أربعة أوهام حقيقية
حول مسيرة "بطريرك" السينما المصرية
يوسف شاهين التقني، المعولم، الذاتي والسياسي
هاني درويش
مات
البطريرك، رحل "جو" في مشهد لن يسعفه المستقبل لتسجيله. ألم يكن مهووسا
بسيرة الكوما، وقد سجلها في فيلمه حدوتة مصرية منتقما بتشفي طفولي من
العائلة وأرق البدايات. هذه المرة سقط كطبيب "الحب في زمن الكوليرا"، إختنق
كما مارلون براندو في "الأب الروحي". تمدد لساعات وهو ينزف في منزله فتجلط
دمه ودخل في الغيبوبة الأخيرة. أي دراماتيكية لائقة أكثر من ذلك
لدراماتورجي السينما المصرية الأوحد؟ وأي ذكريات تدافعت في وعيه قبل الدخول
في السواد الأخير؟ هل انتهت حياته كـcut
عنيف أم بـfade
out تدريجي؟.
الكتابة
عن يوسف شاهين عرجاء، وطالما ظللتها كآبة الفقد فلا نفع منها. فاللأحزان
جلالها الذي يغني عن موضوعية باردة مستحقة. ربما يصدق هنا أكثر من اي موضع
آخر تطبيق المثل المصري "أذكروا محاسن موتاكم". لكن الكتابة أيضا، وقد
تحررت من وطأة الحضور المزلزل لرجل شغل الدنيا وناسها، كتابة مغوية، خاصة
وأن المنحنى الأخير في أعماله الخمسة التجارية الصبغة ( المهاجر ـ المصيرـ
سكوت هنصور ـ أسكندرية نيويورك ـ هي فوضي) أحبطتني بطريقة دفعتني للتشكك في
مسيرته الكاملة، وعلى صفحات هذا الملحق تحديدا جأرت كثيرا أن كفّي يوسف
شاهين، إحتراما فقط لتصورنا الرومانتيكي عن أبو السينما، دخل متأخرا متاهة
جنرال متقاعد مخطرف. كان ذلك ـ إحقاقا للحق ـ إنتقاما من خيانته لرهاننا
الكامل عليه، بعد أن اغوته الجماهيرية المتأخرة ونضالية الصوت السياسي
المتهافت. كان إنتقاما لدموع كثيرة ذرفناها على "علي" عودة الإبن الضال"
و"يحيى" سيرته الملعونة. مثّل سقوط شاهين خيانة أخرى متأخرة الى جانب
خيانات الخيارات السياسية الخاسرة التي شوشت مراهقتنا الفكرية. كرهنا
احتضان اليسار له ضمن كراهيتنا لديماغوجية اليسار ذاته. اليساريون كانوا في
مجملهم ـ إبان شبابنا ـ يتعاطفون ويبشرون بنخبوية سينما شاهين في تضاد أصيل
مع ثورية الفن كما يعتقدون. بل ان معظمهم لم يستطع أن يقدم برهانا وحيدا
على ثورية أعماله. هل كلاسيكية طرح "الأرض" وتربويته الثورية قادرة على
صناعة ثورة؟ هل نخبوية وفردية الحل الشخصي في سيرته الذاتية (إسكندرية ليه،
إسكندرية كمان وكمان، حدوتة مصرية) تصلح رهانا لتحرر الجماهير؟ ثم اخيرا هل
التحذير من فوضى ما بكامل زعيق الهتافات ستدفع الناس لتحطيم أبواب أقسام
الشرطة كما اختتم مبشّراً في فيلمه الأخير؟.
هذه
الأسئلة شائكة بطبعها وقد ابتلع الجميع الطعم واستعذبوا مذاقه. اليوم،
وبمسافة منضبطة ـ عن أحزان فقده ـ علينا الاعتراف بأن سلة كبيرة من الحقائق
والأوهام لسيرة هذا المبدع قد تاهت في المسافة المتقطعة بين نحو 40 فيلما
قدمها. علينا الاعتراف أيضا بأن التمرد على الأب الذي بشر به في معظم
أعماله لم يشفع له عندما تبادل الموقع واصبح أبا مكرسا يرفض تمرد الكثيرين
عليه. ثم هناك مجموعة الأوهام الخمسة حوله والتي لابد من مراجعتها اليوم
قبل أن تتحول الى حقائق في غياهب الأسطرة المتوقعة مع فقد كل عزيز.
الحالم
بهوليوود شرقية في لحظة قومية
أولى تلك
الأوهام، وهي المتعلقة بالكادراج، أو ما يسمى بالسيناريو التصويري البالغ
الدقة والمتميز لأعمال الراحل، ويضرب كثيرون مثالا بمشاهد تاريخية من افلام
مثل "الناصر صلاح الدين" و"عودة الإبن الضال" أو لاحقا في "المهاجر"
و"المصير"، حيث العناية الفائقة فعليا بمواصفات وحدة "الكادر" من حيث
التكوين والإضاءة والحركة. ولا ينكر عاقل أنه، قبل بداية تجربة يوسف شاهين،
كانت فاعلية تلك المستويات المبدئية للإخراج معطلة، فتاريخ السينما المصرية
بمخرجيها أهمل تلك المواصفات الأساسية التي يمكن تعلمها من أي كتب حرفية
للإخراج. وغالبا ماحملت الدراما (أي الحكاية) والتمثيل القيمة الأساسية
للعمل، سواء كان الفيلم كوميديا أو غنائيا أو إجتماعيا، وتحديدا في ما قبل
1950 (تاريخ إنتاج "بابا أمين" أول أفلامه) لم نلحظ أي إهتمام نوعي
بأبجديات الصورة الإخراجية. ويمكن إعتبار السينما المصرية في ذلك تلميذا
خائبا في مدرسة إقتباس التنويعات التجارية للسينما الغربية.
ما جاء به
المثقف شاهين العائد لتوه من أميركا هو إعادة الاهتمام بأصول الحرفة عند
حدودها الدنيا. وحتى في ذلك المستوى لم تظهر بشائر ذلك الاستنساخ الشاهيني
مباشرة، فـ"بابا أمين" و"أنت حبيبي" ومعظم "صراع في الوادي" و"باب الحديد"،
ينتمي الى التنويعات الإخراجية الشائعة في ذلك الوقت، ينتمي إليها وإن
إستسهل آخرون إطلاق صفة الغرائبية على أعماله. كان غريبا بالفعل أن تكون
السينما المصرية متجهة اكثر نحو أفلام الواقعية كما حدد مجالها صلاح أبو
سيف، فيما شاب قادم لتوه من هوليوود المكروهة يقدم سينما تحتفي بالتقنية
لمصلحة وجهة نظر فردية وذاتية. السينما في هذا التوقيت أيضا كانت كإبنة
أصيلة لتشوهات بداية الفن نفسه عالمياً. كانت تبحث عن شاطئ آمن في تقليدها.
بالنسبة لأبي سيف كانت الواقعية الإيطالية مناسبة لفقر إمكانات أصيل في
ثقافة البحر المتوسط. بالنسبة ليوسف شاهين كانت مخايلة أميركا هي الرهان.
لكن أليس غريبا على عاشق لجين كيلي أن يقدم في تنويعته الغنائية فيلما مثل
"انت حبيبي" ؟، إهتمام شاهين بالكادر هو ما أعطاه تلك الذائقة الغرائبية في
مرحلته الأولى، تكوينات تعتمد على التقديم والتأخير داخل العمق. حركة
كاميرا بدلا من سكونها الدائم إعتمادا على التقطيع اللاحق في المونتاج،
وعدسات تعشق ممثليها. كل ذلك في مواجهة مخرجين كانوا أقرب لمن يضعون
الكاميرا كيفما أتفق من مشهد لآخر. هل نتذكر كيف كان في "إبن النيل" يصور
مشاهد "الخارجي" مع عودة البطل لقريته خلال الفيضان، تلك الجرأة في السباحة
بكاميرا ثقيلة داخل مركب في حركة
traveling
أصرّ أن يصورها خلال فيضان حقيقي.
في فيلم
"الناصر صلاح الدين"، وفيما المنتجة الكبيرة آسيا تفلس من اجل تكريس بطولة
"ناصر"، واجه صاحب الحلم الهولييودي شرط الإنتاج المتواضع بفهمه العميق
للعدسة السينمائية. كان صعبا عليه أن يصوّر تلك الحشود الجبارة من الجنود ـ
جنود القوات المسلحة المصرية في الحقيقة ـ بكامل إكسسواراتها وملابسها
التاريخية، فماذا فعل؟ جلس مع شادي عبد السلام واتفقا على ان يكون قلب
التكوين القريب بكامل إكسسواره وملابسه بينما أطرافه وعمقه تتناقص فيه
الإكسسوارات والملابس لدرجة أن الصفوف الأخيرة حملت عصيا وارتدت أسمالا
ملونة لا أكثر !
هكذا كان
يوسف وفقا للمثل المصري "شاطرا يغزل برجل حمار". لكن هذا التحايل لم يحل
دون أخطاء ساذجة في الفيلم نفسه حين ظهر أحد ممثلي المجاميع في معركة بساعة
يد في قلب الكادر! هل كان هذا الخطأ ـ ومثله كثير في أفلامه التالية ـ هفوة
تمثل الفارق بين منطق "الشاطر ورجل حماره" وبين حلم السينما الأميركية التي
بلا خطأ؟
عشق
الممثل.. من محسن محي الدين الى هاني سلامة
ثاني
الأوهام الحقيقية في مسيرته الكبرى كان عشقه للممثل، فهو نفسه دخل تلك
المسيرة بحلم ممثل لا مخرج. سافر الى أميركا ودرس الرقص والسينما. وتاليا
عندما حاول أن يعوّض حلمه القديم راقصا وممثلا (جين كيلي ) في أكثر من
فيلم. هذا الإصرار على تفجير المواهب صنع من ممثليه دمى لا تتحرك إلا
بإشارة من صانعها الأصلي. فتاريخيا لم ينجح ممثل واحد صنعه شاهين من الألف
الى الياء خارج تجربته. وكان من نجحوا خارجها عندما يستقدمهم شاهين يتعرضون
الى معاملة من إثنين: إما الاستسلام المذل ليد المخرج الصانع ومن ثم يصبح
الدور كأن شيئا لم يكن، أو تقديمه بروح من يقدم دورا سينساه وينساه جمهوره
سريعا. الاستثناء الوحيد المقاوم لتلك الثنائية العقيمة كان محمود المليجي
في فيلم "الأرض". المليجي كان ضد نفسه واستسلم للورق، من يصدق أن الشرير
التاريخي للسينما المصرية، الارستقراطي النزعة والتكوين، يقدم دور الفلاح
المناضل الطيب الحزين (محمد أبو سويلم) ويتحدث القريبون ممن عاصروا الفيلم
عن مغامرات وصولات خارج التصوير جرت بينه وبين شاهين.
فيما عدا
ذلك النموذج، كان شاهين خالقا متوحدا مع نجومه. قدم عمر الشريف ـ صديقه في
الفيكتوريا كوليدج بالاسكندرية أوائل الثلاثينيات ـ نموذجا لأحلامه عن
الذكورة المصرية، بشرة سمراء ذات شامة في الوجه ـ تشبهه ـ وجسد مفتول
البنية وعين زائغة لا تستطيع تثبيتها في محجريها مع صوت خنوثي يتدرج من
الأنوثة في طبقاته الدنيا وصولا الى جعير جهير في طبقاته العليا. في "صراع
في الوادي" دراما الفقر والثورة في صعيد مصر بدا عمر الشريف ابن الفلاح
الفقير نموذجا لفلاح عائد من أميركا وليس صعيديا كان يلعب مع ابنة الباشا.
وفي "صراع في الميناء" يصيبك الشك معظم لحظات الفيلم في إدغام البطل للحروف
في بيئة ساحلية يتحدث الجميع فيها اللغة البحراوية. لاتنطلي عليك الخشونة
المفتعلة البادية في محاولات "الشريف" إستمالة ابنة خالته الفقيرة، بل أنك
تتعاطف كثيرا مع غريمه "احمد رمزي" ابن الباشا الذي يبدو متوافقا مع ما كتب
له في السيناريو الذي حفل بمفارقات كارتونية ضخمة. رحلة "جو" مع ما عمر
الشريف تحيلك الى تنافس خفي بين الدمية وصانعها على قلب فتاة مجهولة، حسمها
تقريبا الشريف بانتقاله الى السينما العالمية فيما ترك صانعه مغروسا في طين
التكيف مع سينما العالم الثالث منخفضة الطموحات. لاحقا، وكلما تصادفك أفلام
لعمر الشريف في مسيرته العالمية، لن ترى إلا ظلال يوسف شاهين في عينه
وكأنه، وعبر خمسين عاما من السينما، لم يجاوز اللقطة الشهيرة متوسطة القرب
له في "صراع في النيل" وهو يجعر في فاتن حمامة مجروحا ونازفا.
شاهين
المغرم بتعويض ذاتيته عبر ممثليه لم يؤمن مرة بتوسط المسافة بينه وبينهم،
كان غالبا ما ينظر في عيونهم باحثا عن نفسه فقط، وبما أن معظم ممثليه جاؤوا
إليه ممثلين أصلا، بذوات شبه مكتملة ومشكلات بنيوية غير قابلة للمراجعة، ظل
شاهين يبحث عن خامة عند نقطة التشكل الصفري، صلصال حرّ طري التكوين. لم يجد
ذلك إلا في محسن محيي الدين.
الدخول في
تلك المسافة الفاصلة بين يوسف شاهين ومحسن محيي الدين هو دخول لعش دبابير
عقل وروح المخرج الراحل. فما أحيط عن علاقتهما وتطورها ثم انفصالهما لاحقا
عن تديّن محيي واختفائه من العالم وتحريمه للسينما، كل هذه الأراضي مبثوثة
بألغام متفجرة حمل الراحل خريطتها الى العالم الآخر. وحجم ما ينسج عن تلك
العلاقة الاسطورية سيبقى علامة الاستفهام الأهم في مسيرة البطريرك الراحل.
ما هو مؤكد أن الفتي الصغير ذو الثمانية عشر ربيعا قدم مع "جو" بطولة أفلام
"اليوم السادس" و"الوداع يابونابرت" و"إسكندرية ليه"، طاقة جبارة وموهبة
كبري رقصا وتمثيلا بل وغناء، ولعب أدوارا ستبقى وحدها ما نتذكره من تلك
الثلاثية المثيرة للجدل. سيتحدث كثيرون عن سيرة يوسف شاهين اللامنتهية
المبثوثة في أعماله أو تشكلها منذ "إسكندرية ليه"، لكن يبقي "محيي" العلامة
الفارقة في كل تلك الأعمال. فقد إنطبقت المرآة لأول مرة على الخام. سيرته
قبل علاقته بـ"جو" غامضة، وبعدها اكثر غموضا بانسحابه من الحياة وإعلانه
تحريمه للسينما. أما "جو" من بعده فيتيم، فقد نصفه الآخر، ينتقم من
الإسلاميين لمصابه فيه في "إسكندرية كمان وكمان" ويفتت أبعاد علاقته بغواية
الممثل المخرج لاحقا في "المهاجر". يتحدث الجميع خفية عن علاقة عاطفية
جمعتهما لم يستطع المراهق الموهوب تحمل أعبائها إجتماعيا ونفسيا فكان
الانسحاب والارتداد الى نقطة التدين قبل أن يصبح موضة فنية مربحة لاحقا.
صنع "جو"
تمثلا ذهبيا لذاته أخيرا لكنه سرعان ما انكسر. وفي طريق النكبات العميقة
اللاحقة حاول صناعة مستنسخ: عمرو عبد الجليل، خالد الصاوي، وأخيرا الكارثة
هاني سلامة. الأول كان أضعف في الموهبة من تحمل وزر التعويض المبدئي،
الثاني إنتهازي متثاقف في عصبة وبات أكبر من العمل مع استاذه. الثالث
(المصيبة) ابن ظلال "محيي" الشكلية وضعف نظر وأمل جو في المواهب قاطبة. في
ما عدا ذلك كان ممثلو "البطريرك" عادة أنصاف آلهة، لم تخرج من المعبد، ولم
يحبها الناس. هل تتذكرون أحمد محرز البطل الثاني في "إسكندرية ليه" وعلي في
"عودة الإبن الضال"؟ (بالمناسبة مات أحمد محرز قبل أسبوعين شيخا عجوزا في
شقته بوسط العاصمة وظلت جثته يومين من دون أن يعلم أحد بموته)، أو بأي جرأة
أتت للبطريرك قبل ان تمثل "داليدا" دور فلاحة مصرية في "اليوم السابع" ؟
بهذه اللكنة والشعر الأصفر، بهذا "الديفوه" الكبير سقط واحد من أهم أفلامه
بعد ان افتقد للصدق، الصدق ذاته الذي افتقده معظم النجوم الذين شاركوه
البطولة فنطقوا بلسانه دون أن يتملصوا لحظة من شرك التحكم المفرط الذي نصبه
لهم. لم تقنعني يوما محسنة توفيق في أي من أدوار "بهية" التي قدمتها، محسنة
البكاءة اللاطمة الأقرب لمريضة نفسية. ممثلو شاهين غالبا ما يستحضرون
مخرجهم أمام الكادر. هو من ناحيته قادر على ضبط تلك التنويعات من نفسه
المتشظية على أكبر عدد من ممثليه. ينجو فقط اصحاب الأدوار الثانية الذين
يتحركون غالبا خارج القبضة الرقيقة المحكمة للبطريرك. هناك مثلا علي الشريف
وصلاح السعدني وحمدي أحمد في "الأرض"، هناك المليجي في "إسكندرية ليه"،
هناك نادية لطفي وعباس فارس وتوفيق الدقن في "الناصر صلاح الدين"، وهناك
سهير المرشدي ورجاء حسين في "عودة الإبن الضال".
المعولم... لا العالمي في لحظات اقتناص الفرصة
كان يوسف
شاهين المرتحل بين عالمين أوائل الخمسينات، القادم من أميركا بأحلام
هوليوودية بسيطة، كان مدركا لحدود ـ أو هو أدرك بالتجربة تاليا ـ عمق
الفارق بين سينما واقعية تجارية بسيطة في لحظة تحول في مصر وبين سينما
أميركية راسخة ومتنوعة الهموم وصناعية بامتياز. المنحى الواقعي للسينما
المصرية، وقد ارتدت عباءة الثورة، كانت مؤهلة لتتويج صلاح أبو سيف ورفاقه
من الواقعيين، ومثّل فيلم "باب الحديد" المعادلة الأهم في تناقضات الهوى
الشاهيني. فيلم واقعي لا يخلو من سيكوباتية ذاتية مطعم بحسّ ثوري في صبغة
تجارية زائفة، ولنحلل ذلك المركب الفريد أولا.
بذل "جو"
مجهودا ضخما ـ باعترافه لاحقا في "حدوتة مصرية" ـ لإقناع حماه المنتج تلحمي
بتمويل فيلمه. ضغط على زوجته لتضغط على أبيها. وعد زوج الابنة منتجه بفيلم
من بطولة هند رستم وفريد شوقي جناحي الأيقونة التجارية في تلك الفترة. جاءت
هند لتجد بطلا معوقا مشوها (قناوي) يربي نيران كبته الجنسي على مشهد غسل
قدميها. جاء الوحش فريد شوقي ليجد فيلما بلا مشاجرة واحدة تنكسر فيها
الموائد ونيف من الكراسي الطائرة. غلف ذلك كله صراع لتكوين نقابة للعاملين
بالسكة الحديد. فشل الفيلم فشلا ذريعا. تنكر فريد شوقي للجماهير التي
حاصرته في مكتبه بقوله: لقد ضحك علي المخرج وحذف مشاهد المشاجرات فحطمت
الجماهير مكتب شركة فريد شوقي للإنتاج، وبصق أحد المشاهدين في وجه يوسف
شاهين في العرض الأول، وأفلس حماه خارجا من صناعة السينما للأبد. من صدق
يوسف شاهين في تلك الفترة؟
المؤكد أن
ألف مشاهدة لهذا الفيلم لاحقا ستكشف هذا التركيب الرهيف لسينما يوسف شاهين،
فالفيلم إستجابة فورية للمرحلة الواقعية. الفيلم ذو إيقاع درامي أميركي
زاعق. هو نبوءة شاهين المتأرجحة تاليا بين "عولمة السينما وغبن التلقي
المحلي" على مسار حياته الفنية الطويلة.
يستجيب
شاهين لاحقا الى غواية تضييق الهوة بين العالمية والمحلية، أو التجارية
والفنية من ناحية أخرى. يأتي "الناصر صلاح الدين" تماشيا مع تأليه "ناصر"
و"جميلة"، إستجابة للمشروع القومي العروبي التحرري. الفارق بينهما ضخم، في
الأول يستسلم تماما لكتاب السيناريو اليساريين الحالمين بحل ذهبي للصراع
العربي الإسرائيلي فيقدم درسا تقنيا، في الثاني يبدو أن التسرع في إنتاج
فيلم دعائي لم يترك له حتى الفرصة في إقامة ديكور جيد أو العمل على ممثليه.
"جميلة" هو أفشل فيلم قدمه "جو"، وكيف لا وهو الذي دخل تصوير الفيلم وهو لا
يعلم أين تقع الجزائر أصلا! (وفقا لما ذكره الناقد سمير فريد في حوار
جمعهما). ومن ناحية أخرى سيتساءل الجمهور الجزائري بصدق عن ديانة المخرج
المصري في أول زيارة له. لن يصدقوا أن هناك "صليبيين" في مصر (أي مسيحيين)
فما يعرفونه أن العرب هم إما مسلمون أو يهود !، ونعم أوهام القومية
العربية، ومع ذلك سيلقى الفيلم تكريما مبالغا، في مهرجان موسكو عاصمة ثلج
الحرب الباردة، وسينبهر الفرنسيون وقد توازن الفيلم في تقديم الفرنسي
الشرير والطيب في آن. كل هذا رغم تواضع الفيلم فنيا وفكريا، ونعم الحرب
الباردة التي جعلت الجميع يهللون لاكتشاف مخرج نزيه في دولة الصحراء
البعيدة تلك.
الميل
لتجسير الفجوة بين الطموح الهوليوودي وسينما عالم ثالثية اتسم لدى شاهين
منذ البداية بمفهوم التناص. ففيلم "إبن النيل" الذي عرض في كان في العام
التالي لإنتاجه (1952) مأخوذ من فيلم أميركي، وفيلم السيرة الذاتية "حدوتة
مصرية" يكاد يكون نقلا حرفيا لفيلم أميركي آخر لبوب فوس "كل هذا الجاز"،
لكن طموح العالمية ذلك لم ينسه كون مجاله هو مجال الصنعة، فيما يعني ضمنيا
مواصلة الإنتاج. لذا ومنذ البداية وعبر أفلام مثل "المهرج الكبير" 1952،
و"نساء بلا رجال" 1953، و"سيدة القطار" 1954، و"شيطان الصحراء" 1955، ثم
تاليا وبمعدل فيلم أو إثنين في العام كان "جو" يستعيد مسيرة صعبة في التكيف
مع مواصفات صناعة السينما في خمسينيات وستينيات القرن الماضي، وبدا اقترابه
من تسجيل إعتراف عالمي قريبا مع دخوله مرحلة الإنتاج المشترك (جزائري فرنسي
في الغالب) في أربعة أفلام هي ("العصفور"، "الاختيار"، "عودة الإبن الضال"،
و"إسكندرية ليه")، فحاز على جائزة لجنة تحكيم مهرجان برلين الدولي عام 1979
عن "إسكندرية ليه"، وهذه الدورة تحديدا في برلين شابها صخب سياسي ضخم بعد
إنسحاب معظم الأفلام مع إصرار لجنة التحكيم على فوز فيلم "صائد الغزلان"
بجائزته الكبرى. رفض شاهين الانسحاب طمعا في جائزة ونالها بالفعل. لكن ذلك
لم يكن كافيا لتكرار نفس الجائزة من نفس المهرجان عام 1982 مع فيلم "حدوتة
مصرية". في هذه المرحلة إفتقد شاهين لرافعة جيل كامل من المبدعين الذين
لعبوا دورا في بلورة ثورية أفلامه مثل عبدالرحمن الشرقاوي ونجيب محفوظ وعلي
الزرقاني وصلاح جاهين، وهم مثقفون ذوو حس ثوري خاص عبروا بشاهين مرحلة
المطبات الصعبة لنقد ثورة يوليو والتمرد على أبوية "ناصر". فمرحلة الرباعية
الشهيرة أوائل السبعينيات مثلت قمة إنجاز شاهين السينمائي. كان هناك الى
جواره كوكبة راهنت على ثورية المضمون فتفرغ تقريبا للمحتوى التقني وضمن
النقاش مع هذه الأسماء الكبيرة تقسيم عمل رائعا وحرفيا سيفتقده لاحقا،
تحديدا حين جاءت لحظة الاحتفاء اللا نهائي بالسيرة الذاتية متناغمة مع
التمويل الفرنسي لأفلام "وداعا يابونابرت" و"اليوم السادس" وإسكندرية كمان
وكمان"، وهو مايفسر تاليا التدهور المتتالي لأفلامه بعد فراغ جعبة الذكريات
الشخصية والهواجس.
لابد هنا
من الإحاطة بمشهد إحتفاء العالم في الثمانينيات من القرن الماضي بتجارب
السينما العالم ثالثية. كانت نهاية الحرب الباردة قد وضعت أوزارها، و"جو"
في قلب هذه المنظومة يسأل أسئلته الذاتية عن الهوية: هل الغرب هو المستعمر
النبيل كما يبدو في بونابرت؟، أم أن هويتنا البحر متوسطية في خطر "إسكندرية
كمان وكمان"؟، ويمكن إضافة سؤال الهوية أيضا معكوسا على صعود التيار الديني
الذي طال "المهاجر" بعد أن كان ألمح لمأزقه الخاص في "كمان وكمان"؟
في قلب
تلك الأسئلة كانت الإستجابة الأوروبية أعلى لفهم مايجري في "القاهرة منورة
بأهلها". في كل تلك التفاعلات كان الارتباك في الرؤية هو سيد الموقف بين
المبدع وطرفي الرهان، عالمية تتعامل مع أعماله كمبحث إستشراقي و"محلية ذات
غبن" يرتحل هو بذاتية أفكاره بعيدا عن جذورها الضحلة، وفي قلب تلك الهوية
المختلطة لم يتبقَ إلا الكلاشيه التقني للعجوز الذي تؤلمه سهام النقد. ماذا
يفعل الدراماتورجي الكبير امام خطأ بنائي بحجم زمن رحلة "يوسف" بكتب ابن
رشد في فيلم "المصير"؟
في فيلم
"المصير" هناك رحلتان داخل زمن الفيلم في محاولة إنقاذ كتب ابن رشد، الأولى
يقوم بها تلميذ فلسفة أجنبي ينتقل خلالها من أسبانيا الى فرنسا (لاحظ الزمن
جغرافيا) وتستغرق نحو نصف الفيلم، فيما رحلة بالكتب يقوم بها إبن الخليفة
الى مصر من الأندلس وتستغرق عشر دقائق في الزمن الفيلمي!
وضع فرنسا
في جملة مفيدة دائما ودون مبرر درامي واضح كان المثلب الباقي دائما في
عالمية شاهين، عالمية أتضح لاحقا ملله من متابعة سرابها فانكفأ الى الداخل
زاعقا بوهم السياسة.
المراهقة
الثورية المتأخرة..في موازاة الانحطاط التقني
تبدو
"سياسية" أفلام شاهين قدرا محبطا، فهو لم يكن مسؤولا بالكامل، عبر مسيرته،
في بث ما يمكن تأويله سياسيا، ليبراليته الشخصية القادمة من زمن التكوين
الأول ثلاثينيات القرن الماضي لا تحتمل تعبئتها بمدلولات أمعن مثقفو
الستينيات بتوليفاتهم الناصرية والماركسية على شحنها من مرحلة الى أخرى.
لذا تبدو العشر سنوات الأولى في مسيرته استثمارا جيدا لبقايا زمن إنتاج ما
قبل الثورة، حقل تجارب كبير للبحث عن هوية لا تتجاوز طموح ابن طبقة وسطى
سكندرية ذي عبق كوزموبوليتاني. حافظ "جو" بذاتيته وتركيبته الخاصة على
مسافة مناسبة أكسبها بريقا لقب "الخواجة" الذي شتمه به مجايلوه، لكن حين
إحتاجت الثورة إستعراضا سينمائيا ضخما ومبهرا عالميا سقط "جو" ملك
الاستعراض في حجرها فورا. تلقف الموهوب "الناصر صلاح الدين" من أستاذه عز
الدين ذو الفقار ليؤسطر عبد الناصر في ملحمة تاريخية خاصة. ولأن زمن
الملاحم كان في مجد تدشينه تورط في الفيلم الوثائقي الدعائي "الناس والنيل"
عن ملحمة بناء السد العالي، استشعر من موقف الرقابة من الفيلم الممول من
الإتحاد السوفيتي خريف الأب الكبير، إنفعاله بهذه اللحظة أنتج ثلاثية نقد
الثورة "الاختيار"، "العصفور"، "عودة الابن الضال"، محمولا بهاجس تصحيح
مسار الثورة بعد نكستها الشهيرة. كان اعمق تلك الأعمال وأكثرها اقترابا من
ذاتيته هو "عودة الابن الضال". إلتحم في هذا الفيلم هاجس الهزيمة مع
الانهيار البطيء للطبقة الوسطي الريفية في أسرة تتبادل الأحقاد الدفينة على
خلفية صراع الأجيال الدائم. المقاربة الفيلمية ضبطت الوعي الذاتي بالوعي
الموضوعي في لحظة إستثنائية من مسيرته، وهو وعي جاء محمولا على أكتاف جيل
بالكامل كما سبق ذكره. لكن في نهاية الثمانينيات وحرب الخليج الأولى،
وتحديدا منذ فيلمه التسجيلي "القاهرة منورة بأهلها"، استند وعيه السياسي أو
سياسية أفلامه على إنفعالية واضحة، تأسّ كلاسيكي على لحظة مضيئة ذهبت بلا
عودة. بقي من هاجس الاختلاف فقط مزاولة الصدمة من تصاعد التيارات الدينية،
"المهاجر" 1994 كان مفتتحا لذلك العلاج بالصدمة، نشطت ضده قوى الإسلام
السياسي ودخلت سينماه تحت مقصلة التأويل الديني الرائجة حول قصة يوسف عليه
السلام. كان دفاعه عن فيلمه ينطلق من مبرر ليبرالي مصدوم ببلاهة النخبة
التي عادت للشارع مرة أخرى. الفيلم اشتبك أيضا مع لحظة مراجعة سياسية لجدوى
السلام مع إسرائيل وحُمّل الفيلم فوق طاقته الفنية والفكرية. طاقة بدت
مستنفدة فعليا في تهافت المضمون وتواضع الطرح وشكلانية الإبهار الإخراجي.
ثم أكمل مسيرة المواجهة بـ"المصير" الذي بدا قراءة تنويرية مبسطة لخطاب
قومي عروبي يتأسى على لحظة ليبرالية سياسية إسلامية ماضوية.
في العرض
الذي شاهدته لفيلم "المصير"، وقفت أنا وأحد زملاء المرحلة نسبّ يوسف شاهين
علنا في قاعة السينما التي يملكها في وسط البلد. كان الفيلم إستفزازيا
لأقصى درجة، مهندسا ليدخل الأزهر في غمرة المؤسسات التي حمت تراث ابن رشد،
محافظا في طرحه لإشكالية خلط الديني بالسياسي وهو خطاب الدولة بمؤسساتها
الثقافية ونخبها المجوفة، متهافتا وكاريكاتوريا في عرض المتطرفين كدراويش
بلهاء، إنسانيا مبتذلا في شخصنة ابن رشد لمستوى أن يدعو الرجل بعامية مصرية
زوجته لتذكر مغامرتهما الجنسية على إحدى الصوفات، مفتعلا تمثيليا لمستوى أن
الجميع يجعرون بلا مناسبة ويجحظون في كل مشهد قريب، ممتلئا بالأخطاء لدرجة
أن ماسورة غاز وكراسي بلاستيكية تظهر في بعض المشاهد، لكنه كان ناجحا
جماهيريا ومناسبا لدخول الدولة طرفا في إنتاج أفلامه، للدرجة التي حولته
لمقرر صيفي على شاشات التلفزيون الأرضي كلما حدثت عملية تفجير إرهابية.
يعود "جو"
لاحقا للسينما الذاتية وقد تهافتت إمكاناته الدرامية والتقنية بتوأمة
مشروعه مع خالد يوسف في "سكوت هنصوّر" و"إسكندرية نيويورك"، فتضمحل الصورة
الشاهينية عند أدني ظلالها، لا طعم ولا رائحة إلا في كادر هنا، وإطلالة
ممثل هناك، لكنه يلقى أخيرا إعترافا جماهيريا ودوليا فيكرمه مهرجان كان
ويظهر مرحبا به في البرامج التلفزيونية، ويصبح موضة بين الشباب الذين
يشتاقون الى كتف عار أو قبلة أو لفظ جارح.
المدهش أن
"هي فوضي" آخر إبداعاته والذي لم يشارك في 90% من تصويره أكسبه سمة المناضل
أخيرا، فلقي ترحيبا من النقاد الديماغوجيين، وعبّر بعنف عن شوق الملايين
لرؤية ثورة سينمائية مفبركة.
المستقبل اللبنانية في 10
أغسطس 2008
|