهذبا جدا وصارما جدا، وكان من عائلة شامية كاثوليكية، وكان من أكثر الطلاب احتراما وتفوقا، وكان قائدا لطلبة الكلية كلها وجميع طلابها Head boy، وله صلاحيات المدير كي يعاقب ويحاسب الطلاب المشاغبين. وظل طوال سنوات دراسته بها من أكثر الطلاب تفوقا على المستوى الدراسي وعلى المستوى الرياضي، بل كان أشهر قائد طلاب في تاريخ المدرسة.

كان عمره 10 سنوات حينما التحق بفيكتوريا كوليدج وكان بدينا، وكان هذا هو السبب الرئيسي في قرار والدته إلحاقه بالقسم الداخلي للكلية؛ إذ إنه لم يكن يستجيب لوالدته في تنظيم الوجبات، لذا أدخلته والدته فيكتوريا كوليدج لنظامها الإنجليزي الصارم ووجبات الغذاء المقننة للطلاب وصرامتها في التزام الطلاب بممارسة الرياضة مثل الكليات العسكرية حاليا، لذا فقد ميشال وزنه بسرعة. ويقول عمر الشريف: «والدتي كانت تعاقبني إن لم أحصل على الترتيب الأول بعلقة ساخنة، لم تكن تقبل مني إلا أن أكون ممتازا في كل شيء».

وكان الشريف يتقن الفرنسية اللغة الدارجة في الشارع المصري آنذاك، وكان يتحدث بها مع والدته في المنزل، لكنه كان يذكر دوما فضل فيكتوريا كوليدج عليه قائلا: «بالفعل تحسنت صحتي النفسية والبدنية، كما أنني أتقنت اللغة الإنجليزية، ولولا ذلك لما سنحت لي فرصة المشاركة في فيلم (لورانس العرب)، ولما عرفت العالمية».

وكان من تقاليد المدرسة الإنجليزية الصارمة كتابة تقارير عن كل طالب لإبراز مدى تقدمه الدراسي ونقاط قوته وضعفه وأهم مواهبه التي ينبغي تنميتها. وفي أحد تقارير المدرسة كتب أن (ميشال شلهوب) طالب جاد وموهوب وله مستقبل باهر في التمثيل المسرحي، وهو رياضي متميز وبارع في كرة القدم والكريكيت.

تفوق عمر الشريف في رياضة الكريكيت الإنجليزية وكرة القدم، وكان اليوم الرياضيSports day في فيكتوريا يعني مباراة شائقة سيكون بطلها ميشال شلهوب الذي كان محل إعجاب من المعلمين والطلاب.

انضم عمر الشريف إلى فيكتوريا كوليدج بالإسكندرية في أواخر ثلاثينات القرن العشرين، وتصادف أنه في ذاك الوقت كان يدرس بها أيضا الفنان الراحل أحمد رمزي والمخرجون الراحلون يوسف شاهين وشادي عبد السلام وتوفيق صالح. وجمع بينهم مسرح الكلية «بيرلي هول» وتفجرت مواهبهم على أيدي المعلمين الإنجليز، حيث كانوا يقدمون مسرحيات شكسبير وأوسكار وايلد وغيرهما. وفي ذاك الوقت توطدت علاقته مع يوسف شاهين وأحمد رمزي.

لكن افترق الثلاثي وقت الحرب العالمية الثانية، حيث اشتدت الغارات الجوية على الإسكندرية، فقررت المدرسة نقل طلاب القسم الداخلي إلى القاهرة. وبالفعل انتقل أحمد رمزي وعمر الشريف مع عدد من طلاب القسم الداخلي إلى القاهرة، وظل يوسف شاهين في الإسكندرية. فقد قام مستر رييد مدير المدرسة الإنجليزي الصارم باتخاذ قرار نقل طلاب القسم الداخلي للقاهرة خوفا على حياتهم من الغارات الجوية والأجواء غير الآمنة في الإسكندرية، وقد انتقلت فيكتوريا لتحل محل المدارس الإيطالية بشبرا، حيث كان كل ما هو إيطالي تحت سيطرة الإنجليز.

وحافظ الشريف على تفوقه الدراسي في فرع فيكتوريا القاهرة، وهناك كان شديد الصرامة مع الفلسطيني الراحل إدوارد سعيد المفكر الكبير فيما بعد، حتى إنه كتب عنه في مذكراته وعن مضايقاته له ورغبة الطلاب في الخروج عن سيطرة عمر الشريف.

فقد انضم إدوارد سعيد لفيكتوريا القاهرة عام 1950، ويصفه سعيد: «مع الوقت صار حضور شلهوب أليفا على نحو مزعج، وقد اشتهر ببراعته الأسلوبية وبتفننه وابتكاره في اضطهاد الصبية الأصغر سنًا».

ومن القصص الإنسانية عن عمر الشريف في سنواته الدراسية أنه كان شديد التواضع محبا للناس، ورغم أن المدرسة كانت لعلية القوم من المقيمين في مصر من 55 جنسية، فإنه كان يلعب الكريكيت مع نجار المدرسة عبد المنعم إبراهيم عبد المتعال، ذلك الرجل البسيط الذي ظل محتفظا بصوره مع عمر الشريف ويوسف شاهين وأحمد رمزي وفاجأهم بصورهم أثناء زياراتهم للمدرسة.

زار عمر الشريف مدرسته أكثر من مرة وكان انطباع الجميع من طلاب ومدرسين أنه كان في قمة التواضع، وكان يضحك على ذكريات الطفولة كلما مر على فصله أو القسم الداخلي الذي كان يقيم فيه، وكانت زيارته لا بد أن تتضمن جلسة طويلة في مسرح المدرسة، وكان يتفقد كل شبر فيه بداية من غرفة الملابس وغرفة الماكياج وكواليسه.

كان عمر الشريف في زياراته للإسكندرية التي نشأ فيها، حريصا على عادة التجول بمفرده، وكان شديد الود مع معجبيه يرحب بهم ويحييهم كأصدقائه أو جيرانه، بعكس ما يشاع عنه.

ويذكر رجل الأعمال السكندري سمير فهمي العلايلي (83 سنة) زميل غرفة للشريف أنه «كان قمة في الأدب والأخلاق ولاعبا ماهرا، ولأنه كان طالبا بالقسم الداخلي فقد تم نقله مع باقي الطلاب إلى القاهرة أثناء الحرب العالمية الثانية، وهناك تزامل مع إدوارد سعيد».

بينما يتذكر رجل الأعمال اليوناني السكندري ميشال ماركو (82 سنة) الفنان الراحل عمر الشريف قائلا: «كان من أشهر من عرفتهم أثناء وجودي في فيكتوريا الإسكندرية ميشال شلهوب، وكان طالبا أنيقا جدا وأصله من عائلة شامية كاثوليكية وليس صحيحا ما كان يشاع عنه بأنه يهودي على الإطلاق، ولما أسلم وتزوج فاتن حمامة طردت الكنيسة الكاثوليكية والده ووالدته من الكنيسة، وأتذكر تلك الواقعة جيدا. وكان من أكثر الطلبة احتراما وتفوقا، لم يكن مشاغبا أو شقيا، بل كان من الأوائل».

أما الأستاذ أسامة جنيد، المدير السابق لفيكتوريا كوليدج، فيقول: «الفنان الكبير عمر الشريف كان تلميذ والدي، وجاء أكثر من مرة للكلية وسأل عنه، ورغم أنه جاء وكان في أوج شهرته فإنه كان في غاية التواضع وكأنه طالب مرة أخرى».

ولا تزال دينا المانسترلي هي وأصدقاؤها وزملاؤها في فيكتوريا كوليدج، يتبادلون الحكايات والذكريات عبر الهاتف أو عبر «فيسبوك»، وهي تتذكر جيدا اليوم الذي وقف فيه عمر الشريف النجم الهوليوودي على باب فصلها، قائلة: «كنت أنصت لمعلمة اللغة الفرنسية حيث كانت تشرح درسا جديدا ورفضت أن يتم وقف الدرس من أجل الفسحة، وكان كل طلبة الفصل البنين والبنات سيضحون بأي شيء للخروج لرؤية عمر الشريف نجمهم المحبوب وخريج مدرستهم، لكنها كانت مصرة على استكمال الدرس. وإذا بعمر الشريف يقف أمام الفصل، فما كان منها إلا أن ألقت بالطباشير في عرض الفصل وصاحت بغضب شديد وهي تهم بالخروج من الفصل: (حرااام.. أنا بشر.. كيف لي أن أشرح الدرس وعمر الشريف في الخارج؟ طز فيكم وطز في المدرسة). ثم خرجت واحتضنت عمر الشريف».

هنا تذكر دينا بحماس شديد: «تبعت فتيات الفصل كله المعلمة وتم حصار عمر الشريف وسط صيحات وصرخات الفتيات، وكان يوما لا يمكن أن أنساه ما حييت، وما زالت أتحاكى باليوم الذي رأيت فيه عمر الشريف على باب الفصل، وما زلت لا أقوى على تصديق الأمر حتى الآن!».

ذكريات مميزة جدا لطلاب فيكتوريا كوليدج بالإسكندرية والقاهرة التي درس بها عمر الشريف ويوسف شاهين وأحمد رمزي وتوفيق صالح وشادي عبد السلام.. جمعهم فيها مسرح المدرسة وملاعبها وفصولها.. كما جمعهم عشقهم للفن.. رحلوا جميعا إلى العالم الآخر لكنهم تركوا تاريخا وأعمالا مشرفة نفخر بها وستظل محفورة كعلامات في تاريخ السينما المصرية.

 

الشرق الأوسط في

17.07.2015

 
 
 
 
 

هاني لاشين: عمر الشريف كان صادقا ولم يكن يحب الكذب ولا الكاذبين

هدى إبراهيم

برنامج "ثقافات" مخصص لتناول سيرة عملاق السينما المصرية والعالمية عمر الشريف عبر استضافة صديقه الشخصي المخرج هاني لاشين، الذي أنجز معه أحد أهم أدواره في السينما المصرية عبر شريط "الأراجوز" كما يستضيف البرنامج الناقدة السينمائية ماجدة موريس التي تسرد وقائع من سيرة عمر الشريف السينمائية، ويلتقي البرنامج أيضا المخرجة هالة لطفي، من الجيل السينمائي الجديد، وهي تتحدث عن تأثير عمر الشريف على أبناء جيلها من العاملين في السينما.

 

مونت كارلو الدولية في

17.07.2015

 
 
 
 
 

عمر الشريف وفاتن حمامة وعزالدين ذوالفقار: ثلاثي الفن والحبّ

محمد جابر

في عام 1954، أعلنت فاتن حمامة طلاقها من المخرج عز الدين ذو الفقار، لتتزوج منعمر الشريف بعد أشهر عدة. يفترض أن تلك حكاية تخصّ أصحابها الثلاثة فقط، لكن الأمر هنا تجاوز هذا الثلاثي، وبات يرتبط بالذاكرة الفنية والثقافية لمصر في الخمسينيات والستينيات.

"ذاكرة ثقافية" لأن أسماء مثل يوسف شاهين وإحسان عبد القدوس ارتبطت بالحكاية، سواء لأن أحدهما (يوسف شاهين) جزء من الحكاية، أو لأن الآخر (إحسان عبد القدوس) كتب عن الحادثة مقالاً مهماً وتاريخياً في مجلة "روز اليوسف" منتصف الخمسينيات تحت عنوان "إنهم بشر". في المقال أعاد توضيح بعض البديهيات، وأهمها أنه لا سلطة للمجتمع لمحاسبة "فاتن وعمر" على زواجهما، لأن تلك حريتهما الشخصية.

"ذاكرة فنية"؛ لأن تلك الحكاية مثلث الحب الأشهر في تاريخ السينما المصرية، تم نقلها بشكل شبة حرفي في فيلم يحمل اسم "القبلة الأخيرة"، من بطولة ماجدة ورشدي أباظة وإيهاب نافع، إنتاج عام 1968، والأغرب من كل ذلك أنه من إخراج محمود ذو الفقار، شقيق عز الدين الذي رحل قبل خمس سنوات من إنتاج الفيلم.

يحكي "القبلة الأخيرة" عن مخرج كبير يكتشف ممثلة شابة ويتزوجها وتصبح بطلة أفلامه، وأثناء تحضيره لفيلم جديد عن قصة "أنطونيو وكليوباترا"، تقوم ببطولته أيضاً، يكتشف ممثلاً شاباً ووسيماً ويقرّر جعله بطلاً للفيلم أمامها، وعبر أحداث الفيلم تبدأ مشاعر عاطفية تنمو بين الممثل والممثلة، وسط شكوك المخرج، والتي تصل لذروتها في النهاية.. حين يكون عليهما أداء "قبلة" ضمن أحداث الفيلم الذي يصوّره، ويتم أداؤها بشكل أطول وأكثر حقيقية من اللازم، فيتأكد المخرج من مشاعرهما المشتركة، ويقرّر في المشهد الأخير أن ينهي علاقته بزوجته ويطلب منها النظر إلى مستقبلها، على أن تستمر علاقته بها "كزوج وكأب"، ويخبرها ألا تخاف عليه طالما "كاميرا السينما" إلى جانبه.

الحكاية نفسها بكل تفاصيلها تقريباً حدثت قبلها بـ14 عاماً، الفارق فقط أن يوسف شاهين هو من اكتشف عمر الشريف، وليس عز الدين ذو الفقار، ومنحه البطولة في فيلم "صراع في الوادي" أمام فاتن حمامة، لتنشأ بينهما قصة حب استمرت طيلة فترة التصوير، وتنتهي بقبلة طويلة وشهيرة في الفيلم. وسبب شهرتها أن فاتن حمامة كانت من أكثر الفنانات محافظة ورفضاً للقبلات في الأفلام حينها، لكنها وافقت للمرة الأولى في هذا الفيلم. 

وخلال أشهر قليلة انتهت علاقتها بعز الدين ذو الفقار، وقد صرّحت بعد سنوات طويلة أن علاقتها به كانت أقرب بمثل أعلى ومكتشف، أكثر من زوج أو حبيب، وتتزوج سريعاً عمر الشريف، بشكل غير معلن للجمهور في البداية، قبل أن يكشفها إحسان عبد القدوس في مقاله في مجلة "روز اليوسف" بناءً على طلب الثنائي "عمر وفاتن".

الوقائع التي تركها تاريخ تلك الفترة، ومن ضمنها فيلم "القبلة الأخيرة"، تقول إن المجتمع تصالح مع "قصة الحب" هذه، ومع أصحابها الثلاثة، ولم ينظر لأي من الأحداث على اعتبارها خيانة أو خطأ ارتكبه أي من الثلاثة، ونهاية الفيلم تشير إلى ذلك، فتكون نهاية تصالحية تماماً وغير مُدينة لأي طرف، خصوصاً مع الإشارة من جديد إلى أن محمود ذو الفقار، شقيق عز الدين، هو من أخرج الفيلم.

هل هناك ما هو أغرب (أو) أكثر تصالحاً من ذلك (بحسب وصف ومنظور كل قارئ للحكاية)؟ نعم، الأغرب (أو الأكثر تصالحاً) أنه في القصة الحقيقية بين "فاتن وعمر وعز الدين"، وبعد ست سنوات من انفصالها عن أحدهما وزواجها من الآخر، التقى الثلاثة في فيلم "نهر الحب"، عام 1960، المقتبس عن رواية "آنا كارنينا"، لليو تولستوي، والتي تحكي عن امرأة متزوجة تشعر بالحب تجاه شخص جديد، فتقرّر ترك زوجها وحياتها من أجل الرحيل معه.

فيلمان، ومقالات في أرشيف الصحف، وحكايات متناثرة في الذاكرة الثقافية والفنية، تبقى تلك الحكاية راسخة للأبد.. تماماً كما يبقى الفن الذي تركه البطل الثلاثي.

 

العربي الجديد اللندنية في

17.07.2015

 
 
 
 
 
 
 

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك © 2004