في رثاء يوسف شاهين:
فارس الفن السابع.. شاعر الصورة.. سفير الحرية
لودفيغ أمّان ـ
ترجمة: رائد الباش
شكلت وفاة
المخرج المصري العالمي يوسف شاهين خسارة فادحة للسينما العربية، حيث حملت
معظم أفلامه أبعادا ومضامين سياسية تتعلق بالفساد والرقابة والقمع السياسي
والتطرف الديني، بالإضافة إلى التعبير عن هموم المواطن المعيشية وتفاصيل
حياته اليومية. لودفيغ أمّان يستذكر الراحل الكبير يوسف شاهين.
لا يمكن
نسيان ذلك المشهد: حيث دخل المخرج المصري المشهور عالميًا يوسف شاهين إلى
فندقه في برلين متأخرًا كثيرًا عن موعده، وذلك لأنَّ الرحلة الجوية التي
كان سيسافر بها قد ألغيت. وأشعل سيجارة ثم بدأ وهو ما يزال في ردهة الفندق
الحديث الصحفي الأول.
وبقي
صابرًا لثلاثة أيام في ثلاث مدن ألمانية، من الصباح وحتى ساعة متأخرة من
الليل وبعدد لا يحصى من السجائر وحماس مُتَّقد في قصصه انتقل إلى الجميع.
وكان عمره في تلك الأيام اثنين وسبعين عامًا.
"الأفكار
لها أجنحة لا أحد يمنعها من الطيران"
لقد كان
هذا الرجل بمثابة محطة لتوليد الطاقة. وكان يتَّقد لما يؤمن به؛ للفيلم
الذي كان أخرجه لتوه - "فيلم المصير" (تم إنتاجه عام 1997)، والذي يعتبر
بيانًا مثيرًا ضدّ التطرّف الإسلامي وكلّ تطرّف. وهذا الفيلم في شكل
كوميديا موسيقية فلسفية، ينتصر فيها المفكِّر الحرّ والفيلسوف المسلم
الكبير، ابن رشد على خصومه المتزمِّتين، على الرغم من حرق كتبه والهرب -
وذلك من خلال العقيدة التالية التي يبرزها يوسف شاهين في المشهد الأخير:
"الأفكار لها أجنحة ... لا يستطيع أحد أن يمنعها من الطيران".
لقد كانت
الحرية هي الرسالة التي دافع عنها يوسف شاهين طيلة حياته وكافح من أجلها،
بحماسة وحتى بسخط وغضب مجنون. ولذلك كان يمكن في عصر آخر أن يُناط به دور
نبي.
ولكنه بدل
ذلك أصبح مخرج أفلام ناقد، كان يأمل حتى النهاية في هداية شعب بكامله -
هدايته إلى قيم لم يكن سيعجبه أن يتم التشهير بها باعتبارها قيمًا غربية؛
إذ إنَّه كان يؤمن بقيم عالمية. وفيلم "المصير" هو فيلمه الثلاثون.
جائزة عن
أعماله في مهرجان كان
وفي تلك
الفترة كان يوسف شاهين يعتبر منذ عهود طويلة أسطورة سينمائية، وهو المخرج
العربي الوحيد ذو الشهرة العالمية. وفي العام نفسه (1997) احتفل مهرجان كان
السينمائي بيوبيله الخمسين ومنح مخرجه المفضَّل الجائزة الفريدة من نوعها
عن جميع أفلامه التي أخرجها في حياته. وقد عاد عليه ذلك بعدد هائل ممن
شاهدوا فيلمه في دور السينما في فرنسا وبلغ ستمائة ألف مشاهد.
وفي
ألمانيا بلغ عدد مشاهدي فيلمه أقل من خمسة عشر ألفًا - اعتبروا بمثابة نجاح
مفاجئ. غير أنَّ تلك الأيام التي كانت تفتخر فيها القناة التلفزيونية
الألمانية الثانية
ZDF
بتقديم أفلام مصرية عظيمة لمشاهديها كانت قد ولَّت وانتهت.
وفي عام
1978 كانت الحال مختلفة؛ عندما قلب يوسف شاهين السينما المصرية للمرَّة
الثانية أو الثالثة في فيلم "إسكندرية... ليه؟" - بعد السكتة القلبية التي
أصيب بها - هو الفيلم الذي أجبر هذا المخرج المدمن على العمل على التوقّف.
وهذا الفيلم يعتبر الإنتاج الأول الذي يتناول سيرته الذاتية وكذلك مقدِّمة
لسلسلة أفلام رباعية قُدِّر لها أن ترافقه حتى نهاية حياته.
وفي هذا
الفيلم شاب يحلم في الإسكندرية في عام 1942 بدراسة الإخراج السينمائي في
الولايات المتحدة الأمريكية، مثلما فعل يوسف شاهين من عام 1946 وحتى عام
1948، وفي الوقت نفسه يخاف على وطنه من الأمركة - شعور بالبغض والحب
لأمريكا جعل يوسف شاهين يصعد إلى أعلى أشكال الجدال في فيلم "إسكندرية -
نيويورك" الذي تم إنتاجه عام 2004 وما كان له أن يكون عربيًا.
بعيدًا عن
كلِّ الحواجز الدينية والاجتماعية
وفي فيلم
"إسكندرية - نيويورك" مسلم يعشق يهودية، عربي وإنكليزية وفقير وغنية - كان
ذلك في وطن يوسف شاهين، في مدينة الإسكندرية ذات اللغات المتعدِّدة والتي
تجمع أجناسا مختلفة من البشر، المدينة التي ولد فيها يوسف شاهين عام 1926
لأسرة كاثوليكية يونانية، ليشهد هناك حلم تعايش بدهي بين جميع الناس بعيدًا
عن كلِّ الحواجز الدينية والاجتماعية والقومية والجنسية.
لقد كان
هذا ما استحضره سواء في الدراما الموسيقية أم في الميلودراما برغبة مستفزة
في تجاوزات إيروتيكية للحدود - في عقود من الزمن كانت مصبوغة في البداية
بصبغة هزيمة الإرث الذي يعود إلى ما قبل الحداثة ويجمع مختلف الأجناس،
هزيمته في ظلِّ القومية العربية ومن ثم بصبغة التمتّع بالحياة في ظلِّ
التزمّت الإسلامي - مأساة كانت تجعله ييأس مرارًا وتكرارًا من وطنه.
ومن بين
كلِّ الروائع السينمائية التي أهداها لنا يوسف شاهين، كان فيلم
"إسكندرية... ليه" فيلمه الأكثر جراءة من جميع الجوانب وقد حصل هذا الفيلم
بذلك على جائزة الدب الفضي من مهرجان برلين السينمائي.
آداب
جنسية بالية
وبالتأكيد
من شاهد فيلم "باب الحديد" الذي تم إنتاجه عام 1957 لن ينسى أبدًا كيف
أدَّى يوسف شاهين بشجاعة أسطورية الدور البشع، دور قناوى بائع الجرائد
المعوز الذي يتحوَّل إلى قاتل بدافع الحبّ - دراما نفسية واقعية محدّثة
تذيب القلوب وما تزال حتى يومنا هذا تصوِّر فقر الآداب الجنسية البالية.
لم يكن أي
من أفلامه يحقِّق أرباحًا كثيرة، ولا حتى في مصر على الرغم من الرقص
والموسيقى - باستثناء فيلمه الأخير؛ فيلم "فوضى" الذي تم عرضه العام الماضي
في دور السينما. تدور أحداث هذا الفيلم حول فساد الشرطة الإداري والتعذيب
والاغتصاب.
ويبدو
أنَّ الوقت قد حان هنا من أجل النقد الذاتي الشديد، الأمر الذي يظهر أيضًا
في نجاح إخراجه لرواية "عمارة يعقوبيان" للكاتب علاء الأسواني. ومن حسن حظّ
يوسف شاهين الذي توفي في السابع والعشرين من شهر تموز/يوليو عن عمر ناهز
الاثنين وثمانين عامًا، أنَّه شاهد بصيص النور هذا في مجتمع مغلق.
حقوق
الطبع: قنطرة 2008
موقع "قنطرة" في 5
أغسطس 2008
|