قبل الدخول من "باب الحديد" وبعد الوصول إلى "المصير":
وداعاً يوسف شاهين
عبدالله حبيب
1. "حَنْحَارِبْ..
حَنْحَارِبْ"
-- الشِّعار العفوي
الذي هتف به ملايين المصريين على إثر إذاعة خطاب استقالة جمال
عبدالناصر من رئاسة الجمهورية وإعلانه تحمله الكامل لمسؤولية هزيمة
1967 –
2. "حَنْحَارِبْ..
حَنْحَارِبْ"
-- بهيَّة (رَمْزُ
مصر) في فيلم يوسف شاهين "العصفور" (1972) --
بوفاة يوسف شاهين
المؤسفة – إذ ان موت الفنَّان، بل الإنسان وما أكثر في الناس من
فنَّانين لم ينتجوا "نصوصاً" بل كانت حياتهم ابداعاً صرفاً، حَدَثٌ
فاجع حتى ولو ادَّعى الهلاك ببرودته ولامبالاته المعهودتين انه جاء
في الوقت المناسب تماماً من باب الشفقة والرحمة على الأقل -- فقدت
السينما البديلة والجادة وقضية الدفاع عن الحق، والعدل، والخير،
والحرية، والجمال النبيلة واحداً من رموزها الصادقة الشَّرسة،
جريئة الصوت وعاليته في العالم أجمع، وليس في "أمِّ الدنيا"
العزيزة والوطن العربي المُمزَّق وحدهما فحسب ("دَهْ واحد إبن
كلب!" كما وصفه أحمد فؤاد نجم من باب المدح بطريقة الذم على النحو
الشعبي المصري الذي تعني فيه بعض المفردات والتعبيرات عكسها
تماماً. وفي الواقع فإن الشيخ إمام كان قد صَدَحَ بـ "يا بهيَّة"
من تأليف أحمد فؤاد نجم في فيلم يوسف شاهين الشهير "العصفور"
[1972])؛ فطوال عمره الذي امتد لاثنين وثمانين سنة غير مترهلة
(1926—2008) أنجز خلالها أكثر من أربعين فيلماً ظلَّ المشاغب
الكبير الراحل ذو الألفاظ "الوسخة" مُتَّسِقاً مع نفسه (لم
يُسْتَضَف تلفزيونيَّاً على الهواء مباشرة إلا مرة واحدة فقط قال
فيها ما جعل جميع الفضائيات العربية تقرر في صمت أشبه ما يكون بالـ
gentlemen agreement
عدم بث أي حوار معه مباشرة خشية أن يحدث ما لا تحمد عقباه).. ظل
يوسف شاهين، إذاً، متناغماً مع رؤاه، منسجماً مع مواقفه وتصريحاته
الحادة، الغاضبة، المثيرة للجدل وسخط المؤسسة الرسمية في أغلب
الأحيان، وفيَّاً لمبادئه، وقناعاته الفكرية والسياسية، وزملائه،
وتلاميذه الذين أغدق عليهم المحبة والقسوة معاً بطريقة لم ينافسه
عليها سوى المخرج السينمائي الألماني الراحل راينر ماريا فاسبندر،
وذلك في زمن صعب للغاية هو زمن التساقطات، والإضمحلالات،
والتراجعات (و"المراجعات")، والإنبطاحات، والخيانات، والصفقات
الاستفزازيَّة الرعناء والخائفة والخافية وتلك التي لا يمكن
إخفاؤها، متحولاً، ومتقدماً، ومجرِّباً، وقلقاً، ونزقاً، وعصبيَّاً
في أساليبه ومعالجاته الفنيَّة كما هو الحال في حياته الشخصيَّة
(وصفه الناقد السينمائي الفرنسي المعروف جورج سادول بأنه "أفضل
مخرج سينمائي مصري من أبناء جيل ثورة 1952، و"هو واقعيٌّ ساحر
ومثير" كما أشار عبقري السينما الفرنسية جين رينوار إلى إحدى
مراحله الثلاث حسب التوصيف النقدي العام الذي قد يتفق معه المرء
وقد يختلف: المرحلة الأولى [الاجتماعيَّة والسياسيَّة] من 1950
إلى 1976؛ المرحلة الثانية ["الذاتيَّة" – البعض يقول لصالح
الأسباب والتبريرات وطالحها: "النرجسيَّة"] من 1979 إلى 1997؛
المرحلة الثالثة ["التجريبيَّة"، وفي تصوري "بانورماميَّة النوع"
generically panoramic
أيضاً] من 2000 إلى 2007)، إنْ في الحقبة الملكيَّة الفاروقيَّة
الفاسدة غُبَّ شرخ شبابه حيث سيكون، مثلاً، فيلمه الملحمي البديع
"الأرض" (1969) المقتبس عن رواية عبد الرحمن الشرقاوي، والذي أنجزه
بعد قيام ثورة 23 يوليو 1952، هجوماً كاسحاً على ما يمكن تسميته بـ
"الإقطاع الشَّرقي في المرحلة الرأسماليَّة العالميَّة" (حيث انه
من الصعوبة بمكان تسمية نمط الإنتاج الاقتصادي في الريف المصري
أثناء الحكم الملكي بـ"الرأسمالي" لأسباب عديدة – ولا عزاء هنا لـ
"الرفاق"!)، والاستغلال، ومَوْقَعَةً لجذور الثورة في معاناة
الفلاحين واضطهادهم، أو الحقبة الناصريَّة الصاعدة التي تضامن معها
لكنه لم يجبن عن نقدها كما فيلمه "باب الحديد" (1958) الذي هو
بصراحة فيلمي الأثير من أفلام الراحل على الرغم من انه من بواكير
سجلّه السينمائي الغني؛ ذلك انه فيلم "عُصابيٌّ" أو"ذُهانيٌّ"
بامتياز (وبأكثر المعاني إيجابيَّة لهذين المصطلحين الفرويديين
السلبيين عادةً)، والذي وصفه النقد السينمائي الغربي بأنه "النسخة
العربية الممتازة من فيلم "لص الدرَّاجات الهوائية""، التحفة
الخالدة لسينما "الواقعية الجديدة" الإيطالية من إخراج فيتوريا دي
سيكا، مثلاً، ولم يتردد – أي شاهين -- في وَصْلِ المرحلة
الناصريَّة بـ"زمان الوَصْلِ في الأندلس" على اعتبار ان المرحلة
الناصريَّة تلك على الرغم من كل شابها من اعوجاجات، واخفاقات،
وارتجالات، واجتهادات متسرِّعة، إنما كانت "أَلِغْوْرْيَا وطنيَّة"
(national
allegory) لصفحة
مضيئة من التاريخ الإسلامي كما في فيلمه "الناصر صلاح الدين"
(1963)، مثلاً (أو أن الفيلم ذاك كان "أَلِغْوْرْيَا وطنيَّة"
لتينك المرحلتين، بغض النظر عن الاتفاق أو الاختلاف مع مقولة
المفكِّر الماركسي ما بعد الحداثي الأمريكي الفَذِّ فريدريك
جيميسون ان "كُلّ" النتاج الفنِّي في العالم الثالث هو "أَلِغْوْرْيا
وطنيَّة" ورفض الشاعر بلغة الأوردو والمفكر الماركسي الباكستاني
المخضرم بالإنجليزية إعجاز أحمد لهذه المقولة في السجال الشهير
الذي دار بين الرجلين على صفحات "مجلَّة اليسار الجديد"
البريطانيَّة)، والذي – أي فيلم "الناصر صلاح الدين" الملحمي --
قام سبعمائة وعشرين ممثلاً بأدوار "الكومبارس" فيه، كما "أقرَّ"
يوسف شاهين بنكسة يونيو 1967 المريرة لكنه لم "يعترف" بها وإن كان
مقتنعاً بآثارها الكاسحة الرهيبة كما في فيلمه "الإختيار" (1970)،
مثلاً، بل راهن على خروج العنقاء من الرماد، وتنبأ بنصر حرب أكتوبر
1973، وإن كان عاجزاً لاعتبارات وجيهة للغاية عن التنبوء بسرقة ذلك
الانتصار التاريخي والإنجاز العسكري الاستثنائي في رابعة النهار
كما فيلمه "العصفور" (1972) الذي يطلق عليه بعض النقاد السينمائيين
العرب لقب "فيلم النكسة بامتياز"، والذي لم تسمح الرقابة المصريَّة
بعرضه إلا بعد نصر أكتوبر (هه!)، مثلاً، أو الحقبة الساداتيَّة
المرتكسة والطَّلاقيَّة، أو الحقبة المباركيَّة المُكرَّسة
الموصولة بها والمعروف موقفه منهما جيداً. وقد تحمل يوسف شاهين
الكثير بسبب ذلك العناد البطولي الثابت والمثابر في تلك الحقب
المتباينة جميعها. أن يكون المرء متسقاً مع نفسه خير من ان يكون
التاريخ متغيراً باتساقاته – هذا إن أراد المرء أن يكون مخلصاً
لنفسه، ووفيَّاً لتجربته، وليأتِ الجحيم بعد ذلك إن شاءت النيران.
وعلى الرغم من
مصريَّته القُحَّة التي أوصلته إلى العالميَّة -- بل سيقول المرء "اسكندرانيَّته"
بقليل جداً من التردد (في الحقيقة لم يصوِّر يوسف شاهين خارج مصر
على الرغم من ضخامة سجلِّه السينمائي إلا في لبنان والمغرب
واسبانيا – فتدبَّروا، وتفكَّروا، وتأملوا يا أولي الألباب من
المبدعين العرب الأغرار المُغَرَّر بهم الباحثين عن "العالميَّة")
-- كان يوسف شاهين متواصلاً ومعبِّراً عما يدور من مواقف وأحداث،
على ساحات النضال، والتحرر، والتقدم، والإبداع، والحريَّة، في بقية
الوطن العربي الذي كان ولا يزال زاخراً بالأحداث والرموز كما في
فيلميه "جميلة الجزائريَّة" (1958) حول حرب التحرير الوطني
الجزائرية ورمزها النسائي الأكثر شهرة جميله بو حريد التي قطع
الغزاة القادمون من "عاصمة النور" ثدييها (والتي لا تقل أهمية عن
المناضلة الألمانيَّة روزا لكسمبورغ التي خصَّتها "السينما
الألمانية الجديدة" بفيلم قوي من إخراج مارغريت فون تروتا لو كان
قومي يعلمون -- وكانت في بلادنا، بالمناسبة، مدرسة ثانوية للبنات
باسم "ثانويَّة جميلة بو حريد"، ولدى وفاة المناضلة البحرينيَّة
الأسطوريَّة ليلى فخرو [يعرفها معظمهم باسمها الحَرَكي الخالد:
هدى بنت سالم] قال لي أحد الأصدقاء: "لو كانت هذه المرأة
أوروبيَّة وشَعرها أشقر وعيناها زرقاوان فإنني أؤكد لك انك كنت قد
شاهدت عشرة أفلام روائية سينمائية عنها على الأقل بحلول هذا
الوقت"، وأنا أؤكد له ذلك أيضاً)، و"عودة الإبن الضال" (1976) حول
جحيم الحرب الأهلية اللبنانية، مثلا.
ولا شك أنها مفارقة
فاقعة، ومريرة بالمقاييس كافة، و"لائقة" تماماً "في وصف حالتنا"
(إن كنت أستطيع استعارة عبارة محمود درويش الذي ما جفَّ ثراه بعد
في فقدٍ موجع آخر) أن من أوائل من نعوا يوسف شاهين ووجهوا له
التحية، والثناء، والتقدير قبل أن يُوارى الثرى كان الرئيس الفرنسي
الحالي نيكولا ساركوزي، ورئيس الوزراء فرانسوا فيون، والرئيس
الفرنسي السابق جاك شيراك المعروف باهتماماته الثقافية المتعددة،
وليس رئيس أية دولة – بل حتى ليس "مدير دائرة المُخَيِّلَة،
والمِخْيال، والذكاء، والفطنة، والموهبة، والابتكار، والثقافة،
والإبداع، والفكر، والجمال، والتَّفرُّد، والطبيعة، والطبائع، إلخ"
في أي من المؤسسات "الثقافية" العتيدة -- في الوطن العربي الذي
انتمى إليه الراحل وانشغل بقضاياه وهمومه بطريقة متقدمة
"استعاديَّة" (فلنقل مثلاً من فيلم "باب الحديد" حيث تتجلى القسوة
الوجودية للحياة والتعقيدات الإنسانية العنيفة والغامضة في مصر
خمسينيات القرن الماضي حتى في ظل المشروع الاشتراكي الطموح، إلى
فيلم "المصير" [1997] حيث العصر الأندلسي الزاهي والفيلسوف المسلم
ابن رشد الذي شرح أطروحات أرسطو للحضارة الغربية وبداية الصدع
الرهيب بإحراق كتبه في مشهد سيظل عالقا في الذاكرة دوماً [نحن لم
نعد نعرف الكثير الكثير عن ابن رشد في الوطن العربي، ولكن في
الفلسفة الفرنسية هناك تيار كامل اسمه "الرُّشْدِيُّون الجُدُد"]–
وليس "باب الحديد" أول أفلام الراحل، كما لم يكن "المصير" آخرها)؛
بل إني شاهدت حلقة تلفزيونيَّة مصريَّة تم التوسل فيها على الهواء
مباشرة أن يتم توفير طائرة طبية مجهزَّة لنقل يوسف شاهين من
القاهرة إلى باريس للعلاج بعد إصابته بنزيف في المخ في أيام حياته
الأخيرة حيث لا توجد إمكانات طبيَّة لعلاج حالته المستعصية في
مصر.
وإذا كانت تلك
الطائرة تم توفيرها في خطوة "رمزية" من باب رفع العتب (حيث "ما دام
الرجل العجوز المشاغب يحتضر وسيموت قريباً لا محالة فلنفعل شيئاً
لأجله لعلنا بذلك نستطيع احتواء اسمه وتجييره لصالحنا أخيراً")
الذي – رفع العتب، عنيتُ -- لا يعادل هنا سوى دفع البلاء بنواةِ
تَمرة في عز الصيف. وإذا كان التابوت الذي رقد فيه شاهين رقدته
الأخيرة قد لُفَّ بالعلم المصري في خطوة أخرى من أجل "احتواء اسمه
وتجييره لصالحنا أخيراً"، وذلك بحضور أكثر من ألف من زملائه
وتلاميذه وأهل بلده، فإن هذا، في الحقيقة، هو القَدَرُ النموذجي
للمبدع العربي الحقيقي: لا يلتُفت إليه إلا وهو يحتضر أو قبيل أن
تأكله الديدان (هذا إن حدث ذلك في نادر الأحيان) أو بعد ذلك بزمن
طويل جداً في الغالب؛ أما في أثناء حياته فليس هناك سوى القمع،
والتنكيل، والمنع، والحصار، والاضطهاد، والمطاردة، والتجويع، ومقص
الرقيب الذي يجلبه مباشرة من عِند شَعر عانته أو إسته، بل وساطوره
المجلوب من أقرب مسلخ ثقافي في الحارة، والمُسلَّط على النص
الإبداعي وعلى رقبة وقلب صاحبه.
وتشجعني مناسبة رحيل
يوسف شاهين بكل ما تحمِلُّ، وتَتَحمَّل، وتُحَمِّل من حزن ودلالات
تذهب إلى ما هو أبعد من الشخص أن أجرؤ على القول هنا بأقصى ما يمكن
من الوقاحة العقلانيَّة إنني -- في الوجه الآخر من العملة، وهو
أيديولوجي -- أرى في تجربة يوسف شاهين نموذجاً للقدرات والطاقات
الخلاقة الكامنة في البورجوازية الصغيرة العربية التي تعامل معها
اليسار العربي (الذي قام فكريَّاً على ترجمات خاطئة أصلاً حسب أحد
أصدقائي المزَّاحين الظرفاء!) في ذروة صعوده الهائج الأهوج (ألم
يَدْعُ ذلك اليسار في يومٍ ما إلى "التصنيع الثقيل" تماماً كما حدث
في الاتحاد السوفيتي السابق والصين، وليس أقل من ذلك أبداً، وذلك
في منطقة جبليَّة لم تصل إليها الرَّحى اليدويَّة لطحن الحبوب –
ذلك الانجاز الانثروبيولوجي الرهيب! -- بعد، ولا تتوافر فيها
المواد الأوليَّة الكافية لتصنيع أقلام الرصاص؟!) بنظرة ضيِّقة
وعدوانيَّة نظريَّة حنبليَّة متطرفة لصالح الحلم الطوباوي الجامح
المناط تحقيقه المؤكَّد الأكيد بالبروليتاريا العربية ("لكن عليك
الآن أن تصارحني أيها الرفيق العزيز: أتوجد لديكم طبقة
بروليتاريَّة حقاً في اليمن والخليج وشبه الجزيرة العربية؟!، قُلْ
لي الآن لأن الأمر مهم للغاية!"، كما سأل ليونيد بريجينيف الراحل
عبدالفتاح اسماعيل ذات اجتماع)، حبيبة القلب وتاج الرأس وبلسم
الجراح ومعقد الآمال الكبار، والتي – أي البورجوازية الصغيرة ذات
الانجازات الكبيرة في التاريخ العربي الاسلامي منذ السيدة خديجة
بنت خويلد، الزوجة الأولى لرسولنا الكريم محمد صلى الله عليه وسلم،
وحتى الآن – تتلقى الآن الصفعة القاسية الثانية على خدها الآخر حيث
يتم سحقها بطريقة مُمَنْهَجَة ومنهجيَّة من قِبَل الأنظمة الحاكمة
(لن يضير أبداً أن أقول "المحكومة") وحاشيتها الإقتصا-سياسيَّة
مقيتة الصيت بوحشيَّة غابيَّة في مختلف أقطار الوطن العربي لصالح
البورجوازية التاريخية (سأفترض ببعض التردد وجودها لدينا)،
والبورجوازية الطفيليَّة (أه!، هذه لا داعي للتردد أمامها أبداً كي
لا أخسر متعة الاحتساء المتلمظ لزجاجة مياه معدنيَة صغيرة باردة
وأنا أتمشى صيفاً على كورنيش مطرح!) ، والبورجوازية الوافدة،
والبورجوازية المستوطِنة، والبورجوازية العابرة للقارَّات،
وبورجوازية مقيت الذكر "النظام العالمي الجديد".
لقد حدث ذلك التهميش
الأحمق، والأخرق، والقاسي للبورجوازية الصغيرة العربية بعد وقت
طويل من اعتراف الفكر اليساري الغربي وتثمينه للخطوات المهمة التي
أنجزتها البورجوازيَّة الوطنيَّة هناك، هذا ناهيكم عن البورجوازية
الصغيرة (وقد أخفق الوطن العربي تاريخيَّاً في تقديم بورجوازيَّة
وطنيَّة؛ هذا ناهيك عن المتقدم والتالي في "نمط الانتاج
الآسيوي"). وبهذا فإنه لعل تجربة يوسف شاهين السياسية (آخر أنشطته
النضاليَّة المشاركة في حركة "كفايه") والإبداعية (آخر أفلامه "هي
فوضى" [2007]) تقنع من لا يزالون في قيد الحياة من ذوي الرؤوس
اليابسة والقادمين الجدد إلى معترك العمل السياسي (الذي تغيرت
خارطته) والممارسة الثقافية (التي لا تزال تعمل على رسم خارطتها)
أن القفز البهلواني على الضرورة الليبراليَّة التاريخيَّة ليس إلا
من تُرَّهات وحماقات الفكر السياسي والثقافي العربي وإخفاقاته
المريعة، حيث لن يسمح لنا التاريخ أبداً بـ"العودة" إلى "هناك" على
النحو الذي نريد "اليوم".
وفي مسيرته
السينمائية جمع يوسف شاهين بصورة استثنائية بين الذاتي والموضوعي
كما في خالدته "الرباعيَّة" (إسكندريه ليه [1978]، و"حدُّوته
مصريَّه" [1982]، و"إسكندريه كمان وكمان [1990]، و"إسكندريه..
نيويورك" [2004]) حيث يصبح المكان الشخصي العالم كله، أو المكان
الذي يتحرك فيه العالم باعتباره هوية مُشَخْصَنَة، ويصير التاريخ
المعاصر لمدينة الإسكندرية في أحد الوجوه بأطيافها المختلفة
والواسعة تاريخه الشخصي، ويغدو تاريخه الشخصي المعقَّد تاريخاً
للإسكندرية المعاصرة (حقاً لم ينافس بيروت على شخصيتها "الكوزموبيلاتينيَّة"
أي من المدن العربية سوى الاسكندرية التي أنجبت شاهين).
وقد اعتبر يوسف شاهين
نفسه دوماً عربياً (بالنظر إلى هويته القوميَّة السياسية)،
وإغريقياً (بالنظر إلى أصول أمِّه اليونانيَّة)، ومسيحيَّاً
(بالنظر إلى ديانة عائلته)، ومسلماً (بالنظر إلى هويته الثقافية/
الحضارية)، ودرزيَّاً (بالنظر إلى الأصول اللبنانيَّة لعائلته).
وقد اسهمت هذه الخلفية الاستثنائية الخصبة في تكوين شخصيته
الثقافيَّة والمدنيَّة العلمانيَّة المنفتحة وتعدد الموضوعات التي
عالجها في أعماله.
ويظهر يوسف شاهين
بصفته ممثلاً في العديد من أفلامه، حيث من الصعب، مثلاً، نسيان
أدائه التمثيلي الاستثنائي في فيلمه "باب الحديد" (قلت لنفسي بعد
مشاهدة ذلك الفيلم الذي فاز بأكثر من جائزة عالمية انه ربما كان من
الأجدر بيوسف شاهين أن يكون ممثِّلا لا مخرجاً) الذي يقوم فيه بدور
بائع الصحف قناوي الواقع سراً في غرام بائعة المشروبات الغازيَّة
هنومة، والذي ظهرت نسخته الإنجليزية ذائعة الصيت بعنوان "محطة
القاهرة" (Cairo
Station).
غير ان حضوره بوصفه ممثلاً في تلك الأفلام يتجاوز كثيراً كونه حضور
"الكاميو" (cameo) بمعنى
انه لا يتعدى كونه "توقيعاً إخراجيَّاً" (directorial
signature)
كما في أفلام ألفرِد هيتشكوك مثلاً، ليصبح ما أسميه "الحضور
الجسدي- في- الخطاب" (corporeal
presence- in- discourse)؛
أي حين يكون جسد المخرج أمام آلة التصوير وليس وراءها باعتبار ذلك
الجسد الراوي أداة بنيويَّة في السرد الفيلمي؛ قول الجسد للتاريخ،
سجال الجسد أمام التاريخ، التاريخ باعتباره ليس أكثر أهمية من أي
شخص مِنَّا، والتحام السارد بالسرد والمسرود: جَسَدُ المخرج
السينمائي – اختصاراً -- باعتباره شاهداً على التاريخ.
وفي أية حال فإن
مفردة "الجسد" باعتبارها مفهوماً حسيَّاً وموضوعاً وجوديَّاً ضخماً
ليست غريبة أبداً على تجربة يوسف شاهين الحياتية والسينمائية
الاستثنائية، إذ أن الراحل الكبير كان واحداً من قلة من
السينمائيين العرب، إن لم يكن الوحيد، الذي كسروا في أفلامهم "تابو"
الإعلان عن ميولهم وتفضيلاتهم الجنسية غير القياسية، كما في حالة
الثنائيِّة الجنسيِّة ضاربة الجذور في الثقافة الجنسيَّة العربية،
بصورة أوتوبيوغرافية صريحة (السواد الأعظم من المبدعين العرب
فُحولٌ، "دون جوانيّون"، شبقون، مغتلِمون، ناعظون في النصوص، أما
حين يغلق باب غرفة النوم في آخر الليل فقد يختلف الأمر بالنسبة
لبعضهم رأساً على عقب وفوقاً على تحت فوق السرير). ولا شك ان فعل
ذلك في المجتمع العربي الذكوري العربي الذي يحدث فيه ما يحدث في
بقية المجموعات البشرية لكن بشرط أن لا تجاهر بحريتك وخياراتك
(الجنسيَّة خاصة) إنما يتطلب جرأة وشجاعة غير عاديتين، وهذا مما
يحسب لصالح الراحل الكبير بكل تأكيد.
أستميحكم المعذرة
الآن في الإتيان على ذكرى شخصيَّة؛ فقبل بضع سنوات استضافتني
مشكورةً جامعة أوتاجو في نيوزيلنده لتدريس أول مساق تقدمه عن
"السينما الثالثة في العالم الثالث". وسيكون من نافل القول ان
يوسف شاهين كان واحداً من أربعة مخرجين سينمائيين اخترتهم لتمثيل
السينما العربية في حوارها مع مفهوم "السينما الثالثة" في المساق
ذي المجال الجغرافي والتاريخي والثقافي والفنِّي الواسع (بالطبع،
سينمانا "الثالثة" في الوطن العربي لا تستطيع ان تنافس نظيرتيها
المتقدمتين في إفرقييا وأمريكا اللاتينيَّة). غير ان حيرتي كانت
شديدة حول أي فيلم ليوسف شاهين ينبغي أن أختار، خاصة وانني كنت
محكوماً بضرورة توفر نسخة مترجَمة الحوار الى الإنجليزية من الفيلم
الذي يستقر عليه رأيي.
وفي الحقيقة فإني لا
أعتقد على الإطلاق أن فيلم "المصير" أفضل أفلام مخرجنا الراحل، بيد
ان قناعتي استقرت على اختياره لأسباب موضوعية تتعلق بضرورة التصدي
حينذاك للإلصاق المجاني والنمطي والجائر لتهم الإرهاب والعنف
بالعرب والمسلمين بعد أحداث سبتمبر 2001، كما اعتقدت انه من
الضروري ان يرى الطلبة النيوزيلنديون لمحات من الماضي الإسلامي
المشرق على الرغم من انني شخصياً لا أُحسِنُ الإقامة في الماضي،
غير انني – وأنا هنا أستطرد بعد إذنكم -- ومنذ عام 1979 كنت ولا
زلت مسكوناً بجملة أرددها دوماً يقولها الأمير فيصل (الذي قام
بدوره أَلِكْ جينيس) للورانس العرب (الذي قام بدوره بيتر أوتول) في
فيلم "لورانس العرب" من إخراج ديفيد لين: "لكن أتدري أيها السيد
لورانس انه كانت هناك في مدينة قرطبة العربيَّة سبعة أميال من
الإنارة العامة عندما كانت لندن قرية؟!".
وقد أسعدتني إلى
أبعد الحدود الحوارات الحيوية وروح اللهفة لمعرفة الآخر
المُشَيْطَن في النقاشات التي دارت مع الطلبة حول الفيلم ودهشتهم
لماضي التسامح، والتعدُّديَّة، والعقلانيَّة، وتَقَدُّم الماضي
الإسلامي في الأندلس. كانت تلك تجربة سعيدة بكافة المقاييس.
وبالمناسبة، عليَّ
أن أقول هنا – استطراداً إيضاً -- أن نيوزيلنده بلاد على العرب أن
لا يتأخروا في الانتباه لها أكثر مما فعلوا من طول غفلة في المجال
السياسي وإقامة العلاقات الدولية الاستراتيجية الراسخة. في
الحقيقة ربما كانت نيوزيلنده آخر بقعة على الأرض سترحب بالعرب
المتأخرين؛ فهذه البلاد الصغيرة التي يقوم اقتصادها على الاعتماد
الذاتي بطريقة في غاية الإحكام، والرغبة في إقامة مشاريع اقتصادية
طموحة مع الخارج (اقتصاد نيوزيلنده وخدماتها الاجتماعية لمواطنيها
شبه اشتراكي وهي التي ألهمت السويد تجربتها الاستثنائية المعروفة –
"نحن بلاد يقوم اقتصادها على الخراف والنعاج والشياه – والأبقار
احتياطاً، حيث سيكون من الخطأ الجسيم أن تعتقد اننا لا نملك
مخزوناً احتياطيَّاً على الرغم من اننا لا نملك قطرة نفط واحدة–
وجلودها!"، كما قال لي صديق نيوزيلندي هو بروفيسور في الاقتصاد
السياسي) إنما تكنُّ – أي نيوزيلنده -- بروداً معروفاً للولايات
المتحدة (سنتذكر هنا ما حدث للسفير الأمريكي لدى لقائه بطلبة جامعة
أوكلاند لتبرير الحرب على افغانستان) والدولة العبرية (سنتذكر هنا
الموقف الحازم للحكومة النيوزيلندية على اثر اكتشاف شبكة تجسس
صغيرة للدولة اللقيطة على أراضيها، واصرارها على تقديم اعتذار رسمي
علني، ورفضها العلني للعرض الصهيوني السِّري بإجراء "محادثات تحت
الطاولة" من أجل التغلب على آثار ما حدث)، كما ان مواطني نيوزيلنده
اليهود يتمتعون على قدم المساواة بكافة الخدمات التي تقدمها الدولة
الليبرالية شبه الاشتراكية لمواطنيها، لكنهم لا ينعمون بنفوذ سياسي
("لوبي")، وهذا نادر فعلاً في البلدان الغربيَّة – "ننتظركم من
زمان أيها العرب، لكنكم اتخذتم عادةََ أن لا تأتون أبداً، ولا ادري
ان كانت هذه واحدة من فضائلكم ]استخدم محدثي كلمة
virtues
ذات الصدى السُّقراطي] التاريخيَّة!"، كما قال لي نائب رئيس إحدى
الجامعات النيوزيلنديَّة العريقة مازحاً بجديَّة كبيرة!. ولا شك
انها خطوة إيجابية ومحمودة لمؤسسات التعليم العالي في دول الخليج
ان انفتحت على الأكاديميا النيوزيلندية في السنوات الأخيرة،
والمطلوب المزيد من التعاون والانفتاح.
لكن بعيداً عن هذا
الاستطراد، وقريباً من مساق "السينما الثالثة في العالم الثالث"
فإنني أعتقد أن فيلم "المصير" ليوسف شاهين يعاني من إشكالات تتعلق
بالنوع (genre)
و"إمكانية تَحَقُّق المُحتَمل في الواقع" (verisimilitude)،
وإشكالات ثيماتيَّة وفكريَّة (كما في تبسيطيَّة الصراع بين الخير
والشر، الديدن المُدان للسينما الأمريكية)، إضافة إلى معاناته من
كلاشيهات فنيَّة (كما في لقطة "الهبوط" المتقَن الذي تقوم به إحدى
الشخصيات من أعلى جدار مباشرة على صهوة جواد منتظِر، وهي لقطة
منسوخة حرفيَّاً من أفلام "الويستيرن" الأمريكية). وفي أية حال
فإن يوسف شاهين لم يُخْفِ إعجابه بالسينما الأمريكية وخاصة
"الأفلام الاستعراضيَّة" (musicals) –
بالمناسبة: مُحَدِّثُكُم يقع في المنطقة الرماديَّة حول تعريب الـ
“musical” بـ"الفيلم الاستعراضي"
في ثقافتنا السينمائية العربية-- لدرجة انه قدَّم، أي شاهين، "لمسة
تقدير" (homage) لتلك
الأفلام التي يقوم هو نفسه في أحدها بالرقص استعراضيَّاً على خلفية
موسيقى أمريكية .
وإن أنتم سمحتم لي
مشكورين باستطراد آخر فسأقول انني كنت ذات مرة أتبادل الحديث إلى
أستاذي العزيز المنظِّر السينمائي البريطاني بيتر وولِن (الذي يقضي
الآن ما تبقى من خريف عمره في منشأة طبية بريطانية مصاباً بمرض
"الزهايمر" للأسف الشديد) الذي قد لا يعرف بعضنا أنه أخرج في
بواكير حياته فيلماً سينمائيَّاً روائيَّاً مهماً جداً عن القضيَّة
الفلسطينيَّة بعنوان "مَوْتُ صداقة" الذي أشاد به كتابةً صديقه
الراحل إدوارد سعيد (تُرجم هذا المقال إلى العربية في العدد الخاص
بـ"السينمائية العربية الجديدة" من "ألِف"، المطبوعة نصف السنويَّة
الممتازة ثلاثيَّة اللغة – عربية، انجليزية، فرنسية -- التي تصدرها
الجامعة الأمريكية في القاهرة)، والذي --أي بيتر وولن-- كان قد
عمل مساعداً للمناضل المغربي الشهيد المهدي بن بركه في شيء من
مشاريع مرحلته اللندنيَّة. لقد وجدت نفسي أسأل بيتر وولن فجأة:
"ما هو أقوى ما تتذكره من بن بركه؟". كنت، في الحقيقة، أتوقع
إجابة "سياسيَّة" مباشِرة – تصريح، أو موقف، أو شعار، أو تعليق، أو
تفصيل عادة أو إجراء تنظيميٍّ للمناضل الأسطوري الذي بعد أن طُعِنَ
بالسكاكين حتى الموت وهو موثوق اليدين والرجلين تم تذويب جثته في
حوض من الأسيد الحارق كي لا يبقى منه شيء، وإن كان قد بقى منه كل
شيء، ولم يبقَ شيء من قاتليه لأن لا وجه ولا وجاهة لهم ولا أحد
يعرفهم، أو ما شابه. غير ان إجابة بيتر وولِن المبتسمة، والرزينة،
والواثقة من نفسها فاجأتني بأكثر المعاني إيجابيَّةً للكلمة:
"أقوى ما أتذكره منه هو رَقْصُهُ!. نعم!. لقد كان أعظم راقص في
العالم!". ولا أدري أبداً وعلى الإطلاق لماذا كلما رأيت رقص يوسف
شاهين في ذلك الفيلم إذا بالمهدي بن بركه يرقص أمامي مباشرة،
ويبتسم. ليست لدي أدنى رغبة أو قدرة لتبرير هذا، أو شرحه، أو
عَقْلَنَتِهِ، ولكن ذلك هو ما حدث، ويحدث، لأسباب أجهلها تماماً،
وسوف يسيء إليَّ بالكامل أن أطمح لمعرفتها.
ولا بأس هنا أن
نتذكر – في استطراد أَعِدُ انه سيكون الأخير في هذه المادة -- ان
الطُّعم الذي اختارته الأجهزة المخابراتية الرُّباعيَّة لاختطاف
المهدي بن بركه في 29 أكتوبر 1965 لم يكن سوى المنتج السينمائي
الفرنسي جورج فيشون الذي أَوْهَمَ الشهيد الكبير انه بصدد انتاج
فيلم وثائقي عن حركات التحرر الوطني في العالم الثالث والذي اختير
بن بركه (حسب الطُّعْم) كي يكون مستشاراً سياسياً وتاريخياً
لإنتاجه (وقد عُثِرَ على جورج فيشون مقتولاً أو منتحراً – لا أحد
يعلم على وجه الدقة منذ 1965 وحتى الآن -- بعد أسبوع من الاختفاء
والاغتيال). والحقيقة ان بن بركه حين اختُطِفَ واختفى كان في
طريقه للقاء مزعوم بالروائية الفرنسية الشهيرة مارغريت دوراس
والمخرج السينمائي الفرنسي جورج فرانجو. ياللتاريخ!. ياللسينما!
– أتمنى أن يكون الاستطراد جائز هنا.
وقد يكون الأمر
غريباً لدى البعض أن أحد "المؤلِّفين" السينمائيين العرب القلائل –
يوسف شاهين، عنيتُ -- (نسبة إلى نظرية "المؤلِّف" الفرنسيَّة
auteur theory)
يكنُّ هكذا إعجاب وتقدير لسينما "التَّفسُّخ الرأسمالي". غير ان
علينا هنا ان نتذكر ان المنظِّر السينمائي الفرنسي اندريه بازان –
وقبل كتابة فرانسو تروفو مقاله التشريعي الشهير "نزعة معيَّنة في
السينما الفرنسية" الذي قدَّم رسميَّاً نظرية المؤلف – كان قد أدرج
في تخطيطاته الأولى رموزاً سينمائية من مخرجي الأستوديوهات
الهوليووديَّة الأمريكية مثل هاوارد هوكس، وجون فورد، ونيكولاس راي،
وهيتشكوك (مسألة أن هيتشكوك بريطاني أو أمريكي تقع وراء غرض هذه
المادة – سأكتفي فحسب باقتباس أحد النقَّاد السينمائيين
الأمريكان: "إن هيتشكوك يُعَقِّدُ مسألة أمريكيَّة السينما
الأمريكيَّة!")؛ بل ان بعض رموز مدرسة "الموجة الجديدة" في السينما
الفرنسيَّة تأثروا في بداياتهم وحتى فيما بعد ذلك بالسينما
الأمريكية، بحيث يمكن اعتبار أفلام مثل "لاهث" من إخراج جان-لوك
جودار و"الساموراي" من إخراج جان- بيير ميلفل باعتبارهما في كثير
منهما "لمستي تقدير" (homages) لسينما
العصابات الأمريكية.
وليس أمامي الآن من
خيار سوى الاضطرار لأن أصغي لطرفة بن العبد في قوله بكل خيبة أمل
وألم: "وظلم ذوي القربى أشدُّ مَضَاضَةً/ على النفس من وقع الحسام
المهنَّد"؛ ذلك انه في أحد أفلام الراحل الكبير يوسف شاهين يظهر
"الخليجي" بصورة نمطيَّة متطرِّفة لا ينافسه عليها سوى الصورة
النمطيَّة لـ"العربي" في السينما الأمريكية: غنيَّاً، وغبيَّاً،
وجاهلاً، ومتخلِّفاً، وبغيضاً، ومقيتاً (للأسف الشديد لا تتوافر
لدي حاليَّاً مكتبتي السينمائية للرجوع إليها من أجل إيراد عنوان
الفيلم، كما ان ذاكرتي ليست أفضل من ذاكرة الضباب؛ غير ان من كانت
أفلام يوسف شاهين مألوفة لديه سيعرف حتماً عن أي حلف، وعن أي فيلم،
أتحدث). بصراحة شديدة: لقد سئمتُ حتى النخاع من ظلم "ذوي القربى"
هذا، ومن غضِّ النظر، والتجاهل، والتظاهر بعدم الفهم من أجل أن تمر
الريح العاتية المعتوهة التي سأظل أحسب دوماً انها مؤقتة، وعابرة؛
وللأمانة الشديدة: لقد أصبحت حسَّاسَّاً جداً وبصورة فيزيقيَّة
حقَّاً (جسدي صار يؤلمني فعلاً وحرفيَّاً حين أقرأ أو أشاهد مثل
تلك المَغَبَّات الشنيعة، والتحقيرات، والإهانات المُمَنهجَة
الصادرة ليس من عموم أشقائنا العرب الأعزاء فحسب -- إن كان لهؤلاء
عذر في الأساس -- بل من "المثقفين" أيضاً؛ وهل يُعذَرُ "المثقفون"
الذين في كل تراجعِ وهزيمة يهيمون، والذين يقولون ما لا يفعلون؟!)،
حيث إلينا ينظرون باعتبارنا كائنات دونيَّة، بدائيَّة، صفيقة، وغير
مكتملة النمو العقلي والإنساني وغير جديرة بهما أو مؤهَّلة لهما في
الأساس، تعيش كيفما اتفق وبالخطأ المؤكَّد في صحراء حامضة، مالحة،
فاسدة، لامتناهية، تتفجر كالبراكين تحت أوتاد كل خيمة متشققة منها،
وفي فناء كل "فيلا" فاخرة فاجرة، وتحت حوافر كل بعير أو بَعْرِهِ
آبار النفط (و/أو الغاز أحياناً ومؤخَّراً).
حسن جداً، إنني لا
أدعي هنا أبداً اننا في هذه البقعة السقيمة من الوطن العربي الذي
يبدو انه مُعافى فيما عدانا ومن هذا الكوكب المريض قوم أطياب،
أخيار، أطهار، أفاضل، مختارون، منَّزهون؛ بل انني أول من يقول
بأعلى صوت ممكن ان حبالنا وأحابيل غيرنا صارت تنوء بغسيلنا
ومغسولهم؛ فنحن لا نشكل "الجانب الطَّيب" من الرؤية الهوليووديَّة
الاختزاليَّة السخيفة للعالم وللإنسان، ولا يريد معظم الناس هنا
ذلك أصلاً. ولكنني أود أن أؤكد على إننا بشر مثل سائر الكائنات
تعيسة الحظ التي ساقتها أقدارها البائسة، وصُدَفِها المَنَويَّة
الاعتباطيَّة، أن تكون بشراً من قديم، وحديد، وجديد، وضيِّق،
وشاسع، وجوهر، ومظهر، ولحم، ودم، ودمع، ومخَّاط، وبول، وغائط، وليس
ملائكة، وما أدراك ما البشر وما الملائكة يا سيدي ويا سيدتي؟!.
غير انه في المقابل،
ومن أجل الإنصاف والعدالة، حريٌّ بي أن أشير إلى ما يمكن أن يكون
آخر مقابلة تلفزيونية أجريت مع الراحل الكبير يوسف شاهين، حيث يقول
في سياق اعتراضه على مقولة تفوق السينما الأمريكية على كل سينمات
العالم بما معناه انه يمكن اليوم في إحدى الدول الخليجيَّة التي
عرَّفها بالإسم عمل نفس الفيلم الذي يُعمل في نيويورك، وان واحداً
من مشاريعه غير المتحققة هو انجاز فيلم سينمائي عن حاكم "خليجي"
راحل – هو الذي كان يفصل دوماً بين الحكَّام والشعوب-- لفرط إعجابه
به وبإنجازاته (لم يتحقق أيضاً مشروعه لإنجاز فيلم عن حسن نصرالله،
زعيم حزب الله).
قبل سنوات بعيدة
كلَّفتني الأقدار بمهمة صعبة للغاية حيث كان عليَّ أن أنقل إلى
امرأة عزيزة غالية خبر وفاة مخرجها السينمائي الأثير ستانلي كوبريك،
فما كان منها إلا أن رفعت رأسها من أوراقها حيث كانت تكتب في تلك
اللحظة، ونظرت إليَّ ببراءة وإثم عينيها المغرورقتين بالدمع،
وقالت بجديَّة كاملة في ما هو قاب قوسين أو أدنى من مشهد سينمائي
شاعري ومؤثر: "هل تعني حقَّاً إننا لن نشاهد أفلاماً جديدة من
إخراجه؟َ!".
بلى، هكذا يكون النص
أهم من الشخص حين يبلغ الإبداع ذراه الأكثر علواً وتوهجاً وأصالة،
وحين يحدث "موت المؤلِّف" بطريقة حَرفيَّة هذه المرة، ونافلة
الأهمية في المقام الأول والأخير. إذاً يا يوسف شاهين: كم أنا
حزين جداً اننا لن نشاهد أفلاماً جديدة من إخراجك، لكن العزاء
الحقيقي هو أن لا شيء أبداً ولا أحد أبداً يستطيع محو البصمة
النوعيَّة الخالدة التي تركتها على مسيرة السينما باعتبارها فنَّاً
راقياً من جهة، ومهمة "قول الحقيقة للسُّلطة" التي هي واجب المثقف
كما رأى زميلك أثناء الدراسة في كلية فيكتوريا الراحل الكبير
إدوارد سعيد من جهة أخرى.
عمان العمانية في 20 أغسطس 2008 |