كأنما لم يكفه كلّ الاستنساخ الذي قام به المدير الأميركي بيتر
سكارليت، فجاء الارتباك والتلعثم الواضح في حفل ختام الدورة الرابعة من
مهرجان أبو ظبي السينمائي، ليزيد الطين بلة، إلى درجة بدا معها كأنه يعيدنا
إلى المربع الأول.
كل شيء بدا فوضوياً، عابثاً، مرتجلاً.. ليس فقط على مستوى أن يحلّ
الممثل المصري خالد أبو النجا، محل مقدمي الحفل، ويقوم بما ليس من مهماته،
الأمر الذي جعل مقدم الحفل يقولها على المنصة، دون تردد: «لقد أخذ خالد أبو
النجا دورنا«! بل أيضاً إلى الدرجة التي سيقوم بها أبو النجا بالاحتفاظ
بواحدة من الجوائز، ويستلمها بنفسه، بعد أن أعلنها لغيره!.. فليس ثمة من
يستلم هذه الجائزة الهاربة.. ولينساها الجميع في درج منبر الكلام.
وكذلك، ليس على مستوى أن لا يعرف أحد كيف تُدار الأمور خلال ساعة
واحدة، من المفترض أن السيد سكارليت أمضى سنة كاملة، وقبض الرواتب العالية،
من أجلها، وفي سبيل تنظيمها، وبرمجتها.. فاختلط الحابل بالنابل، طيلة
الساعة.. وتدلل، هو، وبعض رؤساء لجان تحكيمه، في الصعود إلى المنصة، في
نزعة للظهور، وتشوّف الحال، ربما أكثر من الفائزين أنفسهم!.. بل كذلك في أن
نرى الممثلة المصرية بسمة؛ بطلة فيلم «رسائل البحر«، المنافس على الجائزة،
والمتسابقة هي نفسها، تقوم بالإعلان عن واحدة من الجوائز.. فماذا لو كانت
الجائزة لفيلمها؟ هل تعلنها وتشارك باستلامها؟ الله ستر!
عدم المقدرة على إدارة حفل الختام، على هذا النحو المريع، أعادنا دفعة
واحدة إلى حقيقة أن كل ما فعله بيتر سكارليت، خلال عام مضى على تسلمه إدارة
مهرجان أبو ظبي السينمائي، لا يعدو كونه استنساخ تجربة مهرجان دبي
السينمائي، حرفاً حرفاً، واقتفاء أثره خطوة بخطوة.. وبدا كأنما فاته،
أيضاً، أن يستنسخ كيفية تنظيم حفل الختام، لائق، فوقع في الارتباك
واللعثمة!
وبيتر سكارليت، القادم من عقلية تجارية غربية، كان قد ظنّ أنه بعرضه
المسرحي المفبرك، مع مذيع حفل الافتتاح، يمكن له أن يثير شغف الجمهور
للمفاجآت التي قال إنه أعدها، فما كان من الجبل إلا أن تمخض فولد فأراً!
فكما لم تتمكن عنزاته من نيل أي إعجاب، في الدورة الماضية، ها هو حصانه
يثير نفور الكثيرين، وهم يرون السيد سكارليت يفشل في ملامسة اهتمامات
الجمهور العربي، وحتى في فهمه، خاصة وأن السيد الأميركي يبدو مؤمناً بأن
العرب مولعون بالأحصنة، دائماً وأبداً، حتى لو كانت عبر فيلم تجاري، من
الدرجة الثالثة، لا يستحق المشاهدة في أي صالة سينما، فما بالك بافتتاح
مهرجان، يتكئ على نحو مليار دولار سنوياً.
مؤسف ما جرى في حفل الختام، فعلاً.. زاده أن النتائج بدورها جاءت
لتضفي خيبة أخرى، خاصة «مسابقة آفاق جديدة«، التي من المفترض أن يعلّق
الكثيرون الآمال عليها، باعتبار أنها يمكن أن تكون فرصة لاكتشاف المواهب
السينمائية العربية الجديدة!.. ولكن كل هذا ذهب أدراج الرياح، خاصة مع وجود
رئيس لجنة تحكيم امتلك من العجرفة، والإعجاب بالذات، ما جعله (وقد كنت شاهد
عيان على الحادثة) أن ينسحب من قاعة عرض فيلم «غيشر« الإيراني، قبيل انتهاء
عرض الفيلم بأكثر من ربع ساعة، وذلك مساء يوم 18/10/2010، في مسرح أبو ظبي،
لأعلم في اليوم التالي، أنه التحق بالعرض الخاص بفيلمه، الذي كان يعرض في
الوقت نفسه!
المأزق الذي يبدو أنه وجد نفسه أمامه، تمثَّل في أنه لم يجد سبيلاً
سوى لمنح هذا الفيلم ذاته الجائزة الكبرى، ربما إعجاباً بمشهد تنظيف
المرحاض المسطوم، الذي قهقه له بصوت مسموع، كالمسطول!.. أقول هذا، حتى لا
أتهمه بعدم الرغبة العنصرية في منح الفيلم السوري المتميز «مرة أخرى«، أو
الفيلم العراقي الذي لا يقل تميزاً «كرنتينا«، لتذهب الجائزة العربية لفيلم
لبناني/ أميركي متوسط الحال، يُدعى «طيب، خلص، يلا«، الأمر الذي جعل حتى
مخرجي الفيلم نفسيهما يعبران عن دهشتيهما، إذ كان أقصى طموح لهما، هو
الحصول على منحة «صندوق سند«، وعرض فيلمهما (البسيط على حدّ تعبيرهما هما)،
فجاءتهما الجائزة الكبرى، بأكثر القرارات رعونة!
لا أعرف كيف لم ينتبه السيد بيتر سكارليت إلى أن ثمة مخالفة جوهرية
هنا، إذ أن هذه الجائزة المخصصة أصلاً للمخرجين السينمائيين العرب، نال
نصفها على الأقل (حتى لا نقول ثلثيها) المخرج الأميركي دانييل غارسيا،
الشريك في الإخراج، والكتابة، والمونتاج، فضلاً عن قيامه بالتصوير،
ومشاركته في اختيار الموسيقى.. فهل يجوز أن تذهب الجائزة المخصصة من أجل
«أفضل فيلم روائي لمخرج عربي جديد«، إلى فيلم روائي يقوم بغالبيته مخرج
أميركي؟! وهل يمكن أن يتمّ تفسير هذا بأن رئيس لجنة التحكيم تلك، ما هو إلا
أميركي التربية والدراسة، فرنسي الهوى، دون أن ننسى التمويل الإسرائيلي
الحكومي لأفلامه؟!..
قبل ذلك بأيام، وفي موقف دعا إلى التندّر، أعلن الأميركي بيتر سكارليت
«أنه يشعر أن أبو ظبي وطنه«! ضحكنا، وصمتنا.. فجميعنا يعرف السبب!.. ولكنه
لم يقل لنا حينها إنه سيدخل معه الأميركيين، إلى درجة أن ينال مخرج أميركي
«جائزة اللؤلؤة السوداء لأفضل فيلم روائي لمخرج جديد من العالم العربي«!
تذكروا الاسم: دانييل غارسيا..
ولم تتوقف الخيبات التي جاء بها «زعيم لجنة تحكيم مسابقة آفاق جديدة«
بهذا، فكان لا بد لها أن تتكامل مع مخالفة صريحة أخرى، لا أدري كيف تم
تمريرها، إذ بدل أن يتم منح جائزة «أفضل فيلم وثائقي لمخرج جديد من العالم
العربي« لمستحقها المصري فوزي صالح، عن فيلمه «جلد حي«، قامت لجنة التحكيم
بإصدار أغرب بيان يمكن أن يُعلن، لخصته اللجنة بقولها: «ترغب لجنة التحكيم
بالإشارة إلى أهمية مبادرات التمويل، مثل «صندوق سند»، و»الصندوق العربي
للثقافة والفنون»، في رعاية المواهب، والتي سوف تؤتي ثمارها فيما يتعلق
بمستقبل صناعة السينما العربية. لذلك فإننا نوصي بأن يتم تخصيص جزء من
أموال الجائزة في هذه الفئة إلى «صندوق سند»، لمواصلة عمله في دعم صانعي
الأفلام الوثائقية العربية الجدد«.
هكذا، وبدلاً من القيام بمنح الجائزة لمستحقها؛ المخرج السينمائي،
كاملة غير منقوصة، شاءت لجنة التحكيم إرجاع الأموال، والتبرع بها لمصدرها
«صندوق سند«! لا ندري من أين أتى هذا القرار الخرافي؟ من قال لهم إنه يجوز
اقتطاع جزء من هذه الجائزة، ومنحها لجهة غير متسابقة أصلاً، بل هي داعمة،
وممولة، لجزء من الأفلام المشاركة في المهرجان؟ أما يكفي ذاك الانحياز
الفاضح لبعض الأفلام التي دعمها «صندوق سند«، إلى درجة أن البعض، في لجان
التحكيم، بدوا وكأنهم يطمحون لنيل رضا هذا الصندوق العتيد، تارة بمنح
أفلامه الجوائز، دون وجه حق، وتارة بمنحه هو نفسه ثلاثة أرباع جائزة، في
مخالفة صريحة؟!..
وإذا كان من الممكن للجنة تحكيم ما أن تخالف النظام، أو المنطق، فإن
إدارة المهرجان هي المسؤولة والمعنية أولاً بردع هذه المخالفة، ورفضها،
والتوجيه للجنة التحكيم، إما بحجب الجائزة، أو منحها لمن يستحق.. أما أن
يجري اقتطاع جزء من الجائزة، دون وجه حق، كرمى لعيني «صندوق سند«، فهذا مما
لا يخطر على بال!
ولا نريد أن نتساءل، فنقول: ترى كيف يمكن لهذه التصرفات العجيبة أن
«تؤتي ثمارها فيما يتعلق بمستقبل صناعة السينما العربية«، وهي تنشر الإحباط
بين المخرجين السينمائيين العرب الجدد الذين خرجوا كلهم (باستثناء
اللبنانية رانيا عطية، الشريكة للأميركي دانييل غارسيا)، من المولد بلا
حمص؟
ومع الاستغراب الشديد لخروج فيلم متميز، مثل الفيلم المصري «رسايل
البحر«، دون أي انتباه.. يبقى أن الإشراقة الوحيدة، والناقصة، وذات
المخالفة، أيضاً، هي أنصاف الجوائز التي مُنحت لكل من: كيم لونغينوتو،
وباتريشيو غوزمان، وماهر أبي سمرا، وجورج سلاوزر. فقد كانت المخالفة صريحة،
أيضاً، في منح نصف «جائزة اللؤلؤة السوداء لأفضل فيلم وثائقي من العالم
العربي«، للمخرج الهولندي الكبير جورج سلاوزر، دون أن تقنع أحداً إضافة
جملة «أو حول العالم العربي«، التي بادرت إليها لجنة التحكيم!..
انتهت الدورة الرابعة من مهرجان أبو ظبي السينمائي، وهي في كل تفصيل
من تفاصيلها تدعونا لإعلاء الصوت من أجل ضرورة إيجاد إدارة عربية، قادرة،
ومحترفة، تخلّص هذا المهرجان من عثراته، وفوضاه، وتُُخلص لحقيقة السينما
العربية، واقعها، ومستقبلها، وهمّها، وهمومها.. وكي تسدّ الأبواب تماماً
أمام حالات التسلل الإسرائيلي، التي لم نعدم وجودها، سواء كأفلام، أو
كأشخاص!
المستقبل اللبنانية في
31/10/2010
# # # #
مهرجان أبو ظبي السينمائي ..
بين الــواقـعية الــسحرية والـقضايــا السـاخنــة
ناجح حسن
حميمية ورؤى جمالية ودرامية لافتة اختصرها المخرج التشيلي الشاب
ماتياس بيزيه بفيلمه الروائي الطويل المعنون (حياة السمك) عن حقبة زمنية
مليئة بالأحداث الجسام المفعمة بأجواء من السحر والأساطير ضمن حيز مكاني
محدود تسري فيه الأحداث خلال مدة يتطابق فيها الزمن الواقعي والزمن
الفيلمي .
أثارت أسلوبية الفيلم دهشة وإعجاب كثير من النقاد المتابعين لفعاليات
الدورة الرابعة لمهرجان أبو ظبي السينمائي خصوصا وان الفيلم كان من بين
الأعمال المرشحة لواحدة من جوائز المهرجان التي أعلنت يوم الجمعة الماضي.
يتناول الفيلم حكاية الكاتب الدائم التجوال معاينا بالكلمة أماكن
ووقائع في الكثير من الأمكنة الموزعة بأرجاء العالم من بين التي يقبل
عليها السياح وهو الذي يقرر ذات يوم أن يغادر مقر إقامته في المانيا
والعودة إلى مسقط رأسه في تشيلي بغية حضور حفل عيد ميلاد صديقه .
لكن براعة وحيوية المخرج بيزيه الذي قدم من قبل فيلمين: (في السرير)
2005 و (عن البكاء) 2007 تأخذ بالتدفق خلال 83 دقيقة هي مدة الفيلم ذاته
حيث الإيحاءات والدلالات العميقة التي تشير إلى أحاسيس وانفعالات وعواطف في
لحظات من المواجهة مع أصدقاء الماضي والتعاطي مع تفاصيل الحياة اليومية دون
أن يعزل المخرج ثقافته الإنسانية عن مسرى الأحداث بل يقود المتلقي إلى
تلاوين من هموم وآمال يكابدها مجتمعه المعاصر بعيد عن أي تكلف أو استسهال.
تمكن المخرج من توظيف مفرداته لغته السينمائية والفكرية بحذق وهو يصور
حيوات كثير من الأشخاص والمواقف وهي تفيض بالحب والود والألفة بين الأصدقاء
رغم عوائق الغياب والأسى واللوعة والحرمان ومما زاد الفيلم متعة ذلك
الافتتان بشريط الصوت التي تصدح فيه الأغنيات والموسيقى الشديدة التعبير عن
أحاسيس وعواطف جياشة تجاه التواصل .
ومع أن المهرجان يعرض في مسابقاته العديد من الأفلام العربية بشقيها
التسجيلي والروائي المتفاوتة الطول إلا إن فيلم (رسائل البحر ) للمخرج
داوود عبد السيد هو الأجدر في إحدى جوائز المهرجان التي حادت جميعها عنه
لحظة إعلان الجوائز في حفل الختام الأمر الذي اعتبر واحدة من مفاجاءات
التحكيم!
يفيض فيلم (رسائل البحر) أحدث إبداعات المخرج المصري داوود عبد السيد
بتلك الأجواء المفعمة الشديدة الصلة بالموروث الخصب للأمكنة والشخصيات
والموسيقى وجميعها موظفة في ادوار مؤثرة تحاكي تلك النزعات الدفينة في
دواخل أفراد تجهد نفسها بالبحث عن كينونتها داخل حراك وجدل يومي تؤثره
المجازفة في الاقتراب والالتحام معه كاميرا مخرج متمرس بهذا النوع من
الأفلام المشحونة بالأحاسيس والمشاعر الإنسانية.
تستند وقائع الفيلم الذي يشارك أيضا هذه الأيام في مهرجاني أيام قرطاج
السينمائية والدوحة ترايبكا إلى حكاية ومجازفة ذلك الطبيب - يؤدي الدور
الممثل اسر ياسين - الذي اثر أن يعود إلى مسقط رأسه بيت عائلته القديم في
مدينة الإسكندرية بعد أن اتخذ قراره بان ينأى بنفسه عن مهنته جراء سخرية
زملائه من تأتأة تلازمه في اختلاطه وحديثه مع الآخرين .ثم يمضي الطبيب
أغلبية وقته متأملا ما يحيط به من أحداث بسيطة تسري أمامه وكأنه يعاين
ويعيد قراءة حياته من جديد وما تنطوي عليه من مستقبل غامض حين يأخذ في
الاتصال بجارته العجوز الإيطالية الأصل وابنتها كارلا كأنه في جولة آنية
يبث فيها شعوره من مفردات الحنين والبحث عن التواصل الإنساني.
رغم مساحات من الوحدة الاشبه بالعزلة يقتطع الطبيب الشاب قسطا من وقته
بالقيام بهواية الصيد على ساحل البحر والاستمتاع بالموسيقى الآتية عبر
أشرطة جهاز التسجيل أو الأثير في سعي هادي ينهض على طرح أسئلة أكثر من تلقي
الإجابات دون أن يفقد إحساسه الرومانسي الخفي والخجول عما تصادفه رحلته من
علاقات وسلوكيات متباينة.
رويدا رويدا يكتشف الطبيب كم تغير العالم ومحيطه الاجتماعي الذي حدا
بجارته العجوز أن تجد ملاذا لها في العودة إلى ايطاليا دون أن تشفع لها
سنوات عمرها الطويلة بعد إن كابدت الكثير من سلوكيات مالك بيتها الجديد
المندفع إلى تحقيق مصلحته الخاصة دون عواطف أو رحمة حيث يجسد الفيلم صورته
ببلاغة خلال قيامه بصيد الأسماك بواسطة الديناميت وتصويره في نهاية الفيلم
داخل مركز دائرة من مجاميع السمك النافق على سطح البحر.
يصادف الطبيب في ساعات الليل والنهار نماذج وسلوكيات متنوعة لأفراد
وجماعات تنأى عن تلك الصورة المألوفة في أفلام السينما المصرية الراهنة
التي قدمت موضوعاتها من داخل العشوائيات أو من على شواطئ شرم الشيخ
السياحية بلغة خطابية زاعقة أو عبر مشاهد ومناظر العنف أو في المواقف
الكوميدية المعبأة بشطط الافيهات والشخصيات المقحمة على الأحداث.
يسلك المخرج داوود عبد السيد بفيلمه الجديد أسلوبية فريدة تخلو من
حبكة درامية متصاعدة درجت عليها السينما المصرية بل إن العمل بمجمله ينسج
ظروف وأحوال أبطاله في دائرة كاملة من العلاقات المستمدة من إيقاع الحياة
اليومية ببيئة شخصياته وفيها من النبض الإنساني الذي يزنر شخصيات تبدو
للوهلة الأولى على خلاف ما تظهر به من بطش وقوة كما في حالة صديق الطبيب
الذي يلتقي به في حانة ليلية ليغدو لاحقا من بين أصدقائه المقربين عندما
يسرد واحدة من مشاجراته التي أدت إلى ارتكابه جريمة قتل وهي حادثة أعادت
تركيب شخصيته كانسان ينشد الود والصداقة في سائر سنوات حياته.
مع أن فيلم (رسائل البحر) يغوص في بيئة اجتماعية تحتشد بأحلام وطموحات
وآلام أفراد بسطاء إلا انه يحيد عن تصوير أحداثه بواقعية مألوفة فالأحداث
والسلوكيات بالفيلم تقدمها كاميرا عبد السيد بعين مغايرة شديدة الطموح
والتماهي مع رغبات شخصيات العمل بدءا من الرسالة التي تغلف بزجاجة وترمى في
ماء البحر لتصل إلى يد صياد آخر ويرميها ثانية في الماء بعدما رأى فيها ما
يشبه السحر أو الغرابة وما بينها من صور وأحداث مجبولة بمحاولات فهم شروط
العيش في أجزاء من المدينة ذات الحضور الطاغي في الثقافات الإنسانية.
رغم اتساع رقعة الفيلم واحاطته بكثير من الوقائع والأحداث التي تنعكس
على شخوصه فانه لا يتطرق إلى موضوعات سياسية بشكل مباشر وإنما العمل في
نتيجته النهائية حفر وإنعاش لكثير من التحولات السياسية والاقتصادية
والاجتماعية والنفسية التي طالما علقت بذاكرة المشاهد بين الحين والآخر في
أكثر من حقبة زمنية عاشتها مصر.
يرسم فيلم (رسائل البحر) أحداثه بدقة تتسم فيها سلوكيات ببيئة مدينة
كالإسكندرية في إحساس إنساني متين شديد الاعتناء بالأدوار الرئيسية
والصغيرة التي اضطلع بها طاقم الممثلين تتناغم مع مفردات الفيلم الجمالية
والدرامية التي وظفت ببراعة داخل فضاءات العمل. يشار إلى إن المخرج داوود
عبد السيد الذي سبق أن قدم للشاشة العربية الكثير من الإبداعات السينمائية:
(الصعاليك) ، (البحث عن سيد مرزوق)، (الكيت كات)،(مواطن ومخبر وحرامي)
إضافة إلى العديد من الأفلام التسجيلية حازت أعماله على كثير من إعجاب
النقاد وجوائز التقدير في المهرجانات العربية والعالمية تمكن من إنجاز
فيلمه هذا بعد طول انتظار دام تسعة أعوام وذلك بفعل منحة تمويلية من وزارة
الثقافة المصرية التي أخذت في الأعوام الثلاثة الأخيرة بانتهاج سياسة
تمويلية لمشاريع من الأفلام المؤجلة .
كما وعرض المهرجان الفيلم الألماني الكلاسيكي الشهير (ميتروبوليس)
1927 لفريتز لانغ والذي يعد من أكثر الأفلام تأثيراً في تاريخ السينما ومن
أعلاها تكلفة وقت إنتاجه وهو أيضا أول ملحمة سينمائية في حقل أفلام الخيال
العلمي ومن أول الأفلام التي تلجأ إلى هذا النوع السينمائي كي تتنبأ
بالمستقبل.
وقدمت فعاليات المهرجان مقاربة غير متوقعة بين المخرج الاميركي دوغ
ليمان وفيلمه (لعبة عادلة) - صورت بعض مشاهده في الأردن وشارك في التمثيل
فيه عدد من الممثلين الأردنيين - والمخرج العراقي عدي رشيد وفيلمه (كرنتينة)
حيث تناول الفيلمان : الأول هوليودي من بطولة ناومي واتس وشون بن والثاني
من الإنتاج البسيط مستقل من العراق حائز على منحة صندوق المهرجان سند
الغزو الأمريكي للعراق من منظورين مختلفين مروراً بتجربة الإنتاج المختلفة
لكلا الفيلمين.
أشار فيلم (لعبة عادلة) لدوغ ليمان أبعادا جديدة إلى حكاية العميلة
السرية الأمريكية التي تداولتها الصحف الاميركية عشية غزو العراق التي سرحت
من عملها بفضيحة كبرى خططت لها إدارة بوش بهدف التعتيم على حقائق تكشف زيف
الحجج التي قادت إلى احتلال العراق.
وصور الفيلم الإماراتي (ثوب الشمس) لسعيد سالمين الذي يشارك ضمن
مسابقة آفاق جديدة البيئة الطبيعية في ريف دمشق وفي الجزيرة الحمراء بإمارة
رأس الخيمة ليروي قصة تمزج بين الحس الحكائي الشعبي والزمن الراهن طارحاً
قضية الإعاقة الجسدية من خلال فتاة صماء وبكماء لكنها شديدة الجمال.
ومن بين الأفلام اللافتة والمثيرة للجدل داخل أروقة المهرجان جاء عرض
الفيلم الروائي الطويل (ميرال) للاميركي جوليان شنابل المقتبس عن كتاب
الصحفية الفلسطينية المقيمة بايطاليا رولا جبريل والمستوحى من سيرتها عن
حكاية تمتد فصولها على عدة أجيال وتتناول وقائع حياة أربع نساء عربيات يعشن
في ظل الاحتلال الإسرائيلي.
وفي مسابقة الأفلام التسجيلية جاء العرض الدولي الأول لفيلم (تشيه –
رجل جديد) للمخرج تريستان باور الذي عمل على كشف جوانب جديدة من حياة
الثوري الأكثر شهرةً في القرن العشرين (ارنستو تشي غيفارا) من خلال كلماته
وشهادات المقربين منه باحثاً وكاشفا عن خفايا هذا الرجل صاحب النزعات
الإنسانية في مواجهة الظلم والاحتلال والهيمنة حيث دفع حياته ثمنا لذلك.
في مسابقة آفاق جديدة قدم الفيلم الأمريكي (قوة القوافي الصاخبة)
للمخرج جوشوا اتيش ليتل الذي يشكل قصيدة غنائية مهداة إلى فن الهيب هوب
العالمي مارا بسيرة هذا الفن منذ أن بدأ في قلب المدن الأمريكية إلى ما هو
عليه اليوم على يد المهاجرين الفرنسيين والألمان والشباب والحركات النسوية
الإفريقية الجذور .
الرأي الأردنية في
29/10/2010 |