"مهووسة
جنسيا" كاملا في برلين.. عجز الفلسفة!
أمير العمري- برلين
ليس من المعروف حتى الآن السبب الذي جعل مهرجان برلين السينمائي
يقرر عرض النسخة الكاملة من الجزء الأول من فيلم "مهووسة جنسيا" Nymphmaniac وهي
تقع في نحو ساعتين ونصف، دون عرض الجزء الثاني أيضا في نسخته
الكاملة (نسخة المخرج) التي تبلغ زمنا مماثلا، في حين يبلغ زمن عرض
الجزأين في النسخة المختصرة التي بدأت تعرض في دور العرض الأوروبية
4 ساعات فقط.
المهرجان لم يعلن السبب، ومخرج الفيلم الدنماركي لارس فون ترايير،
أخذ يراقب باستمتاع تلك الدعاية المسبقة الهائلة اتي صابت عرض
فيلمه هنا في برلين مما جعل الكثير من النقاد يعتقدون في البداية،
أن المهرجان العريق سيعرض الجزأين.
لم يعلن فون ترايير السبب بل ولم يوجه له أحد أي سؤال بهذا الخصوص
لأنه، ببساطة، لم يحضر المؤتمر الصحفي الذي أعقب عرض فيلمه في
المهرجان، فقد أخذ على عاتقه الامتناع عن التحدث للصحافة منذ
الأزمة التي تعرض لها في مهرجان كان السينمائي قبل عامين، بسبب
تصريحاته التي اعتبرت "إستفزاوية" خلال مؤتمر صحفي لمناقشة فيلمه
السابق "ميلانكوليا" وفسرها كثيرون على أنها تبدي نوعا من التعاطف
مع الزعيم النازي أدولف هتلر، الأمر الذي أدى إلى طرد فون ترايير
من المهرجان. ولعل هذا هو ما دفعه للمجيء إلى برلين وهو يرتدي "تي
– شيرت" كتبت عليه عبارة "شخص غير مرغوب فيه". لكن الطريف أن
الألمان الذين تعتبر أي إشارة تعاطف إلى النازية ولو حتى على سبيل
المزاح، سلوكا قد يؤدي بصاحبه إلى السجن بتهمة "الإساءة لذكرى
ضحايا المحرقة"، هم الذين قبلوا عرض فيلم فون ترايير الجديد ووجهوا
له الدعوة لحضور المهرجان، في حين أن موقف مهرجان "كان" من المخرج
المثير للمتاعب، لايزال على ما كان عليه منذ اندلاع تلك "أزمة"
المحرقة النازية!
الجزء الأول أو "المجلد الأول" Volume 1 الذي
يقيم صانعه بناءه على شكل كتاب مقسم إلى خمسة فصول تحمل عناوين
محددة، ينتقل من الحاضر إلى الماضي وبالعكس، يبدو من أول وهلة،
عملا إِستفزازيا مقصودا، يحطم "التابوهات"، ويسبح في المناطق
المحرمة، طارحا الكثير من التساؤلات حول معنى الجنس ومفهومه ومدى
الحرية التي يمكن أن تمضي فيها المرأة في بحثها عن المتعة الجنسية
من خلال علاقات متعددة، على نحو مشابه لما يفعله كثير من الرجال،
ولكن دون أن تصل إليها قط.
بطلة الفيلم "جو" امرأة نراه في المشهد الأول من الفيلم وقد ألقي
بها إلى قارعة الطريق بعد أن تعرضت للاعداء الجسدي العنيف، يعثر
عليها رجل متقدم في السن، يأخذها إلى بيته حيث يقوم بتضميد جراحها،
وتأخذ هي تقص عليه قصتها كـ"مهووسة جنسيا" حسبما تعتقد هي، فتروي
له مغامراتها الجنسية مع الرجال منذ أن كانت صبية يافعة.
ومن خلال الحوار الممتد بين الإثنين، تحاول جو أن تفهم نفسها- دون
أن تفهم أبدا بالطبع، فهي تطرح من التساؤلات الكثير مما لا تجد
إجابات شافية عليه، كما أن الرجل يناقشها مستعينا بما في حصيلته
الثقافية من مصادر تمتد من الماركيز دي صاد إلى إدجار آلان بو، ومن
فرويد إلى فون ترايير نفسه!
المأساة والملهاة
وخلال استعادة "جو" لتجاربها الجنسية، نرى كيف تذهب إلى شاب بسيط
الحال ، لكي يفض بكارتها، لكن هذا الشاب نفسه سرعان ما سترتبط به
بعلاقة عاطفية وجنسية عميقة بعد أن يصبح مديرا لشركة تعمل فيها
سكرتيرة، وكيف أنها بعد ذلك أخذت تتسلى وتتراهن مع صديقة لها، في
الإيقاع بأكبر عدد ممكن من الرجال راكبي القطار، بما في ذلك رجل
بدا أن من المستحيل إغواؤه، أخذ يحدثها عن علاقته بزوجته وكيف أنه
اشترى لها هدية، وكيف أنه وزوجته يبذلان جهدا كبيرا معا منذ سنوات
من أجل أن تحمل الزوجة، ويقول لها إنه يتطلع للوصول للمنزل في أسرع
وقت لكي يمارس الجنس مع زوجته في هذه الليلة بالذات بعد أن أصبحت
البويضة مستعدة للتلقيح..إلخ
"جو" تنتقل من رجل إلى رجل، بل إنها في مرحلة ما، تعد جدولا
بالمواعيد فتقابل من 6 إلى 7 رجال في اليوم الواحد، وتحرص على أن
تلتزم بالمدة المحددة لكل واحد قبل أن يطرق الرجل التالي باب
مسكنها!
هل نحن أمام حالة ضياع شابة في مجتمع فاقد للروحانية والقيم
العائلية؟ أم أننا أمام حالة من العقد النفسية المركبة التي ترتبت
على طفولة تعيسة لم تجد حنان الأم ولا رعاية الأب، مما جعل الفتاة
وقد تركت لنفسها، تقلب وتبحث في كتب الطب وغيرها، لعلها تصل إلى
فهم ما للغز الطبيعة البشرية: العلاقة الجنسية بين الرجل والمرأة،
الأورجازم، الارتواء، التحقق، البيولوجي والسيكولوجي، الإنسان وما
يقابله في الحيوان..إلخ
لكن في الوقت نفسه، ليس من الممكن إعتبار فيلم "مهووسة جنسيا"
فيلما إيروتيكيا erotic بل
هو أبعد ما يكون عن هذه الإيروتيكية، فبطلته التي تقوم بدورها وهي
كبيرة الممثلة المفضلة عند لارس فون ترايير، شارلوت جينسبرج، وفي
فترة الشباب تقوم بالدور الممثلة البريطانية الجيدة ستاسي مارتن،
لا تتمتع بالقوام والشكل الخارجي المثير، بل تبدو مخالفة في
مقاييسها الجسدية والجمالية لكل من عرفتهن السينما من ممثلات
الإثارة الايروتيكية، بل إن جسدها يبدو أقرب إلى جسد صبي!
ورغم أننا نشاهد- في هذه النسخة - مشاهد الجنس من شتى الأوضاع
والأنواع، إلا أن عنصر الإيروتيكية يغيب تماما، فهو جنس آلي تتم
ممارسته بقصدية مبيتة، دون مشاعر ودون أن يكون مقصده المتعة
الجسدية بل البحث الذهني المعذب عن مفهوم الجنس وليس عن الجنس في
حد ذاته.
مقارنات
هذا البحث يجعل الفيلم يتطرق إلى الكثير من المقارنات بين
الحيوانات والحشرات والإنسان، من خلال ما ورد في كتب العلوم
والتشريح، وخصوصا أن الحوار الممتد بين "جو" ومضيفها المثقف
المطلع، يبدو في الكثير من الأحيان، كما لو كان حوارا بين طبيب
نفساني ومريضة، أو بين أب وابنته. لكننا أيضا نشاهد العلاقة بين
الأب والابنة عندما تقوم "جو" بزيارته وهو على فراش الموت في
المستشفى.. الرجل يتألم ألما شديدا بعد أن اشتدت حالته المرضية،
لدرجة أنه يسقط من على فراشه ويفشل الفريق الطبي في السيطرة عليه،
ويدور حوار بين الابنة والطبيب، وهي تحاول اقناعه بأن يعطيه
المورفين لتسكين الألم.. وعندما تفشل في إقناعه نراها في مشهد
ضبابي رمادي، تمارس الجنس مع أبيها.. ولا نعرف ما إذا كان هذا
المشهد يدور في الحقيقة أم في الخيال، لكن ما يحدث أن آلام الأب
تختفي على الفور بعد ذلك، ويوجه هو من طرف خفي، نظرات تعكس الفهم
والعرفان لابنته، قبل أن يموت!
ومن هذا المشهد المأساوي يعود بنا الفيلم إلى الكوميديا التي تتفجر
في العديد من المشاهد من خلال الحوار. وفي أحد المشاهد نرى رجلا
يتردد على جو في شقتها يمارس معها الجنس، ثم يقرر أن يترك زوجته
ويأتي للاقامة معها، فتأتي زوجته (تقوم بالدور أوما ثيرمان) وراءه
ومعها أبناؤها الثلاثة منه، بحجة توديعه، لكن الحوار أو بالأحرى،
المونولوج الطويل على لسان الزوجة يتصاعد ويصل إلى الكريشندو أو
ذروة الهزل، وهي تندب حظها العاثر الذي جعل زوجها يتركها بعد 20
عاما من الزواج لكي يقيم مع هذه مدمنة جنس!
وعموما رأيت أن المشهد مبالغ فيه كثيرا وكاريكاتوري هزلي ويفقد
تدريجيا الحس الكوميدي ووجدت أن أداء أوما ثيرمان مبالغ فيه وواضح
أنها تكرر عبارات بطريقة ميلودرامية متهدجة لا تقنع أحدا بل يشوب
الاداء الافتعال.
ومن العيوب الواضحة في الفيلم اللجوء إلى ما يسمى بالعربية "لغو
الكلام" وتكراره بدرجة مزعجة، فليس هناك معنى من تكرار الفتاة- جو-
أن الرجل يشبه النمر، وأن نظرات النمر تحمل أحيانا ابتسامة ما
تماما مثل الرجل، أو عندما تقول ان النظرة التي تراها احيانا في
عيني الرجل تشبه نظرة القط الذي ينظر اليك طويلا محدقا في عينيك
قبل أن يدلف من الباب.
مشاهد صادمة
هناك الكثير من المشاهد واللقطات الصادمة التي ليس من الممكن لأي
جهاز رقابة في العالم قبول عرضها، ونظن أنها استبعدت في النسخة
المختصرة من الفيلم.
ورغم الحرفية العالية التي يتمتع بها فون ترايير في تنفيذ المشاهد،
إلأ أن هناك احساسا عاما بفقدانه السيطرة على ايقاع الفيلم، ويميل
في البناء، لتكرار اللقطات، وخصوصا لقطات العضو الذكري عند الرجال،
واللقطات القريبة للجنس الفمي (نشاهد لقطة لبلوغ مرحلة القذف) وذلك
كله مقصود لتحقيق الصدمة من أجل الصدمة، جريا على عادة فون ترايير
في الكثير من أفلامه وخصوصا فيلم "المسيخ الدجال" (2008) الذي
شاهدنا فيه لقطة لقطع بظر امرأة بالمقص.
وما يمكن أن يخرج به المشاهد للفيلم من فكر أو فلسفة من تحت ذلك
الركام الهائل من المشاهد الصادمة التي تفتقد للجمال، لن يبقى
طويلا في الذاكرة، فهناك الكثير من الثرثرة الكلامية المتحذلقة
التي تريد أن تقول لنا إن العالم ليس كما يبدو على السطح، وإنه آن
الأوان أن تتحدث المرأة أيضا عن الجنس كما يناقش الرجال مشاكلهم مع
الجنس صراحة في الأفلام،
ورغم جرأة الأداء إلا أنه أداء بارد بشكل عام، ربما يعكس تلك
البرودة المقصودة التي تلخص الحالة التي بلغتها الثقافة الأوروبية
في الوقت الحالي في تمردها على قيم الحداثة والعقلانية بحثا عما
بعد الفلسفة.. وربما تعبيرا أيضا، عما يمكن أن نطلق عليه "عجز
الفلسفة" عن تفسير علاقتنا بأنفسنا! |